تبصرة الفقهاء - ج ٢

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني

تبصرة الفقهاء - ج ٢

المؤلف:

الشيخ محمد تقي الرازي النجفي الاصفهاني


المحقق: السيد صادق الحسيني الإشكوري
الموضوع : الفقه
الناشر: مجمع الذخائر الإسلامية
المطبعة: مطبعة الكوثر
الطبعة: ١
ISBN: 978-964-988-001-3
ISBN الدورة:
978-964-988-003-7

الصفحات: ٥٩٩

المقام حيث عدّ منها لا وجه للقول فيه بالوجوب. ومال إليه صاحب الحدائق حيث ذكر أن القول بالوجوب لا يخلو عن قوة.

ومال السيد في الناصريات بعد حكمه باستحباب الغسل المذكور وتأكّد استحبابه غاية التأكيد ، فلهذا اشتبه الأمر على أكثر أصحابنا واعتقدوا أن غسل الإحرام واجب ؛ لقوة ما ورد في تأكيده. وهذا يعطي شيوع القول به في الأوائل إلا أن تفرّده في كفاية (١) ذلك مع حكم غيره بخلافه بشذوذ القائل به ظاهر في توهّمه ذلك من إطلاق كلماتهم الظاهر في البناء على الوجوب ، مع أن المراد به الندب كما فهمه غيره أو دلّ عليه فتاواهم في موضع آخر.

وكيف كان ، فالوجه فيه القول بالندب.

ويدلّ عليه بعد الإجماعات المحكية والشهرة المستفيضة القريبة من الإجماع الأصل. وعدم وضوح مستند ظاهر للوجوب ولو كان واجبا لقام عليه الشواهد الظاهرة والأدلة القاطعة ؛ لما فيه من عموم البلية ، ولما خفي أمره على آحاد الطائفة ، مع أن الأمر فيه بالعكس ، مضافا إلى ظواهر عدّة من الأخبار ، منها قويّة الفضل بن شاذان ، عن الرضا عليه‌السلام : فيما كتب للمأمون من شرائع الدين حيث حكم فيها بكون عدّة من الأغسال منها غسل الإحرام سنّة قال : « وغسل الجنابة فريضة وغسل الحيض مثله » (٢).

ومنها : صحيحة معاوية بن عمار في بيان كيفية الإحرام ، وفيها : « إذا انتهيت إلى العقيق من قبل العراق إلى الوقت من هذه المواقيت ، وأنت تريد الإحرام إن شاء الله فانتف إبطيك وقلّم أظفارك واطل عانتك وخذ من شاربك ، ولا يضرّك بأي ذلك بدأت ثم استك واغتسل والبس ثوبيك وليكن فراغك من ذلك إن شاء الله عند زوال الشمس » (٣) الخبر.

فإنّ ذكره في سياق المندوبات يعطي استحبابه.

ومنها : صحيحة معاوية بن وهب ، فيها أيضا الأمر بها في سياق عدّة من المندوبات.

__________________

(١) في ( د ) : « حكاية » بدل « كفاية ».

(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ / ١٣٠.

(٣) الكافي ٤ / ٣٢٦ ، باب ما يجب لعقد الاحرام ، ح ١.

٢٠١

وفي ظاهر رواية الفقه أيضا ما يدلّ على استحبابه.

حجة القول بالوجوب ظواهر عدّة من الأخبار ، وفيها ما يشتمل على الأمر بالغسل أو ما عادته إذا لبس بعد الغسل ما لا ينبغي له لبسه أو أكل ما لا ينبغي له أكله أو أن عليه إعادة الغسل إذا نام بعده ، ونحو ذلك من الأخبار.

وأصرح ما يدلّ منها على الوجوب مرسلة يونس ، عن بعض رجاله ، عن الصادق عليه‌السلام : « الغسل في سبعة عشر موطنا ، منها الفرض ثلاث ، فقلت : جعلت فداك! ما الفرض منها؟

قال : غسل الجنابة وغسل من مسّ ميّتا وغسل للإحرام » (١).

أو في رواية الفقه : « الفرض من ذلك غسل الجنابة والواجب غسل الميّت وغسل الإحرام ، والباقي سنّة » (٢).

وأنت خبير بأنّه [ لا ] يصلح شي‌ء من ذلك أن يكون سندا للوجوب ؛ لضعف دلالة الإطلاقات المذكورة ، بل هي محمولة على الندب بقرينة ما ذكرنا (٣) من فهم الأصحاب وظاهر غيرها من الأخبار بل وصريح بعضها الدالة على عدم لزوم الإعادة بسبب النوم أو لبس القميص ونحوهما.

والأخيران لا ينهضان بانفرادهما حجة ، فهما أيضا محمولان على تأكّد الاستحباب.

ومنها : الغسل للطواف كما نصّ عليه كثير من الأصحاب ، وحكى في الخلاف الإجماع عليه.

وذكر جماعة منهم استحبابه لزيارة البيت ، [ و ] في الغنية الإجماع عليه.

وكأنه المفتى بها. والمراد مطلق الزيارة أو خصوص طواف الزيارة. والموجود في عدّة من الأخبار المشتملة على المعتبرة هو غسل الزيارة أو الغسل لزيارة البيت أو يوم الزيارة ، وأما خصوص الطواف فلم نجد له ذكرا في الأخبار إلا ما في رواية أبي حمزة ، عن الكاظم عليه‌السلام

__________________

(١) الإستبصار ١ / ٩٨.

(٢) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٢.

(٣) في ( د ) : « ذكرناه ».

٢٠٢

قال : « إن اغتسلت بمكة ثم نمت قبل أن تطوف فأعد غسلك » (١).

فربّما يومي إلى مطلوبية الغسل لأجل الطواف ، ولا بأس به بعد فتوى جماعة من الأصحاب وتأيّده بالروايات.

وهل يعمّ الحكم جميع أنواع الطواف من الواجب والمندوب وطواف الحج والعمرة وطواف الزيارة وطواف النساء وطواف الوداع والطواف المتبرع بها؟ وجهان.

وربّما يستفاد من إطلاق جماعة منهم شمول الحكم للجميع ، ونصّ الشهيد الثاني بتعميمه للواجب والمندوب ، واستفادة الحكم كذلك من الأخبار لا يخلو من إشكال ، والبناء على استحباب غسل زيارة البيت مطلقا ـ عملا بظاهر الأخبار ـ لا يخلو من قرب.

ومنها : الغسل للوقوف بعرفات ، على ما حكي ذكره عن كثير من الأصحاب كالصدوقين (٢) والشيخين والديلمي والقاضي وابن أبي المجد الحلبي والطوسي وابن زهرة والحلي وابن سعيد والفاضل والشهيد.

وعن الخلاف والغنية الإجماع على استحبابه.

وربّما يحتجّ له بالصحيح : « فإذا انتهيت إلى عرفات فاضرب خباءك (٣) بغيره (٤) فإذا زالت الشمس يوم عرفة فاغتسل » (٥). والخبر « إذا زالت الشمس يوم عرفة فاقطع التلبية واغتسل » (٦) باستظهار حملهما على إرادة غسل الوقوف. وهو محلّ تأمل لاحتمال إرادة غسل اليوم ، فتأمل.

ومنها : الغسل لوقوف المشعر ، وعزي إلى الصدوق والشيخ والشهيد.

وفي الخلاف حكاية الإجماع عليه.

__________________

(١) الكافي ٤ / ٤٠٠ ، باب دخول مكة ، ح ٧.

(٢) في ( ب ) : « كالصدوق ».

(٣) في المصدر : « خباك ».

(٤) في المصدر : « بنمرة ؛ ونمرة هي بطن عرنة دون الموقف ودون عرفة ».

(٥) الكافي ٤ / ٤٦٢ ، باب الغدو إلى عرفات وحدودها ، ح ٣.

(٦) من لا يحضره الفقيه ٢ / ٥٤٠ ، باب الغدو الى عرفات.

٢٠٣

والأخبار وكلام أكثر الأصحاب خالية عنه. نعم ، في صحيحة معاوية بن عمار : « أصبح على طهر بعد ما تصلى الفجر فتقف (١) إن شئت قريبا من الجبل وإن شئت حيث تبيت » (٢) (٣).

وهو صريح في إرادة الغسل ، بل وفي ظهوره فيه أيضا تأمل.

وربما يحتج (٤) بأولوية ثبوته عرفة من ثبوته للوقوف بعرفة حيث إنه الركن الأعظم ، فيكون أولى.

وفيه أيضا تأمل لا يخفى ، فإن اكتفى في ثبوت الغسلين المذكورين ( بمجرّد الإجماع المنقول وفتوى الجماعة وإلّا ففي ثبوتهما إشكال.

ثمّ بناء على ثبوت الغسلين المذكورين ) (٥) فهما مغايران لغسل اليومين.

ومنها : غسل للنحر والحلق والذبح ؛ لصحيحة زرارة : « إذا اغتسلت بعد طلوع الفجر أجزأك غسلك ذلك للجنابة وجمعة وعرفة والنحر والحلق والذبح والزيارة » (٦) الخبر.

ومنها : الغسل لزيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكلّ من الأئمة عليهم‌السلام كما نصّ عليه كثير من الأصحاب منهم الشيخان والقاضي وابن أبي المجد الحلبي والطوسي وابن زهرة والحلي وابن سعيد والفاضلان والشهيدان وابن فهد.

وعن الغنية حكاية الإجماع عليه.

وفي الوسيلة : أنه من المندوب بلا خلاف. وأسنده في نهاية الإحكام والروض إلى الرواية.

ويدل عليه وروده في الزيارة الجامعة المشهورة التي يراد بها كلّ واحد من الأئمة عليهم‌السلام.

وعن الصادق عليه‌السلام : « من أراد أن يزور قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقبر أمير المؤمنين عليه‌السلام

__________________

(١) في المصدر : « فقف ».

(٢) في المصدر : « شئت ».

(٣) الكافي ٤ / ٤٦٩ ، باب ليلة المزدلفة والوقوف بالمشعر ، ح ٤.

(٤) زيادة في ( د ) : « له ».

(٥) ما بين الهلالين من ( د ).

(٦) الكافي ٣ / ٤١ ، باب ما يجزئ الغسل منه إذا اجتمع ، ح ١.

٢٠٤

وفاطمة والحسن والحسين وقبور الحجج عليهم‌السلام فليغتسل في يوم الجمعة وليلبس ثوبين نظيفين » (١) ، الخبر.

وعن سليمان بن عيسى ، عن أبيه قال : قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : كيف أزورك إذا لم أقدر على ذلك؟ قال : قال لي : « يا عيسى! إذا لم تقدر على المجي‌ء فإذا كان في يوم جمعة فاغتسل أو توضأ واصعد إلى سطحك وصلّ ركعتين وتوجّه نحوي ، فإنه من زارني في حياتي فقد زارني في مماتي ومن زارني في مماتي فقد زارني في حياتي » (٢).

واستحباب الغسل لزيارتهم من البعيد كما هو مفاد هذين الخبرين يفيد استحبابه من القريب بطريق أولى.

وعن العلاء بن سيّابة ، عن الصادق عليه‌السلام في قوله تعالى : ( خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ ) (٣) قال : « الغسل عند لقاء كل إمام » (٤).

ولا يبعد تعميمه لزيارتهم أحياء وأمواتا ، ولو خصّ بالأول كما يومى إليه لفظ « اللقاء » لا يبعد تعميم الحكم من جهة ما دلّ أن حرمتهم أحياء كحرمتهم أمواتا.

وفي رواية الفقه عدّ غسل الزيارات في عداد الأغسال ، وهو بإطلاقه يعمّ الجميع.

وقد تواردت الأخبار به في خصوص زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمير المؤمنين عليه‌السلام ومولانا الحسين عليه‌السلام والرضا عليه‌السلام. وقد روي أيضا في خصوص زيارة الجوادين عليهما‌السلام والعسكريين عليهما‌السلام. وفيها أيضا دلالة بالفحوى على تعميم الحكم ، ولا يبعد تعميم الحكم لزيارتهم من القريب والبعيد كما يومي إليه ظاهر إطلاقاتهم ، ويستفاد من الخبرين المتقدمين.

ومنها : الغسل عند السفر إلى زيارة الحسين عليه‌السلام ، بل يستحب فيه غسلان كما سيجي‌ء.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٤ / ٥٧٩ ، باب استحباب زيارة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة وفاطمة عليهم‌السلام ، ح ١.

(٢) وسائل الشيعة ١٤ / ٥٧٨ ، باب استحباب زيارة قبور النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والأئمة عليهم‌السلام ، ح ٥.

(٣) الأعراف : ٣١.

(٤) تهذيب الأحكام ٦ / ١١٠ ، باب من الزيارات ، ح ١٣.

٢٠٥

ذكر ابن طاوس أنه روى « الانسان يستحب له إذا أراد السفر أن يغسل ويقول عند الغسل : بسم الله وبالله ، لا حول ولا قوة إلا بالله .. » (١) الخبر.

وعن أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام : « إذا أردت الخروج إلى أبي عبد الله عليه‌السلام فصم قبل أن تخرج ثلاثة أيام يوم الأربعاء ويوم الخميس والجمعة. فإذا أمسيت ليلة الجمعة فصلّ صلاة الليل ثمّ قم فانظر في نواحي السماء فاغتسل تلك الليلة قبل المغرب ثمّ تنام على طهر ، فإذا أردت المشي إليه فاغتسل ولا تطيب ولا تدّهن ولا تكتحل حتى تأتي القبر » (٢).

ومنها : الغسل إذا كان له حاجة وأراد لرؤية أحد الأئمة عليهم‌السلام في المنام ، فعن أبي جعفر عليه‌السلام : « من كانت له إلى الله حاجة وأراد أن يراها وأن يعرف موضعه فليغتسل ثلاث ليال يناجي بنا ، فإنه يرانا ويغفر له بنا » (٣).

ومنها : الغسل لأخذ التربة الحسينية. عن جابر الجعفي ، عن الباقر عليه‌السلام : « إذا أردت أن تأخذ من التربة فتعمّد لها آخر النهار (٤) واغتسل (٥) بماء القراح (٦) وتطيب بسعد وادخل فقف عند الرأس وصلّ أربع ركعات » (٧). وروى ابن طاوس أيضا قريبا من ذلك مرسلا.

ومنها : الغسل للتنشيط بصلاة الليل ، فعن مولانا أمير المؤمنين عليه‌السلام : أنه كان يغتسل في الليالي الباردة طلبا للنشاط في صلاة الليل (٨).

ويحتمل تخصيصه بالليالي الباردة كما هو مورد الرواية ، وقد يعمّم الحكم ؛ أخذا بإطلاق

__________________

(١) الأمان من أخطار الأسفار : ٣٣.

(٢) وسائل الشيعة ١٤ / ٥٣٩ ، باب انه يستحب لمن أراد زيارت الحسين عليه‌السلام أن يصوم .. ح ١.

(٣) بحار الأنوار ٢٦ / ٢٥٦.

(٤) في المصدر : « الليل ».

(٥) في المصدر زيادة : « لها ».

(٦) في المصدر زيادة : « وأ ليس اطهر أطمارك ».

(٧) المزار لمحمد بن المشهدي : ٣٦٥.

(٨) بحار الأنوار ٧٨ / ٢٣.

٢٠٦

اليد (١).

ومنها : الغسل لعمل الاستفتاح ؛ لما روى عن الصادق عليه‌السلام بطرق عدّة أنه قال في حديث طويل : « صم في رجب يوم ثلاثة عشر وأربعة عشر وخمسة عشر ، فإذا كان يوم الخامس عشر فاغتسل عند الزوال » (٢) ، وفي اخرى « قريبا من الزوال ».

ومنها : الغسل لصلاة الحاجة ، فقد ذكر استحباب الغسل له جمع كثير من الأصحاب منهم الشيخان والديلمي والقاضي والحلبي وابن زهرة والطوسي والحلي والفاضلان وابن سعيد والشهيدان وابن فهد. وحكى عليه الإجماع في الغنية. وعدّه في الوسيلة من المندوب بلا خلاف.

وفي المعتبر : أنه مذهب الأصحاب. وعزاه في تذكرة الفقهاء إلى علمائنا. وفي الروض : أن عليه عمل الأصحاب.

ويدلّ عليه عدّة من الأخبار الواردة في صلاة الحاجة ، وهي مشتملة على الغسل قبل الصلاة.

وفي الاحتجاج باستحباب الغسل للصلاة للحاجة إشكال ؛ لاشتمال الوارد هناك على كيفيات مخصوصة إلا أن يقال بأن المفهوم من مجموع تلك الأخبار كون الغسل والصلاة والصوم والدعاء من الأعمال المطلوبة حال طلب الحوائج ، فتتفاوت قلّة وكثرة بتفاوت الحوائج والمحتاجين ، فلا خصوصية للكيفية المفروضة في كلّ رواية منها لاستحباب الغسل. وقد نصّ بعض المتأخرين على فهم ذلك من تلك الأخبار.

وحينئذ فيكون الغسل مندوبا لمطلق طلب الحاجة سواء أراد الصلاة أو لا ، وفهم ذلك من الأخبار لا يخلو عن إشكال.

نعم ، عدّ في رواية الفقه (٣) من جملة الأغسال غسل طلب الحوائج من الله تبارك وتعالى ،

__________________

(١) في ( د ) : « العلّة » بدل « اليد ».

(٢) جواهر الكلام ٥ / ٥٩.

(٣) فقه الرضا عليه‌السلام : ٨٢.

٢٠٧

وهو يفيد استحبابه مطلقا سواء صلّى معه أولا (١) ، فالبناء على استحبابه كذلك لا يخلو من قرب وإن كان الأولى الاقتصار على وجه الوجوه المأثورة.

ومنها : الغسل لصلاة الاستخارة ، على ما نصّ عليه الجماعة المذكورون. والإجماعات المذكورة معوّلة عليه أيضا نصّا وظاهرا كما مرّ.

ويحتجّ عليه بصحيحة زرارة ، عن الصادق عليه‌السلام في الأمر يطلبه الطالب من ربّه ، قال : « يتصدّق [ في ] (٢) يومه على ستّين مسكينا ، على كلّ مسكين صاع بصاع النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فإذا كان الليل اغتسل في ثلث الليل الباقي » إلى أن قال : « فإذا رفع رأسه في السجدة الثانية استخار الله مائة مرّة ويقول .. » (٣) وذكر الدعاء.

وأنت خبير بأن الرواية مسوقة لطلب الحاجة ، وقد ذكر فيه صلاة الحاجة. وذكر الاستخارة لا يدلّ على كونه للاستخارة ؛ لإمكان طلب الخير من الله فيما طلبه من الحاجة وأن يسهّله الله تعالى له على النحو المرغوب ، فالاحتجاج بها على مطلق الاستخارة ليس على ما ينبغي.

ومع تسليمه فالاستدلال بها على استحباب الغسل لمطلق صلاة الاستخارة مشكل ؛ لاختصاصها بالصورة المفروضة.

فالأولى الاحتجاج عليه بموثقة سماعة : « وغسل الاستخارة مستحب ».

وفي رواية الفقه بعد غسل الاستخارة « من الأغسال المسنونة ».

وحينئذ لا يختصّ الاستحباب بمريد الصلاة ، ولا هو من وظائفها بل ظاهرها كونه من مقدمات الاستخارة سواء صلّى لها أم لا وذكر الدعاء ، والظاهر أنه من أقسام صلاة الحاجة.

ومنها : الغسل لصلاة الخوف من الظالم ؛ لما ذكره في المكارم في بيان الصلاة المذكورة أنه

__________________

(١) زيادة : « أو لا » من ( د ).

(٢) في مخطوطات الأصل : « على ». وما أدرجناه من المصدر.

(٣) وسائل الشيعة ٣ / ٣٣٤ ، باب استحباب غسل الاستخارة ، ح ١.

٢٠٨

قال : « اغتسل وصلّ ركعتين واكشف عن ركبتيك .. » (١) إلى آخره ، والظاهر أيضا أنه من أقسام صلاة الحاجة ، ويشهد له (٢) الدعاء المذكور (٣) بعده.

ومنها : الغسل لصلاة الاستسقاء كما عن الصدوقين والمفيد (٤) والسيد والديلمي والقاضي (٥) والحلبي (٦) وابن أبي المجد وابن زهرة والفاضلان والشهيد (٧) وابن فهد وغيرهم.

وفي الغنية (٨) حكاية الإجماع عليه.

واستدل له بما في موثقة سماعة : « وغسل الاستسقاء واجب » (٩) بحمله على زيادة التأكيد للإجماع على عدم وجوبه.

وقد حكى اتفاق الأصحاب على عدم وجوبه في المعتبر (١٠).

وأنت خبير بأنه لا دلالة فيها أيضا على كون الغسل لأجل الصلاة ، وقضية إطلاقه تعميم الحكم لمطلقه ، ولو بالدعاء. ويشير إليه ما مرّ من استحبابه لمطلق طلب الحاجة وهو من جملتها.

ومنها : الغسل للمباهلة على ما نصّ عليه المفيد والقاضي وابن سعيد بل قيل : إن ذلك كان مشهورا بين القدماء ، ونصّ عليه جماعة من المتأخرين.

ويدلّ عليه رواية أبي مسروق المذكورة في باب المباهلة من الكافي ، وفيها : فقال لي :

__________________

(١) مكارم الأخلاق : ٣٣٩.

(٢) في ( ألف ) : « و » بدلا من « له ».

(٣) في ( ألف ) : « مذكور ».

(٤) المقنعة : ٥١.

(٥) المهذب ١ / ٣٣.

(٦) الكافي للحلبي : ١٣٥.

(٧) الألفية والنفلية : ٩٦.

(٨) غنية النزوع : ٦٢.

(٩) الكافي ٣ / ٤٠ ، باب انواع الغسل ، ح ٢.

(١٠) المعتبر ١ / ٣٦٠.

٢٠٩

« إذا كان ذلك فادعهم إلى المباهلة ». قلت : وكيف (١) أصنع؟ قال : « أصلح نفسك ـ ثلاثا ». وأظنه قال : « وصم واغتسل وابرز أنت وهو إلى الجبان .. » (٢) الخبر. ولو سلّم عطف قوله « واغتسل » بقوله « وصم » ليدخل عليه فعل الظن فلا يمنع من الاحتجاج به في المقام.

ومنها : الغسل لصلاة الشكر. ذكره جماعة من الأصحاب منهم القاضي والحلبي وابن زهرة وابن أبي المجد ، وحكى عليه الإجماع في الغنية. ولم نجد ما يدلّ عليه في شي‌ء من الأخبار.

ومنها : الغسل لكلّ فعل يتقرّب به إلى الله تعالى ويلجأ إليه. حكي القول به عن الإسكافي ، وقضية إطلاقه استحباب الغسل لفعل كلّ القربات من الصلاة والصيام وأداء الزكاة والصدقة وغيرها. وهو كذلك بعيد جدا ، ولا دليل عليه أصلا.

وقد يحمل على القربات التي يؤتى بها عند الالتجاء إلى الله تعالى. وطلب الحوائج منه تعالى. وهو غير بعيد عن العبارة المنقولة عنه.

ومنها : الغسل لقضاء صلاة الكسوفين مع احتراق القرص وتعمد الترك. ومشروعية الغسل المذكور مما لا يعرف فيه مخالف من الأصحاب.

نعم ، ربّما يظهر تأمل من جماعة من المتأخرين في الدليل عليه بالنسبة إلى كسوف الشمس ؛ لاختصاص ظواهر الأخبار بالخوف.

وفيه ـ مع عدم القول بالفصل كما ادعاه بعضهم ـ أنه لا يبعد شمول غير واحد من الأخبار للأمرين بحمل الكسوف فيها على الأعم ، وإن كان ذكر الإسقاط في بعضها شاهدا على إرادة كسف القمر إلا أنه ليس صريحا فيه ليفضي بالتخصيص ، مضافا إلى خصوص رواية الفقه : « وإذا (٣) انكسفت الشمس أو القمر ولم تعلم به فعليك أن تصلّيهما (٤) إذا علمت ،

__________________

(١) في مخطوطات الأصل : « فكيف ». وما أدرجناه من المصدر.

(٢) الكافي ٢ / ٥١٤ ، باب المباهلة ، ح ١.

(٣) في المصدر : « إن ».

(٤) في المصدر : « تصليها ».

٢١٠

فإن تركتها متعمّدا حتى تصبح فاغتسل وصلّ ، وإن لم يحترق القرص فاقضها ولا تغتسل » (١).

وعدم ذكر الكليني رواية تدلّ عليه لا يفيد نفيه له ؛ لعدم الحكاية في كتب الاستدلاليّة عن الإسكافي والعماني فيه شيئا ، بل ذكر في المختلف أن العماني لم يتعرض لهذا الغسل بوجوب ولا ندب ، فإنّ ذلك لا يفيد عدم قولهم بالمشروعيّة ، مع وروده في الأخبار وعدم معارض ظاهر ينفيه.

وهل الغسل المذكور على الوجوب أو الاستحباب؟ قولان. والمعروف بين الأصحاب هو الثاني بل حكى عليه في الغنية الإجماع.

وفي كشف الالتباس وغيره أنه المشهور.

وعزاه في غاية المرام إلى الحلي والمتأخرين.

وفي منتهى المطلب أنه مذهب أكثر الأصحاب.

وبه نصّ الشيخ في غير واحد من كتبه ، وابن زهرة والحلي وابن سعيد والفاضلان والآبي والشهيدان وابن فهد والمحقق الكركي وغيرهم.

وعن الصدوقين والمفيد والسيد والشيخ في غير واحد من كتبه والديلمي والقاضي والحلبي والطوسي القول بالوجوب.

وعن العلامة في منتهى المطلب بعد اختياره القول بالندب. ولو قيل بالوجوب لصحة الرواية كان حسنا.

وظاهر القاضي في شرح الجمل حكاية الإجماع عليه.

ويظهر من عبارة الصدوق في المجالس أنه من دين الإمامية ، وعبارته هناك ليست صريحة في الوجوب.

ثمّ إن جماعة من هؤلاء قد نصّ في محلّ آخر بالندب.

ويظهر من السيد في المصباح والجمل التردد فيه حيث أسند الوجوب فيهما إلى الرواية ،

__________________

(١) فقه الرضا عليه‌السلام : ١٣٥.

٢١١

وكأنه لذلك يعزى إليه القول بالندب.

وعدّه في طهارة الوسيلة من الأغسال المختلف فيها لو (١) لم يحكم شي‌ء.

وعبارة الصدوقين ليست صريحة في الوجوب ، والمصرّح بالوجوب من القدماء من غير ظهور عدول الحلبي وحده.

فبذلك كلّه (٢) يظهر ضعف الإجماع المدّعى في المقام ، فالأظهر هو القول بالندب.

ويدلّ عليه بعد الإجماع المحكي والشهرة المعلومة الأصل وعدم وضوح مستند الوجوب ، مضافا إلى ما ظاهره انحصار الواجب في غيره كمرسلة يونس : « الغسل في سبعة عشر موطنا ، منها الفرض ثلاث » (٣).

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله : « غسل الجنابة نسخ محل غسل » ، وأنه « لا يجب ذلك في الأداء فلا يجب في القضاء ».

حجة القول بالوجوب بعد الإجماعين المحكيين وطريقة الاحتياط : النصوص المستفيضة كصحيحة محمد بن مسلم المروية في الخصال ، عن الباقر عليه‌السلام : « الغسل (٤) سبعة عشر موطنا .. » وعدّ منها غسل الكسوف إذا انكسف القرص واستيقظت (٥) ولم تصلّ فاغتسل واقض ، وفيها : « فعليك أن تغتسل وتقضى الصلاة » (٦).

وروى نحوا منه في الفقيه مرسلا عنه عليه‌السلام.

ورواه الشيخ أيضا عن محمد بن مسلم ، عنه عليه‌السلام في الصحيح أيضا إلا أنه اقتصر على قوله « وغسل الكسوف إذا احترق القرص كلّه فاغتسل ».

ومرسلة حريز المروية عن الصادق عليه‌السلام : « إذا انكسف القمر فاستيقظ الرجل ولم يصلّ

__________________

(١) في ( د ) : « و » بدل « لو ».

(٢) لم ترد في ( ب ) : « كلّه ».

(٣) الإستبصار ١ / ٩٨.

(٤) زيادة في ( د ) : « في ».

(٥) في ( ألف ) : « فاستيقنت ».

(٦) الخصال : ٥٠٨.

٢١٢

فليغتسل من غد (١) ليقض الصلاة ، وإن لم (٢) يستيقظ ولم يعلم بانكساف القمر فليس عليه إلا القضاء بغير غسل » (٣).

وأنت خبير بأن هذه الأخبار كلّها ظواهر يمكن حملها على الاستحباب بمعونة فهم الأصحاب ، مضافا إلى ما عرفت من العمومات وما حكي من الإجماع ، فهو موهون بذهاب الأكثر إلى خلافه ومخالفة ناقله فيه. ومجرّد الاحتياط لا يقوم حجة في مقابلة الأصل.

ثمّ إنه على القول بالوجوب لا بدّ من تقديم الغسل على الصلاة كما هو قضية الفائتة ، واستفادة ذلك من الأخبار لا يخلو عن تأمل ؛ لانتفاء ما يدلّ منها على الترتيب إلا أن يقال بدلالة الواو عليه أو يكتفى بالترتيب في الذكر.

وهل يتوقّف عليه صحة الصلاة أو أنه واجب مستقل؟ وجهان. وكأنّ ظاهرهم البناء على التوقف. والحديث (٤) يضعف بأن الظاهر عدم توقف الطهارة على ذلك ، وحينئذ فتوقف (٥) الصلاة على غير الطهور بعيد جدا مخالف لغير واحد من الإطلاقات.

وعلى القول بالاستحباب فالظاهر أيضا تقدّمه على الصلاة ؛ أخذا بما عرفت. مضافا إلى اعتضاده بالفتوى وسهولة الخطب في أمر المندوبات.

ثم إنّ وجوب الغسل المذكور أو استحبابه منوط باحتراق القرص وتعمّد الترك ، فلا غسل مع انتفائهما أو أحدهما في ظاهر كلام المعظم.

وعن الحلي نفي الخلاف عن سقوط الغسل مع انتفاء أحد الامرين.

وعن ظاهر السيد ومنتهى المطلب وتذكرة الفقهاء والمختلف وكشف الرموز وكشف الالتباس وغاية المرام نفي الخلاف في اشتراط الغسل بهما.

__________________

(١) زيادة في ( د ) : « و ».

(٢) لم ترد في ( ب ) : « لم يستيقظ ».

(٣) تهذيب الأحكام ١ / ١١٧.

(٤) لم ترد في ( ب ) : « الحديث ... وحينئذ » ، وفي ( د ) : « وحينئذ » بدل « الحديث ».

(٥) في ( ألف ) : « فيتوقف ».

٢١٣

ويدلّ على اعتبار الاستيعاب أنّه المصرّح به في أخبار الباب سوى مرسلة حريز المتقدمة.

وفي مصباح السيد : وروي أن من تعمد ترك هذه الصلاة فوجب عليه من (١) القضاء الغسل.

وكأنه إشارة إلى الرواية المذكورة ، وقد روى في الجمل أيضا مرسلا تقييده بصورة عموم الكسوف.

وكيف كان ، فالأخبار المقيّدة حاكمة على الإطلاق لو فرضنا تكافؤهما. كيف وهي أصحّ وأكثر ، مضافا إلى اعتضاده بالعمل والأصل.

وما دلّ على الإطلاق (٢) مع ضعفه لا جابر له وليس في كلام المفيد في المقنعة والسيد في لمسائل الموصلية ذكر لبيان الشرط المذكور ، بل أطلقا ثبوت الغسل ، فظاهرها عدم اعتباره.

ومال إليه صاحب الذخيرة. وهو بمكان من الضعف.

ولا يبعد حمل إطلاقهما على ما هو المعروف ؛ حملا للكسوف على المستوعب ، وعلى اعتبار تعمد الترك أنه المصرح به في رواية الفقه ، وفي مرسلتي الجمل والمصباح. وهو الظاهر من سائر أخبار الباب ، بل صريحها حيث فرض فيها الاستيقاظ والترك.

واحتمال كون الاستيقاظ المفروض فيها بعد الانجلاء كما ذكره بعض الاجلّاء في غاية الوهن ، بل مقطوع الفساد كما لا يخفى على من راجع إليها.

نعم ، في صحيحة محمد بن مسلم برواية التهذيب كما مرّ إسقاط ذلك.

والأظهر كما استظهره غير واحد من الأفاضل سقوط ذلك من قلم الشيخ لوجوده في رواية الفقيه والخصال.

ومع الغضّ عنه فلا شبهة في تقديم المقيّد على المطلق سيّما مع الاعتضاد بالأصل والكثرة وعمل الطائفة.

__________________

(١) في ( د ) : « مع » بدل « من ».

(٢) ليس في ( ب ) : « لو فرضنا تكافؤهما ... على الاطلاق ».

٢١٤

وهذا الشرط غير مذكور في ذكرى الشيعة ، فظاهره عدم اعتباره.

وحكي عدم ذكره في المقنع إلا أن الموجود في بعض نسخه اعتباره ، وهو الذي حكاه عنه في ذكرى الشيعة.

وكيف كان ، فلا شبهة في ضعف القول بالإطلاق.

وعن ظاهر المفيد والمحقق عدم اعتبار الشرطين حيث أطلقا استحباب غسل القاضي للكسوف. وكأنّ الأظهر حملهما على ما هو المعروف ، وإلا فلا يخفى ما فيهما.

[ تنبيهات ]

وهاهنا أمور ينبغي الإشارة إليها :

أحدها : المعروف عدم ثبوت هذا الغسل بالنسبة إلى الأداء عملا بالأصل وظواهر الأخبار ؛ إذ لو ثبت على الإطلاق لما خصّص فيها بالقضاء.

وأثبته العلامة في المختلف ونفى عنه الريب في المدارك. واختاره غير واحد من المتأخّرين. ومال إليه جماعة منهم ، وهو الظاهر من الشهيد في غير واحد من كتبه حيث لم يقيّده باقتضاء.

والوجه فيه إطلاق رواية الشيخ ؛ للصحيحة المتقدمة ، بل وظهورها في الأداء. وقد عرفت ما فيه ، فإثبات الحكم بمجرّده بعيد جدّا ، مضافا إلى مخالفته لسائر الروايات.

وقضية حمل المطلق على المقيّد تقييده بأن الغالب الشروع في الصلاة بعد الشروع في الانكساف ، ولا يعلم حينئذ حصول الاحتراق ؛ ليتحقق التكليف بالغسل.

والقول باستحباب الاغتسال بعد حصوله وإن تقدم عليه الصلاة مخالف لظاهر فتوى الأصحاب.

ومنه ينقدح وجه نظر لضعف ظاهر رواية الشيخ ؛ إذ (١) ظاهرها استقلال الاحتراق في

__________________

(١) في ( د ) : « أو ».

٢١٥

سببية الغسل المذكور من غير مدخليّة للصلاة.

وهو كما عرفت خلاف ظاهر الأصحاب ، بل بعضهم حكى الإجماع على خلافه ، ففيه شهادة على حصول التيقّظ فيه ، فتأمل.

وربما يحتج عليه بما في صدر رواية الفقه من ذكر نحو الإطلاق المذكور إلا أنه ذكر بعده نحو ما في سائر الأخبار ، فالظاهر حمل الصدر على ما يستفاد من العجز ، ومع الغضّ عنه فلا حجة فيه مع انتفاء الجابر ، فالقول بثبوت الحكم في الأداء ضعيف جدّا.

ثانيها : لو علم بالاحتراق وجهل وجوب الصلاة فهل هو بحكم العامد؟ فظاهر كلماتهم شمول الاستحباب ؛ إذ هو عائد للترك. وبه نصّ الشهيد الثاني في الروضة البهية (١).

واستقربه العلامة في نهاية الإحكام (٢).

ويحتمل التفصيل بين الجاهل المحض والمتردّد ، فلا يثبت في الأول حيث إنه غافل محض.

وظاهر إطلاق الأخبار هو الأول ، فهو الوجه.

ولو علم الكسوف وجهل الاستيعاب ، فالظاهر ثبوت الغسل ؛ أخذا بإطلاق الأخبار ؛ إذ المأخوذ فيها حصول الاستيعاب لا العلم به.

ثالثها : لو صلّى وظهر فساد صلاته بعد الانجلاء ففي ثبوت الغسل وجهان ، أظهرهما العدم إلا أن يكون ذلك ناشيا عن جهله بالحكم مع تقصيره في الاستعلام. ومع عدمه ففيه وجهان.

__________________

(١) شرح اللمعة ١ / ٦٨٤.

(٢) نهاية الإحكام ١ / ١٧٨.

٢١٦

تبصرة

[ في الأغسال السببيّة ]

وأما الأغسال السببيّة :

فمنها : غسل التوبة. واستحبابه في التوبة عن الكفر والكبائر ممّا لا خلاف فيه بين الطائفة.

وفي منتهى المطلب (١) الإجماع على الأول.

وفي الغنية (٢) على الثاني. وهو يعمّ الأول ؛ إذ هو من أكبر الكبائر.

ويدلّ على الأول (٣) مضافا إلى الإجماع (٤) ما سيأتي في الحديث القدسي : « يا محمد! ومن كان كافرا وأراد التوبة والايمان فليتطهر لي ثوبه وبدنه » (٥) (٦) بحمل تطهر البدن على الغسل (٧).

وعلى الثاني بعد الإجماع صحيحة مسعدة بن زياد قال : كنت عند أبي عبد الله عليه‌السلام فقال له رجل : بأبي أنت وأمي! إني أدخل كنيفا لي ولى جيران ، وعندهم جواري يتغنّين ويضربن بالعود ، فربما أطلت الجلوس استماعا مني لهنّ. فقال : « لا تفعل ». فقال الرجل : والله! ما آتيهن برجلي وإنما هو سماع أسمعه بأذني ، فقال : « لله أنت أما سمعت الله عزوجل يقول : ( إِنَّ السَّمْعَ

__________________

(١) منتهى المطلب ١ / ١٣١.

(٢) غنية النزوع : ٦٢.

(٣) في ( د ) : « الأولى ».

(٤) زيادة في ( د ) : « و ».

(٥) في المصدر : « فليطهر لي بدنه وثيابه ».

(٦) بحار الأنوار ٩٢ / ٣٠٨.

(٧) في ( د ) : كما في المصدر.

٢١٧

وَالْبَصَرَ وَالْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً ) (١). فقال : بلى والله! وكأني لم أسمع بهذه الآية من كتاب الله من عربي ولا عجميّ لا جرم إني لا أعود إن شاء الله وإني لأستغفر الله. فقال له : « قم فاغتسل ، وصلّ ما بدا لك ، فإنك كنت مقيما على أمر عظيم ما كان أسوأ حالك لو متّ على ذلك. احمد الله واسأله التوبة من كلّ ما يكره ، فإنه لا يكره إلا كل قبيح ، والقبيح دعه لأهله فإن لكلّ أهلا » (٢).

وقد يحتجّ عليه بالحديث الوارد في أدعية السر ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : « قال سبحانه وتعالى : يا محمد! قل لمن عمل كبيرة من امتك فأراد محوها والتطهر منها فليطهر لي بدنه وثيابه وليخرج إلى برية أرضي فيستقبل وجهي ثم ليرفع يديه » (٣).

وهو مبنيّ على حمل تطهير البدن على الغسل ، وكون الغسل عقيب التوبة. وليس بعيدا عن سياق الرواية وإن كانت خالية عن ذكرها.

وأما الصغائر ففي ثبوت الغسل للتوبة عنها قولان ، أشهرهما الثبوت ؛ إذ هو إطلاق الشيخ في عدّة من كتبه والديلمي والقاضي والطوسي والحلي وابن سعيد والفاضلين والشهيد وغيرهم حيث ذكروا استحباب الغسل للتوبة من غير تفصيل بين الصغيرة والكبيرة.

وصريح الفاضل في المنتهى والنهاية والشهيد في ذكرى الشيعة وغيره وابن فهد والمحقق الكركي والشهيد الثاني.

وعن المفيد في غير واحد من كتبه والحلبي وابن زهرة وابن أبي المجد التقييد بالكبائر ، وظاهره نفي الاستحباب عن غيرها.

وفي الشرائع والجامع وعدّة من كتب الفاضل والبيان والموجز وغيرها الحكم باستحبابه للتوبة مطلقا من كفر أو فسق.

وظاهره يومي إلى عدم استحبابه للتوبة عن مطلق الصغائر ما لم يصل إلى حدّ الفسق.

__________________

(١) الاسراء : ٣٦.

(٢) الكافي ٦ / ٤٣٢ ، باب الغناء ، بحار الأنوار ٦ / ٣٤ ، باختلاف في كلا المصدرين.

(٣) بحار الأنوار ٩٢ / ٣٠٧.

٢١٨

وربما يحمل الفسق على مطلق العصيان ، فيعمّ الجميع بقرينة مقابلته بالكفر ، ولبناء جماعة منهم على تعميم الأمرين ، ففي منتهى المطلب (١) : والغسل من توبة الفسق مستحبّ سواء كان الفسق مشتملا على كبيرة أو صغيرة. ونحوه ما في نهاية الإحكام (٢).

وقال المحقق الكركي (٣) : لا فرق في الفسق بين كونه صغيرة أو كبيرة.

وأنت خبير بأن مطلق المقابلة لا يقضي بالتعميم ، و (٤) العبارات المذكورة أيضا لا يفيده ؛ إذ المستفاد منها تعميم الفسق للحاصل من النوعين إنّما يحصل من الصغيرة على فرض الاحتراز عليها ، فلا يدلّ على ثبوته لمطلقها ، فتأمل.

وكيف كان ، فإن اكتفى في ثبوت الحكم المذكور بفتوى الجماعة المذكورين ، وإلّا فلم نجد في الأخبار ما يفيد العموم.

وما يتخيّل من دلالة الصحيحة المذكورة عليه غير واضح ؛ إذ الظاهر منها حصول الإصرار ، وكون الذنب المفروض فيها من الكبائر ، وجهل القائل به لا يوجب سقوط العصيان مع تقصيره في السؤال.

وفي ذيل الرواية شهادة عليه ، وليس فيها دلالة على ثبوت الحكم المذكور في التوبة عن سائر الذنوب.

نعم ، يمكن تسرية الحكم إلى الكبائر وما بحكمها من فحواها ، ولا يجري ذلك بالنسبة إلى الصغائر مع عدم الإصرار عليها كما لا يخفى. وقد يؤيد ثبوت الغسل فيها بقوله تعالى : ( إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ) (٥) وأنه قضية الأمر بالغسل (٦) للكسوف ، فإنه عقوبة على ترك الفريضة ، وكذا الغسل لرؤية المصلوب وقتل الوزغ مع ما ذكر في تعليله من أنه يخرج من

__________________

(١) منتهى المطلب ١ / ١٣١.

(٢) نهاية الإحكام ١ / ١٧٨.

(٣) جامع المقاصد ١ / ٧٦.

(٤) في ( ألف ) : « في » بدل « و ».

(٥) البقرة : ٢٢٢.

(٦) زيادة في ( د ) : « لقاضي ».

٢١٩

ذنوبه فيغتسل منها.

ولا يخفى ضعف الجميع.

وقد يستدلّ بعدم ثبوت الحكم في الصغائر بحديث أدعية السر حيث ذكر فيها بعد ما ذكرنا : « يا محمد! ومن كثرت ذنوبه من امتك فيما دون الكبائر حتى يشهر كثرتها ويمقت على اتّباعها فليعمد لي عند طلوع الفجر أو قبل افول الشفق ولينصب وجهه إليّ وليقل .. » (١) وساق الدعاء من غير ذكر للتطهير (٢).

فذكره هناك وتركه هنا ربّما يشهد بالفرق بين المقامين.

وأنت خبير بأنه لا يدلّ على انتفاء الاستحباب فيها سيّما مع فرض الإصرار فيها ، وثبوته معه ممّا لا كلام فيه ظاهرا ، على أنه يدلّ في المقام على حصول التوبة من العامل ، فهي خارجة عن محلّ البحث.

__________________

(١) الجواهر السنية : ١٧٤ مع اختلاف.

(٢) في ( د ) : « للتطهّر ».

٢٢٠