الرسائل الأحمديّة - ج ١

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

علم الكلام

الرسالة الاولى

العقلُ وأقسامه

الرسالة الثانية

مسألة في إبطال الدور المتوهّم

في إثبات الإمامة من الكتاب

الرسالة الثالثة

مسألة في الشفاعة

٦١
٦٢

الرسالة الاولى

العقل وأقسام

٦٣
٦٤

بسم الله الرحمن الرحيم

وبه نستعين

الحمدُ لله الذي وهب لنا من العقول ما أزاحنا به عن الفضول ، وأراحنا به عن الأجناسِ البعيدة عن حدود الصَّوابِ والفصول ، والصلاةُ والسلامُ على محمّدٍ وآلِهِ ، أولي العقولِ الكاملة والأرواحِ الفاضلة.

أمّا بَعدُ :

فقد سألني بعضُ إخوانِ الدّين ، الراغبين في تحصيل اليقين ، لحسن ظنّه بالمؤمنين ، فأجبته بالميسور ؛ إذْ لا يسقطُ بالمعسور ، مع ما أنا فيه من اشتغالِ البال وتراكمِ الأهوال.

قال سلّمه الله تعالى ـ : ( ثَمَّ يا مولانا مسألة ، نستفيدُكم فيها ونسترشدُكم إليها ، وهي : إنّ العقلَ المتعيّن في نوع الإنسان ، هل هو مطلقاً دوام وجوده في كلّ إنسان كان من المؤمنين والكفّار والفجّار مدّة الأعمار؟.

ثمّ إنْ كان كذلك ، فما ثمرةُ عقولِ أولئك الكفّار والفجّار هنالك ، حيث إنّ العقل ما عُبِدَ به الرّحمن وعُصي به الشّيطان ، وأفعالُهم كلُّها عكس ذلك؟

وإنْ كانوا سُلبت منهم عقولُهم حين تغلّبت عليها شهواتُ أنفسِهِم ، فما تكليفُهم حينئذٍ وهم

٦٥

لأعقلَ لهم؟.

وإنْ كانت عقولُهم لم تزل فيهم إلّا أنّها مغلوبةٌ مقهورةٌ لدى شهوات أنفسهم ، لا مدخليّة لها في شي‌ءٍ من أفعالهم ، فما الفائدةُ في وجودِ شي‌ءٍ لا نفعَ فيه؟ وهل يُسمّى صاحبُهُ عاقلاً أم جاهلاً؟.

ثمّ ما منشأ دهاء الدّهاة مثل معاوية وعمرو بن العاص وأشياخهما وأمثالهم الأرجاس بإصابة الرأي المطابق للأمر الواقع قبل وقوعه ، هل هي بلاسةٌ شيطانيةٌ محضيَّة لا سبيلَ للعقل فيها بالكليّة ، أم للعقل في ذلك مدخليّة؟.

وهل إنّ عقلَ ذوي الإيمان على مراتبهم في الإيمان؟ وهل هو يقتضي الزيادة والنقصان ، أم هو والإيمان سيّان في كلّ إنسان؟ ) انتهى كلامُه بألفاظه ، زيد في إكرامه وإيقاظه.

العقل لغة

الجواب ومنه سبحانه استمداد الصواب ـ : اعلم علّمك اللهُ الخيرَ وأذهب عنك الضّير أنّ العقل في اللّغة بمعنى الفَهْم والعلم ، وبمعنى الشّدّ والإمساك ، ومنه عقالُ البعير ؛ لأنّه يمسكه عن الفرار ، وعقلُ الإنسان أيضاً ؛ لأنّه يُمسكه عن المضارّ (١). كما في ( البحار ) عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله « إنّ العقل عقالٌ من الجهل ، والنفسُ مثل أخبث الدوابّ ، فإنْ لم تُعقلْ سارت ، فالعقلُ عقالٌ من الجهل » (٢). انتهى.

العقل اصطلاحاً

وفي الاصطلاح يطلقُ على معانٍ كثيرة بحسب اختلافِ أهل الاصطلاح :

الأوّل : العقل الهيولاني.

وهو أوّل وجود النفس والولادة الإنسانية ، باعتبار أنّ فيها قوّة لقبول العلوم والكمالات النفسيّة ، نسبةً للهيولى بعلاقة المشابهة الخالية من الصور الفعليّة. والهيولى لغةٌ يونانية معناها : المادّة بلا صورة (٣) ، كالطّينة قبل تخطيطها وتصويرها

__________________

(١) لسان العرب ٩ : ٣٢٦.

(٢) لسان العرب ٩ : ٣٢٦.

(٣) التعريفات : ١١٣.

٦٦

وتقديرها. وهذا في غير نفس المعصوم ، فإنّه بالفعل على ولادته العقليّة الأوّليّة ، ولهذا كان يقرأ حين ولادته الكتب السماوية.

الثاني : النفس الناطقة الإنسانية.

وهي قوّة وغريزةٌ يتميّز الإنسانُ بها عن سائر البهائم ، ويستعدّ لقبول العلوم النظريّة وتدبير الصنائع الفكريّة ، ويستوي فيها الأحمقُ والذكيّ ، وتوجد في الغافل والنائم والمُغمى عليه والذاهل.

والعقلُ بهذا المعنى ممّا اصطلح عليه الحكماء واستعملوه في كتاب البرهان ، ويعنون به قوّة النفس التي بها يحصلُ اليقين بالمقدّمات الصادقة الضروريّة من غير توقّف على قياسٍ ولا فكر ، بل بالفطرة الإلهية والطبيعة الإنسانيّة.

وهو بهذا المعنى جزءٌ ما من النفس تحصل به أوائل العلوم ، كالعلمِ بأنّ الاثنين ضعفُ الواحد وأنّ الواحد نصفُ الاثنين ، وغيرها. كما ورد عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال « خَلقَ الإنسانَ ذا نفسٍ ناطقة ، إن زكّاها بالعلمِ والعملِ فقد شابهتْ أوائلَ عللِها ، وإذا اعتدلَ مزاجُها وفارقتْ الأضدادَ شابهتْ السبعَ الشّداد » (١).

الثالث : القوّة التي بها يُدرِكُ الإنسانُ الخيرَ والشرّ ، والمضارَّ والمنافع ، والمقتضيات والموانع.

والعقلُ بهذا المعنى مناطُ التكليف والثواب والعقاب ، وهو المقابل للجنون ، وهو المصطلح عليه في لسان الفقهاء ، المشترط مع البلوغ في فنّ العبادات والمعاملات والسياسات. ولا يشترطُ فيه كونُه ذا قوّةٍ نظريّة ولا معرفة حقيّة ، بل قد يكون حصولُهُ في كثيرٍ من الكافرين أكثرَ من حصوله في كثير من المؤمنين.

الرابع : القوّة الدّاعية لاختيار الخير والمنافع ، واجتناب الشرور والمضارّ ، وبها تقوى النفسُ على زجر الدواعي الشهوانيّة وردعِ الوساوس الشيطانيّة.

وهو بمعنى الرشد الزائد على البلوغ ، والعقل في اصطلاح الفقهاء أيضاً. وقد

__________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم : ٤٢٣ / ٧٥ ، البحار ٤٠ : ١٦٥ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

٦٧

يُجعل قسماً من سابقه بجعله أكملَ الفردين ، ويختلفُ باختلاف الأفراد في القوّة والاستعداد.

الخامس : القوّةُ التي يستعملها النّاس في نظام معاشهم ومعادِهم.

وهي المحصِّلة للعلم والعمل المنجيين ، فإنْ وافقت القوانينَ الشرعيّة والإرادات الإلهيّة سُمّي بعقل المعاش والمعاد ، وهو ممدوح في الأخبار ، وهو المرادُ في قوله : « العقلُ ما عُبد به الرّحمنُ » (١) ، وهذا مغايرٌ للرّشد الذي هو المعنى الرابع بنوعٍ من الاعتبار.

وإنْ استُعملت في الأُمور الباطلة والحيل العاطلة المخالِفة للمرادات الإلهية والموافِقة للنفس الشيطانيّة ، سمّيت في اصطلاحِ أهل الشرع : بالنكراء ، والشيطنة ، والدّهاء ، كما في معاوية وابن العاص ، وغيرِهما من الأشقياء. ولذا قال أميرُ المؤمنين وسيّد الوصيين : « لولا التّقى لكنتُ أدهى العرب » (٢) ؛ لارتباط جميع حركاته وسكناته بمراضي الله وإنْ اختلّ بها أمرُ دنياه ، قال تعالى ( وَما تَشاؤُنَ إِلّا أَنْ يَشاءَ اللهُ ) (٣). ومرجعها إلى جودة الرواية وسرعة التفطّن في استنباطِ ما ينبغي أنْ يُرتكبَ ويُتجنّب.

ولا يسمّى عقلاً عند أهل الشرع ؛ لعدم صفائه وعدمِ عبادة الله به عند العوامّ وأهل الفسوق والآثام ؛ لأنّها شبيهةٌ بالعقل لما فيها من الحداقة والنظر ، بخلاف العلماء الأعلام من أهل الحقّ والصدق والإيمان ، ولذا ورد عنهم عليهم‌السلام : « العقلُ ما عُبد به الرّحمنُ ، واكتُسِبَ به الجنان » (٤).

السادس : العقلُ بالمَلَكَةِ.

وهو قوّة للنفس ، بها تكتسب النظريات بما فيها من الشعاع السابق ، مع حصول الأوّليات أي البديهيّات في خزانتها ، فتكتسبُ الثواني أي النظريّات إذا لم

__________________

(١) الكافي ١ : ١١ / ٣ ، معاني الأخبار ٢٣٩ ٢٤٠ / ١ ، الوسائل ١٥ : ٢٠٥ ، أبواب جهاد النفس ، ب ٨ ، ح ٣ ، البحار ١ : ١١٦ / ٨. وفي جميعها : قلتُ له ما العقل؟ قال : « ما عُبِدَ به الرحمن .. ».

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم : ٧٣٧ / ٢٩.

(٣) الإنسان : ٣٠.

(٤) انظر هامش ١ من نفس الصفحة.

٦٨

يمنعْها مانعُ الشهوات. ولهذا ورد : « كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرةِ ، إلا أنْ يكونَ أبواه هما اللذان يُهوّدانه ، وينصّرانه ، أو يمجّسانه » (١). وتكون حينئذٍ كمالاً بالفعل لما هو بالفعل ، وإنْ كانت بالنّسبة لما بعدها في القوّة.

السابع : العقلُ بالفعل.

وهو صيرورةُ النفس بعد حصول العقل بالملكة ذات معرفة بالحدّ والدليل والنتيجة بغير تعمّل وتفكير وتأمّل ، وتصير كالأوّليات بالنسبة لها أوّلاً ، فالنظريّات الثانويّات بالنسبة لها كالأوّليات ، فلذا سمّيت عقلاً بالفعل ؛ لأنّ للنفس أنْ تشاهِدَهُ وتُدرِكَهُ متى شاءت من الأوقات.

وهذا قد يسمّى بالعقل المستفاد ، وقد يجعل مغايراً له ، وهو عند الأكثر ، وقد يُجعل العقل المستفاد قبل العقل بالفعل ؛ وهو أوْلى بالاعتبار.

وقد تُطلق المعاني ولا سيّما الهيولاني على النفس أيضاً ، بعلاقة السّببيّة والمسبَّبيّة ، بمعنى كون وجود النفس سبباً لإدراك تلك النظريّات بالنظر للدّليل والمقدّمات.

إذا عرفت هذا .. فلنرجع إلى شرح ما تضمّنه السؤال ، وتفصيل ذلك الإجمال :

مدّة دوام العقل

فأمّا قولُ السائل سلّمه اللهُ تعالى ـ : ( إنّ العقل المتعيّنَ في نوعِ الإنسان هل هو مطلقاً دوام وجوده في كلّ إنسان .. إلى قوله ـ : مدّة الأعمار )؟.

فالجوابُ : إنّ العقلَ بمعنى النفس الناطقة وما يرجع لها من المعاني السابقة حاصلٌ لكلّ إنسان ، من غير فرقٍ بين الأبرارِ والفجّار ؛ لأنّ اللهَ تعالى بمقتضى حكمته النابغة ، ونعمته السابغة وحجّته البالغة خلق في كلِّ شخصٍ قوّةً واستعداداً لإدراك المضارّ والمنافع ، وبها تصدرُ الأفعالُ والتروك بالاختيار من غير قاسرٍ ولا رادع ـ ( فَمَنْ شاءَ

__________________

(١) الفقيه ٢ : ٢٦ / ٩٦ ، الوسائل ١٥ : ١٢٥ ، أبواب جهاد العدو ، ب ٤٨ ، ح ٣. وفيهما : « ما من مولود يولد إلّا على الفطرة ، فأبواه اللّذان يهوّدانه وينصرّانه ويمجّسانه ».

٦٩

فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ ) (١) بعد قيام البرهان الساطع.

قال تعالى ( وَأَمّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى ) (٢).

وقال ( وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ ) (٣) ، أي : طريق الحقّ والرشاد ، وطريق البغي والفساد.

وقال ( وَلَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ) (٤).

وقال ( فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها ) (٥). إلى غير ذلك من الآيات ، وبمعناها كثير من الروايات.

ثمرة عقول الكفّار والفجّار

وأمّا قولُهُ : ( وما ثمرةُ عقولِ أولئك الكفّار والفجّار ).

فالجواب : أنّ الثمرة قيامُ الحجّة الظاهرة النيّرة القاطعة لأعذار أُولئك الكفرة الفجرة ، قال الله تعالى ( قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ ) (٦). وقال تعالى ( وَلَلدّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ) (٧). إلى غير ذلك من الآيات المقرعة لأُولئك البغاة بمخالفة العقول في تلك المُدْرَكات.

وفي وصيّة الكاظم عليه‌السلام لهشام بن الحكم : « إنّ اللهَ عزوجل أكملَ للنّاسِ الحججَ بالعقول (٨). وفيها أيضاً « إنّ لله على النّاسِ حجّتين : حجّة ظاهرة ، وحجّة باطنة ؛ فأمّا الظاهرةُ فالأنبياءُ والرسل والأئمة ، وأمّا الباطنةُ فالعقول » (٩). ومثلُها غيرُها من الأخبار ، فاعتبروا يا أولي الأبصار.

وأمّا قولُه : ( حيث إنّ العقلَ ما عُبِدَ به الرّحمن ) .. إلى آخره.

فالجوابُ : أنّ المرادَ بالعقلِ هنا القوّةُ النظريّة ، وقد يعبّر عنها بالعقل النظري والعملي ، وبالعلمي والعمَلي ؛ وهي نفس العلم النافع المورث للنجاة الأُخرويّة

__________________

(١) الكهف : ٢٩. (٢) فصّلت : ١٧.

(٣) البلد : ١٠.

(٤) السجدة : ١٣.

(٥) الشمس : ٨.

(٦) الأنعام : ١٤٩.

(٧) الأنعام : ١٤٩.

(٨) تُحف العقول : ٣٨٤ ، البحار ١ : ١٣٢ / ٣٠.

(٩) تُحف العقول : ٣٨٤ ، البحار ١ : ١٣٢ / ٣٠.

٧٠

والفوزِ بالسّعادة الأبديّة ، المشروطة بالأخذِ من الطرق الشرعيّة ، المنصوبةِ من ربّ البريّة ، لا من الأهواءِ والآراء الرديّة ، والقياسات والاستحسانات الاجتهاديّة.

وهذا الكلامُ الذي أورده السائل ، هو بعضُ الخبر الذي رواه ثقةُ الإسلام الكليني في ( الكافي ) ، والصدوقُ في ( المعاني ) ، والبرقي في ( المحاسن ) ، عن أبي عبد الله الصّادق عليه‌السلام حيث سُئل عن العقل فقال : « ما عُبِدَ به الرّحمنُ واكتُسِب به الجِنانُ ». قال : قلت : فالذي كان في معاوية؟. قال : « تلك النكراءُ ، تلك الشيطنةُ ، وهي شبيهةٌ بالعقل وليست بالعقل » (١). انتهى.

فقولُهُ عليه‌السلام : « ما عُبِدَ به الرّحمنُ » ، إشارةٌ للقوّة النظريّة.

وقولُهُ : « واكتُسِب به الجِنانُ » ، إشارةٌ إلى القوّة العمليّة.

فبالأُولى تُعرفُ المعارفُ الإلهيّة والأحكامُ الشرعيّة والأخلاقُ الحسنة النفسانيّة ، وبالثانية يهذَّبُ الباطنُ والظاهر من الرذائل الشهوانيّة ، وبالعلم والعمل يتمّ نظامُ عبادة الرّحمن واكتساب الجِنان.

وأمّا قولُهُ سلّمه الله تعالى ـ : ( وعُصي به الشيطان ) ، فليس في لفظ الخبر ، وهو مستغنى عنه بقوله « ما عُبِدَ به الرّحمن » ؛ [ فَإنّ ما عُبِدَ به الرّحمنُ (٢) ] عُصِي به الشيطان ، وما عُصِي به الشيطانُ [ فقد (٣) ] عُبِدَ به الرّحمنُ.

وفي الخبر : « مَنْ أصغى إلى ناطقٍ فقدْ عبدَهُ ، فإنْ كانَ عن الله فقد عَبَدَ اللهَ ، وإنْ كانَ عن الشّيطانِ فقد عَبَدَ الشّيطانَ » (٤).

وليس المرادُ بالعقل هنا ما يقابل الرّشد ، وهو ما يوجبُ حصولُهُ رفعَ الحجر المالي عنه وإِنْ كان فاسقاً أو كافراً أو منافقاً.

والنَّكْراء بفتح النّون ، وسكون الكاف ، والمدّ ـ : بمعنى المنكر (٥) ؛ لكونها قبيحةً

__________________

(١) الكافي ١ : ١١ / ٣ ، معاني الأخبار : ٢٣٩ ٢٤٠ ، المحاسن ١ : ٣١٠ / ١٥.

(٢) نسخة « ب ».

(٣) نسخة « ب ».

(٤) الكافي ٦ : ٤٣٤ / ٢٤ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٠٤ / ٦٣ ، الوسائل ١٧ : ٣١٧ ، أبواب ما يكتسب به ، ب ١٠١ ، ح ٥ ، بتفاوتٍ يسيرٍ فيهما.

(٥) مجمع البحرين ٣ : ٥٠٢.

٧١

عقلاً وشرعاً. وهي من جنود الجهل وحزب الشيطان ، وبها فشى الظلمُ والعدوان ونشا الفسقُ والعصيان والجرأةُ على مخالفة الرّحمن والمحادّة لأولياءِ الملك الديّان.

وأمّا قوله : ( وإنْ كانت سُلبت منهم عقولُهُم فما تكليفهم حينئذٍ ولا عقلَ لهم ).

فالجواب : أنّ العقل الذي هو مناط التكليف المقابل للجنون المسقط له حاصلٌ فيهم ، فالتكليفُ ثابتٌ عليهم ؛ لوجود مقتضياته وزوال موانعه ، وإنّما المسلوبُ عنهم شرعاً اسم العقل العلمي والعملي اللذين هما المنجيان وتترتب عليهما عبادة الرّحمن واكتسابُ الجنان لصرفهم تلك القوّة في طاعة الشيطان.

وأمّا قوله : ( وإنْ كانت عقولُهم لم تزلْ فيهم ... إلى قوله ـ : فما الفائدةُ في وجود شي‌ءٍ لا نفعَ فيه؟ ).

فالجواب عنه يعرف من الجواب عن سابقه ، وهو أنّ العقل الذي هو مناط التكليف ثابتٌ فيهم ، مع أنّ تلك القوّة النظريّة لم تزل عنهم بالكليّة ، بل أصلها ثابت ، وإنْ كان فرعها لعدم العمل بمقتضاها غيرَ ثابت ، فَمَثَلُهم كمثل مَنْ ملّكه اللهُ أرضاً جيّدة صالحةً لجميع الحرث والغرس بحسب الإرادة ، وماءً نابعاً صالحاً لسقيها في كلّ وقت أراده فأهملها حتى استولى عليها الخراب فسلبها عن الإفادة ، فاللومُ إنّما يتوجّه عند العقلاء عليه بحسب الإهمال ، ويعدُّ من أهل الاستطاعة دون الفقر والإقلال ولو لقدرته على تلافي تقصيره في العمارات ، ولو بالتدريج في كثيرٍ من الأوقات.

وكَمثل مَنْ كانت له جوهرة غالية في غاية الجودة والصفاء والحسن والغلاء ، فاستعملها فيما يوجب لها الحقارة ويزيل عنها الصفاء والنضارة ، ومَنْ عنده مِسْكة أو عنبرة ، فألقاها في المواضع القذرة ، حتى أذهبت منها الرائحة العطرة.

ولا شكّ أنّ من هذا شأنه يستحقّ بحسب الحكمة الإهانةَ على تفويته تلك الإصانة ، ويوجب عليه العقلاء المبادرةَ إلى ما يعيدها سيرتها الاولى بأنواع المعالجاتِ ولو في كثيرٍ من الأوقات .. إلى غير ذلك من الأمثال الظاهرة لذي

٧٢

الالتفات.

وأمّا قوله : ( وهل يسمّى صاحبُهُ عاقلاً أم جاهلاً؟ ).

فقد مرّ عليك في الخبر الشريف (١) وغيره أنّ النكراء لا تسمّى عقلاً ، ولا يسمّى صاحبُها عاقلاً في لسان الشرع والحكماء والعقلاء الكملاء وإنْ سمّيت به عند العوامّ والجهلاء ، وإنّما تسمّى شيطنة ونكراء ، وصاحبُها شيطاناً ومنكراً ؛ وذلك لأنّ العقل قوّة نورانيةٌ شريف الذات نقي الصفات يدعو للعلم والعمل المنجيين والمثمرين للسعادة الأُخرويّة. والشيطنة والنكراء قوّةٌ مظلمةٌ تدعو للمال والأمل المهلكين وملازمةِ الشرور والمنافع الدنيويّة وإنْ ترتّبت عليها الشقاوة السرمديّة. وإنّما صارت شبيهةً بالعقل لما يصدر عنها من جودة التدابير وسرعة التقادير ، ولا يلزم من ذلك كونُها مثله ؛ لجواز أنْ يشارك الضدُّ ضدّه في بعض الأمور والأحكام.

فالجهلاء لفقد بصيرتهم عن تلك الأنوار مع سماعهم بأنّ للإنسان عقلاً هو مبدأ الفطانة يضعون اسمَ العقل في غير موضعه ، ويسمّون هذه النكراءَ والشيطنةَ عقلاً ويعدّون أهلها من العقلاء.

وأمّا الكُملاء فيعرفون بنور تلك البصيرة تباينَ القوّتين ذاتاً وصفةً تباين النور والظلمة ، ولا يسمّون صاحبها عاقلاً ، بل شيطاناً مريداً وجبّاراً عنيداً ، بل جاهلاً في أمر الآخرة بليداً ، كما لا يسمّون الزنبور عاقلاً مع أنّه يصدر عنه في صنعة بيوته ما يعجز عنه فحولُ الهندسة ، من الكيفيّات المثلّثة والمخمّسة والمسدّسة.

وممّا يدلّ على كون المخالف لهذا العقل جاهلاً قولُ الكاظم عليه‌السلام في حديث هشام بن الحكم : « كفى بك جهلاً أنْ [ تركبَ (٢) ] ما نُهيتَ عنه » (٣).

وفي ( البحار ) نقلاً من كنز الكراجكي : قال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « إنّ العاقل مَنْ أطاعَ الله وإِنْ

__________________

(١) الكافي ١ : ١١ / ٣ ، معاني الأخبار : ٢٣٩ ٢٤٠ ، المحاسن ١ : ٣١٠ / ١٥.

(٢) نسخة « ب » والمصدر ، وفي « أ » : ( تركت ) ، وهو سهو ظاهر.

(٣) تُحف العقول : ٣٨٦ ، البحار ١ : ١٣٦ / ٣٠.

٧٣

كان ذميمَ المنظر ، حقيرَ الخطر ، وإِنّ الجاهلَ مَنْ عصى الله وإنْ كان جميلَ المنظر ، عظيمَ الخطر » (١).

وفيه نقلاً من ( روضة الواعظين ) : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله قيل له : ما العقل؟. قال : « العملُ بطاعةِ الله ، وإنَّ العمّالَ بطاعةِ اللهِ هُمُ العقلاء » (٢).

وفيه أيضاً ـ : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله مرّ بمجنون ، فقال : « ماله؟ ».

فقيل : إنّه مجنون. فقال : « بل هو مصابٌ ، إنّما المجنونُ مَنْ آثر الدّنيا على الآخرة » (٣).

ألا ترى كيف وصفه بالجنون؟ فيلزم اتّصافُه بالجهلِ بطريق الأولويّة.

وفي صحيح عبد الله بن سنان ، قال : ذكرتُ لأبي عبد الله عليه‌السلام رجلاً مبتلىً بالوضوء والصلاة ، وقلتُ : هو رجلٌ عاقلٌ. فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : « وأيّ عقلٍ له وهو يطيعُ الشيطان ». فقلتُ له : وكيف يطيع الشيطان؟. فقال : « سله ، هذا الذي يأتيه من أيّ شي‌ء هو؟ فإنّه يقولُ لك : عمل الشيطان » (٤). انتهى.

فإذا كان المطيعُ للشيطان في الوسواس في الطّهارة والصلاة مسلوباً عنه العقل ، فكيف بالمطيع له في جميع الحالات وفي قتل الأئمّة الهداة؟ فقد ظهر ممّا تقرّر أنّه لا يسمّى عاقلاً ، لا شرعاً ولا لغةً. أمّا شرعاً ؛ فلما سمعت.

وأمّا لغةً ؛ فلما تقرّر في علم المعاني : أنّ العالم غير العامل بعلمه ينزّل منزلة الجاهل لعدم [ جريه (٥) ] على موجب علمه ، ومنه قولُه تعالى : ( وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) (٦).

فأثبت لهم العلمَ أوّلاً ، ثمّ نفاه عنهم أخيراً ؛ لعدم جريهم على مقتضى علمهم ، لأنّ مَنْ لم يجرِ على مقتضى علمِه لا فرق بينه وبين الجاهل ؛ لاشتراكهما في مخالفةِ الحقّ وانتفاء ثمرة العلم. وقد ينزّل وجودُ الشي‌ء منزلةَ عدمه ؛ لعدمِ وقوعِهِ على وفق

__________________

(١) البحار ١ : ١٦٠ / ٣٩ ، كنز الفوائد ١ : ٥٦.

(٢) البحار ١ : ١٣١ / ٢٠ ، روضة الواعظين ١ : ٤.

(٣) البحار ١ : ١٣١ / ٢١ ، روضة الواعظين ١ : ٤.

(٤) الكافي ١ : ١٢ / ١٠ ، الوسائل ١ : ٦٣ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ١٠ ، ح ١.

(٥) نسخة « ب » ، وفي « أ » : ( جهله ).

(٦) نسخة « ب » ، وفي « أ » : ( جهله ).

٧٤

الإرادة وانتفاء الإفادة.

وإنّما قلنا : إنّه نفاه عنهم أخيراً ؛ لما تقرّر في محلّه من أنّ ( لو ) موضوعةٌ لتعليق حصول مضمون الجزاء بحصول مضمون الشرط فرضاً في الماضي ، مع القطع بانتفاء الشرط (١) ، والشرط هنا هو قولُهُ تعالى : ( لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ ) ، فيدلّ على انتفاءِ العلم ، واللهُ العالم.

منشأ دهاء الدهاة

وأمّا قوله : ( ثمّ ما منشأ دهاء الدّهاة ... ـ إلى قوله ـ : أم للعقل فيه مدخليّة ).

فالجوابُ عنه يعرف أيضاً من الجواب عمّا قبله ، ونزيدُهُ وضوحاً فنقول : إنّ حِكْمةَ الحكيم العزيز العليم قد اقتضت أنّ لنفس الإنسان دون سائر الحيوان قوّتين متلازمتين : قوّة عالمة وقوّة عاملة ، فهما له ملازمتان لا ينفكّان ، دون سائر الحيوانات ؛ لبُعْدِها وقصورها عن الجمع للكمالات.

وفي خبر إسماعيل بن جابر ، عن الصادق عليه‌السلام : « والعلمُ مقرونٌ إلى العمل ، فَمَنْ عَلِمَ عَمِلَ ومَنْ عَمِلَ علِمَ ، والعلمُ يهتفُ بالعمَل فإنْ أجابَهُ وإلّا عنه ارتحلْ » (٢). انتهى.

وذلك لأنّ العلمَ صورةٌ والعملَ مادّةٌ ، فكما لا وجودَ للمادّة بلا صورة ولا ثباتَ للصّورة بلا مادّة ، كذلك لا وجودَ للصّورة بلا مادّة ؛ فهما متلازمان لا يفترقان.

والقوّة العاملةُ لا بدّ لها من اكتساب ، ولا شكّ في توقّف المكتسب على تحصيل مقدّمات الاكتساب من الشروط والأسباب ، فإنْ كانت القوّة طوعَ العقل سلكت الحسَنَ وطريقَ اكتسابه ، وتكون حينئذٍ مستقيمةً مطمئنّةً للتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود ، والاستعداد للموت قبل أوان الفوت ، وإلّا خرجت للاعتقادات الباطلة والحِيَل والمَكْر والخدع ، وانهمكت في الأفعال والأعمال الزائلة ؛ لعصيانها بالتجافي عن دار الخلود والسعود والإنابة إلى دار الغرور والشرور ،

__________________

(١) شرح ابن عقيل ٤ : ٦٧.

(٢) الكافي ١ : ٤٤ / ٢ ، البحار ٢ : ٤٠ / ٧١.

٧٥

وعدم الاستعداد للموت بتحسين العمل ؛ لطول الأمل. ولهذا قال أميرُ المؤمنين عليه‌السلام : « ألا إنّ أخوفَ ما أخافُ عليكم خلّتان : اتّباعُ الهوى وطولُ الأمل ، أمّا اتّباعُ الهوى فيصدُّ عن الحقّ ، وأمّا طولُ الأمل فيُنسي الآخرة » (١).

وتسمّى حينئذٍ بالنكراء والدّهاء ، ومرجعها إلى سرعةِ التفطُّن في استنباط ما ينبغي أنْ يُرتكبَ أو يجتنب في إنجازِ المطلب وإنجاحِ المأرب وإنْ لم يجز ذلك بمقتضى الدّين والمذهب. وقد سمعت أنّها لا تسمّى عقلاً ، لا شرعاً ولا عند الحكماء ، وإنْ سمّته العوامُّ كذلك ؛ لنظرهم لما تحت أرجلهم بعين البصر الحاسرة ، لا بعينِ البصيرةِ الفاخرة.

وهذه القوّةُ وإنْ كانت من جنود الجهل كما ذكرناه سابقاً لكن لمّا كانَ وجودُ الجهل عرضيا لا ذاتيّاً من جهة شِمال (٢) العقل ، وجعل الله له جنوداً كالعقل ، ومكّنه وجعله مختاراً ، كانت تلك القوّة صالحةً للأمرين وسلوك النّجدين.

فكلُّ جندٍ وقوّةٍ بحسب حكمةِ العدل الحكيم القادر العليم لا بدّ أنْ تكونَ صالحةً للداعيين وإنْ كان أصلُ الخلق للخير وطوع العقل الذاتيين ( لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ ) (٣) ، ( لِئَلّا يَكُونَ لِلنّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ ) (٤).

ثمّ إنّ تعبير السائل سلّمه الله تعالى ـ : ( بإصابة الرأي المطابق للأمر الواقع قبل وقوعه ) ممّا لا ينبغي ؛ لأنّ مطابقة الرأي للأمر قبل وقوعه لا يصدرُ عن تلك الآراء ، ولا ينتج عن تلك الشيطنة والنكراء ، وإنّما يصدر بفراسةٍ إيمانيّةٍ وعنايةٍ ربّانيّة ، كما ورد : « اتّقُوا فراسةَ المُؤمن ، فإنّهُ يَنظُرُ بِنُورِ الله » (٥). وإنّما يصدرُ عن أهل تلك الغريزة الشيطانية سرعةُ المبادرة إلى ما يُنجز مقاصدهم الشهوانيّة ، ويُنجح أغراضهم النفسانيّة الشرّانيّة ، من غير نظرٍ إلى العواقب الأخرويّة وخوفٍ من المعاقبات السّرمديّة.

__________________

(١) الكافي ٨ : ٥٠ / ٢١ ، الوسائل ٨ : ٤٦ ، أبواب نافلة شهر رمضان ، ب ١٠ ، ح ٤.

(٢) الشِّمال : الطبع ، والجمع شمائل. لسان العرب ٧ : ٢٠٠.

(٣) الأنفال : ٤٢.

(٤) النساء : ١٦٥.

(٥) أمالي الطوسي : ٢٩٤ / ٥٧٤ ، الوسائل ١٢ : ٣٨ ، أبواب أحكام العشرة ، ب ٢٠ ، ح ١.

٧٦

ومَن يلغِ أعقابَ الأُمورِ فإنّه

حريٌّ بهَلْكٍ آجلٍ أو مُعاجلِ

والفراسةُ وإنْ لم تختصّ بأولياء الله ، بل قد تكون في بعض أعداء الله ، إلّا أنّ هنا فرقاً بيّناً بين الفراستين وبوناً عظيماً بين التوسّمين ، فإنّ فراسة المؤمن لازمةُ الإصابة إلّا أنْ يشاء اللهُ تعالى ؛ لأنّها غريزةٌ يوقعها اللهُ تعالى في قلوبِ أوليائِهِ ، لصفاءِ قوابِلها وكمالِ استعدادِها ، ولكونها لازمةَ الإصابة أمرَ باتّقائها معلّلاً بأنّه : « ينظرُ بنورِ الله ».

وأمّا فراسةُ أعداءِ الله فإنّما تصدر عن أسبابٍ ظاهريّة وتجارب دنيويّة ، وقد تخطئ أكثرَ ممّا تصيب ، ولو أصابت فإنّها من باب المقارنة الاتّفاقية للأقضية الرّبّانيّة ، واللهُ العالم.

مراتب عقل المؤمن

وأمّا قولُه ـ سلّمه اللهُ تعالى ـ : ( وهل أنّ عقل ذوي الإيمان على مراتبهم في الإيمان؟ ).

فالجواب : أنّ الأمر بالعكس ، بمعنى أنّ مراتبهم في الإيمان بحسب مراتبهم في العقل الذي يُعبدُ به الرّحمنُ ، ويُكتسبُ به الجنان ، كما قال الكاظم عليه‌السلام ، في حديث هشام بن الحكم ، المرويّ في ( أُصول الكافي ) وغيره : « وأعلمُهُم بأمرِ اللهِ أحسنُهُم عقلاً ، وأعقلُهُم وأرفعُهُم درجةً في الدنيا والآخرة » (١).

وفي ( البحار ) نقلاً عن أمالي الشيخ الطوسي رحمه‌الله ، بإسناده عن زرّ بن أنس ، قال : سمعتُ جعفر بن محمد عليه‌السلام يقول : « لا يكونُ المؤمنُ مؤمناً حتى يكونَ كاملَ العقل » (٢).

وفيه ـ أيضاً ـ نقلاً عن ( العيون ) (٣) ، بإسناده إلى علي الأشعري ؛ قال : قال رسولُ الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ما عُبد اللهُ بمثلِ العقل » (٤).

__________________

(١) الكافي ١ : ١٦ / ١٢ ، وفيه : ( وأكملهم عقلاً أرفعهم درجةً .. ).

(٢) البحار ١ : ١٠٩ / ٥ ، أمالي الطوسي : ١٥٣ / ٢٥٣.

(٣) ما وجدناه في البحار نقلاً عن العلل ، ولعلّ لفظ ( العيون ) من سهو القلم.

(٤) البحار ١ : ١٠٩ / ٦ ، علل الشرائع ١ : ١٤١ / ١١.

٧٧

ويدلّ عليه أيضاً الأخبارُ الكثيرة الواردةُ في هذا الباب عن الأئمة الأطياب ، من أنّ الثواب والعقاب على قدر العقول والألباب (١).

الزيادة والنقصان في العقل

وأمّا قوله سلّمه الله تعالى ـ : ( وهل هو يقتضي الزيادة والنقصان؟ ).

فالجواب : أنّك قد عرفت من معاني العقل السابقة في أوّل الجواب أنّه يقبلُ الزيادةَ والنقصان في كلّ معنىً بما يناسبه ، ممّا يتعلّق بأمرِ المعاش أو المعاد.

وفي ( البحار ) نقلاً من كتاب ( الاختصاص ) عن الصادق عليه‌السلام أنّه قال : « يزيدُ عقلُ الرّجل بعدَ الأربعين إلى الخمسين والستين ، ثمّ ينقصُ بعد ذلك » (٢).

ومعناه : أنّه يبتدئ في استكمالِ الزيادة والكمال بكمال الأربعين ، وينتهي استكمالُ الزيادة والكمال بكمال الستين.

وهذا هو السرُّ في كون وعد موسى أربعين ؛ لأنّ مراتبَ الوجود تكونُ أربعين ؛ لأنّ الإنسان خُلق من عشر قبضات : من الأفلاك التسعة ومن الأرض ، وأُديرت كلٌّ من العشر ثلاث دورات فصار ثلاثين ، ثمّ أُديرت رابعةً فتمّت أربعين ، فبالدورة الاولى تتمّ العنصريّة ، وبالثانية تتمُّ المعدنيّة ، وبالثالثة تتمّ النباتيّة ، وبالرابعة تتمّ الحيوانيّة (٣).

وإليه الإشارةُ أيضاً بقوله تعالى ( حَتّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ ) (٤) الآية.

وهو أيضاً من أسرار ابتداء اسمِ نبيّنا الجامعِ لجميع الكمالات في جميع الأطوار والنشآت بالميم ؛ لكون عدد قواها أربعين ، إشارةً لابتدائه صلى‌الله‌عليه‌وآله بمراتبِ الكمال في الوجود البياني.

__________________

(١) انظر : الكافي ١ : ١٢ / ٨ ، الوسائل ١ : ٤٠ ، أبواب مقدّمة العبادات ، ب ٣ ، ح ٤.

(٢) البحار ١ : ١٣١ / ٢٧ ، الاختصاص ( المفيد ) : ٢٤٤ ، بتفاوتٍ يسيرٍ.

(٣) انظر : تفسير القرآن ( ملا صدرا ) ٣ : ٣٧٠ ، وعوارف المعارف ( ضمن الملحق لإحياء علوم الدين ) : ١٢٢.

(٤) الأحقاف : ١٥.

٧٨

وورد أنّ بعثه صلى‌الله‌عليه‌وآله بعد الأربعين (١) ، مع أنّه كان نبيّاً وآدم بين الماء والطين (٢) ، إشارةً لكماله في الوجود العياني بحسب القابل الزماني.

وهو أيضاً من جملة أسرار تسمية آدم بآدم ؛ لأنّ كمال الآدَمِيّة أي : القوّة الناطقة الإنسانية يكون بعد كمال الأربعين ، لأنّ عدد حروف اسمه عليه‌السلام يكونُ خمسةً وأربعين ، لحسابِ الألف بواحدٍ بحساب الكتابة دون اللفظ ؛ لأنّ المدار في الحساب على الكتابة دونه ، كما هو معروف عند ذوي الألباب.

وإنّما ابتدأ اسمه بالألف لأنّه شكلُ العقل ، وأتى بعده بالدّال لقُربه من شكل الرّوح ، وهو اللام ، هكذا ( ل ). فتكونُ الخمسةُ السابقة على الأربعين إشارةً إلى أوّل فردٍ بعد تحقّق العقل والرّوح من أفراد الاستعداد لظهور ذلك الازدياد ، وبكمال الخمسة يظهر أثرُ ذلك الاستمداد وتحقّق الاستعداد للازدياد.

ولهذا قيل : إنّه السنّ الذي بُعِثَ على رأسه الأنبياء ، فيظهر أثر ما يفرّق بينهم وبين سيّد الأنبياء والأولياء.

وإنّما قيّدنا أوّليّته الفرديّة بالبعديّة لدفعِ ما يتوهّم من سبق الخمسة بفردين ، وهما الواحد والثلاثة ، واللهُ العالم.

هذا .. وفي كلامِ بعضِ محقّقي المتأخّرين : ( إنّ العقلَ التكليفي يتمُّ عند البلوغ ويقوى إلى ثماني عشرة سنة ، ويشتدّ عند ثلاثين سنة ، أو ثلاثة وثلاثين سنة ، ويكمل عند الأربعين ).

وهو ممّا يساعده الاعتبار وظواهرُ بعضِ الأخبار ، كما في خبر أبي بصير ، عن الصادق عليه‌السلام : « إذا بلغَ [ العبد (٣) ] ثلاثاً وثلاثينَ سنةً فقد بلغ أشدّه ، وإذا بلغَ أربعينَ سنةً فقد بلغَ وانتهى مُنتهاه ، وإذا طَعَنَ في أحد وأربعين بلغَ في النّقصانِ ، وينبغِي لصاحبِ الخمسين أنْ يكونَ

__________________

(١) البحار ٢٢ : ٥٠٣ / ١.

(٢) مناقب آل أبي طالب ١ : ٢٦٦ ، غوالي اللئلئ ٤ : ١٢١ / ٢٠٠ ، البحار ٩٨ : ١٥٥ / بيان.

(٣) نسخة « ب » والمصدر.

٧٩

كَمَنْ كانَ فِي النَّزْعِ » (١).

ولا منافاة بين هذا الخبر الدالّ على النقصان بالطعْن في أحد وأربعين ، وبين الخبر الدالّ على الزيادة من بعد الأربعين وكمالها بكمال السّتين ؛ لأنّ المراد بالنقصِ النقصُ في الزيادة البدنيّة ، وبالزيادة زيادة القوّة العقليّة بحسب البصيرة في الأُمور الأخروية ؛ لأنّه إذا اعتبر بنقص البُنْية البدنيّة دلّه على نقص التنعّمات الدنيويّة ، فيستعدّ لتحصيل الزاد يوم المعاد لتهيئته للرَّحيل للسّفر الطويل.

ويرشد إليه قولُه : « وينبغي لصاحبِ الخمسين أنْ يكون كَمَنْ في حالِ النَّزعِ ». فإنّ مَنْ كان في النزع تنكشفُ له الأُمورُ الغيبيّة ، فتحصلُ له البصيرة اليقينيّة بما يستحقّهُ من الدرجات العليَّة أو الدركات السّفليّة ، فيندمُ حيث لا ينفعُهُ النّدم على زلّة القدم ، وإليه الإشارةُ بقوله ( فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ ) (٢) ؛ لانكشافِ الغواشي الظلمانيّة ، عن مرآة القوة العقلانيّة واللطيفة الروحانيّة. نسألُهُ سبحانه التوفيقَ للاستعداد وسلوك طريق السّداد.

وأمّا قولُه ـ سلّمه الله تعالى ـ : ( أم هو والإيمان سيّان في كلّ إنسان ).

فالجواب عنه يعرفُ من الجواب عن سابقه ، وهو أنّ العقل والإيمان متغايران لا سيّان ، بل إنّ العقل يكون سبباً في ازدياد مراتب الإيمان بحسب العرفان ، كما هو ظاهرُ قوله : « العقلُ ما عُبِدَ بِه الرّحْمنُ ، واكتُسِبَ بِه الجِنانُ » (٣).

وحيث قد أسأنا الأدبَ بالإبطاء بجوابِ السائلِ ؛ لكثرةِ الشواغل ، فلنقتصر من العجالة على هذا القليل وإنْ كان المقام حريّا بالتطويل. وأسألُ الله أنْ ينتفعَ به السائل وأمثالَهُ من المؤمنين والإخوان الصالحين ، وأنْ يعاملني بالعفوِ عن زلّة القدم وَهَفْوَةِ القلم ، إنّه غفورٌ رحيم وتوّابٌ كريم.

__________________

(١) نسخة « ب » والمصدر.

(٢) ق : ٢٢.

(٣) الكافي ١ : ١١ / ٣ ، معاني الأخبار : ٢٣٩ ٢٤٠ ، المحاسن ١ : ٣١٠ / ١٥.

٨٠