تبصرة الفقهاء - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

تبصرة الفقهاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: السيد صادق الحسيني الإشكوري
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-988-001-3
ISBN الدورة:
978-964-988-003-7

الصفحات: ٥٩٩

١
٢

٣
٤

البحث الثالث

في شرائط الوضوء

تبصرة

[ في اعتبار البدء من الأعلى في الغسلات الثلاث ]

يعتبر البدأة من الأعلى في الغسلات الثّلاث على المعروف من المذهب ، فلا يجزي النكس ولا الغسل دفعة ولا عرضا.

والمعروف جواز الوجهين في المسحات.

وعن السيّد (١) والحلّي (٢) الخلاف في الموضعين ، فجوّز الوجهين في الغسل وأوجبا الإقبال في المسح.

وفصّل ابن سعيد بين غسل الوجه واليدين ( فجوّز الأمرين في الوجه دون اليدين.

وعن جماعة من المتأخّرين القول به في الوجه والميل إليه في اليدين ) (٣).

وظاهر الصدوق (٤) عدم الجواز في شي‌ء من الغسلات والمسحات. وكذا يعطي عدم جواز النكس مطلقا.

وفصّل الحلي (٥) بين مسح الرأس والرجلين ، فجوّز الوجهين في الأوّل دون الأخير.

__________________

(١) الانتصار : ١٠٥.

(٢) السرائر ١ / ٩٩.

(٣) ما بين الهلالين لم ترد إلّا في ( د ).

(٤) الهداية : ٧٩.

(٥) السرائر ١ / ١٠٠.

٥

ويلوح ذلك من الشيخ في التهذيب (١).

وقوّاه في المختلف (٢) في مسح الرجلين ، ثمّ استوجه البناء على الندب.

وظاهر إطلاق الشيخ في الاستبصار التفصيل بعكس المذكور حيث خصّ الرواية الدالّة على جواز الوجهين بمسح الرجلين. والأقوى هو المشهور في الموضعين.

ويدلّ على اعتبار البدأة بالأعلى في الوجه قويّة أبي جرير الرقاشي : « اغسله من أعلى وجهك إلى أسفله بالماء مسحا ، وكذلك فامسح الماء على ذراعيك ورأسك وقدميك » (٣).

وجهالة أبي جرير و (٤) اشتراكه لا يمنع العمل به بعد كون الراوي عنه الحسن بن محبوب الّذي هو من أصحاب الإجماع ، مع اعتضاده بالشهرة العظيمة.

وعدم وجوب الخصوصيّة المذكورة فيه بالخصوص لا يقتضي عدم تعين البدأة بالأعلى أيضا لقيام الدليل عليه دون ذلك ، وكأنّه بيان لأقل الواجب.

واتّحاد الصيغة الدالّة عليهما لا يمنع منه بناء على ما تقرّر من ظهور الطلب في الوجوب مع قطع النظر عن خصوصيّة الصيغة كما يشهد به ملاحظة الخطابات العرفيّة.

واشتمالها على مساواة اليدين والرجلين في الاكتفاء فيها بمجرد المسح محمول على المبالغة في تقليل صرف الماء كما ورد من الاكتفاء به في الغسل بنحو الدّهن ؛ فإنّه محمول على إرادة أقلّ مسمّى الغسل.

وحينئذ فلا منافاة فيها بمجرّد نصّ الكتاب ، وما أجمعت عليه الأصحاب.

وممّا يدلّ على ذلك أيضا عدّة من المعتبرة المستفيضة الحاكية للوضوء البياني كصحيحة زرارة : « ثمّ غرف ملأها ماء فوضعها على جبينه ثمّ قال : بسم الله وسدله على أطراف

__________________

(١) انظر تهذيب الأحكام ١ / ٥٨ و ٦١.

(٢) مختلف الشيعة ١ / ٢٩٣.

(٣) بحار الأنوار ٧٧ / ٢٥٨ ، ح ٤ ؛ وسائل الشيعة ١ / ٢٨ ، باب كيفية الوضوء وجملة من أحكامه ح ٢٢.

(٤) في ( د ) : « أو ».

٦

لحيته » (١).

وفي صحيحته الأخرى : « فأخذ كفّا من ماء فأسدلها على وجهه من أعلى الوجه » (٢) .. الخبر.

ولا يبعد اتحاد المحكي في الخبرين.

وفي روايته الأخرى فيما رواها العياشي مرسلا : « فغرف منها غرفة فصبّها على جبهته فغسل وجهه بها » (٣).

مضافا إلى انّه المنساق من عدّة أخرى من الأخبار الواردة في بيان الوضوء كالمشتمل على لفظ الصبّ على الوجه ونحوه.

والقول بأنّ من الجائز أن يكون ابتداءه عليه‌السلام بالأعلى من جهة كونه إحدى جزئيات الغسل مدفوع بأنّ الظاهر من أدلّة وجوب التأسّي معين ما فعله سيّما في مقام البيان ، والقول بانتفاء الإجمال في الآية وسائر الإطلاقات ليحتاج إلى البيان يضعّفه أنّ قضيّة وجوب التأسّي تعيين الوجه المذكور ، فيقيّد به الإطلاقات ، ويكون ذلك شاهدا على انّه المقصود منها.

ويدلّ على اعتباره في اليدين القويّة ومرسلة علي بن ابراهيم في حديث ذكر فيه ابتداء النبوّة وفيها : « فعلّمه جبرئيل عليه‌السلام الوضوء على الوجه واليدين من المرافق ومسح الرأس والرجلين إلى الكعبين » (٤).

ورواية الهيثم ، عن الصادق عليه‌السلام بعد ما سأله عن قوله تعالى ( فَاغْسِلُوا .. ) (٥) ، انتهى : وتوهّم دلالتها على كون الغسل من قبل الأصابع إلى المرافق ، فقال عليه‌السلام : « ليس هكذا تنزيلها

__________________

(١) الكافي ٣ / ٢٥ ، باب صفة الوضوء ، ح ٤.

(٢) الإستبصار ١ / ٥٨ ، باب النهى عن استعمال الماء الجديد لمسح الرأس والرجلين ، ح (١٧١) ١ وفيه : فأسدلها.

(٣) الكافي ٣ / ٢٦ ، باب صفة الوضوء ، ح ٥.

(٤) وسائل الشيعة ١ / ٣٩٩ ، باب كيفية الوضوء وجملة من أحكامه ، ح ٢٤ ؛ مستدرك الوسائل ١ / ٢٨٧ ، باب أبواب الوضوء ، ح ١.

(٥) المائدة : ٦.

٧

إنّما هي ( فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ ) من ( الْمَرافِقِ ) » (١) ثمّ أمرّ يده من مرفقه إلى أصابعه.

ومرسلة العياشي ، وفيها بعد الحكم بالاكتفاء بآية المائدة ، وقول السائل بعد ذكر الآية فكيف الغسل؟ قال : « هكذا يأخذ الماء بيده اليمنى فيصبّه في اليسرى ، ثمّ يصبّه إلى المرفق ثمّ يمسح إلى الكف » (٢).

مضافا إلى جملة من الأخبار البيانيّة :

منها : الصحيح : « ثمّ غمس يده اليسرى فغرف بها ملاءها ثمّ وضعه على مرفقه وأمّر بكفّه على ساعده حتّى جرى الماء على أطراف أصابعه » (٣).

وذكر نحوه في اليسرى أيضا.

وفي صحيحة الآخرين (٤) : فغسل بها ذراعه من المرفق إلى الكفّ لا يردّها (٥) ، ثمّ قال : « واصنع باليسرى مثل ما تصنع باليمنى ».

ونحوه ما في موثقة الآخرين (٦) إلى غير ذلك.

وقد عرفت بما ذكرنا ضعف ما يستند إليه المجوز من إطلاق الآية وجملة من الأخبار من المناقشة في دلالة جملة من الروايات المذكورة على وجوب البدأة بالأعلى ، وضعف إسناد بعضها.

ومنه أيضا يتّضح الوجه في التفصيل ؛ إذ دلالة الأخبار على لزوم البدأة بالمرافق أوضح منها في الوجه.

ويدلّ على كلّ من الوجهين في مسح الرأس والرجلين بعد الإطلاقات خصوص

__________________

(١) الكافي ٣ / ٢٨ ، باب حد الوجه الذي يغسل والذراعين وكيف يغسل ح ٥.

(٢) بحار الأنوار ٧٧ / ٢٨٣ ، ح ٣٢ وفيه : ثم يفيضه على المرفق.

(٣) الكافي ٣ / ٢٥ ، باب صفة الوضوء ، ح ٤.

(٤) في ( د ) : « الأخوين ».

(٥) الكافي ٣ / ٢٦ ، باب صفة الوضوء ، ح ٥.

(٦) في ( د ) : « الأخوين ».

٨

صحيحة حمّاد : « لا بأس بمسح الوضوء مقبلا ومدبرا » (١).

وفي خصوص الرجلين صحيحته الأخرى : « لا بأس بمسح القدمين مقبلا ومدبرا » (٢).

والصحيح : عن يونس ، أخبرني من رأى أبا الحسن عليه‌السلام بمنى يمسح ظهر قدميه من أعلى القدم إلى الكعب ، ومن الكعب إلى أعلى القدم ، ويقول : « الأمر في مسح الرجلين موسّع من شاء مسح مقبلا ومن شاء مدبرا ، فإنّه من الأمر الموسّع إن شاء الله » (٣).

والاحتجاج للمنع مطلقا بأنّه مع الإقبال مجز إجماعا بخلاف الإدبار ، فلا بدّ من العمل بالمتيقّن.

وللمنع في الرأس خاصّة برواية يونس المتقدّمة حيث خصّ التوسّع بمسح الرجلين.

وفي الرجلين خاصّة بظاهر الآية وجملة من الأخبار البيانيّة بيّن الضعف ، مضافا إلى عدم مقاومتها للنصّ الصحيح المعتضد بالشهرة بين الأصحاب.

وينبغي التنبيه لأمور :

أحدها : كما يجوز النكس في تمام العضو في المسح يجوز النكس في البعض دون البعض كما هو قضية الإطلاقات.

ثانيها : الظاهر على ما اخترناه من لزوم الغسل من الأعلى إلى الأسفل عدم جواز الغسل (٤) عرضا ، وإلّا كان ذلك أقرب إلى مراعاة غسل الأعلى فالأعلى في بعض الفروض ؛ إذ هو خلاف ظواهر الأخبار الواردة في الوضوءات البيانيّة خلافه ، وقد يتأمّل فيه من جهة قضاء الإطلاقات بالجواز و (٥) حصول الترتيب في العضو مع عدم صراحة الأخبار في المنع منه (٦).

__________________

(١) تهذيب الأحكام ١ / ٥٨ ، باب صفة الوضوء ، ح ١٠.

(٢) تهذيب الأحكام ١ / ٨٣ ، باب صفة الوضوء ، ح ٦٦.

(٣) الكافي ٣ / ٣١ ، باب مسح الرأس والقدمين ، ح ٧.

(٤) لم ترد في ( ب ) : « الغسل عرضا ... على الخفّين والنصوص ». في الصفحات الآتية.

(٥) في ( ألف ) : « الجواز » ولم توجد فيها واو العطف.

(٦) في ( د ) : « عنه ».

٩

والظاهر في المسح جوازه ؛ أخذا بالإطلاقات ، والحكم بالتوسعة فيه في القويّ.

ولا ينافيه ورود جواز الوجهين خاصّة ؛ إذ لا دلالة فيه على المنع من غيرهما إلّا أنّ الوقوف عليه هو الأحوط.

ثالثها : إنّ الغسل من الأعلى يتصور على وجوه :

منها : أن يكون غسل كلّ جزء من الأعلى قبل الأسفل ممّا يجاوز أو غيره حقيقة أو عرفا.

منها : أن يكون غسل كلّ جزء من الأعلى قبل ما يحاذيه من الأسفل.

منها : أن يكون البدأة بالأعلى من دون ملاحظة ذلك في سائر الأجزاء.

منها : أن يكون البدأة بالأعلى مع صدق الغسل من الأعلى إلى الأسفل عرفا من دون اعتبار تقدّم غسل كلّ جزء على لا حقه.

وهذا هو الظاهر من الأخبار ، وفيما دلّ على المنع عن ردّ الماء دلالة صريحة على عدم جواز النكس في البعض ، فالواجب إنّما هو الغسل من الأعلى إلى الأسفل وإن اتّفق غسل شي‌ء من الأسفل قبل أعلاه.

ويدلّ عليه رواية سهل بن اليسع ، وقد سأل الرضا عليه‌السلام عن الرجل يبقى من وجهه إذا توضّأ موضع لم يصبه الماء : « إنّه يجزيه أن يبلّه من بعض جسده » (١).

ونحوه مرسلة الصدوق عن الكاظم عليه‌السلام.

وعن الشهيد الثاني (٢) : إنّ المعتبر في الغسل الأعلى فالأعلى ، لكن لا حقيقة لتعسّره أو تعذّره ، بل عرفا فلا يضرّ المخالفة اليسيرة.

وقال أيضا : وفي الاكتفاء بكون كلّ جزء من العضو لا يغسل قبل ما فوقه على خطه وإن غسل قبل ما فوقه على غير جهته وجه وجيه.

__________________

(١) من لا يحضره الفقيه ١ / ٥٩ ، باب المياه وطهرها ونجاستها ح ١٣٣.

(٢) نقل هذا الكلام في الحدائق الناضرة ٢ / ٢٣٧ عن السيد السند في شرح الرسالة ، ولم أجده منقولا عن الشهيد الثاني ، فافحص.

١٠

ولا يذهب عليك أنّ شيئا من أخبار الباب لا يساعد على (١) شي‌ء من الوجهين المذكورين ، وكأنّ الوجه فيه مراعاة الاحتياط بتحصيل اليقين بالفراغ بعد تيقّن الغسل (٢).

ولا يخفى ضعفه.

وفي المدارك (٣) : إنّ اقصى ما يستفاد من الأخبار وكلام الأصحاب وجوب البدأة بالأعلى بمعنى صبّ الماء على الوجه واتباعه بغسل الباقي.

ولا يخلو ذلك عن إجمال ، فإن عني به الاكتفاء بمجرّد البداءة بالأعلى وإن غسل الباقي أو بعضه على العكس فهو بيّن الضعف.

وفيه أيضا ما تخيّله بعض القاصرين من عدم جواز غسل الوجه من الأسفل قبل غسل الأعلى وإن لم يكن في سمته (٤) ، فهو من الخرافات الباردة والأوهام الفاسدة.

قلت : وهو كما ذكره إلّا أنّ من الغريب ذهاب جدّه إليه كما مرّ.

ويظهر من العلّامة القول به أيضا حيث فصّل في المختلف (٥) فيما إذا نسي غسل موضع من الأعضاء فأوجب غسل ذلك الموضع وما بعده من ذلك العضو على القول بعدم جواز النكس ، والاكتفاء بغسله خاصّة من ذلك العضو على القول بجوازه ؛ إذ لو لا بيانه على وجوب مراعاة الأعلى فالأعلى مطلق لما صحّ إطلاقه المذكور ، بل ظاهر فهمه ذلك من كلام جميع القائلين بعدم جواز النكس.

وظاهر بعض متأخري المتأخرين البناء عليه ؛ استظهارا لها من الأخبار المشتملة على الوضوءات البيانية ، فادّعى بعد ذكر عدّة منها صراحتها في الترتيب في نفس العضو على الوجه المذكور في كلام الشهيد الثاني ، قال : ولزوم الحرج في ذلك كما أورده الشهيد على

__________________

(١) زيادة : « على » من ( د ).

(٢) في ( د ) : « الشغل ».

(٣) مدارك الأحكام ١ / ٢٠١ وفيه : « صب الماء على أعلى الوجه ثم اتباعه ».

(٤) في ( ألف ) : « سمه ».

(٥) مختلف الشيعة ١ / ٣٠٨.

١١

العلّامة غير واضح ، وليس في الأخبار ما يفيد جواز غسل بعض الأجزاء السافلة قبل العالية سواء كانت في سمتها أو لا ، غاية بعضها الإطلاق ، فيقيّد بما يفيد الترتيب كما هو مقتضى القاعدة.

ولا يذهب عليك ـ بعد ما عرفت ـ وهن ذلك كلّه ، بل دعوى دلالة الأخبار عليه وانتفاء الحرج فيه من الغرائب كما لا يخفى.

١٢

تبصرة

[ في اعتبار المباشرة في الأفعال ]

اتفقت كلمة الأصحاب على اعتبار المباشرة في أفعال الوضوء. ويعزى إلى الإسكافي في عبارة يوهم عدم اعتباره ذلك حيث عدّ من المندوب أن لا يشرك الإنسان في وضوئه غيره بأن (١) يوضّيه أو يعينه.

فإن ثبت خلافه في ذلك فهو شاذّ ضعيف.

ويدلّ على اعتبار المباشرة بعد الإجماع ـ محصلا ومنقولا في الانتصار وغيره ـ أنّه ظاهر الأوامر الواردة المتوجّه إلى المكلّف ، وقيام فعل الغير مقام فعله خلاف الأصل ، بل مخالف لقضيّة كونه عبادة ؛ إذ حصول العبوديّة بشي‌ء إنّما يكون بمباشرة العبد إيّاه ، مضافا إلى ظواهر جملة من الأخبار كقول الرضا عليه‌السلام وقد دخل على المأمون وهو يتوضّأ للصلاة والغلام يصبّ على يده الماء : « لا تشرك يا أمير المؤمنين بعبادة ربّك أحدا » ، فصرف المأمون الغلام وتولّى تمام الوضوء بنفسه.

وقد ورد في عدّة أخبار مرجوحيّة أن يشرك أحدا في وضوئه.

وفي بعضها الاستدلال بالآية الشريفة إلّا أنّ الاحتجاج بها كذلك (٢) لذلك لا يخلو من خفاء كما سيأتي القول فيه في المكروهات.

ثمّ إنّ الواجب هو مباشرة نفس الأفعال ، وأمّا مقدّماتها كإحضار الماء والصبّ على العضو إذا اعتبر الغسل بإمرار اليد عليه فلا مانع منه.

نعم ، يكره ذلك في المقدمات القريبة كما يأتي القول فيه إن شاء الله.

__________________

(١) في ( ألف ) : « أن ».

(٢) لم ترد في ( د ) : « كذلك ».

١٣

هذا كلّه مع الاختيار ، أمّا مع عدم التمكّن من المباشرة فلا بدّ من تولية الغير كما سيأتي القول فيه عند بيان الوضوء الاضطراري.

هذا ، ولا يعتبر المباشرة باليد في شي‌ء من الغسلات ، بل المقصود حصول مسمّى الغسل كيف ما اتّفق. وربما خالف فيه شذوذ من الأصحاب ، وقد مرّت الاشارة إليه.

وأمّا في المسحات فيعتبر مباشرة الماسح للممسوح ، فلا يجزي المسح بالحائل ، ولا عليه بلا خلاف فيه.

ومنه المسح على الخفّين ، والنصوص (١) بالمنع عنه بالخصوص مستفيضة ، بل الظاهر أنّه من ضروريات المذهب.

نعم ، لو لم يتمكّن من نزعه جاز المسح عليه ، وربّما تأمّل فيه بعض الأصحاب. وهو ضعيف كما يأتي الكلام فيه إن شاء الله.

ثمّ إنّ المذكور في كلام جماعة من الأصحاب لزوم المسح على بشرة الرجلين ، وقد يفيد ذلك عدم الاكتفاء بالمسح على الشعر المختصّ بها لو نبت عليها شعر حاجب وإن جاز ذلك بالنسبة إلى مسح الرأس.

وقد نصّ الشهيد الثاني بذلك مبدأ للفرق بينهما ، وذكر أنّ قضية المسح بالرأس والرجلين هو المسح على بشرتهما ؛ إذ لا يعد الشعر منهما.

وقد دلّ الرواية في الرأس على جواز المسح على الشعر ، مضافا إلى قيام الضرورة عليه بخلاف الرجلين.

قلت : والقول بعدم الاكتفاء أيضا لا يخلو من إشكال ، ولا (٢) بعد في صدق المسح على اسم الرجل بالمسح على الشعر المختصّ بها ، كيف وقد أطبقوا على وجوب غسل الشعر في اليدين معلّلين باندراجه في المتعارف.

مضافا إلى استصحاب بقاء الشغل ، وقد يجعل ذلك وجها في تخصيصهم المسح فيهما

__________________

(١) إلى هنا سقط في ( ب ).

(٢) في ( د ) : « إذ لا » بدل « ولا ».

١٤

بالبشرة ، فلا يستفاد من كلماتهم المنع من المسح على الشعر.

وكيف كان ، فمع البناء على عدم الاكتفاء بمسح ظاهر الشعر لا يكتفي أيضا بتخليله بحيث تصل الرطوبة إلى البشرة ؛ لعدم حصول المباشرة المعتبرة.

١٥

تبصرة

[ في مراعاة الترتيب ]

لا خلاف بين علمائنا في وجوب مراعاة الترتيب في أفعال الوضوء سوى بين القدمين واشتراطه في صحّته.

ويدلّ عليه بعد الإجماع محصّلا ومنقولا عدّة من الأخبار المعتبرة القوليّة والفعليّة ، فلو خالف الترتيب عمدا أو سهوا أو جهلا وجب عليه الرجوع بما يحصل معه الترتيب إلّا أن يجي‌ء هناك مفسد كفوات الموالاة أو عزوب النيّة كما إذا قدّم اليمين على غسل الوجه ، فعزبت عنه النيّة حين غسله ، فإنّه لا يكتفي إذن بغسله بناء على اعتبار الإخطار ، فيكفي إذن تغسيله ما حقّه التأخير خاصّة كما نصّ عليه الفاضلان وجماعة.

وربّما يقال بلزوم اعادة الأمرين لوقوعه كذلك في غير محلّه ، ولظاهر غير واحد من الأخبار كالموثق : « إن نسيت فغسلت ذراعك قبل وجهك (١) ثمّ اغسل ذراعك » (٢).

وهو ضعيف جدّا ؛ إذ لا مقتضي لإعادة ما حقّه التقديم.

وفي البحار (٣) بعد ذكر هذا الاحتمال : ولا يخفى وهنه. والرواية المذكورة وما بمعناها ليست صريحة في ذلك ، مضافا إلى الموثق : « إذا بدأت بيسارك قبل يمينك ومسحت رأسك ورجليك ثمّ استيقنت أنّك بدأت بها غسلت يسارك ثمّ مسحت رأسك ورجليك » (٤).

وهي أصرح دلالة ممّا يخالفها.

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « فأعد غسل وجهك ».

(٢) الكافي ٣ / ٣٥ ، باب الشك في الوضوء ومن نسيه أو قدم أو أخر ، ح ٦.

(٣) بحار الأنوار ٧٧ / ٢٦٣.

(٤) وسائل الشيعة ١ / ٤٥٤ ، باب وجوب الإعادة على ما يحصل معه الترتيب ، ح ١٤.

١٦

وعن ظاهر التحرير (١) لزوم إعادة الوضوء من رأس وإن لم يخف (٢).

وهو إن حمل على ظاهره غريب.

وقد يعلّل بفوات الموالاة بمعنى المتابعة. ويردّ أنّها ليست شرطا في الصحة عندهم كما سيجي‌ء.

وربّما يحمل على صورة قصده الوضوء كذلك ؛ إذ لا يبعد البناء فيه على الفساد مطلقا ؛ لعدم مشروعيّة المقصود.

وقد يقال بلزوم إعادة كلّ من المقدم والمؤخر مع تعمّد المخالفة ؛ لعدم استدامة النيّة. وهو قوي.

ومن الغريب تفصيله في التذكرة (٣) بين العمد والسهو ، فحكم بالصحّة في الأوّل مع عدم الجفاف ، فيعود إلى ما يحصل به الترتيب ، وحكم بالفساد في الأخير مع أنّ حكمه بعكس ذلك أولى ، وإن كان إطلاق الفساد فاسدا فيه أيضا كما عرفت.

ولو غسل الأعضاء فقد صحّ غسل وجهه إن لم يجعل في نواه خصوص تلك الأفعال المتقاربة ، وإلّا فسد مع العمد.

وكذا مع السهو وجه قويّ.

وأطلق في التذكرة صحّة غسل الوجه. ولا يبعد حمله على ما قلناها.

هذا ، وأمّا القدمان ففي اعتبار الترتيب بينهما خلاف بين الأصحاب ، فالأكثر على عدم اعتباره مطلقا. وحكاية الشهرة عليه مستفيضة في كلماتهم ، و (٤) لا يخلو من وجه قوّة.

وذهب بعضهم إلى اعتبار الترتيب بينهما ، وعزي إلى الصدوقين والإسكافي والديلمي وجماعة من المتأخرين. وفصّل بعضهم : فمنع من تقدّم اليسار على اليمين خاصّة وجوّز

__________________

(١) كما في ( د ) ، وفي ( ألف ) و ( ب ) : « المبسوط » ، بدلا من « ظاهر التحرير ».

(٢) تحرير الأحكام ١ / ٧٤.

(٣) تذكرة الفقهاء ١ / ١٨٨.

(٤) زيادة الواو من ( د ).

١٧

الوجهين الآخرين.

حجّة الأوّل : إطلاق الكتاب ومعظم الأخبار المبيّنة للوضوء سيّما الحاكية للبناء الفعليّة مع التصريح فيها بمراعاة الترتيب بين سائر الأعضاء سوى القدمين ، فإن ذلك كالصريح في عدم اعتبار الترتيب بينهما. كيف لو وجب ذلك لاعتبره الإمام في البيان ، ولزم حكاية الراوي لها كذلك ، فإطباق الروايات الحاكية إليها كذلك على عدمه صريح في عدمه.

مضافا إلى اعتضاده بالأصل والشهرة.

ويدلّ على الثاني خصوص الصحيح : « امسح على القدمين وابدء بالشقّ الأيمن » (١).

وإطلاق الخبر : « إذا توضأ أحدكم للصلاة فليبدأ باليمين قبل الشمال جسده ». (٢)

وفي رواية أخرى أنّه عليه‌السلام كان إذا توضّأ بدأ بميامنه (٣) ، أيضا.

مضافا إلى اعتضادها بالاحتياط في تحصيل اليقين بالفراغ سيّما مع القول بكون العبادات اسامي للصحيحة.

وفيه : أنّ شيئا من الأخبار المذكورة ليس صريحا في الوجوب ، فليحمل على الندب (٤) ، مضافا إلى ما في الأخيرين من الإطلاق والضعف في الإسناد ، ولا معوّل على الاحتياط بعد قضاء الأدلّة بالجواز.

وقد يقال : إنّ ما استدلّ به على عدم الترتيب مطلقة والصحيحة المذكورة مقيّدة ، فلا بدّ من حملها عليها.

قلت : مساق تلك الأخبار يأبى عن الحمل المذكور ، بل هي بمنزلة النصوص على عدم اعتبار الترتيب سيّما مع اعتضادها بفهم الأكثر ، وإعراضهم عن العمل بظاهر الصحيحة ، فالبناء على وجوب الترتيب بينهما بمجرّد ذلك مشكل جدا إلّا أنّ الاحتياط في أمثال هذه

__________________

(١) الكافي ٣ / ٢٩ ، باب مسح الرأس والقدمين ح ٢.

(٢) وسائل الشيعة ١ / ٤٥٠ ، باب وجوب الترتيب في الوضوء وجواز مسح الرجلين معا ح ٤.

(٣) الأمالي للطوسي : ٣٨٧.

(٤) زيادة في ( د ) : « لظاهر تلك الأخبار ».

١٨

المقامات ممّا لا ينبغي تركه.

حجّة الثالث : مكاتبة الحميري المرويّة في الاحتجاج عن القائم عليه‌السلام ، وقد سأله عن البدأة باليمنى في المسح على الرجلين أو أنّه يمسحهما جميعا؟ : « فإن بدأ بأحدهما قبل الاخرى فلا يبدأ إلّا باليمين » (١).

وفيه ضعف الإسناد مع انتفاء الجائز ، فلا ينهض حجّة على أنّه يمكن حملها على الاستحباب جمعا.

وأنت خبير بأنّ ما دلّ عليه من جواز المعيّة في المسح مجبور بفتوى الأصحاب ، فينهض دليلا عليه.

وحينئذ يتعارض الصحيحة المتقدّمة الآمرة بتقديم الأيمن ، فيتعيّن حملها على الندب ، وما دلّ عليه من عدم جواز تقديم اليسار غير منجبر ، فلا يقوم حجّة على المنع فيه. وحينئذ فلا دليل على عدم جوازه بعد حمل الصحيحة على الندب (٢).

__________________

(١) بحار الأنوار ٧٧ / ٢٦٣ ، باب وجوب الوضوء وكيفيته وأحكام ، ح ١١.

(٢) زيادة في ( د ) : « فتأمّل ».

١٩

تبصرة

[ في اشتراط الموالاة ]

لا خلاف بين الأصحاب في اشتراط الوضوء بالموالاة ، واختلفوا في تفسيرها مع إطباقهم على اعتبار عدم تأخير الفعل اللاحق بحيث يجفّ ما أتى به من السابق ، فقيل : إنّ ذلك هو الموالاة المعتبرة بمعنى أن يكون تلبّسه باللاحق مع بقاء الرطوبة في السابق عليه ، وحكي الشهرة في كلام جماعة.

وذهب الشيخ (١) وجماعة منهم العلّامة في جملة من كتبه أنّها المتابعة بين الأفعال بحيث يشتغل بكلّ فعل منها عقيب فراغه من الآخر مع اعتبار عدم جفاف العضو السابق أيضا.

والمعتبر في الصحّة إنّما هو الثاني دون الأوّل فلا يترتّب على مخالفته سوى العصيان على ما حكى بعض الأجلاء الشهرة عليه بين هؤلاء.

وممّن نصّ عليه العلّامة في النهاية (٢) وغيرها.

وعن ظاهر المبسوط (٣) فساد العمل بفوته مع الاختيار كما هو قضية الاعتبار.

وفي البيان (٤) مع (٥) تفسيره الموالاة لمراعاة الجفاف : نعم ، لو أفرط في التأخير عن المعتاد فالأقرب التحريم ، أمّا البطلان فلا إلّا مع الجفاف ، قال : ومع العذر لا تحريم.

وذكر نحوه أيضا في الدروس (٦).

__________________

(١) الخلاف ١ / ٩٦.

(٢) نهاية الإحكام ١ / ٤٦.

(٣) المبسوط ١ / ٢٢.

(٤) البيان : ١٠.

(٥) في ( د ) : « بعد ».

(٦) الدروس ١ / ٩٣.

٢٠