الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

الشيخ محمد تقي فلسفي

الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي فلسفي


المحقق: فاضل الحسيني الميلاني
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94553-6-1
ISBN الدورة:
964-94553-6-1

الصفحات: ٤٠٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

فرويد في معالجة الأمراض الروحية ، واتخاذهم أساليبه في التحليل النفسي . . . يصرحون بأن هذه الطريقة وحدها ليست مجدية . ويجب ألا تنحصر معالجة الأمراض النفسية فيها . . .

« إن كثيراً من العلاجات النفسية تكون ذات منظار ضيق ، وحتى التحليل النفساني الذي يؤدي إلى نتائج مرضية في كثير من الأحيان نجده يحصر بحثه على الغرائز فقط . هذه الطريقة توجه همها إلى أن ترضي الغرائز بصورة إتباع مبدأ اللذة . وهذا المبدأ لا يعني بالجانب الأخلاقي ولا يتحدث عن الهدف الأصلي للشخصية وعلاقاتها الخيرة والشريرة عند تفاعلها بالتكافؤ الإِجتماعي ولهذا السبب فلو غضضنا الطرف عن الفشل الذي يلاقيه التحليل النفساني بالنسبة إلى حرية بعض الرغبات والميول المتطرفة ، فإن العلاج النفسي الصحيح يجب أن يكون له هدف أسمى هو رفع شخصية الفرد ـ بعد ملاحظة أسس الشخصية ـ وتحقيق الرفاه للفرد والمجتمع على السواء . . . » (١) .

وبالرغم من أن نظرية فرويد لم تحصل على تأييد كثيرين من العلماء في العصر الحديث ، لإِفراطها بشأن الغريزة . . . فإن الكثير من الغربيين يقرون ( مبدأ اللذة ) بالنسبة إلى تحقيق السعادة البشرية . إن أساس البحث حول تحقيق السعادة في الدول الأوروبية والأمريكية يدور على العمل لحياة أفضل وعيشة ترفل بالاستفادة من اللذائذ . . . ولهذا فأن قسماً كبيراً من الجهود البشرية في العالم المتمدن قد خصص لجلب اللذائذ ، وإن الفضائل المعنوية والمثل العليا قد فقدت أهميتها بالنسبة إلى أكثر الناس حتى يذهب بعضهم إلى أنهم في غنىً عنها :

« ومنذ حل الخلق النفعي مكان الخلق الديني والنفسي ، فأن الفضيلة لا تعتبر أمراً ضرورياً في نظر المتمدنين ، بحيث يرى ( رومن ) أنه

____________________

(١) چه مدانم ؟ أمراض روحي وعصبي ص ٧٢ .

٤١

لا داعي لنا أصلاً لأن نكون أتقياء ، وإن اختيار الفضيلة سينحصر في علاقتها بالنفع واللذة الفرديين فقط . . . » (١) .

هذا الأُسلوب من التفكير بعد خطأ فظيعاً من المدنية الحديثة ، وهو أعدى أعداء الإِنسانية وقيمها ومثلها الرفيعة . . . وعلى أثر اللامبالاة تجاه الإِيمان والفضائل المعنوية ، فإن عالم الغرب تنتشر فيه الجرائم يوماً فيوماً والشبان ينجرفون إلى هوة سحيقة من التردي والتحلل والفساد وإن الإِحصائيات السنوية في الدول الأوروبية والأمريكية لتدل على ازدياد السرقة والخيانة ، والإِغتيال والإِنتحار إلى غير ذلك من أنواع الجرائم . وإن من المؤسف أن لا تكون بلادنا معدومة النصيب في هذه المشاكل والجرائم . وهنا يستطيع كل فرد أن يدرك أن المجتمع الذي يتمثل الهدف الأسمى من حياة أفراده في اللذائذ المادية ولا تزيد الفضائل فيه على أنها تعتبر في عداد الأوهام والخيالات ، فإن الفساد والتفسخ يسرعان كالسيل الجارف إلى غزو أُولئك الأفراد ويهددان حياتهم المادية والمعنوية بالفناء والدمار .

مبدأ الواقع :

إن الإِسلام يبني أساس لسعادة البشرية على مبدأ الواقع أو الفطرة . . . إنه ينظر إلى الإِنسان بنظرة السماء الدقيقة ويؤسس سعادته على فطرته الواقعية وجبلته التي جُبل عليها . . . إنه ينظر إلى اللإِنسان من جميع جوانبه المادية والمعنوية ، الروحية والجسدية ، ويحسب لكل جانب حسابه الخاص .

ومن هنا يظهر أن الذين كانوا يبحثون عن السعادة البشرية في الكمالات الروحية ومحق الغرائز الجسدية وكبتها ، وقعوا في خطأ فادح فقد أهملوا حق نصف من وجود الإِنسان .

وكذلك الذين يرون اليوم إنحصار سعادة البشر في تقويم الإِقتصاد أو اللذة والشهوة وإهمال الجانب المعنوي فيه . فانهم خاطئون جداً .

____________________

(١) راه ورسم زندكي للدكتور الكسيس كارل ترجمة پرويز دبيري ص ٧٩ .

٤٢

إن الإِنسان يتكون من جسد وروح ، وعليه فهناك نوعان من الرغبات في داخله : الرغبات المادية والميول المعنوية. فمن أخل برغبة من الرغبات الفطرية عند الإِنسان ، فإنه يخل بالعادة الإِنسانية بنسبة ما أهمل من رغباته. إن السعادة البشرية شأنها شأن شجرة باسقة تحمل آلاف الأغصان ، فبعضها يرتبط بالجانب المعنوي والروحي من الإِنسان ، وبعضها يرتبط بالجانب المادي منه ، والسعادة الحقيقية إنما تكون لمن تظله هذه الشجرة الطيبة بجميع غصونها وفروعها ، وتحيا فيه جميع الرغبات الظاهرية والباطنية .

إن التعاليم الإِسلامية تستند إلى الفطرة . . . الفطرة المودعة من قبل الله في خلق كل فرد ، والتي لا تتغير ولا تتبدل أصلاً :

( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ، فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ، لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ، ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

فالإِسلام هو الدين القيم . . . والمنهج الرصين الذي يماشي قانون الفطرة والخلقة . ولهذا فإن النجاح الأكيد سيكون للإِسلام ، وإنه سينتصر على المذاهب والمبادىء الأُخرى بحكم الجبرية التاريخية شاء أعداؤه أم أبوا :

( هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ) (٢) .

حجر الأساس في السعادة :

ولكي نثبت نظرة الإِسلام الشاملة إلى الميول الفطرية عند الإِنسان ـ ماديها ومعنويها ـ في ما يخص السعادة البشرية نلفت أذهانكم إلى النقاط التالية :

الايمان والأخلاق :

إن الإِيمان بالله ، وتزكية النفس وتطهيرها من الجرائم والآثام ، والمواظبة

____________________

(١) سورة الروم ؛ الآية : ٣٠ .

(٢) سورة التوبة ؛ الآية : ٣٣ .

٤٣

على التحلي بالفضائل الإِنسانية تشكل حجر الأساس في بناء سعادة البشر ، وتعد من المناهج المهمة التي يتخذها الإِسلام في هذا المجال .

وقد وردت في ذلك مئات الآيات والأحاديث .

يقسم الله تعالى في سورة العصر . بأن جميع الناس من أي عنصر كانوا ، وفي أي زمان عاشوا مبتلون بالخسران والبؤس ، إلا الذين أحرزوا بعض الصفات ، أولها الإِيمان بالله :

( وَالْعَصْرِ ، إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا ... ) (١) وفي سورة الشمس يقسم بالشمس والقمر ، والليل والنهار ، والسماء والذي بناها ، والأرض والذي بسطها ، والنفس الإِنسانية والله الذي وازن بين عناصرها . وألهمها الخير والشر . . .

( ... قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا ) (٢) .

قسماً بكل هذه الآيات الإِلهية على أن السعادة والفلاح إنما يكونان لمن طهر نفسه من الآثام ونزَّه روحه عن الجرائم . وإن الشقاء والخيبة إنما تكونان لمن تلوَّث بالآثام والجرائم .

يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « عنوان صحيفة المؤمن ، حسن خلقه » (٣) .

إن الآيات الكثيرة الواردة في القرآن حول السماء والأرض والأشجار والحيوانات ، والنطفة والجنين . . . إلى غير ذلك من مختلف جوانب الوجود ، كلها تهدف إلى أن يوجِّه الإِنسان نظره إلى الخالق الكبير فيشتد إيمانه بالله العظيم . وإن الآيات الواردة بشأن الملكات الفاضلة والمثل العليا أو التي تذكر الصفات الرذيلة وتفصل القول في ذمها ، إنما نزلت لدعوة الناس إلى اكتساب الفضائل واجتناب الرذائل ، ولذلك فإن الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يبيّن الواجب

____________________

(١) سورة العصر ؛ الآية : ٢ .

(٢) سورة الشمس ؛ الآية : ٩ .

(٣) سفينة البحار ص ٤١٠ مادة ( خلق ) .

٤٤

الذي بُعث من أجله فيقول : « بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق » (٣) .

إن كل مسلم يعلم جيداً إهتمام الإِسلام البالغ بالروح والكمال والأخلاق لكن من الواضح لكل مسلم أيضاً أن الروح والكمال والأخلاق ليست هي الكل في الكل بالنسبة إلى سعادة الإِنسان في الإِسلام ، إن الإِسلام لا يحصر إتباعه في حلقة من المعنويات فقط ، بل أنه حين يدعوهم إلى تكميل الجانب الروحي يعني تمام العناية بالجانب المادي فيهم ولذائذهم الطبيعية . ولأجل أن نتبيَّن موقف الإِسلام الصريح في هذا الموضوع علينا أن نتحدث عن رأي القرآن والحديث في المبدأ الإِقتصادي ومبدأ اللذة ـ وهما المبدأن المتداولان في العالم المتمدن اليوم ـ .

لا شك في أن النشاط الاقتصادي واستغلال الجهود البشرية للانتفاع من الذخائر الطبيعية ، لهو من أقوم الإِرشادات الدينية . وقد وردت بهذا الصدد نصوص كثيرة . إن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليه‌السلام يقدرون النشاط الإِقتصادي كثيراً ، وهو يبلغ درجة قد يبدو الحث عليه فيها غريباً . ولأجل معرفة قيمة الإِقتصاد في الإِسلام نورد هنا بعض النصوص :

الجهد البشري :

١ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « طلب الحلال فريضة على كل مسلم ومسلمة » (١) .

فالسعي وراء المال الحلال لضمان المعيشة واستمرار الحياة واجب على كل فرد من المسلمين .

٢ ـ وقال أيضاً : « من أكل كد يده كان يوم القيامة في عداد الأنبياء ، ويأخذ ثواب الأنبياء » (٢) .

____________________

(١) المصدر نفسه .

(٢) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج ٢٣ / ٦ .

(٣) المصدر السابق .

٤٥

وفي هذا الحديث يقارن بين من يكد ليحصل على قوت يومه ، والنبي الذي يكد لأحياء الناس .

٣ ـ وفي الحديث : « الكاد على عياله ، كالمجاهد في سبيل الله » (١) .

فهذا يجاهد لدفع الضرر المادي عن المسلمين ، وذاك يكافح لدفع الضرر المعنوي ، ودفع الضررين كليهما مطلوب .

٤ ـ وسئل الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أي كسب الرجل أطيب ؟ فقال : عمل الرجل بيده » (٢) .

٥ ـ كما ورد في الأُسلوب الذي كان يعيشه الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام :  « كان لما يفرغ من الجهاد يتفرَّغ لتعليم الناس والقضاء بينهم ، فإذا فرغ من ذلك إشتغل في حائط له يعمل فيه بيديه وهو مع ذلك ذاكرٌ الله تعالى . . . » (٣) .

٦ ـ عن عبد الله بن عباس : « كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا نظر إلى الرجل فأعجبه ، قال : هل له حرفة ؟ فإن قالوا : لا ، قال : سقط من عيني » (٤) .

استغلال القوى الطبيعية :

وبعد أن أوردنا بعض الأحاديث حول الحث على الجهد البشري والانتفاع منه في شتى المجالات ، لنسرد بعض النصوص الواردة بشأن استغلال القوى الطبيعية والإِستفادة منها :

١ ـ في الحديث : « إن قامت الساعة ، وفي يد أحدكم الفسيلة ، فإن استطاع أن لا تقوم الساعة حتى يغرسها فليغرسها » (٥) . فمن خلال هذا

____________________

(١) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٢ / ٤٢٤ .

(٢) المصدر السابق ج ٢ / ٤١٧ .

(٣) المصدر السابق ج ٢ / ٤١٧ . والحائط : البستان .

(٤) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٢٣ / ٦ .

(٥) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٢ / ٥٠١ .

٤٦

الحديث ندرك مدى اهتمام الإِسلام بتشغيل القوى العاملة لاستغلال كنوز الأرض والاستفادة من خيراتها وعدم التماهل بشأنها ، حتى أنه ليحث الإِنسان على أن يبادر إلى غرس الفسيلة ، ( أو أي جهد إنتاجي آخر ) وإن علم بأن القيامة ستقوم بعد لحظات .

٢ ـ قال الإِمام علي عليه‌السلام : « نعم المال النخل ، من باعها فلم يخلف مكانها فإن ثمنها بمنزلة رماد على رأس شاهقة أشتدت بها الريح في يوم عاصف » . ولا يخفى أن ذكر النخل ليس محصوراً فيه ، وإنما عبَّر به الإِمام لأن النخيل أكثر انتشاراً من غيرها من الأشجار في الجزيرة العربية فتراه ينهي عن بيع النخل من دون أن يكون قد زرع نخلاً في مكان آخر يستفيد منها في المستقبل .

٣ ـ وفي حديث عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من مسلم يغرس غرساً أو يزرع زرعاً ، فيأكل منه إنسان أو طير أو بهيمة ، إلا كانت له به صدقة » .

٤ ـ يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « من وجد ماء وتراباً ثم افتقر ، أبعده الله » (١) .

فهنا نجده عليه‌السلام يندد بالذي يملك المواد الأولية للزراعة وهي الماء والتربة . وتتوفّر له الظروف الصالحة فلا يستغلها ويبقى فقيراً ، فانه يستحق غضب الله ولعنته .

وهكذا نجد الإِسلام يهتم بأمر العمل والإِنتاج وتشغيل دولاب الإِقتصاد الوطني إلى درجة لا تسمح بالتكاسل والتواني حتى في أحرج الظروف وأتعس الأوقات . فنجد الإِمام الصادق عليه‌السلام يقول لهشام : « يا هشام إن رأيت الصفين قد التقيا ، فلا تدع طلب الرزق في ذلك اليوم » (٢) .

وبالرغم من هذا الحث الشديد وهذا الإِهتمام البالغ بشأن الاقتصاد

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ / ١٩ .

(٢) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة ج ١٢ / ١٤ .

٤٧

والتأكيد على العمل لتقويمه وتقويته في الإِسلام ، فإنه لا يعتبر الكل في الكل بالنسبة إلى تحقيق السعادة الإِنسانية ، ولا يعطى أكثر مما يستحقه .

إن النشاط الإِقتصادي وتشغيل القوى والجهود البشرية لاستغلال الذخائر الطبيعية ليس إلا فرعاً من فروع شجرة السعادة في الإِسلام . . . نعم لا بد لنا أن نعترف بأنه فرع مهم وحيوي في تلك الشجرة . إلا أن الذين يعتبرون الاقتصاد هو الأساس في السعادة ، فإن اعتبارهم هذا يكشف عن عدم معرفتهم بحقيقة الإِنسان . ولذلك فهم ينزلونه ـ بنظرتهم هذه ـ عن مقامه الرفيع إلى مستوى آلة صماء أو حيوان فاقد الشعور .

الرهبانية :

كان يظن كثير من الناس والفلاسفة في الماضي ـ ولا يزال الكثر منهم يظن ـ بأن الطريق إلى السعادة البشرية ينحصر في كبت الغرائز الحيوانية ، وإطفاء الميول الجنسية . وكانت هذه العقيدة حتى زمن قريب شائعة جداً في أوروبا وأمريكا . فقد وجد في العالم المسيحي نساء ورجال كثيرون يترهبون باسم الدين ويتركون الدنيا وملاذها ، ويعرضون عن قانون الخلقة المتقن ومنهج الفطرة السليمة أي الزواج الصحيح . وكان وقع هذا الترهب حسناً جداً في نفوس المسيحين . . . ظالين أنهم يتمكنون بهذا العمل أن يتخلصوا من قيود الحيوانية ويصلوا إلى الإِنسانية الحقيقية فيصبحوا كملائكة السماء في الطهارة والروحانية والتجرد :

« كان أكثر الفلاسفة وعلماء الأخلاق قبل فرويد ينبذون الغرائز ، أي أنهم كانوا يصرحون أحياناً ويلمحون أُخرى بأنها عوامل تجر الإِنسان إلى الخصائص الحيوانية وكانوا يؤكدون على أن التمدن الصحيح لا يمكن أن يتحقق في المجتمع إلا بالصراع العنيف مع تلك الغرائز التي كانوا يعتبرونها ( أرواحاً حيوانية ) . وبعبارة أُخرى فأن هؤلاء المفكرين كانوا يقولون بأن هذه الغرائز تمنع البشرية من التكامل ، ولو كان يمكن أن تفقد من المجتمع بالمرة ، كان من

٤٨

السهل إيجاد حياة إجتماعية متكافئة ومتزنة » (١) .

إن الغرائز الحيوانية والميول الجنسية تلعب دوراً مهماً في كيان الإِنسان ووجوده . فإن الله خلق البشر مع هذه الغرائز . وكل ما أودعه الله الحكيم في خلق الإِنسان فلا بد وأن يكون لمصلحة معينة .

الاستجابة للغريزة الجنسية :

إن الإِسلام العظيم الذي لم يغفل جانباً من جوانب الحياة ، ولم يغمط الحقائق الفطرية المؤثرة في سعادة البشر حقها . . . ليوصي المسلمين بالاستجابة للغريزة الجنسية وممارسة ميولهم الغريزية حسب منهج سليم ، ولذلك فإنَّه يعتبر الإِمتناع عن الزوج عملاً غير مرغوب فيه . ويرى أن العزاب يشكلون خطراً مهماً على سلامة المجتمع ، فالرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : « شرار أمتي عزابها » (٢) .

ومن خلال سيرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تجاه العازفين عن الزواج في المدينة ندرك مدى إهتمام الإِسلام بهذه الناحية ، فقد كان هناك رجل يسمى ( عكاف ) قد أعرض عن الزواج ، وقد حضر مجلس الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مرة فسأله النبي عن إمكانياته وظروفه المالية والبدنية ، فأجاب بالإِيجاب فقال له النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حينذاك بكل صراحة : « تزوج وإلا فأنت من المذنبين » (٣) .

إن الترهب والإِعراض عن الدنيا يعتبر عملاً حسناً ومرغوباً فيه من الوجهة الدينية في عالم الغرب بينما القضية على عكس ذلك تماماً في الإِسلام فالإِعراض عن الزواج في نظره لا يعد سيئة فحسب ، بل يعتبر إعراضاً عن طريق الفطرة المستقيم وانحرافاً عن سنة الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فهو يقول : « النكاح سنتي فمن رغب عن سنتي فليس مني » .

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٥٠ .

(٢) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٢ / ٥٣١ .

(٣) المصدر السابق .

٤٩

ومع أن الحث على الزواج والتأكيد على إرضاء النوازع الفطرية قد ورد بصورة كثيرة في القرآن الكريم والرويات العديدة ، فإن الشهوة لم تعرف أصلاً ثابتاً للسعادة ، بل يعتبرها الإِسلام فرعاً من فروع شجرة السعادة لا غير .

السعي وراء اللذة :

يدعي ( فرويد ) أن الشهوة الجنسية تظهر في الإِنسان بصور مختلفة واللذة عبارة عن الإِستجابة للميول الجنسية في مظاهرها المختلفة وصورها المتباينة . ويدعي آخرون : إن هناك ميولاً مستقلة ، وغرائز أُخرى غير الغريزة الجنسية . وعليه فيجب الإِستجابة لجميع تلك النوازع والغرائز . . . وعلى أي حال فالأمر الذي لا خلاف فيه ، هو أن الإِنسان يشعر بارتياح شديد عندما يستجيب لميوله . وهذا الشعور بالإِرتياح هو الذي يعبّر عنه باللذة ، والذي يبعث الحرارة والحيوية في المجتمعات البشرية ويهيج فيهم عواطفهم . ولذلك فأن المجتمعات الحديثة تعتبر جلب اللذة أسمىٰ الأهداف التي تهضهم في نفسها قسطاً كبيراً من نشاط العالم المتمدن حتى ظن البعض أنهم لم يخلقوا إلا لممارسة نشاطهم الجنسي وتحقيق اللذة .

ومن المؤسف أن الطبيعة قد ركبت بصورة نجد فيها إمتزاجاً تاماً بين الآمال والآلام ، واللذة والألم . وهذا ما يوجب محدودية البشر في سلوكهم :

« أنه لا ينكر أن الإِستجابة للميول الغريزية توجب الشعور باللذة عند الإِنسان ، ولكن في الغالب تصطدم هذه الإِستجابة بآلام وليدة ظلم الطبيعة . إذن فالحياة حتى لو شابهت حياة الحيوانات في الحرية فأنها لا توجب السعادة ولهذا فإن الفلاسفة وعلماء الأخلاق يرجحون أن يصرفوا بحوثهم في إيجاد الأساليب التي تهدىء الآلام وترفع المصاعب عن طريق الحياة ، فنراهم قد وصلوا إلى هذه النتيجة ، وهي : أن كل ألم معلول لإِدراك معين ، وعليه فيجب السعي لإِزالة أو تخفيف العلل الروحية والبدنية التي تؤدي إلى ذلك الإِدراك ولذلك فإن أول علاج يجده الإِنسان في هذا السبيل

٥٠

هو استعمال المواد الكحولية والمخدرة الأُخرى » (١) .

وبالرغم من وجود المشاكل العديدة في طريق تحقيق اللذة . . . فإن البشر لا يقتنع ولا يقف عند حد في السعي وراء رغباته الغريزية .

إن الإِسلام لا يكتفي بالموافقة على الإِستجابة للرغبات الفطرية فحسب بل يعتبر ذلك من شؤون تحصيل السعادة البشرية . إلا أنه يحسب حساباً دقيقاً لذلك . فإن إرضاء الغرائز والإِستجابة لها مسموح في نظره إلى حيث لا يؤدي إلى الشقاء والفساد ، ولا يهودي بالمجتمع إلى هوة سحيقة من الإِجرام والدنس .

إن من المستحيل أن يحصل الفرد ـ في أي مجتمع كان ـ على حريته المطلقة في الإِستجابة لميوله وغزائزه . . . إذ بعد الفراغ من وجود الحواجز الطبيعية أمام ذلك . فإن الإِخلال بالنظام والأمن أو الحرية الإِجتماعية عامل قوي في إيقافه عند حده . ومن هنا نجد الإِسلام لا يكتفي بالمنع من بعض اللذات التي يمنع منها العالم المتحضِّر في القرن العشرين ، بل يستنكر أشد الاستنكار اللذات التي تهدم صرح الإِيمان والتقوى ، وتخالف الأسس الأخلاقية والإِنسانية . أما اللذات التي لا تؤدي إلى ضرر مادي أو معنوي كالزوجة الجميلة ، والطعام اللذيذ ، والملابس الأنيقة ، والدار الواسعة ، والمركب الحسن ، والرفاه في المال والمناظر الطبيعية الخلابة . . . وعشرات غيرها من الأمور التي تعد إرضاه للميول الغريزية بشكله المعقول فأن الإِسلام يعتبر ذلك جزء من منهجه القويم في تحقيق السعادة البشرية .

إرضاء الميول الغريزية :

وعلى سبيل المثال نستعرض بعض الشواهد من النصوص على ما ذهبنا إليه :

____________________

(١) مذكرات فرويد . وقد ترجمت إلى الفارسية تحت عنوان ( انديشه هاي فرويد ) ص ١٠٨ .

٥١

١ ـ قوله تعالى : ( يَا بَنِي آدَمَ ، خُذُوا زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ، وَكُلُوا ، وَاشْرَبُوا ، وَلَا تُسْرِفُوا ، إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ) (١) .

٢ ـ قوله تعالى : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ؟ ! ) (٢) .

٣ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل نساء أُمتي أصبحهن وجهاً وأقلّهن مهراً » (٣) .

٤ ـ عن النبي أيضاً صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « إن من سعادة المرء المسلم أن يشبهه ولده ، والمرأة الجملاء ذات دين ، والمركب الهني ، والمسكن الواسع » (٤) .

٥ ـ وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيضاً : « أربع من سعادة المرء : الخلفاء الصالحون ، والولد البار ، والمرأة المواتية ، وأن تكون معيشته في بلده » (٥) .

٦ ـ عن الإِمام الصادق عليه‌السلام « ثلاثة هي من السعادة : الزوجة المواتية ، والولد البار ، والرزق يرزق معيشته ، يغدو على صلاحها ويروح على عياله » (٦) .

٧ ـ وفي الحديث الشريف : « من سعادة المرء دابة يركبها في حوائجه ويقضي عليها حوائج إخوانه » (١).

٨ ـ وعن الإِمام الصادق عليه‌السلام : « من السعادة سعة المنزل » (٨) .

____________________

(١) سورة الأعراف ؛ الآية : ٣١ .

(٢) سورة الأعراف ؛ الآية : ٣٢ .

(٣) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ / ٥٥ .

(٤) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ / ٥١ .

(٥) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ / ٥٥ . ومعنى ( أن تكون معيشته في بلده ) أن يكون في رفاه إقتصادي فلا يضطرُّ للخروج إلى غير بلده للتكسب وطلب العيش .

(٦) بحار الأنوار ج٢٣ / ٥٠ . والمرأة المواتية : المطيعة .

(٧) مكارم الأخلاق للطبرسي ص ١٣٨ . والدابة إذا توسعنا في معناها وقسنا الظروف أمكن شمولها للسيارة مثلاً في عصرنا الحاضر .

(٨) مكارم الأخلاق ص ٦٥ .

٥٢

٩ ـ عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « من سعادة المرء : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والمركب البهي ، والولد الصالح » (١) .

تجاوز حدود الفطرة :

وهكذا يتبيّن لنا أن الإِسلام يعتبر إرضاء الميول الغريزية للبشر أمراً محبَّذاً ، ويهتم بذلك على أنه من فروع السعادة البشرية ، أما أن يعتبرها أصلاً في ذلك فلا ! . إذ أن الذي يغرق في الملاذ المادية ويحصر نفسه في سجن الشهوة والغرائز فقط يكون قد حاد عن الفطرة الإِنسانية السليمة التي تأبىٰ هذا النوع من الحياة . . . حياة البهائم . . . حياة الميوعة .

ومن هنا تأتي الكلمة القاطعة الصريحة للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « مَن لم يَرَ الله عزَّ وجل عليه نعمةً إلّا في مطعمٍ أو مشربٍ أو ملبسٍ ، فقد قصر عمله ودنىٰ عذابه » (٢) .

فالسعادة الحقة للبشر ـ في نظر المشرِّع الأعظم ـ هي في اكتمال جميع الجوانب المادية والمعنوية وإرضاء كل الميول الإِنسانية المشروعة وهكذا فمن يتخلى عن ميوله المادية بحجة الإِلتفات إلى الجهات المعنوية فهو مخطىء في نظر الإِسلام ، وكذلك من يتخلى عن كمالاته الروحية سعياً وراء إرواء ظمأ شهواته وغرائزه . يقول الإِمام الباقر عليه‌السلام : « ليس منا من ترك دنياه لآخرته ، ولا آخرته لدنياه » (٣) .

تعادل الروح والجسد :

إن حفظ التوازن بين الروح والجسد أهم عوامل النجاح والسعادة وأن أئمة الإِسلام عليه‌السلام كانوا إذا لاحظوا إفراطاً أو تفريطاً في سلوك أصحابهم في جانب

____________________

(١) مكارم الأخلاق ص ٦٥ . وفي هذا الحديث ( المركب البهي ) بينما كان في الحديث رقم (٤) : ( المركب الهني ) . والظاهر تقارب معنييهما . إذ الأول يدل على المركب الوقر اللائق بالراكب . والثاني يكتفي بذكر الارتياح به في ركوبه .

(٢) سفينة البحار مادة ( دنىٰ ) ص ٤٦٤ .

(٣) وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة للحر العاملي ج ٤ / ١٠٦ .

٥٣

مادي أو معنوي ، إهتموا بتعديل ذلك الإِنحراف وتسوية ذلك الخطأ .

كان في البصرة أخوان ، أحدهما : علاء بن زياد الحارثي. والآخر عاصم . وكانا كلاهما من المخلصين لعلي عليه‌السلام ، وكانا مختلفين في السلوك فعلاء مفرط في حبه للدنيا وجمعه للمال . . . أما عاصم فكان على العكس منه مدبراً ظهره للدنيا ، صارفاً جل وقته في العبادة وتحصيل الكمالات الروحية . وفي الواقع كانا كلاهما قد تجاوزا الطريق المستقيم ، وانحرفا عن الصراط السوي . . .

وذات يوم مرض ( علاء ) فذهب علي عليه‌السلاملعيادته ، وما أن استقر به الجلوس حتى التفت الإِمام إلى سعة عيشه وإفراطه في سعيه وراء المادة ، فخاطبه قائلاً : وماذا تصنع يا علاء بهذه السعة المفرطة من العيش ؟ إنك إلى تحصيل وسائل سعادتك المعنوية أحوج ، فاسعُ في ذلك الجانب أيضاً . . . ثم قال عليه‌السلام : اللهم إلَّا أن تكون عملت ذلك كله لتمهيد طريق السعادة المعنوية ، لتتمكن من استقبال أكبر عدد ممكن من الضيوف في بيتك. وتستطيع من صلة أرحامك وأداء حقوق إخوانك بأكمل وجه [ ملاحظة : لمعرفة نصّ الكلام يراجع نهج البلاغة ] .

لقد أثر هذا الدرس البليغ ـ بأسلوبه الهادء المتين ـ في ( علاء ) كثيراً ، وجاشت به العواطف للشكوى من تفريط أخيه فقال : « أشكو إليك عاصم بن زياد قال : وما له ؟ قال : لبس العباء وتخلى من الدنيا قال : علي به ! » .

وبعد أن أحضر عاصم بين يدي الإِمام وبخه قائلاً : « يا عُديَّ نفسه (١) ، لقد إستهام بك الخبيث ، أما رحمت أهلك وولدك ؟ أترى الله أحل لك الطيبات ، وهو يكره أن تأخذها ؟ أنت أهون على الله من ذلك . . . » .

من خلال سرد هذه الحادثة التاريخية يتضح مدى إستقامة المنهج الإِسلامي الذي نطق به الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام ، وهو يعبِّر عن نظرة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وحكم الله عز وجل . . . لكن بقيت في نفس عاصم بن زياد مشكلة لم

____________________

(١) عُديّ : تصغير عدو .

٥٤

يجد لها حلاً ، وهي كيفية التوفيق بين كلام الإِمام عليه‌السلام وعمله ، حيث قد زهد في الدنيا وترك الملاذ ، فجاشت عواطفه وما أسرع أن قال :

« . . . يا أمير المؤمنين : هذا أنت في خشونة ملبسك ، وجشوبة مأكلك ؟ ! قال : إني لست كأنت . . . إن الله فرض على أئمة الحق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس ؛ كي لا يتبيغ بالفقير فقره . . » (١) .

هذه هي خلاصة سريعة لعرض الآراء المختلفة ـ قديمها وحديثها ـ حول تحقيق سعادة الإِنسان وقياسها بتعاليم الإِسلام العظيمة وحلوله الشافية . . .

على أن من الضروري أن نعلم : إن الأسس الأولى لسعادة الإِنسان إنما تخطط في رحم الأم . وإن التحقيقات العلمية الدقيقة أثبتت : إن لعالم الرحم دوراً مهماً في تقرير سعادة الإِنسان أو شقائه . ولهذا فسنحاول أن نتكلم بشيء من التفصيل عن هذا الدور في المحاضرة القادمة إن شاء الله .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد ج ١١ / ٣٢ ، طبعة دار الإِحياء . وقوله ( يتبيغ ) أي يهيج به . كما يقال : ( تبيغ الدم بصاحبه ) أي : هاج به .

٥٥

المحاضرة الثالثة

السعادة والشقاء في رحم الأم

قال الله تعالى في كتابه العظيم : ( رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ، إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا ) (١) .

يتطلب هذا البحث دقة وتعمقاً من الجهتين : العلمية والدينية . وللتمهيد إلى صلب الموضوع لا بد من توضيح بعض الأمور التي تتعلق بالبحث . هذا ولا يغيب عن البال أن الإِكتشافات العلمية الحديثة ساعدت على فهم بعض الآيات والروايات كثيراً . ومن تلك الموارد موضوعنا اليوم ، حيث نأمل أن نتمكن من الإِستفادة من التجارب العلمية الحديثة للوصول إلى أسرار بعض الآيات ، ونكات بعض الروايات المتعلقة بالموضوع ، والآن لنبدأ بذكر المقدمات :

معنى السعادة والشقاء :

إن أول نقطة يجب فهمها من الروايات والأحاديث في موضوع السعادة والشقاء وعلاقتهما برحم الأم ، هو فهم معنى السعادة والشقاء .

____________________

(١) سورة نوح ؛الآية : ٢٦ .

٥٦

السعادة : حسن الحظ . ويشمل كل ألوان الخير والراحة والرفاه والبركة . . .

والشقاء : سوء الحظ . ويشمل جميع صنوف الشر والقلق والضيق والشدة . . .

ومن هنا يظهر شمول كلتا الكلمتين وإتساع دائرتيهما لكثير من المعاني ولكن كثيراً من الناس ينتقلون من لفظة ( الشقاء ) إلى معنى فقدان الإِيمان والمعصية فقط . فالشقي عندهم هو المنغمس في الجرائم والمعاصي ، في حين أن الجريمة إحدى مراتب الشقاء فقط . وهناك كثير من الأمور لا تعد ذنوباً أو معاصي في عرف الشرع لكنها ـ مع ذلك ـ توجب الشقاء للإِنسان . كما تصرح بذلك بعض الروايات ، نكتفي بنقل واحدة منها :

قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أربع من السعادة وأربع من الشقاوة . فالأربع التي من السعادة : المرأة الصالحة ، والمسكن الواسع ، والجار الصالح ، والمركب البهي . والأربع التي من الشقاوة : الجار السوء ، والمرأة السوء ، والمسكن الضيق ، والمركب السوء » (١) .

وبالرغم من أن المسكن الضيق والمركب السوء ليسا من الأمور التي توجب للإِنسان معصية أو جريمة . فأننا نجد الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يعدهما من أسباب شقاء الإِنسان . وإذا كان المركب السوء والمسكن الضيق من شقاوة الرجل فيمكن إعتبار العمى والجنون منها بطريق أولى ، فإذا خُلق الطفل أعمىٰ في بطن أمه ، أو ولد مجنوناً لجنون في أبيه أو حمق في أمه . . . فيمكن القول بأنه كان شقياً في رحم أُمه .

قانون الوراثة :

أدرك الإِنسان منذ أمد بعيد ، أن الموجود الحي ينقل كثيراً من الصفات والخصائص إلى الأجيال التي تليه ، فالجيل اللاحق يكتسب صفات الجيل

____________________

(١) مكارم الأخلاق ص ٦٥ .

٥٧

السابق . فبذرة الزهرة تحفظ في نفسها خصائص الساق والورقة والزهرة والألوان الطبيعية لها ، وبعد الانبات تأخذ بإظهار تلك الخصائص واحدة تلو الأُخرى .

إن بذرة المشمش تشتمل على جميع الصفات المائزة للشجرة التي وجدت منها ، فعندما تزرع هذه البذرة ، وتنبت ، وتأخذ بالنمو تظهر تلك الصفات تدريجياً . وهكذا فالقطة الصغيرة تشبه أبويها في هيكلها وشعرها ومخالبها . وترث صفات أسلافها . وكذلك الطفل الأفريقي فهو يشبه أبويه في سواد البشرة وتجعد الشعر ، ووضع الأنف ولون العيون في حين أن الطفل الأوروبي يرث المميزات التي يختص بها العنصر الذي ينتمي إليه أبواه في لون البشرة والعيون والشعر ووضع الأنف وما شاكل ذلك .

وبصورة موجزة نقول : إن قانون الوراثة من القوانين المهمة في حياة الموجودات الحية . وهذا القانون هو الذي يكفل للنبات والحيوان والإِنسان بقاء صورها النوعية الخاصة بها . . . وعلى هذا الأساس يكتسب الأبناء صفات الآباء من دون حاجة إلى أي نشاط إرادي منهم .

عامل الوراثة :

حققت العلوم التجريبية إنتصارات رائعة في مختلف مظاهر الطبيعة . وبذلك كشفت اللثام عن كثير من الحقائق التي كانت مجهولة لدى السابقين ولقد ساير ( علم الأجنة ) و ( البحث عن الخلية ) التقدم العلمي في المجالات  « الأُخرى في تكامله وتوسعه يوماً بعد يوم .

لقد إستطاع العلماء أن يفحصوا الموجودات الصغيرة بواسطة أجهزة قوية ومكرسكوبات ( مجاهر ) دقيقة ، توصلوا أخيراً إلى أن منشأ ظهور الموجود الحي هو وحدة صغيرة جداً تسمى ( الخلية ) ، وهذه تتكامل تحت شروط معيَّنة ، وتظهر بصورة حشرة أو حيوان أو إنسان . إن إكتشاف هذا السر الدفين عقدّ قانون الوراثة أكثر ، وأدى إلى توسع البحوث فيه والتساؤل عن أسرار هذه الخلية وكيفية تأثير عوامل الوراثة فيها وأين تكمن ؟ .

« لقد صرف علماء الحياة وقتاً كثيراً خلف الميكرسكوبات في

٥٨

البحث عن أسرار الخلية . فإن المسألة كانت محاطة بمشاكل عديدة . فهم كانوا يواجهون الخلية من جهة وكيف أن هذا العضو المادي يحتفظ بخواصه الفيزياوية والكيمياوية ، ومن جهة أُخرى كانوا يصطدمون بقوانين الوراثة التي أخذت تتضح حسب معادلات رياضية دقيقة تبعاً لقانون ( مندل ) » .

« فأين يكمن عامل الوراثة ؟ وفي أي جزء من الخلية ؟ وعلى أي الأعضاء يقع عبء هذه الظاهرة ؟ أي جزء من ( البروتوبلازم ) وأي جانب من ( النواة ) يجعل الطفل يرث شكل أنف أمه وعيني أبيه ، والصفة الفلانية من أجدادة ؟! » (١) .

وبعد الجهود العظيمة والتتبع الدقيق توصل العلماء إلى أن في الخلية ( نواة ) بيضية الشكل ذات جدار مرن ، توجد في داخلها أجسام صغيرة تظهر عند إنقسام الخلية ، ولقد أسموها بـ ( الكروموسومات ).

« ولقد توصل كثير من علماء الحياة إلى معرفة أعدادها وأثبتوا أن كل خلية من خلايا جسم الإِنسان تحوي ٤٨ كروموسوماً ، وخلية الفأرة ٤٠ ، والذبابة ١٢ ، والحمص ١٢ ، والطماطم ٢٤ ، والنحلة ٣٢ . . ألخ » (٢) .

ولقد خطأ العلماء في تحقيقاتهم العلمية في هذا المضمار خطوة أُخرى ، فتوصلوا إلى أن في ( الكروموسومات ) أجساماً صغيرة جداً أطلقوا عليها إسم

____________________

(١) تاريخ علوم ص ٧٠٧ ، تأليف پي ييروسو ترجمة حسن صفاري وهو كتاب قيم طبع سنة ١٩٥٤ م للمرة الخامسة والستين باللغة الفرنسية عدا الترجمات إلى اللغات الأُخرى .

(٢) المصدر نفسه . وهنا يلاحظ أن عدد هذه الكروموسومات زوجي في كل خلية ، فكروموسومات خلية الإِنسان ٢٤ زوجاً ، والفأرة ٢٠ زوجاً ، والذبابة ٦ أزواج ، وهكذا . . . فهذه تنقسم عند تكوين الخلايا التناسلية في الأحياء إلى قسمين لكي لا يتعاظم عددها بل يبقى ثابتاً في كل نوع . لأن بقاءها على حالها يؤدي إلى تضاعف عددها لاجتماع الخلايا الذكرية والأنثية ، وهكذا تزداد في كل مرة إلا أن انقسامها يجعل عددها ثابتاً . وهذا الانقسام يسمى بالانقسام الخيطي .

٥٩

( الجينات ) ، وأثبتوا أن هذه الأجسام هي الناقلة للصفات الوراثية في الحقيقة . فالجينات هي التي تؤثر في انتقال صفات الشعر والبشرة ووضع الأنف والشفتين وغير ذلك من الصفات من الآباء والأُمهات إلى الأولاد .

« لقد أثبت علم الوراثة الحديث ، أن الصفات الوراثية تنتقل بواسطة الكروموسومات وتتوزع توزيعاً خاصاً في الخلايا التناسلية وعليه فأن لهذه الكروموسومات أجزاء صغيرة جداً يبلغ عددها العشرات والمئات تسمى بـ ( الجينات ) وهي تكون العوامل الوراثية . لقد توصلوا إلى وضع هذه الجينات في نوع من الذباب اسمه ( دروزوفيل ) وعيّنوا مراكز تلك الجينات بالنسبة إلى الكروموسومات وعرفوا أبعادها . . . » (١) .

 « إن الصفات الوراثية ترتبط بعوامل معينة تسمى بـ ( الجينات ) ، وإن عددها كثير جداً . هذا ولا تخلو الجينات من تأثير على بعضها البعض . فقد يرتبط تأثير واحد بعدة جينات بمعنى أن كلا منها ينقل جزء معيناً من تلك الخواص والصفات . . . » (٢) .

الوراثة قبل تطورها :

لم تكن البشرية تجهل قانون الوراثة تماماً فيما مضىٰ ، بل كانوا يجهلون خصوصياتها . إن علماء الماضي كانوا يعلمون أن في بذرة الزهرة ونواة الشجرة ونطفة الإِنسان والحيوان ذخائر تنقل صفات الأجيال السالفة للأجيال اللاحقة .

إن ما إكتشفه علماء الوراثة اليوم ، وتوصلوا إليه بأبحاثهم الدقيقة من وجود موجودات صغيرة داخل الكروموسومات تنقل الصفات الوراثية والتي أسموها ( الجينات ) ليس أمراً جديداً كل الجدة . فالرسول الأعظم والأئمة الطاهرون عليه‌السلام ، الذين كانوا يكشفون الحقائق بنور الوحي والإِلهام لم يغفلوا

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بنياد أنواع ص ٦٩ .

(٢) چه ميدانيم ؟ سرطان ص ٤٢ .

٦٠