الرسائل الأحمديّة - ج ٢

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ٢

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٣

الركعة ؛ لأنّ معناه البناء على أنّ تلك الركعة هي الرابعة فيكون إتماماً بواسطة أصل العدم ، وهو خلاف قاعدة البناء على وقوع ما يحتمل وقوعه من الأخيرتين وعدم العمل فيهما بأصل العدم.

ولا ينافي ذلك أنّه إذا شكّ بين الثلاث والأربع قبل إكمال السجدتين يحكم بالبناء على الأربع وإكمالهما ؛ لأنّ ذلك ليس إتماماً للرابعة بأصل العدم ؛ للقطع بعدم إتمام الرابعة سواء فرض كونها ثالثة أو رابعة ، فالحكم بكونها رابعة وإتمامها هو معنى عدم العمل بأصل العدم.

وأمّا الشكّ بين الأربع والخمس قبل الركوع فيبنى فيه على هدم القيام ؛ للبناء على أنّ الركعة الرابعة وقعت قبل الركعة التي هو فيها ، ولا يلزم زيادة ركن في الصلاة.

وأمّا باقي الصور غير المنصوصة فهي لا تحصى ، إلّا أنّا نذكر جملة منها ليتّضح حال الباقي.

صور الشكّ غير المنصوصة

فمنها : الشكّ بين الاثنتين والخمس ، وحكمه البطلان ؛ أمّا قبل إكمال السجدتين فلعدم إحراز الأُوليين ، وأمّا بعده فلأنّه إذا نفي احتمال الخمس بأصل العدم لزم نفي احتمال الثلاث والأربع ؛ لكونهما في ضمن الخمس فنفيها نفيهما ، فيبنى على الأقلّ وهو الاثنتان ، وهو خلاف مقتضى البناء على الأكثر في الأخيرتين. وكذا فيما دار الأمر بين الاثنتين والثلاث والأربع على التقديرين.

لكنّه يرد على ما ذكر في توجيه البطلان على التقدير الثاني في الصورتين أنّ لزوم نفي الخمس لنفي الأربع أنّما هو من جهة العقل وليس البناء على إثبات اللوازم العقليّة بالأُصول الشرعيّة ، كما هو المختار من عدم اعتبار الأصل المثبت ، فيفكّك بين نفي الخمس ونفي الأربع بالبناء على الأربع ونفي الخمس ؛ جمعاً بين العمل بأصالة عدم الزائد والبناء على الأكثر.

ومنها : الشكّ بين الثلاث والخمس ، والحكم فيه أيضاً البطلان ؛ لاستلزامه للشكّ

٢٤١

في أنّ الركعة السابقة على الركعة المردّدة بين الثالثة والخامسة أنّها ثانية أو رابعة ، ومقتضى البناء على الأكثر البناء على أنّها رابعة ، فتكون التي بعدها خامسة ، وهو يستلزم زيادة مبطلة.

وأمّا الشكّ بين الاثنتين والأربع والخمس فحكمه البطلان إنْ كان قبل إكمال السجدتين ، والصحّة إنْ كان بعده ؛ بنفي احتمال الخمس بأصل العدم وعمل الشكّ بين الاثنتين والأربع.

وأمّا بين الثلاث والأربع والخمس فالصحّة إنْ كان بعد إكمال السجدتين ؛ بنفي الخمس بأصل العدم وإعمال حكم الشكّ بين الثلاث والأربع. وأمّا قبله فالصحّة أيضاً إنْ كان قبل الركوع بإرجاعه إلى الشكّ بين الاثنتين والثلاث والأربع بعد هدم القيام ، والبطلان إنْ كان بعده ؛ لما ذكر في الشكّ بين الأربع والخمس في تلك الحالة. ومنه يعلم حكم باقي الصور.

والضابط : أنّه إنْ تعلّق الشكّ بالأُوليين فالبطلان ، وإنْ تعلّق بما بعد الأخيرتين فينفى بأصل العدم ، وإنْ تعلّق بهما عولج بما تقدّم إنْ أمكن ، وإلّا فالبطلان.

٢٤٢

فرعان

معرفة أحكام الشكوك

الأوّل : أنّ معرفة أحكام الشكوك واجبة ، أم لا؟ وعلى الوجوب هل هو نفسي ، أو لا؟.

فقد يقال : إنّه نفسي مطلوب لذاته كوجوب أصل الصلاة ، فمن تركها عوقب وإنْ صحّت صلاته إذا لم يأتِ فيها بمبطل.

وقيل : بأنّ الوجوب شرطي ، أي : شرط في صحّة الصلاة ، فمن تركه بطلت صلاته وإن لم يعرض له الشكّ ، فالعقاب إنّما هو على عدم الإتيان بالصلاة الصحيحة لعدم الإتيان بشرطها ، لا على ترك التعلّم.

وقد يقال بأنّ الوجوب مقدّمي ، بمعنى : أنّه ليس دائميّاً كوجوب الشرائط وسائر المقدّمات التي يتوقّف وجود ذيها عليها دائماً ولا ينفك وجود ذيها عن وجودها ، بل وجوبها اتّفاقي كتوقّف الواجب عليها ، فوجوبها يدور مدار توقّف الواجب عليها ، بمعنى : أنّه إنْ أفضى ترك المعرفة إلى إبطال الصلاة وجب التعلّم ، وإلّا لم يجب ، كوجوب التمييز بين الأجزاء الواجبة والمستحبّة ، فإنّه غير واجب إلّا إذا أفضى ترك التمييز إلى البطلان من جهة أُخرى ، كما إذا ضاق الوقت ولم يسع الأجزاء المندوبة ، فإنّه إذا لم يميّزها وأتى بها أدّى ذلك إلى وقوع بعض الصلاة خارج الوقت مع الاختيار ، وهو موجب للبطلان.

فالوجوب حينئذ مقدّميّ عقليّ إرشاديّ ، بمعنى حكم العقل بوجوب التعلّم حذراً من الوقوع في إبطال الصلاة على فرض عدمه ؛ لأنّ إبطال الصلاة على هذا الفرض ضرر محتمل فيجب دفعه لكونه ضرراً أُخرويّا ، والعقل يحكم بوجوب دفعه

٢٤٣

معلوماً كان أو مظنوناً أو مشكوكاً أو موهوماً. ولذا يحكم بوجوب الاجتناب عن سائر أطراف الشبهة المحصورة ، فإنّ ترك الاجتناب لا يستلزم الوقوع في المحرّم دائماً ، ومع ذلك حكم بوجوب الاجتناب دائماً دفعاً للضرر الأُخروي المحتمل. وأمّا إذا كان الضرر دنيويّاً فلا يحكم بوجوب التجنّب عنه معلوماً كان أو مظنوناً أو مشكوكاً أو موهوماً. وأمّا إذا كان احتمال الضرر الأُخروي في غاية الضعف بحيث يُطمَأَنُّ بخلافه فالعقل لا يحكم بوجوب تجنّبه ؛ ولذا لم يحكم بوجوب الاحتراز عن الشبهة غير المحصورة.

فعلم أنّه إذا كان بعض الشكوك ممّا لا يبتلى به إلّا نادراً لم يجب تعلّم حكمه وإنْ أدّى تركه إلى احتمال الوقوع في الضرر بالإبطال ؛ لأنّه لغاية ضعفه لا يعتدّ به عند العقلاء كاحتمال الوقوع في المحرّم في الشبهة غير المحصورة.

فتلخّص أنّ أحكام الشكوك إنْ كانت محلّاً للابتلاء وجب تعلّمها ، فإنْ لم يتعلّمها كان مدار العقاب على الوقوع في الإبطال ، فإنْ لم يؤدِّ إليه فلا شي‌ء عليه ، كما هو مقتضى الوجوب التوصّلي ، سواء لم يعرض له الشكّ أصلاً ، أو عرض له لكن حكمه البطلان ولا علاج له كالشكّ في المغرب ، إذ البطلان لم يستند إلى ترك التعلّم كما إذا لم يجتنب عن الشبهة المحصورة لكن صادف عدم الوقوع في المحرّم ، إلّا إنّه يحرم للتجري على ترك التعلّم هنا وعلى ارتكاب الشبهة في المحصورة مع فرض حكم العقل بوجوب التعلّم واجتناب الشبهة ، وليست الحرمة ذاتيّة كما في الوجوب النفسي أو الشرطي.

إلّا إنّه يشكل صحّة الدخول في العمل مع جهله لبعض أحكام مشكوكه لاحتماله عروض الشكّ له في الأثناء احتمالاً معتدّاً به فلا يسلم له العمل ، فيكون دخوله فيه متزلزلاً مع اعتبار الجزم أو الاطمئنان بسلامة العمل الذي يأتي به ، وإلّا لم يجز له الدخول ، ولا يجوز التعويل في ذلك على أصالة عدم عروض الشكّ ؛ لعدم إجرائها في الأُمور المستقبلة إذا كانت كثيرة الوقوع ؛ لاستلزام ذلك الوقوع في المحذور

٢٤٤

وخلاف الواقع كثيراً ، والعقل يحكم بعدم اعتبار مثل هذا الأصل.

والحاصل : أنّ الشكوك إذا كانت نادرة الوقوع لم يجب تعلّم حكمها ، فإذا اتّفق عروضها في الأثناء فالحكم يحتمل وجهين :

الأوّل : أنْ يتمّ الصلاة عاملاً بالظنّ ، وإلّا فبالشكّ ، وإلّا فبالوهم ، ثمّ يسأل بعد الفراغ عن حكم صلاته. ووجهه دوران الأمر بين قطع الصلاة واستئنافها بالنيّة التفصيليّة المشتملة على الجزم وإتمامها بالامتثال الاحتمالي ، وقد دلّ الدليل على حرمة إبطال العمل ، غايته استلزام ذلك عدم كون الامتثال مع النيّة التفصيليّة المشتملة على الجزم ، ولا ضير إذا تعذَّر ذلك وأمكن الامتثال بالنية الاحتماليّة.

الثاني : الحكم بقطع الصلاة واستئنافها ؛ مراعاة للنيّة التفصيليّة والجزم بها ؛ لأنّ الدليل إنّما دلّ على حرمة إبطال العمل الصحيح ، والفرض عدم العلم بصحّة هذا العمل ، فلا يندرج فيما حرّم الشارع إبطاله.

ولو قيل بالتفصيل بين إمكان العدول إلى النافلة وعدمه فيعدل إليها مع الإمكان ويتمّها بعنوان الفرار عن إبطال العبادة فقط كان حسناً ، والله العالم.

حكم التروِّي عند الشكّ

الفرع الثاني : هل يجب التروّي في الشكوك الصحيحة مطلقاً ، أم لا يجب مطلقاً ، بل يبني على حكم الشكّ بمجرّد عروضه ، أم يجب إذا احتيج إليه في المضيِّ في العمل فقط؟ أقوالٌ ، وتنقيح الكلام يتمّ ببيان أصل الوجوب ومحلّه ومقداره.

أمّا أصل وجوبه فيتوقّف على تحرير محلّ النزاع فيه ، وهو مردّد بين أُمور :

الأوّل : أنْ يراد به الذي يحصل به استقرار الشكّ بمعنى عدم جواز ترتيب أحكام الشكّ على مجرّد الخطور البدْوي ، بل لا بد من التروّي بمقدارٍ يستقرّ به الشكّ.

الثاني : أن يراد به الزائد على هذا المقدار ، بمعنى أنّه بعد استقرار الشكّ أيضاً يجب التروّي ؛ ليعلم أنّ الشكّ يبقى على حاله أو يتبدّل ، وهذا على قسمين ؛ لأنّ الشكّ إمّا أنْ يكون ممّا يزول بأدنى تروٍّ وإنْ كان مستقرّاً ، بأنْ يكون الشكّ في معرض

٢٤٥

الزوال ويكون عنده من القوّة القريبة بحيث لو التفت الى ما هو مركوز في ذهنه لزال منه الشكّ بسرعة ، أو لا يكون كذلك ، بألّا يزول على تقدير زواله إلّا بتروٍّ كثير.

وقد يكون الغرض من التروِّي تمييز كون العارض ظنّاً أو شكّاً ؛ إذ كثيراً ما يشتبه الحال في ذلك فيتردّد في أنّه هل يترجّح أحد الاحتمالين على الآخر ، أم لا ، فيتروّى لتمييز ذلك؟

فإنْ كان النزاع في الأوّل كما يظهر من المحقّق البهبهاني رحمه‌الله فالظاهر عدم الإشكال في وجوبه ، وعدم جواز ترتيب أحكام الشكّ بمجرّد خطوره ، لوجوه :

الأوّل : أنّه لو اجري حكم الشكّ على مثل هذا الخطور البدْوي لزم العسرُ والحرجُ المنفيان في الشرع.

الثاني : لزوم الوقوع في خلاف الواقع كثيراً.

الثالث : أنّ موضوع تلك الأحكام في الأدلّة أنّما هو الشكّ ، وحقيقته الشكّ المستقرّ ، وأمّا الخطور البدْوي فليس من الشكّ في شي‌ء ؛ لمجامعته العلم بالخلاف والظنّ والشكّ به ، إذ الإنسان قد يعلم شيئاً لكن يغيب عن ذهنه آناً ما فيخطر بباله خلافه ثمّ يلتفت إليه سريعاً ، ولا ريب في أنّ هذا لا يعدّ جهلاً بالشي‌ء.

وقد يظنّ شيئاً وتعرض له هذه الحالة فلا يكون ذلك شكّاً ، وإلّا لما جامع العلم. والظنّ سلّمنا دخوله في الشكّ ، إلّا إنّ الظاهر من إطلاق الشكّ في الأدلّة الشكّ العرفي الذي يعتدّ به أهل العرف ويرتّبون عليه آثار الشكّ ، وليس إلّا الشكّ المستقرّ دون الخطور البدوي.

وإنْ كان النزاع في المعنى الثاني ، فالظاهر أيضاً وجوبه ؛ لأنّ الشكّ وإنْ كان مستقرّاً إلّا إنّه لمّا فرض أنّه مركوز في ذهن الشاكّ ما يزيل شكّه لو تأمّل كان شكّه حينئذٍ بمنزلة العدم ؛ لزواله بحسب القوّة القريبة ، وكان في نظر العرف في عداد العالمين ، غاية الأمر أنّه قد غاب عن ذكره ما هو موجود في الخزانة ، لكنّه لو التفت وتروّى في الجملة زال عنه الشكّ رأساً.

٢٤٦

فإنْ قيل : كون الشكّ ممّا يزول بأدنى تروٍّ إنّما يعلم بعد التروّي ، وحينئذٍ فلا معنى للحكم بوجوب التروِّي فيه ؛ لأنّه قبل التروّي لا يعلم كونه ممّا يجب فيه ذلك ، وبعده يكون التروّي حاصلاً ، فالحكم بإيجاده حينئذٍ تحصيل للحاصل أو للزائد على الواجب.

قلنا : إذا فرض أنّ مقتضى الدليل عدم جريان حكم الشكّ على ما يزول بالتروّي اليسير واختصاصه بما لا يزول إلّا بالتروّي الكثير ، فلا بدّ من التروّي مقدّمةً لاستعلام حال الشكّ ومعرفة دخوله في الشكوك التي جعل الشارع لها حكماً وعدمه ، فإذا زال بأدنى تروٍّ فقد حصل المطلوب من التروّي ، وإلّا جرى عليه حكم الشكوك المنصوصة.

وكذا الحال في التروّي بالمعنى الأخير ، بمعنى أنّه أيضاً يحكم بوجوبه ، ويُعلم وجهه ممّا ذكرنا في التروّي بالمعنى الثاني ؛ لأنّه لمّا كان موضوع الأدلّة خصوص الشكّ الذي هو تساوي الطرفين ، فلا بدّ حينئذ من إحرازه وتعيين الشكّ العارض منه لا ممّا يترجّح فيه أحد الطرفين ، وهو إنّما يحصل بالتروّي ، فيجب مقدّمة له.

وأمّا المعنى الثالث فالظاهر أنّه المتنازع فيه دون الثلاثة الأُخر ، فإنّها على الظاهر ممّا لا نزاع في وجوبها ، والحقّ عدم وجوبه بهذا المعنى ؛ لعدم الدليل عليه ، ومخالفته لمقتضى إطلاق أدلّة أحكام الشكوك ؛ لدلالته على وجوب العمل بمقتضاها بمجرّد عروض الشكّ ، والتقييد بما بعد التروّي واختصاصه بذلك لا دليل عليهما.

استدلّ الموجبون بما دلّ على أنّه إذا شكّ المصلّي فليتحرّ ، وما دلّ على أنّ الشاكّ ينظر ما هو الأحرى إلى الصواب فيعمل عليه ، وباستلزام عدمه الوقوع في خلاف الواقع كثيراً فيجب التروّي احترازاً عن ذلك ، وبدلالة بعض الأخبار (١) على أنّه إذا شكّ في الصلاة فإنْ ترجّح أحد طرفي الشكّ على الآخر بنى عليه ، وإنْ اعتدلا

__________________

(١) الكافي ٣ : ٣٥٢ / ٥ ، ٣٥٣ / ٨ ، الوسائل ٨ : ٢١٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١٠ ، ح ٤ ، ٥.

٢٤٧

عمل بمقتضى الشكّ. ولا ريب أنّ ترجّح أحد طرفيهما إنّما يحصل بعد التروّي ، فيدلّ على المفروغيّة منه في الشكوك.

ويرد على الأوّل والثاني إمكان حمل الأمر بالتحرِّي على الشكّ بمعنى الخطور البدوي الذي لا إشكال في وجوبه فيه.

وعلى الثالث أنّ كثرة الوقوع في خلاف الواقع أنّما تكون حيث يغلب عدم مصادفة الواقع لما يقتضيه حكم الشكّ ، بأنْ يكون الغالب فيما يبنى فيه على الأكثر كونه الأقلّ في الواقع ، وليس كذلك ؛ فإنّه كثيراً ما يستمرّ الشكّ مع التروِّي. والغالب كون العمل على حكم الشكّ مطابقاً للواقع.

وعلى الرابع إمكان حمله أيضاً على الشكّ بمعنى الخطور البدْوي الخارج عن محلّ النزاع.

وأمّا محلّه على فرض وجوبه ، فقيل : مبدأ عروض الشك ت ، سواء أَوْجب المضيُّ في الصلاة مع الشكّ تغييرَ الهيئة على أحد التقديرين كحالة الشكّ بين الثلاث والأربع بعد رفع الرأس من السجدة الأخيرة ، فإنّه إذا مضى ؛ فإمّا أنّ يتشهّد على فرض كون الواقع ثلاثاً ، أو يقوم على فرض كونه أربعاً حالة القيام ، وكلاهما يغيّر الهيئة. أو لم يوجبه كما في الشكّ المذكور حالة القيام ، فإنّ إتمام الركعة لا يغيّر الهيئة على كلا التقديرين.

وقيل : مبدأ عروضه إنْ أوجب المضيُّ تغييرَ الهيئة على أحد التقديرين ليقربه من ذلك ، دون ما لم يوجبه فيجوز المضي.

ومحلّ النزاع أنّ البناء على الأكثر هل المراد به البناء الاعتقادي بمعنى وجوب اعتقاد الأكثر على الشاكّ ليكون محلّ التروّي مبدأ عروض الشك ؛ لأنّه مقدّمة للبناء ، فإذا أُريد به الاعتقاد فلا بدّ من مقارنته لمبدإ الشكّ لاعتبار الجزاء للشرط ، أو أنّ المراد به البناء العملي بمعنى وجوب أنْ يعمل عمل الأكثر من البناء على وقوع المشكوك فيه ليجب عليه التروّي في محلّ العمل ، وهو المحلّ الذي إذا تعدّاه مع

٢٤٨

الشكّ غيّر الهيئة على أحد التقديرين؟ والأظهر الثاني ، وعليه فلا يجب التروّي إلّا في المحلّ الذي تتغيّر الهيئة بتجاوزه.

وأمّا مقداره فهل يكتفى فيه بمقدارٍ يعتدُّ به عرفاً ، أو لا بدّ منه إلى حدّ بلوغ اليأس من زوال الشكّ ، أو الوصول إلى ما هو دون السكوت الطويل المبطل؟ الظاهر الأوّل ؛ لعدم الدليل على أزيد منه ، بل الظاهر عدم القول بالأخيرين ، والله العالم.

٢٤٩

وجوب العمل بالظن

قوله رحمه‌الله : ( لو غلب على ظنّه أحد طرفي ما شكّ فيه بنى على الظنّ ) .. إلى آخره.

أقول : لا إشكال في وجوب العمل بالظنّ ، بل لا خلاف فيه في الجملة ، وهو الظنّ في عدد الأخيرتين.

وذهب بعضٌ إلى عدم اعتباره في الشكوك المبطلة المتعلّقة بعدد الثنائيّة والثلاثيّة وأُوليي الرباعيّة ؛ لاشتمال بعض الأدلّة على اعتبار اليقين فيها كـ : « حتى تثبتهما » (١) و « حتى يحفظهما » (٢) و: حتى يحرز أنّه قد أتى بهما (٣) ، وكأنّه لاحظ النسبة بين هذه الأدلّة وما دلّ على كفاية الظنّ عن العلم ، فجعلها العموم من وجه ، ورجّح هذه الأدلّة على تلك ، فعمل عليها وطرح تلك.

فلنذكر بعض ما دلّ على كفاية الظنّ لتعرف النسبة ، فمنه ما ورد من أنّه إذا لم يدرِ كم صلّى فإنْ غلب على ظنّه أحد الطرفين بنى عليه (٤) ، فأمّا أنْ يراد بقوله : « إذا لم يدرِ كم صلّى » عدم إحراز شي‌ء من العدد أصلاً ، فيكون من الشكوك المبطلة لعدم إحراز الأُوليين ، فيكون مورده أخصّ مطلقاً من مورد ما دلّ على اعتبار اليقين فيما عدا الأخيرتين ، فيتعيّن العمل به في خصوص هذا المورد.

وأمّا أنْ يراد به مطلق الشكّ في العدد وعدم إحرازه ، فقد يقال حينئذٍ بوجوب العمل بما دلّ على إناطة صحّة الصلاة بإحراز الأُوليين على جهة اليقين ؛ لأنّ النسبة بينه وبين ما دلّ على كفاية الظنّ العموم من وجه ، والترجيح له.

__________________

(١) التهذيب ٢ : ١٧٧ / ٧٠٦ ، الإستبصار ١ : ٣٦٤ / ١٣٨٣ ، الوسائل ٨ : ١٩١ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١ ، ح ١٥.

(٢) الفقيه ١ : ١٢٨ / ٦٠٥ ، الوسائل ٨ : ١٨٧ ١٨٨ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١ ، ح ١ ، وفيهما : « فمن شكّ في الأوليين أعاد حتى يحفظ ويكون على يقين ».

(٣) انظر : الوسائل ٨ : ١٨٧ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١ ، وفيه أيضاً ٢٢٠ ، أبواب الخلل الواقع في الصلاة ، ب ١١ ، ح ٣.

(٤) انظر الوسائل ٨ : ٢١١ ٢٢٥ ، أبواب الخلل في الصلاة ، ب ٧ ، ب ١٠ ، ب ١١ ، ب ١٥.

٢٥٠

والحقّ العمل بما دلّ على كفاية الظنّ مطلقاً لحكومته على ما دلّ على اعتبار اليقين ؛ لأنّه إنّما اعتبر لطريقيّته إلى الواقع وإحرازه له ، لا لكونه موضوعاً للحكم ، فإذا حكم الشارع بكفاية الظنّ كان معناه رضاه بالتوصّل إلى الواقع بالظنّ وجعله نائباً عن اليقين في الحجّيّة والاعتبار وهو معنى الحكومة.

هذا مع فرض اعتبار الظنّ من باب الطريقيّة كاعتبار العلم ، وإلّا كان مقتضى كلّ من الأدلّة في المقامين مبايناً لمقتضى الآخر ، فلا بدّ من ملاحظة النسبة والترجيح ؛ لعدم الحكومة سواء اعتُبِر كلّ من العلم والظنّ في المقامين من باب الموضوعيّة أو أحدهما من باب الموضوعيّة والآخر من باب الطريقيّة.

وأمّا الظنّ في غير الأعداد من الأفعال والأقوال ، فهل هو معتبر كاعتباره في العدد ، أم لا؟ الأقوى الأوّل لوجوه :

الأول : الأولويّة الجليّة بمعنى أنّه إذا اعتبر الظنّ واكتفى به عن القطع في مجموع الركعات المشتملة على الأفعال والأقوال فاعتباره فيما هو جزء من الركعات أوْلى ؛ إذ معنى اعتبار الظنّ في الركعات دون الأفعال والأقوال أنّه إذا شكّ في القراءة مثلاً ثمّ ظنّ الإتيان بها لم يكن ذلك معتبراً ، وإذا شكّ مع ذلك في الركوع ثمّ ظنّ به فالحال كذلك ، وكذا إذا شكّ في السجدة الأُولى ، فإذا شكّ في السجدة الثانية ثمّ ظنّ بها كان ذلك موجباً للعمل بجميع تلك الظنون ، والحكم بصحّة الصلاة ، وهو كما ترى.

وهذه الأولويّة في غاية الوضوح لا يسع إنكارها ، ولذا قال بها بعض القائلين بعدم اعتبار الظنّ المطلق مع تقسيمهم إيّاه إلى مظنون الاعتبار ومشكوكه وموهومه ، وجعلوا من الأخير الأولويّة الظنيّة ، فلو كانت هذه ظنيّة لما عملوا بها.

الثاني : ما ذكره الشهيد رحمه‌الله (١) من أنّه لو لم يعمل بالظنّ في مطلق أجزاء الصلاة لزم العسر والحرج لكثرة وقوع الشكّ في الأجزاء ، وأنّه قلَّما تخلو الصلاة من شكّ ، فإذا لم يفصل بين الشكّ والظنّ بالعمل بحكم الشكّ في المقامين فيؤتى بالمشكوك إذا

__________________

(١) الذكرى : ٢٢٢.

٢٥١

لم يتجاوز محلّه وإنْ حصل الظن به ، لزم العسر والحرج لا سيّما على مذهب القدماء القائلين بأن التجاوز لا يحصل إلّا بالدخول في عنوان آخر ، فإنّه قد تشتمل الصلاة حينئذٍ على كثير من التكرار ، كما إذا شكّ في الفاتحة وهو في وسطها ، فإنه يجب الإتيان بالأوّل وتكرار ما بعده ممّا [ قبل (١) ] الوسط محافظة على الترتيب ، ثمّ شكّ ثانياً في الوسط وهو في الآخر ، فإنّه يجب الإتيان بالوسط وتكرار ما بعده محافظة على ذلك ، ثمّ شكّ أيضاً في بعض الفاتحة وهو في السورة ، ولا يخفى ما فيه من العسر.

فإذا فصل بين الشكّ والظنّ وجعل المظنون كالمعلوم وخصّ العمل بحكم الشكّ بحالة تساوي الطرفين ارتفع ذلك ؛ لأنّه وإنْ كثر عروض الشكّ إلّا إنّ الغالب عدم بقائه بحاله وتبدّله بالظنّ لوجود الداعي إلى الفعل ، فهو غالباً يظنّ الإتيان بما شكّ فيه فتقلّ موارد الشكّ الخالية عن الترجيح ، فلا يلزم العسر من العمل بحكمها. وقد يقال بأنّ عدم الفصل بين الشك والظن كما يحصل بالعمل بحكم الشك في المقامين كذلك يحصل بعدمه ، والبناء على الوقوع فيهما ككثير الشك فينتفي العسر به.

وفيه : أنّ العمل به مخالف للإجماع وموجب لطرح أدلّة الشك فلا يبقى لها موردٌ ، وهو باطل عندهم. ولذا لم ينبه عليه الشهيد رحمه‌الله في بيان هذا الوجه ، واكتفى بلزوم العسر على فرض التسوية بينهما في العمل بحكم الشكّ اعتماداً على أنّ التسوية بعدم العمل بحكمه ممّا لا يحتمله أحد.

وما قيل من أنّ أغلبيّة وقوع الشكّ في أجزاء الصلاة إنْ أُريد به وصول الغلبة إلى حدّ كثرة الشكّ ومرتبته بحيث صار ككثير الشكّ ، فقد جرى عليه حكم كثير الشكّ من عدم الاعتناء بشكّه والبناء على وقوع المشكوك ، وإنْ أُريد كثرة وقوع الشكّ في الصلاة في نفسه وإنْ لم يصل إلى حدّ كثير الشكّ ، فلا يلزم حينئذٍ من إجراء حكم الشكّ عسرٌ ولا حرج.

__________________

(١) في المخطوط : ( بعد ).

٢٥٢

ففيه : أنّ هنا فرقاً بين الكثرة العارضة لكثير الشكّ الموجبة لإلغاء حكمه وبين الكثرة في كلام الشهيد رحمه‌الله لعروض الاولى بسبب عروض مرضٍ يوجب خروجه عن متعارف الناس ومقتضى طباعهم ؛ لاعتنائه بالاحتمالات غير المعتنى بها عندهم وحدوثها من الوسواس النفسي.

وأمّا الكثرة التي يدّعيها الشهيد رحمه‌الله (١) فهي على مقتضى الطبيعة لعروضها لأغلب الناس أو جميعهم ، وليس منشؤها الوسواس والانحراف عن متعارف الناس ، فهي مع بلوغ غاية الكثرة لا تُسقط حكم الشكّ ، وإلّا لم يبقَ مورد للعمل بحكم الشكّ أصلاً ، وإنّما تسقطه تلك الكثرة العارضة الخارقة ، وأين هذه من تلك؟!

نعم ، يبقى الشكّ في ثبوت تلك الكثرة التي توجب العمل فيها بحكم العسر والحرج ، وهو نزاع صغروي لا طائل تحته ، والله العالم.

وقوله رحمه‌الله : ( هل يتعيّن في الاحتياط الفاتحة ، أو يكون مخيّراً بينها وبين التسبيح؟ ) .. الى آخره.

أقول : تنقيح المقام يتمّ برسم مقامات :

الأوّل : (٢)

__________________

(١) الذكرى : ٢٢٢.

(٢) إلى هنا تنتهي نسخة المخطوط التي بين أيدينا.

٢٥٣
٢٥٤

كتاب الزكاة

الرسالة الثالثة عشرة

زكاة السخال

٢٥٥
٢٥٦

الرسالة الثالثة عشرة

زكاة السخال

٢٥٧
٢٥٨

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

قال ثاني الشهيدين رحمه‌الله في ( الروضة البهيّة ) ممزوجاً بلفظ اللّمعة الدمشقيّة :

( وللسخال وهي الأولاد حول بانفرادها ) (١).

أقول : أرادا بذلك أنّها لا تُعدُّ مع الأُمّهات ، وهذا الحكم ممّا لا إشكال فيه ، إلّا إنّ تفسير الشارح رحمه‌الله للسخال بالأولاد على الإطلاق كغيره من الفقهاء ، ولم أقِفْ عليه فيما وقفت عليه من كتب اللّغة كـ ( القاموس ) و ( مجمع البحرين ) :

ففي ( القاموس ) : ( السخل ولد [ الشاة (٢) ] ما كان ) (٣) انتهى.

وفي ( المجمع ) : ( السخلة تقال لأولاد الغنم ساعةَ تضعُهُ من الضأن والمعز جميعاً ذكراً كان أو أُنثى ) (٤).

وأنت خبير بأنّ هذين التفسيرين لا دلالة فيهما على شمول السخال لكلّ مولود من الإبل والبقر.

نعم ، قد يستفاد ذلك من عبارة ( الغريبين ) فإنّها قد دلّت على الشمول لأولاد الأناسي لكن لا مطلقاً ، بل يقيد كونه محبّباً لأبويه ، حيث قال : ( قال ابنُ الأعرابي

__________________

(١) الروضة البهيّة ٢ : ٢٤.

(٢) في المخطوط : ( المعز ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) القاموس المحيط ٣ : ٥٧٨ باب اللام / فصل السين.

(٤) مجمع البحرين ٥ : ٣٩٤ باب اللام / فصل السين.

٢٥٩

السخلُ : المولود المحبّبُ لأبويه ) (١).

وهو كما ترى ، إذ لا يلزم من إطلاقِها على فرد خاصّ من أولاد الأناسي إطلاقُها على أولاد بقيّة الأنعام ، إلّا إنّه قد شاع بينهم بلا نكير منهم إطلاق السخال على جميع الأولاد ، وإطباقهم على ذلك بلا ثَبْت في غاية الاستبعاد.

ولعلّ تجويزهم إطلاق السخال على جميع الأولاد من باب المجاز المرسل إنْ جعلنا العلاقة غير المشابهة ، أو الاستعارة إنْ جعلناها إيّاها.

وكيف كان ، فلمّا كان قول الماتن الشهيد السعيد رحمه‌الله ( إنّ للسخال حولاً بانفرادها ) ليس على إطلاقه ، قيّده الشارح بقوله : ( إنْ كانت نصاباً مستقلا بعد نصاب الأُمّهات ، كما لو ولدت خمسٌ من الإبل خمساً ، أو أربعون من البقر أربعين ، أو ثلاثين ) (٢).

أقول : هذا الحكم ممّا لا إشكال فيه ، فإنّ أول نصب الإبل الخمس إلى النصاب الخامس ، فإذا ولدت الأُمّهات الخمس خمساً بعد إخراج زكاتها كانت أولادها نصاباً مستقلا ، فيعتبر لها حول بانفرادها ولا تعدّ مع الأُمّهات.

وكذا الكلام في البقر والغنم ، بأنْ تلد الثلاثون من البقر ثلاثين في نصابها الأوّل ، أو أربعون أربعين في الثاني ، أو أربعون فصاعداً من الغنم مائة وإحدى وعشرين.

ويدلّ عليه مضافاً للإجماع (٣) وعموم حسن الفضلاء القائل : « كلّ ما [ لم يحل (٤) ] عليه الحول عند ربّه فلا شي‌ء عليه » (٥) خصوص الحَسَنِ الزرَارِيّ الوارد في الإبل القائل « ليس في صغار الإبل شي‌ء حتى يحول عليها الحول من [ يوم (٦) ] تنتج » (٧).

وخصوص الرواية الزراريّة الأُخرى القائلة : « ليس في صغار الإبل والبقر والغنم شي‌ء إلّا

__________________

(١) انظر : تاج العروس ٧ : ١٧٣ باب اللام / فصل السين.

(٢) الروضة البهيّة ٢ : ٢٤.

(٣) الخلاف ٢ : ٢٢.

(٤) في المخطوط : ( لا يحول ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٥) الإستبصار ٢ : ٢٣ ، الوسائل ٩ : ١٢١ ، أبواب زكاة الأنعام ، ب ٨ ، ح ١.

(٦) في المخطوط : ( حين ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٧) الكافي ٣ : ٥٣٣ / ٣ ، الوسائل ٩ : ١٢٢ ، أبواب زكاة الأنعام ، ب ٩ ، ح ١.

٢٦٠