الرسائل الأحمديّة - ج ١

الشيخ أحمد آل طعّان

الرسائل الأحمديّة - ج ١

المؤلف:

الشيخ أحمد آل طعّان


المحقق: شركة دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
الموضوع : الفقه
الناشر: دار المصطفى (ص) لإحياء التراث
المطبعة: أمين
الطبعة: ١
الصفحات: ٤٢٦

قال : ( فقوله عليه‌السلام : « والأخيرتان تبع للأُوليين » (١) بعد حكمه بالإنصات لقراءة الإمام في الأُوليين يعطي أنّ الأخيرتين لا جهر فيهما بشي‌ء أبداً ، وإنّما ينصت المأموم فيهما ؛ لكونه يجب عليه الإنصات في الأُوليين ، لأنّهما تابعتان لهما.

أقول والله الموفّق لارتقاء سلّم الوصول ـ : أمّا الرواية الأُولى فالجواب عنها :

أمّا أوّلاً ؛ فبما تقدّم في حكم قراءة المأموم خلف الإمام ، وهو تخييره بين القراءة والتسبيح ، وأفضليّة الأوّل ، كما ذكره الشهيد في ( شرح نكت الإرشاد ) (٢) ، وقال المحقّق الثالث الشيخ حسن نقلاً عنه ـ : ( إنّه صار إلى العمل بمضمونه جماعةٌ من قدماء الأصحاب ، ووافقهم عليه بعضُ مَنْ تأخّر ) (٣).

والتقريب فيه : ما مرّ هناك من جعل ( اقرأْ ) فعل أمر مسوقاً لبيان ما فوق المجزي ، فإنّ الإمام عليه‌السلام لمّا نَهاه عن القراءة خلف الإمام في الأُوليين ، وقال : إنّه يجزيه التسبيح في الأخيرتين ، استشعر السائل أنّ هنا شيئاً فوق المجزي ، فسأل عنه ، قائلاً : أيّ شي‌ء تفتي به غير هذا المجزي ، فأجابه بأنّه قراءة الفاتحة.

ويؤيّد هذا الوجه أُمور :

منها : مجي‌ء بعض الأخبار بموافقته ، كصحيح سالم بن مكرّم الجمّال ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام ، قال : « إذا كنت إمام قومٍ فعليك أنْ تقرأ في الركعتين الأُوليين ، وعلى الذين خلفك أنْ يقولوا : سبحان الله والحمد الله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، وهم قيامٌ ، وإذا كنت في الركعتين الأخيرتين فعلى الذين خلفك أنْ يقرءوا فاتحة الكتاب » (٤).

وهذه الرواية صحيحة على الأظهر ؛ إذ محمّد بن عيسى فيها وإنْ كان غير مقيّد بالعُبَيْدي إلّا إنّ رواية محمّد بن علي بن محبوب عنه قرينة على أنّه هو. والأظهر توثيقه كسالم بن مكرّم ، إذ قد جزم النجاشي (٥) بتوثيقه مرّتين ، والعلّامة قال : أتوقّف

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٨٥.

(٢) غاية المراد ١ : ٢١٣.

(٣) منتقى الجمان ٢ : ١٦.

(٤) التهذيب ٣ : ٢٧٥ / ٨٠٠ ، الوسائل ٨ : ٣٦٢ ، أبواب صلاة الجماعة ، ب ٣٢ ، ح ٦.

(٥) رجال النجاشي : ١٨٨ / ٥٠١.

٤٠١

فيه (١) ، والشيخ (٢) مدحه وذمّه ، فيتعارضان فيتساقطان ، فيبقى توثيق النجاشي بلا معارض. وخطّابيّته لم تثبت ؛ إذ الناقل لها ابن فضّال ، ولأنّ طريق الشيخ إلى محمّد بن علي بن محبوب صحيح ، فلا مناص عن التصحيح.

ومنها : فَهْمُ جملة من القدماء هذا المعنى ، وعملهم عليه ، وإفتاؤهم به ، كما مرّ نقله عن الشيخ حسن (٣) ، وهم أعرف من غيرهم بعرف أئمّتهم ، سيّما مع موافقة بعض المتأخّرين لهم.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنا لو تنزّلنا وسلمنا جعل ( أقرأُ ) فعلاً مضارعاً ، فلا دلالة فيه على مطلوبهم ، لأنّ مورد الرواية تبيين أحكام المأموم ، فلمّا بيّن أنّ المأموم يجزيه التسبيح في الأخيرتين ، عَرَف الراوي أنّ هنا شيئاً فوق المجزي فسأله عمّا يفعله حال كونه مأموماً لوالده عليه‌السلام ، أو على فرض أنّه لو كان مؤتمّاً بمرضيٍّ ؛ لعِلْمِهِ بمواظبتهم عليهم‌السلام على ما كان الفضل فيه أكثر ، وعلى ما كان أرجح وآثر ، فأخبره أنّه يقرأ الفاتحة. واحتمال كون السؤال عمّا يفعله عليه‌السلام حال صلاته معهم بعيدٌ ، بل غير سديد ، مع أنّ هذا الاحتمال يسقط أصل الاستدلال.

وأمّا ثالثاً ؛ فلأن تقريبهم أنّما يتمّ على تقدير السؤال عمّا يفعله حال كونه إماماً ، والسوْقُ يأباه ، والأُسلوب يدفعه ؛ لأنّه إنّما يتمّ على جعل قوله : ( وقال : « يجزيك التسبيح في الأخيرتين » ) خبراً مستقلا ، ولا يخفى أنّ اقتطاع بعض الحديث وإفراده عن باقيه لمجرّد ظنّ الاستقلال بعيدٌ عن مذاق الأبدال ، موقعٌ للخطإ في الاستدلال ، والفصل بكلمة ( قال ) لما بين حكم الأُوليين والأخيرتين من الاختلاف لا للانتقال ، بل لو صحّ كونُ السؤال عمّا يفعله حال كونه إماماً كما يقال ، لكانت دلالته على المراد أظهر من الشمس في ساعة الراد ، وذلك بجعل ( تقول ) متضمّناً معنى ( تقرأ ) ، أو بمعناه.

__________________

(١) خلاصة الأقوال : ٣٥٥ ، وفيه : ( والوجه عندي التوقّف عمّا يرويه ؛ لتعارض الأقوال فيه ). وفي المخطوط : ( لا أتوقّف فيه ) ، وما أثبتناه موافق للمصدر.

(٢) الفهرست : ١٥٠ / ٣١٣.

(٣) انظر ص ٤٠١ هامش ٣.

٤٠٢

ويؤيّده مجي‌ء الجواب به قصداً لمطابقة الجواب للسؤال ، فكأنه لمّا قال عليه‌السلام : « يجزيك التسبيح في الأخيرتين » سأله عمّا يقرأ فيهما ؛ لكونه يسمع البسملة ولا يدري بسملة أي سورة ، أهي الفاتحة ، أم غيرها؟ فأجابه عليه‌السلام بأنّه يقرأ سورة الفاتحة.

وأمّا رابعاً ؛ فلأنّ مجرّد السؤال لا يستلزم خفاء فعل الإمام ، ولا ينافي كثرة الصحبة له عليه‌السلام :

أوّلاً ؛ لعدم المانع من جعل الغرض من السؤال طلب معرفة حقيقة الحال ، وأنّ قراءته عليه‌السلام هل هي موافقة لمعتقده المطابق لنفس الحكم الواقعي ، أم لنوع من التقيّة ، أو غير ذلك ؛ لاختلاف الأحكام باختلاف الأشخاص والأحوال ، وتفويض أمر الشريعة لهم عليهم سلام ذي الجلال لإطلاق القول إطلاقا شائعاً ذائعاً على الرأي والاعتقاد ، لا أنّ الغرض من السؤال طلب معرفة مطلق الماهيّة ، ومطلق الإيجاد.

ويؤيّده اختلاف الإماميّة الاختلاف الكثير في حكم قراءة المأموم خلف الإمام ، كما مرّ الكلام فيه مستوفى في مقدّمة الرسالة ، وهذا ظاهر لمن أصلح الله باله.

وثانياً ؛ لأنّ كثرة الصحبة لا تستلزم معرفة الأحكام في أوّل جزء من أجزاء زمان صحبته للإمام ، وإنّما تتعدّد المعرفة بتعدّد الصحبة آناً فآناً ، ومكاناً فمكاناً ، فإنّ عمّار الذي هو جلدة بين عيني المختار (١) قد تمعّك في التيمّم كما تتمعّك الدابّة ، مع ما هو عليه من الإجلال والإعظام والصحبة للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله في كلّ موطن ومقرٍّ ومقام ، وكذا داود بن النعمان الذي هو من أفاضل الرواة والأعيان قد سأل الصادق عليه‌السلام عن كيفيّة التيمّم ، كما في الخبر المتضمّن لقضيّة عمّار (٢) ، واحتمال أنّ القائل : ( فقلنا له : فكيف التيمّم؟ ) هم الصحابة الحاضرون مع عمّار ، والمقول له هو الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، بعيدٌ غاية البعد ، إذ لو كان كذلك لقيل : ( فقالوا ) لا : ( فقلنا ). مع أنّه أيضاً كافٍ في الردِّ.

ونرى عليّ بن جعفر مع طول صحبته لأخيه موسى عليه‌السلام ، وزرارة ومحمّد بن مسلم

__________________

(١) كشف الغمّة ١ : ٢٦٠ ، البحار ٣٣ : ١٢ / ٣٧٥.

(٢) التهذيب ١ : ٢٠٧ / ٥٩٨ ، الوسائل ٣ : ٣٥٩ ، أبواب التيمّم ، ب ١١ ، ح ٤.

٤٠٣

وأضرابهما من أوتاد الأنام ، قد يسألون الإمام عمّا لا يجهله سائر العوامّ من أحكام الشكوك والطهارة والصلاة والصيام ، حتّى إنّ جميل بن درّاج الذي أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه قد جهل كميّة السعي ، فسعى أربعة عشر شوطاً ، مع جعلهم إيّاه في عداد الفقهاء كعبد الله بن مسكان ، وحمّاد بن عيسى ، وحمّاد بن عثمان ، حيث قال : ( حججنا ونحن صرورة فسعينا بين الصفا والمروة أربعة عشر شوطاً ) (١).

ولا وجه لحملة على النسيان ؛ لأنّ قوله : ( ونحن صرورة ) يقتضي الجهل ضرورة. هذا ، مع أنّه لم يؤثّر نقصاً في جلالتهم وفقاهتهم وطول صحبتهم للإمام ، كما لا يخفى على ثاقبي الأفهام.

وإنّي ليعجبني كلامٌ لبعض الأعلام يحسن إيراده في هذا المقام ، حيث قال في حكم الصلاة في الأماكن الأربعة ما لفظه : ( والقول بالتخيير وأفضليّة التمام قول علمائنا كلّهم أو جلّهم ، وخلافه شاذّ نادر .. إلى أنْ قال ـ : ولا ينافي ذلك كون راوي التقصير من أجلّة أصحابنا ؛ لجواز كون روايته وقت ضعفه ، وقبل ارتقائه إلى الجلالة ) .. إلى آخره.

وأمّا خامساً ؛ فلعدم الجزم بكون ابن سنان هو عبد الله ، واحتمال كونه محمّداً أخاه ، وهو مهملٌ في رجال الصادق عليه‌السلام ، وروايته عن الصادق عليه‌السلام غير عزيزة في الأخبار ، ففي كتاب ( العلل ) في باب كراهة أكل الثوم والبصل والكرّاث : ( أخبرني علي بن حاتم ، قال : حدّثنا محمّد بن جعفر الرزّاز ، قال : حدّثنا عبد الله بن محمّد بن خلف ، عن الحسن بن علي الوشّاء ، عن محمّد بن سنان ، قال : سألت : أبا عبد الله عليه‌السلام عن أكل البصل والكرّاث ) (٢) .. إلى آخره.

وفي الجزء الحادي عشر من كتاب ( الأمالي ) المنسوب للشيخ الطوسي ، برواية

__________________

(١) الكافي ٤ : ٤٣٦ / ٣ ، الوسائل ١٣ : ٤٩٢ ، أبواب السعي ، ب ١٣ ، ح ٥.

(٢) علل الشرائع ٢ : ٢٣٦ / ٢.

٤٠٤

ابنه أبي علي ، بإسناده إلى أبي محمّد الفحّام ، قال : حدّثني عمّي ، قال : حدّثني أبو العباس أحمد بن علي بن عبد الله الراسي ، قال : حدّثنا أبو عبد الله عبد الرحمن بن عبد الله العمري ، قال : حدّثنا أبو سلمة يحيى ، أنّ المغيرة قال : حدّثني أخي محمّد بن المغيرة ، عن محمّد بن سنان ، عن سيّدنا أبي عبد الله جعفر بن محمَّد عليه‌السلام ، قال : « قال أبي لجابر بن عبد الله : لي إليك حاجة أُريد أخلو بك فيها » (١). ثمّ ذكر حديث اللوح المشتمل على أسماء الأئمّة عليهم‌السلام.

بل في ( طبّ الأئمّة عليهم‌السلام ) : حدّثنا عبد الله بن سنان ، عن أخيه محمّد بن سنان ، قال : قال جعفر بن محمَّد عليه‌السلام : « ما من أحد تخوّف البلاء فتقدّم قبله بالدعاء ، إلّا صرف الله عنه ذلك البلاء » (٢) .. إلى آخره.

وفيه أيضاً : حدّثنا الحسن بن علي الوشّاء ، عن عبد الله بن سنان ، عن أخيه محمّد ، عن جعفر الصادق عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن مولانا الحسين بن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : « عاد أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام سلمان الفارسي » (٣) .. إلى آخره. ونحوه في مقدار الثواب من كلّ علّة ، من الكتاب المذكور في موضعين ، قال فيه : حدّثنا أبو عتاب ، قال : حدّثنا محمّد بن خلف ، وأخوه الحسين أيضاً عنه ، عن الوشّاء ، عن عبد الله بن سنان ، قال : سمعت محمّد بن سنان يحدّث عن الصادق عليه‌السلام ، قال : « سهر ليلة في العلّة التي تصيب المؤمن خيرٌ من عبادة سنة » (٤).

وعنه ، عن جعفر بن محمَّد عليه‌السلام ، عن أبيه ، عن علي عليه‌السلام ، قال : « سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يقول : حمّى ليلة كفّارة سنة » (٥).

وهذه الروايات صريحة في رواية محمّد بن سنان أخي عبد الله عن الصادق عليه‌السلام مشافهة ، وليس هو محمّد بن سنان الزاهري ، لأنّه لم يروِ عن الصادق عليه‌السلام أصلاً.

نعم ، في ( الطب ) أيضاً سندٌ فيه : ( قال : حدّثنا عبد الله بن سنان ، عن أخيه

__________________

(١) أمالي الطوسي : ٢٩١ / ٥٦٦.

(٢) طبّ الأئمّة عليهم‌السلام : ١٥.

(٣) طبّ الأئمّة عليهم‌السلام : ١٥.

(٤) طبّ الأئمّة عليهم‌السلام : ١٦.

(٥) طبّ الأئمّة عليهم‌السلام : ١٦.

٤٠٥

محمّد بن سنان ، عن المفضّل بن عمر ، قال : سمعت الصادق عليه‌السلام ) (١) .. إلى آخره.

فيستفاد من مجموع ما ذكرنا أنّ محمّد بن سنان يروي عن الصادق عليه‌السلام تارةً مشافهة ، وتارةً بواسطة ، وفي رواية أخيه الثقة الجليل عنه إشعارٌ بوثاقته ، والاعتذارُ بأنّ محمّداً نادرُ الروايةِ فلا ينصرف الإطلاق إليه غيرُ خفيٍّ ما فيه على نبيل نبيه ، اللهمَّ إلّا أنْ يقال : إنّ رواية صفوان قرينة على كونه عبد الله بن سنان ، فليتأمّل ذوو الأذهان.

ومن الغريب ما وقع للشيخ أبي علي في ( منتهى المقال ) (٢) من الخطب العظيم في هذا المجال ، الذي لا يخفى على الماهر في علم الرجال ، الناشئ من توهّمه اتّحاد محمّد بن سنان الزاهري المشهور بمحمّد بن سنان بن طريف الهاشمي المذكور.

وأنت بعد الإحاطة بما قلناه والإنصات لما تلوناه تعلم إلّا دلالة في هذا الخبر على مدّعاه ، إذ مبناه على مجرّد الاستبعاد ، والمغالطات التي لا تروّي غلّة صادٍ ، وما الله يريد ظلماً للعباد.

وأمّا الرواية الثانية (٣) : فالجواب عنها :

أوّلاً : بما مرّ في البحث مع ابن إدريس ، من أنّها ليست نصّاً في المدّعى ، بل كما تحتمل ما ذكره تحتمل ما ذكرناه احتمالاً مساوياً إنْ لم يكن راجحاً ، فيلزم من ترجيح أحدهما على الآخر ترجيح أحد المتساويين بلا مرجّح ، وهو باطل ، وجِيدُهُ عن عِقْد القبول عاطل.

وثانياً : أنّ قصارى ما يدلّ عليه على تقدير تقريبه فيها أنّ النهي عن قراءة المأموم في الأخيرتين ليس لسماعة قراءة الإمام ، وإنّما هو لتبعيّتهما للأُوليين ، وهو لا يدلّ على الإخفات بالبسملة ؛ لأنّها سالبةٌ بانتفاء الموضوع ؛ لقوله عليه‌السلام : « ولا تقرأنَّ شيئاً في

__________________

(١) طبّ الأئمّة عليهم‌السلام : ١٦.

(٢) منتهى المقال ٦ : ٦٥ / ٢٦٦٩.

(٣) صحيحة زرارة المتقدّمة في ص ٣٨٤.

٤٠٦

الأخيرتين » (١) ، بل قد تقتضي الجهر بها في الأخيرتين كما مرّ قضاءً لحكم تبعيّتهما في الجهر والإخفات للأُوليين ؛ فأمّا أنْ يجهر الإمام عليه‌السلام في الأُوليين فيلزم أيضاً جهرة في الأخيرتين ، وأمّا ألّا يجهر بها فيهما فيرد عليه أيضاً ؛ لحكمه بالاستحباب في الأُوليين ، إلّا إنّ عدم جهره عليه‌السلام خلاف الظاهر ؛ لما عُلِم من ملازمتهم له في جميع الأوقات والصلوات ، على أنّ هذا الإشعار معارضٌ بإشعار بعض الأخبار بجهر الإمام بالبسملة وإنْ كانت القراءة بالإسرار ، كخبر جميل بن درّاج ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عمّا يقرأ الإمام في الركعتين في آخر الصلاة؟ فقال : « بفاتحة الكتاب » (٢).

والتقريب فيه : أنّ الداعي للسؤال إنّ جميلاً يسمع الأئمّة يبسملون ، لكنّه لم يعلم أنّ البسملة للفاتحة أم لغيرها من السور ، فأجابه عليه‌السلام بأنّها بسملة الفاتحة ، ولا ينافي ذلك احتمال كونه سؤالاً ابتدائيّاً عن حكم الإمام في الأخيرتين ؛ لكونه من الاحتمالات المساوية إنْ لم تكن راجحة ، وهو كافٍ في ضعف ذلك التأييد. وإنّ في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد ، وخلَعَ رِبْقة الاعتساف عن الجِيد ، ومَنِ امتطى عمياء الصدّ من غير تدبّر ، وركب متن عشواء الردّ من غير تفكّر ، فحين تقف على مجادلته قُلْ : كلّ يعمل على شاكلته ، وعلى الله قصد السبيل ، وهو حسبي ونعم الوكيل.

__________________

(١) السرائر ٣ : ٥٨٥.

(٢) التهذيب ٢ : ٢٩٥ / ١١٨٦ ، الوسائل ٦ : ١٠٨ ، أبواب القراءة في الصلاة ، ب ٤٢ ، ح ٤.

٤٠٧

المبحث الرابع

في الاستدلال على القول الرابع

وقد استدلّ له بعض الفضلاء بما يقرب من استدلال ابن إدريس ، وهو أنّ البسملة جزءٌ من السورة التي يجب الإخفات بها في الإخفاتيّة ، فيجب الإخفات بها ، خرج من ذلك الإمام بالنصّ والإجماع ، فيبقى الباقي (١).

وإليه يرجع ما شاع في تقريره على لسان الأكثر حتى من بعض مشايخنا الغرر ، من أنّ الأصل وجوب الإخفات بها في محلّه ؛ لأنّها بعض الفاتحة ، خرج الإمام ، فيبقى ما عداه على الأصل ، أو فيبقى المنفرد للاختلاف في قراءة المأموم.

أقول : لا يخفى على موفّقٍ مصيبٍ ، ومَنْ ظفر من العناية بأوفر نصيب ، ما يتوجّه على التقرير وأصل الدعوى من المنع والتثريب.

أمّا التقرير ؛ فلعدم انطباقه على ما نقلوه عن ابن الجنيد ، من قوله بعدم وجوب الجهر والإخفات في مواضعهما ، وأنّه لو جهر بالقراءة في ما يخافت بها أو خافت في ما يجهر بها جاز ، كما مرّ نقله عن كتابه ( الأحمدي ) (٢). ولم ينقل خلافه عنه ، ولم يناقشوا في صحّة النسبة إليه ، كما ناقش بعض المتأخرين في نسبة ذلك للسيّد المرتضى وإنْ كان ما ناقش به غير المرتضى.

فالمناسب في التقرير لهذا المنهج أنْ يقال : الأصل استحباب الإخفات بها في محلّه خرج ما خرج ، اللهمَّ إلّا أنْ يريدوا الوجوب الشرطي المجامع للوجه الندبي ، إلّا أنّه خلاف ظاهر هذا القائل.

__________________

(١) مدارك الأحكام ٣ : ٣٦٠ بالمعنى ، نقلاً عن ابن الجنيد.

(٢) المختلف ٢ : ١٥٥.

٤٠٨

وأمّا الدعوى ، فأمّا أوّلاً ؛ فلمنع الأصل المذكور ؛ لأنّ الأصل الثابت في البسملة المستفاد ممّا مرّ من الأدلّة على استحباب الجهر بها من حيث كونها بسملة ، وكونها من شعار الشيعة ، وعلامات المؤمن أنّما هو الجهر ، كما في ( المدارك ) (١) ، وعن غيرها ، فدخولها في حكم الأصل وعموم الإخفات غير معلوم.

وأمّا صحيحا زرارة عن الباقر عليه‌السلام اللذان هما الأصل في وجوب الجهر والإخفات كما قيل اللذان أحدهما : في رجل جهر في ما لا ينبغي الإجهار فيه ، وأخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه ، فقال : « أيّ ذلك فعل متعمّداً فقد نقض صلاته وعليه الإعادة ، فإنْ فعل ذلك ناسياً أو ساهياً [ أو لا (٢) ] يدري ، فلا شي‌ء عليه » (٣). وثانيهما في رجل جهر بالقراءة في ما لا ينبغي الجهر فيه ، وأخفى في ما لا ينبغي الإخفاء فيه ، أو ترك القراءة في ما ينبغي القراءة فيه ، أو قرأ في ما لا ينبغي القراءة فيه. فقال : « إنْ فعل ذلك ناسياً أو ساهياً فلا شي‌ء عليه » (٤).

فقصارى دلالتهما وجوب الإخفات في ما ينبغي الإخفات فيه ، ولا دليل على أنّ البسملة ممّا ينبغي الإخفات فيه ، بل الدليل على خلافه ، وإنّ الثابت هو رجحان الجهر فيها. وقد مرّ أنّ جمعاً من فضلاء المجتهدين والمحدّثين قد صرّحوا باستثناء البسملة من المواضع الإخفاتيّة وعدّها من المواضع الجهريّة ، كما مرّ أنّ بعضهم جعل الأصل في الصلاة هو الإجهار لا الإخفات.

وأمّا ثانياً ؛ فلوجوب الخروج عن الأصل بما مرّ من الأدلّة على الاستحباب والوجوب ، والأخبار المستفيضة المعتبرة القويّة المترجّحة والمعتضدة بالشهرة المحقّقة بين الإماميّة ، بل الإجماعات المحصّلة والمحكيّة ، فإنّها بين عامّ للمنفرد ، وبين خاصّ به وللدلالة عليه متجرّد ، وبين ما كان ذكر الإمام فيه من قبيل المورد ، بل قد يتّجه الاستدلال به على العموم بضميمة أدلّة التأسّي ، إلّا في ما علم كونه من

__________________

(١) عنه في المدارك ٣ : ٣٦٠.

(٢) في المخطوط : ( فلا ) ، وما أثبتناه من المصدر.

(٣) الفقيه ١ : ٢٢٧ / ١٠٠٣ ، الوسائل ٦ : ٨٦ ، أبواب القراءة ، ب ٢٦ ، ح ١.

(٤) التهذيب ٢ : ١٤٧ / ٥٧٧ ، الوسائل ٦ : ٨٦ ، أبواب القراءة ، ب ٢٦ ، ح ٢.

٤٠٩

خصائص الإمام دون المنفرد والمأموم. وبمراجعة ما ذكرناه سابقاً من الأدلّة يتّضح للمتأمّل ما في هذا التخصيص من العلّة ، وإنّما طويناها على غرّها ؛ لعدم الحاجة للإفادة بإعادة ذكرها.

وأمّا قوله : ( خرج الإمام بالنصّ والإجماع ) .. إلى آخره.

ففيه : ما عرفت من الدخول في معاقد الإجماعات والعمومات والإطلاقات. وأمّا ما ورد من الأخبار الفعليّة المشتملة على حكاية فعل الإمام ، فلا يدلّ على الاختصاص به عند التأمّل التامّ ؛ لما مرّ آنفاً أنّه من قبيل المورد ، أو لأنّه من جملة الأفراد وموافقة حكم الخاصّ حكم العامّ ، وكلّ منها ليس مخصّصاً بإجماع علمائنا الأعلام. نعم ، يستفاد من خبري الثمَالي تأكّد ذلك للإمام ، والله العالم بحقائق الأحكام.

٤١٠

المبحث الخامس

في الاستدلال على القول الخامس

وهو وجوابه يعرفان من الاستدلال على قول ابن البرّاج وجوابه ، وعلى قول الحلّي وجوابه إنْ ثبت موافقته في قوله بتحريم الجهر في الأخيرتين ، وإلّا فمن دليل ابن البرّاج وجوابه ، ومن دليل القول المشهور.

وكيف كان ، فلا يخفى ما فيه من الضعف والقصور ، إذ الفرق بين الأُوليات والأُخريات لا يخلو من تحكّم وفتور ، بل خرق للإجماع المخالف للمذهب ، إذ الظاهر انحصار الإماميّة في قولين ؛ أمّا الاستحباب في الجميع ، أو الوجوب في الجميع. فالقول بالوجوب في بعض والاستحباب في بعض ، أو الاستحباب في بعض والتحريم في آخر ، خرق للإجماع وقولٌ بالفصل بلا داعٍ.

ومن هنا ينقدح قوّة ما استظهرناه من رجوع هذا القول لقول ابن البرّاج ، فيرتفع النزاع ، ولعلّ هذا القائل إنْ ثبت نظر للجمع بين الأخبار ، وقد عرفت ما فيه وعدم الحاجة له ، كما لا يخفى على نبيه ، والله العالم بظاهر الأمر وخافيه.

٤١١

المبحث السادس

في الاستدلال على القول السادس

فأمّا الاحتياط بالإخفات فقد مرّ عليك وجهه مع ما يرد عليه في البحث مع ابن إدريس.

وقد استدلّ له أيضاً المحدّث الصالح الشيخ عبد الله بن صالح في ( منية الممارسين ) ، وتبعه عليه الفاضل الأوحد الشيخ سليمان بن الشيخ أحمد آل عبد الجبار في ( شرح المفاتيح ) ، حيث قال بعد إيراد بعض الأخبار الدالّة على استحباب الجهر بالبسملة ما لفظه ( وقد يقال : إنّ ههنا إطلاقين تعارضا : إطلاق الجهر بالبسملة كما تضمّنته الروايات المذكورة ، وإطلاق وجوب الإخفات بالقراءة في الأخيرتين كما تضمّنته الروايات الدالّة على ذلك ، وقد مرّ ذكرها ، والبسملة من جملة القراءة ، فحينئذٍ يكون الحكم فيها وجوب الإخفات فيهما ، فلا يعدّل عمّا يبرئ الذمّة بيقين إلّا بيقين ، ولا يقين بإطلاق معارض مثله ، فيتعيّن الاحتياط هنا ؛ لتعارض الدليلين ).

أقول : لا يخفى على مَنْ رقى مدارج العرفان ومعارج الإتقان أنّ ما ذكراه متداعي البنيان ، ساقط الأركان :

أمّا أوّلاً ؛ فلمنع تساوي الإطلاقين في الدلالة ؛ لكون إطلاق الجهر بها لا سيّما ما دلّ على الأمر بالإجهار في جميع الصلاة أظهر في الدلالة على شمول الاخريات من إطلاق أوامر الإخفات ، فيترجّح العمل بالأظهر ؛ لكونه الأرجح ، فيضعف المعارض ، فينتفي التعارض ؛ لكون الجانب المخالف بالمعارضة غير ناهض.

وأمّا ثانياً ؛ فلأنّ كثيراً من الأخبار لا سيّما ما دلّ على أنّ الجهر بها من حيث هي شعار الشيعة ، ومن علامات المؤمن فيه إشعار بالخصوص ، حيث أفاد أنّ لها

٤١٢

خصوصيّة على غيرها من أجزاء القراءة اقتضت الجهر بها حيثما وقعت دون غيرها ، فهي متخصّصة وخارجة عن موضوع الإخفات ، فتستغني عن المخصّصات والمقيّدات.

وأمّا ثالثاً ؛ فلأنّ البسملة على فرض عدم التخصّص وإنْ كانت آية من القراءة الإخفاتيّة ، إلّا إنّها خرجت بالدليل الخارجي المقتضي لإخراجها عن حكم القراءة في الأُوليين ، مع وجوب الإخفات بها ، فالكلام الكلام ، والجواب الجواب.

وأمّا رابعاً ؛ فلأنّ النسبة بين هذين الإطلاقين هي العموم من وجه ، ولا ريب أنّ المفزع فيه أنّما هو بالرجوع إلى المرجّحات ، وقد علم ممّا مرّ مراراً تكثّرها في جانب الجهر ، وفقدها في جانب الإخفات.

وأمّا قوله : ( فيتعيّن الاحتياط هنا لتعارض الدليلين ).

ففيه : ما مرّ من أنّ الترجيح بالاحتياط إنّما هو مع التساوي في جميع المرجّحات ، والأمر هنا ليس كذلك ؛ لبقاء الترجيح بالعرض على مذاهب العامّة وما كان قضاتهم وحكّامهم إليه أمْيل ، مع أنّ بعض المحقّقين جعل الاحتياط في الجهر كما مرّ ، فترجيح أحد الفتويين لا بدّ له من مرجّح ، والمرجّح لما لدينا موافقة شعار الشيعة قِوَام الشريعة ، والشهرة المحقّقة ، والإجماعات المستفيضة المحكيّة ، وقد تقدّم في البحث مع ابن إدريس ما فيه غُنْيةٌ وتأسيس.

وأمّا الاحتياط بتكرار الصلاة مع الجهر والإخفات ، فقد احتجّ له شيخنا المرتضى بعد ترجيحه التخيير على القول بإجراء أصل البراءة في الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ، وعلى القول بوجوب الاحتياط فيه أيضاً بأنّ مرجع الشكّ هنا إلى المتباينين ، فيترجّح الاحتياط هنا حتّى مع القول بعدم وجوبه في الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة ؛ لمنع جريان أدلّة نفي الجزئيّة والشرطيّة هنا ، والالتزام بإلغاء الجزم بالنيّة في مثله (١).

ويمكن الجواب عنه :

__________________

(١) فرائد الأُصول ٢ : ٥٠٢ ٥٠٣ ، بالمعنى.

٤١٣

أوّلاً : بأنّ الاحتياط لو قيل به موقوفٌ على ثبوت القول بالوجوب وصحّة دليله ، كي يندرج في قاعدة الدوران بين الشرطيّة والمانعيّة ، ومع العلم بانتفائه أو العلم بقصور مستنده ينتفي التفريع بالكلّيّة.

وثانياً : بمنع وجوب الاحتياط هنا بالتكرار ؛ أمّا على القول بعدم إجراء قاعدة الاحتياط في صورة الشكّ في الشرطيّة والجزئيّة كما هو الظاهر فظاهر ، وأمّا عليه ؛ فلوضوح الفرق بينه وبين المتباينين ؛ لانصراف أدلّة الشرائط للعينين المتباينتين دون الصفتين ، وللشرائط المعلومة الشرطيّة الخالية عن شائبة المانعيّة ، ولانتفاء القطع بالمخالفة العمليّة ، والالتزامُ بقبح المخالفة الالتزاميّة ممنوعٌ في مثل هذه القضيّة.

ولضعف وجه الاحتياط هنا بهذا الوجه صرّح شيخنا المشار إليه في ما كتبه على ( الإرشاد ) في قبال الاحتياط بالإخفات بأنّ الاحتياط في اختيار المصلّي التسبيح في الأخيرة والأخيرتين ، من دون تعرّض للاحتياط بالتكرار بأثرٍ ولا عين.

وأمّا الاكتفاء في الاحتياط بتكرار خصوص البسملة ، دون الصلاة ، فاحتجّ له شيخنا الأُستاذ الكاظمي النجفي مشافهةً بدوران شرط الصحّة في البسملة بين الجهر والإخفات ، فيحصل الاحتياط بفعلها مع كلّ منهما.

وفيه أيضاً ـ : ما مرّ من عدم شمول أدلّة الشرائط لمثل المقام ؛ لظهور الشرط عرفاً في ما كان خارجاً عن حقيقة الشروط ، بخلاف ما نحن فيه ؛ إذ الجهر والإخفات عرضان لذات حروف الكلمات ، لا تتقوّم إلّا بأحدهما ، فلا يلزم من الإتيان بأحدهما مخالفةٌ قطعيةٌ عملية. وبسط الكلام بالتمييز بين جَزْله وهَزْله موكولٌ إلى محلِّه.

والوجه الجامع بين أخبار الهداة هو تأكّد استحباب الجهر في الأوّليّات من مواضع الإخفات ، وزيادة ذلك التأكّد للإمام ، كما هو مورد كثير من أخبار الأئمة الأعلام ، والتخيير في الأُخريات ، مع أولويّة اختيار الإخفات وإنْ كان الجهر أفضل كالمشهور ، والله العالم بحقائق الأُمور ، وإليه الرجعى في الورود والصدور.

٤١٤

خاتمة

ختامٌ به الإتمام ، يشتمل على التنبيه على أمرين من أهمّ المهام :

الأوّل : غير خفيّ على النبيه النبيل أنّ ما تقدّم نقله عن الثقة الجليل الحسن بن أبي عقيل (١) ، من تواتر الأخبار عن الأئمّة الأبرار بعدم التقيّة في الجهر بالبسملة من أُولئك الأشرار ، وما رواه غائص ( بحار الأنوار ) ، عن الصادق عليه أفضل السلام المدرار ، أنّه قال : « التقيّة ديني ودين آبائي ، إلّا في ثلاث .. » (٢) وعدّ منها : الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، ينافي ما هو المشهور من عموم التقيّة للأُمور الكليّة والجزئيّة ، كما هو مقتضى عموم الأخبار المعصوميّة.

ويدلّ عليه بالخصوص حسن زكريا بن إدريس القمّي ، قال : سألت أبا الحسن الأوّل عليه‌السلام عن الرجل يصلّي بقوم يكرهون الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم ، فقال لا يجهر (٣).

ويمكن الجمع بوجوه :

الأوّل : أنْ يكون المراد نفي التقيّة في الفتيا دون العمل.

الثاني : أنْ يراد نفيها إذا لم يبلغ الخوف على النفس والمال ، لا مع الضرر اليسير ، وإنّما تجوز التقيّة عند الخوف الشديد على النفس والمال.

الثالث : أنْ يكون المراد تخصيص عدم التقيّة به وبآبائه عليهم‌السلام ، لا لسائر الناس ، وهو الظاهر من حاقّ اللفظ وسياق الكلام.

__________________

(١) الذكرى : ١٩١ ، مدارك الأحكام ٣ : ٣٦٠ ، جواهر الكلام ٩ : ٣٨٥.

(٢) البحار ٧٧ : ٣٠٠ / ٦١.

(٣) التهذيب ٢ : ٦٨ / ٢٤٨ ، الوسائل ٦ : ٦٠ ، أبواب القراءة ، ب ١٢ ، ح ١.

٤١٥

ويؤيّده قول أبي الحسن الرضا عليه‌السلام : « لا تنظروا إلى ما أصنع أنا ، انظروا إلى ما تُؤمرون » ، ولا يخفى ما فيه من الدليل التامّ. هذا مع أنّ أخبار نفي التقيّة فيها ولو نقل تواترها لكنّها آحاداً بالنسبة إلينا غير قابلة لمعارضة تلك الأخبار القويّة المعتبرة العظام ، والله العالم بحقائق الأحكام.

الثاني : هل المستحبّ إيقاع الجهر نفسه فيكون مستحبّاً عيناً وواجباً تخييراً ، أو أنّ المستحبّ اختيار ذلك الفرد بعينه والقصد إليه ، فيكون فعله واجباً ، واختياره مستحبّاً؟.

قال الأكثرون بالأوّل ، وبعضٌ بالثاني.

لنا على الأوّل : أنّ المنصوص عليه في الأخبار ، والمأمور بالإتيان به في الآثار من الأئمّة الأطهار ، هو إيقاع نفس الإجهار دون القصد إليه والاختيار ، كما لا يخفى على مَنْ جاس خلال الديار ، ضرورة مغايرة الشي‌ء للقصد إليه ، فلا يتصوّر نسبة الاستحباب اليه عند أُولي الأفكار. ولو تعلّق الاستحباب بالقصد لجاز تعلّق الشي‌ء بغير ما علّق به من غير ذكره ، وهو محالٌ بلا إنكار.

نعم ، إنّ المراد بذلك الاستحباب كون الجهر أفضل الفردين للواجب المخيّر فيهما ؛ لِتَأدّي الواجب بكلّ منهما ، لا الاستحباب بالمعنى المتعارف لِتَأَدّي الواجب في ضمنه ، فلا يكون مستحبّاً ، وكونه كيفيّةً له ، فلا يكون واجباً استقلاليّاً بصحيح الأنظار ، مع أنّ استحباب القصد والاختيار فرعُ استحباب المقصود والمختار ، فاعتبروا يا أُولي الأبصار.

احتجّ الآخرون بأنّ قراءة البسملة واجبة ، والجهر صفة من صفاتها وهي تابعة لموصوفها ، فيلزمها من وجوب البسملة وجوب الصفة جهراً أو إخفاتاً ، فلا يكون الجهر مستحبّاً.

والجواب : أنّا إذا فسّرنا الاستحباب بجعله أفضل الواجبين المخيّر فيهما ، لا يلزمنا

__________________

(١) التهذيب ٢ : ٨٢ / ٣٠٤.

٤١٦

ذلك ولا تحصل المنافاة في ما هنالك ؛ لعدم التنافي بين الاستحباب العيني الخصوصي والوجوب التخييري ؛ لاختلاف الحكمين باختلاف الاعتبارين ، مع أنّ فعله لو كان واجباً لم يجز تركه ، وإلّا لخرج الواجب عن وجوبه وليس مشترك الورود ؛ لجواز ترك المخيّر إلى بدله.

فإنْ أرادوا هذا المعنى فمرحباً بالوفاق ، وإلّا فهو ضعيف كضعف ما قيل من أنّ التخيير إنّما يتمّ لو قيل بتباين الصفتين ، لا بأنّ الإخفات جزء الجهر ؛ لأنّ الجهر وإنْ حصل به إسماع النفس مع الغير لكنّه يحصل دفعة ، فيتخيّر بين إسماع النفس وحدها وإسماعها مع غيرها. وبهذا اتّضح فجر الحال وزال غَيْهب الإشكال ، والله العاصم العالم بحقائق الأحوال ، ومنه التسديد في الأفعال والأقوال.

فيا أيّها الخائض في بحار التحصيل ، والمقتفي أثر ما يقتضيه الدليل ، انظر إلى ما قيل لا إلى مَنْ قال ، واعرف الرجال بالحقّ ، لا الحقّ بالرجال.

وقد استتمّ تحرير هذه الرقوم ، واستتبّ تحبير هذه الرسوم ، باليوم الثاني عشر من شهر رجب الأصبّ الأصمّ الأغرّ لسنة ١٢٧٤ الرابعة والسبعين بعد المائتين والألف من الهجرة النبويّة ، على مهاجرها وآله أفضل الصلاة والتحيّة ، بقلم مؤلّفها المتعطّش لفيض ربِّه السيحاني : أحمد بن صالح بن طعّان البحراني ، جعل الله خير يوميه غده ، ورزقه من العيش أرغده ، وأيّده وسدّده وأرشده ، والمأمولُ ممّن يقف عليها أنْ ينظرها بعين الحقّ والإنصات والإنصاف ، وأنْ يتنكّب طريق التعنّت والاعتساف ، وأنْ يسدل ذيل العفو على ما يجده من الهفو ، فإنّ الخطأ والنسيان كالجبلّة الثانية للإنسان ، والحمد لله ربِّ العالمين ، وصلّى الله على محمّد وآله الطاهرين.

٤١٧
٤١٨

فهرس

مقدمة التحقيق........................................................... ٧

الحقّ الواضح في أحوال العبد الصالح..................................... ٣٣

مقدّمة المؤلّف............................................................... ٣٥

وفاة المترجم................................................................. ٣٦

تشييعه ودفنه................................................................ ٣٧

مأتمه....................................................................... ٣٨

مولده ومبدأ اشتغاله......................................................... ٣٩

سفره إلى النجف الأشرف................................................... ٣٩

رجوعه إلى البحرين.......................................................... ٤٠

نزوله في القطيف............................................................ ٤١

تلامذته ودراسة المترجِم على يده.............................................. ٤٢

ذهابه إلى البحرين في بعض الأشهر............................................ ٤٣

مؤلّفاته..................................................................... ٤٤

شعره...................................................................... ٤٨

خلاصة القول............................................................... ٤٩

المراثي...................................................................... ٥٠

٤١٩

مصادر التحقيق :........................................................... ٥٩

علم الكلام............................................................. ٦١

الرسالة الاولى : العقل وأقسام............................................ ٦٣

العقل لغة................................................................... ٦٦

العقل اصطلاحاً............................................................. ٦٦

الأوّل : العقل الهيولاني....................................................... ٦٦

الثاني : النفس الناطقة الإنسانية............................................... ٦٧

الثالث : القوّة التي بها يُدرِكُ الإنسانُ الخيرَ والشرّ................................ ٦٧

الرابع : القوّة الدّاعية لاختيار الخير والمنافع ، واجتناب الشرور والمضارّ............. ٦٧

الخامس : القوّةُ التي يستعملها النّاس في نظام معاشهم ومعادِهم.................... ٦٨

السادس : العقلُ بالمَلَكَةِ...................................................... ٦٨

السابع : العقلُ بالفعل........................................................ ٦٩

مدّة دوام العقل.............................................................. ٦٩

ثمرة عقول الكفّار والفجّار.................................................... ٧٠

منشأ دهاء الدهاة............................................................ ٧٥

مراتب عقل المؤمن........................................................... ٧٧

الزيادة والنقصان في العقل.................................................... ٧٨

ممّا قاله السائلُ المستطاب ، في مدحِ هذا الجواب................................. ٨١

الرسالة الثانية : مسألة في إبطال الدور المتوهّم في إثبات الإمامة من الكتاب... ٨٣

الرسالة الثالثة : مسألة في الشفاعة......................................... ٨٧

الإيراد الأوّل من السائل وردّه................................................. ٩٣

الإيراد الثاني من السائل وردّه................................................. ٩٥

٤٢٠