الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

الشيخ محمد تقي فلسفي

الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي فلسفي


المحقق: فاضل الحسيني الميلاني
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94553-6-1
ISBN الدورة:
964-94553-6-1

الصفحات: ٤٠٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

من المسؤولين والمسيطرين على زمام الحكم . في دولة كهذه يكون طريق التكامل والتعالي مفتوحاً أمام جميع الناس ، وباستطاعة كل فرد أن يعمل لسعادته بارتياح وإطمئنان ، ويستفيد من نتائجها المهمة .

أما الدولة التي يسيطر عليها الإِستبداد والتعنت ، ولا يحترم فيها القانون والعدالة أصلاً ويفقد الحق والإِنصاف معناهما فيها . . . فلا حرية هناك . بل يسود سماء الأمة قلق واضطراب ويفقد الأفراد هدوءهم ، يقضون ليلهم ونهارهم في الخوف أو يكونون عبيداً لا إرادة لهم قبال أسيادهم ، وفي كل لحظة يمكن أن يسيء الحاكم إلى شخص أو أشخاص من أفراده ويحمل كالحيوان المفترس عليهم ويهجم على كرامتهم ووجودهم بلا قيد أو شرط . . . فينهي بذلك حياتهم .

الحياة في دولة كهذه لا تعني إلا الشقاء والحرمان ، وهناك يستحيل على الأفراد الوصول إلى الكمال اللائق بهم كبشر ، وينغلق الطريق أمامهم نحو السعادة . . في مثل هذه الدولة يحترم الأفراد حاكميهم بدافع من الخوف والأمن من الضرر ، ويطيعون أوامرهم صوناً لدمائهم . . . ولكنهم في الواقع يصبون سيل اللعنات عليهم .

الانقياد بسبب الخوف :

إن نظرة الإِسلام إلى هؤلاء الحكام الظالمين . . إلى هؤلاء الثلة الحقيرة التي تحكم الناس بقوة الحديد والنار . . نظرة ملؤها الريبة والإِحتقار ويعرفهم بأنهم أحقر الناس وشرهم في مقام الحكم الإِلٰهي .

عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « شر الناس يوم القيامة الذين يكرمون إتقاء شرهم » (١) .

كما ورد عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في حديث آخر : « ويل لمن تزكيه الناس مخافة شره ، ويل لمن أطيع مخافة جوره ، ويل لمن أكرم مخافة شره » (٢) .

____________________

(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ ص ٣٢٧ .

(٢) مجموعة ورام ج ٢ ص ١١٥ .

٣٨١

وفي حديث ثالث : « ألا إن شرار أُمتي : الذين يكرَمون مخافة شرهم ، ألا من أكرمه الناس إتقاء شره فليس مني » (٢) .

الانقياد في ظل الحرية :

في ظل الحرية والعدالة ، تكون إطاعة الناس للقوانين والأنظمة ناشئة من الشعور بالواجب ، والميل للحصول على السعادة إما في الحكومة الإِستبدادية والتي تساس بالعنف والقسوة ، فإن منشأ إطاعة الناس للأنظمة هو غريزة حفظ الذات ، لأنهم يعلمون أنهم عند إرتكابهم أبسط مخالفة فسيكون عقابهم عليها شديداً جداً :

« يكون أفراد الشعب عبيداً للحاكم في الحكومات الإِستبدادية ، ولا يكون لأحد إمتياز على الآخرين ، إن الحاكم المستبد لا يلتزم بأية قاعدة أو قانون فإرادته وشهواته فوق القانون والأنظمة ، إنه يحاول أن يمحو الآخرين من صفحة الوجود » (٢) .

« تتطلب طبيعة الحكومة في النظام الإِستبدادي نوعاً من الإِطاعة اللامحدودة . ولا يوجد في هذه الحكومات ما يتعرض للأوامر الصادرة من تغيير ، أو إمهال ، أو موعد أو بدلية ، أو مفاوضات ، أو إنتقادات ، أو وساطة »

« في هذه الحكومات يعد الإِنسان مخلوقاً خاضعاً لإِرادة مخلوق آخر . ويجب أن لا يحتمل إظهار القلق أو الاضطراب من وقوع بعض الحوادث الفجائية » .

« يعيش الإِنسان في ظل الحكومة الإِستبدادية كالحيوانات لا نصيب له بغير الغريزة الطبيعية والإِطاعة والعقاب » (٣) .

____________________

(١) سفينة البحار للقمي ص ٦٩٥ .

(٢) روح القوانين لمونتسكيو ص ٣٢ .

(٣) المصدر السابق ص ٣٣ .

٣٨٢

« رد الحكومة الإِستبدادية على قاعدة الخوف ، وفي الأمم الجبانة والجاهلة والمندحرة لا ضرورة للقوانين الكثيرة فكل شيء هناك يقوم على فكر شخصين أو ثلاثة . وعليه فلا حاجة للأفكار الجديدة ، ذلك أنكم عندما تقومون بتربية حيوان تلاحظون فقط أن لا يأخذ الحيوانَ منكم أحد ، وان يعرف صاحبه ولا يغير سلوكه » .

« عندما كان شارل الثاني عشر في مدينة ( بندر ) لا حظ أن خلافاً نشب تجاهه في مجلس الشيوخ السويدي ، فكتب إلى المجلس : إنه سيرسل إحدى جزمتيه لتحكم عليهم » (١) .

إن أوطأ الأمم وأشقى الناس ، هم المحرومون من نعمة العدالة والقانون والحرية والفضيلة . . . إن الحياة في جو الإِضطهاد والاضطراب والتعنت والقسوة ، أوطأ وأحط من حياة حيوان بكثير ، بلا شك . . .

العدالة في الأسرة :

يحكم الآباء في الدولة الصغيرة للأسرة أفراد أُسرهم بأساليب مختلفة فبعض الآباء العقلاء والمؤمنين يطيعون الأوامر الإِلهية والأسس العقلية يديرون شؤون الأسرة حسب العدالة والإِنصاف والإِحترام للحق والفضيلة فأعضاء هذه الأسرة يعيشون في ظل الأمن والهدوء الفكري ، وكل منهم يؤدي واجباته بكل سرور وإرتياح أملاً في الحصول على السعادة في غد ، وتشع أشعة الحنان والحب في جميع زوايا ذلك البيت وتلك الأسرة .

وعلى العكس من ذلك : فهناك من الآباء الجاهلين والمنحرفين من لا يتقيد بالواجبات الدينية ولا يطيع الأنظمة العلمية والعقلية ، ولأجل أن يكون الحاكم المطلق في جو الأسرة وتنفذ أوامره بلا استفسار أو إنتقاد ، يتوسل بالإِستبداد والتعنت ويثبت قدرته ويفرض إرادته بالفحش والعربدة والكلمات الركيكة ، ويعامل زوجته وأطفاله معاملة أشد من معاملة الحيوانات فيذيقهم

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٤٧

٣٨٣

الأمّرين من السوط والعصا والتعذيب والضرب والتجويع ، محولاً جو الأسرة إلى سجن رهيب لا يطاق ! .

. . . حين ينعكس صوته الغليظ في محيط البيت يفر الأطفال الأبرياء بوجوه شاحبة إلى هنا وهناك ، وترتعد فرائصهم كنعاج هجم عليها الذئب ثم يلجأون إلى الفراش بأرواح ملؤها العُقَد والتأزمات ، وحين يستيقظون في الصباح ويتذكرون أباهم المجنون وتصرفاته البذيئة يسيطر عليهم الجزع والإِنكماش حتى كأنهم لا حراك بهم .

نتيجة الاستبداد :

في أسرة كهذه تنعدم السعادة ، ولا يوجد الهدوء الفكري وإطمئنان الخاطر ، حيث يسيطر الخوف والقلق على جميع أنحاء البيت ، ويرى أعضاء الأسرة أنفسهم معرضين في كل لحظة لخطر التعذيب والقسوة ـ في هذه الأسر لا تقف آثار الاستبداد السيئة عند حد إيقاف الرشد المعنوي للأطفال فقط ، بل تمنع أبدانهم عن الرشد الطبيعي من جراء الاضطراب والقسوة .

هؤلاء الآباء يجرون على أنفسهم وعوائلهم والمجتمع الذي يربي الأطفال له نتائج وخيمة لا تنجبر . . . هؤلاء مسؤولون ـ طبق الموازين الإِسلامية ـ أمام كل ضربة أو كلمة بذيئة صادرة منهم تجاه عوائلهم . . . وإذا كانت طاعة الزوجة والأولاد معلولة للخوف من الشدة والقسوة والظلم ، فإن هؤلاء الآباء مشمولون للأحاديث السابقة التي ترى إن من يطاع خشية شره لهو شر الناس .

على هؤلاء الآباء أن يحكموا وجدانهم ، وأن يكرهوا لغيرهم ما يكرهونه لأنفسهم ـ فكما أنهم ـ أنفسهم ـ ينفرون من الحياة في ظل الإِستبداد والتعنت ، والظلم ، والقسوة عليهم أن لا يرضوا ذلك لعوائلهم ، ولا يعاملوا أزواجهم وأطفالهم معاملة الأسرى المحكوم عليهم بالإِعدام ! .

٢ ـ الخوف من العقاب :

لا شك في ضرورة الأنظمة والقوانين لكل دولة لإِيجاد النظام والضبط

٣٨٤

والمنع من الفوضى والمخالفات . . . ولا بد من معاقبة الخارجين على تلك الأنظمة لضمان حسن تنفيذها ، فالخوف من العقاب هو الذي يحث الناس على الإِطاعة . والنكتة الجديرة بالملاحظة إنه لا حساب ولا مقياس للعقاب في الحكومة الإِستبدادية ، فمن الممكن أن يؤدي إستياء بسيط للحاكم إلى إعدام مئات الناس الأبرياء هناك ليس العقاب على أساس الإِجرام أو الأحكام القضائية . بل الموضوع يقوم على طبق هوى النفس والميل الشخصي للحاكم . أما في حكومة العدالة والقانون ، حيث تحدد صلاحيات الحكام وأبناء الشعب حسب الأنظمة العادلة ، فلا مجال للأهواء والميول الشخصية للحكام في الأحكام الصادرة . . . هناك لا يخاف احد من شخص معين ، غاية ما هناك أن الشخص الذي يرتكب جرماً يعاقب على أسس قضائية صحيحة وعادلة متناسبة مع جريمته .

وبعبارة أُخرى : إن منشأ الخوف عند الناس في الحكومة الإِستبدادية هو الظلم والتعسف والإِضطهاد ، أما في حكومة العدل والقانون فإن منشأ الخوف هو الجرم الذي ارتكبه الإِنسان واستحق العقاب عليه .

الاسلام والأمن :

إن أحسن وأرقى الحكومات العالمية المعاصرة هي الحكومة التي تسيطر على القوانين العادلة على جميع شؤونها ، ويعيش جميع أفراد تلك الدولة ـ من أي طبقة أو منزلة كانوا ـ آمنين في ظل العدالة والقانون بأرواح ملؤها الرفاه والسعادة والهدوء .

ولقد عمل قائد الإِسلام العظيم ، قبل أربعة عشر قرناً ، على إرساء قواعد النظام الإِجتماعي في حكومته على هذا الأساس ، فقد منح العدل الأمن الروحي والهدوء النفسي لجميع الناس ، وزال الخوف والاضطراب اللذين كانا يحكمان العصر الجاهلي من جراء إستبداد الحكام واضطهادهم فأصبح الفرد المسلم يخاف من ذنبه فقط . ولأجل أن يتجلى هذا الدور الذي يسلكه الإِسلام في ضمان الأمن والهدوء للمجتمع نبسّط بعض الشيء مسألة الخوف .

٣٨٥

هناك حافزان للخوف في تطبيق الواجبات الدينية من قبل كل فرد مسلم : ( الأول ) : الخوف من الله والجزاء الأخروي . ( والآخر ) : الخوف من الحكومة والعقاب الدنيوي . . . وفي كلا الموردين يكون منشأ الخوف هو الذنب الذي ارتكبه الإِنسان نفسه .

أ ـ الخوف من الله :

على كل فرد مسلم أن يطمئن إلى رحمة الله الواسعة ، خائفاً من عقابه . ولكن الخوف من الخالق الرحيم والعادل لا يكون كالخوف من حاكم مستبد ظالم . إن الحاكم المستبد يستند في قدرته إلى التعسف وأما في الحريم الإِلٰهي المقدس فلا يتصور الظلم والجور . إن الله يعاقب المذنب على أساس الحق والعدل ، والخوف من الله يعني الخوف من العقاب على الذنب لا أكثر . ولهذا فقد ورد التعبير في القرآن الكريم عن خوف الناس بنسبته إلى المقام الإِلهي ، فقال تعالى ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) (١) وقال أيضاً : ( وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ . . . ) (٢) . إن ( مقام الله ) هو علمه بإجرام المجرمين ، وقدرته على مجازاة المذنب وحماية المظلوم بالإِنتقام له من الظالم . . . وبصورة موجزة فإن ( مقام الله ) هو إقامة الحق والعدل فالذي يخاف من مقام الله لا يحوم حول الذنب .

« عن أبي عبد الله عليه‌السلام في قول الله عز وجل : ( وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ ) قال : من علم أن الله يراه ، ويسمع ما يقول ، ويعلم ما يعلمه من خير وشر ، فيحجزه ذلك عن القبيح من الأعمال ، فذلك الذي خاف مقام ربه ، ونهى النفس عن الهوى » (٢) .

إن مقام المدعي العام في الحكومات القانونية هو مقام عقاب الجاني ومجازاة القاتل . . المدعي العام هو الذي يجر المجرم إلى المحكمة ويلزمه

____________________

(١) سورة الرحمن ؛ الآية : ٤٦ .

(٢) سورة النازعات ؛ الآية : ٤٠ .

(٣) تفسير البرهان ؛ ص : ١٠٧١ .

٣٨٦

بالإِدانة . إن مقام المدعي العام هو إقامة العدالة والقانون ، فمن يهرق دماً باطلاً يخاف من مقام الإِدعاء العام ولكن هذا الخوف ناشىء من جنايته هو . . .

« إن علياً عليه‌السلام قال لرجل ـ وهو يوصيه ـ : خذ مني خمساً : لا يرجونّ أحدكم إلا ربه ، ولا يخاف إلا ذنبه » (١) .

ب ـ الخوف من الحكومة :

الخوف من الحكومة في الإِسلام يعني : الخوف من العقاب القانوني فقط . إن فرداً مسلماً لا يخاف من رئيس الدولة أو الهيئة الحاكمة أصلاً ، ولا ينبغي أن يخاف منه ، ذلك أنه ليس للحاكم الحق في إضطهاد أحد أو أخذه بالباطل ، فالهيئة الحاكمة في الإِسلام لا تمتاز على باقي أفراد الأمة في شيء غير ثقل عبء المسؤولية أمام الله تعالى . فعلى المسؤولين مضافاً إلى تطبيق الحق والعدالة أن يعاملوا الناس بالعطف والمحبة ، وإحترام الأُسس الأخلاقية . وفي هذا يكتب الإِمام علي عليه‌السلام إلى مالك الأشتر في العهد الشهير :

« فا ملك هواك ، وشحَّ بنفسك عما لا يحل لك ، فإن الشح بالنفس : الإِنصاف منها فيما أحبت وكرهت . وأشعر قلبك الرحمة للرعبة والمحبة لهم واللطف بهم ، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم » (٢) .

إن الحكام المستبدين والمتزمتين هم عبيد أهوائهم ورغباتهم اللامشروعة أما الحكام العدول فهم مخالفون لأهوائهم ويتبعون الإِنصاف والفضيلة ويحبون الخير والصلاح للرعية .

النبي العطوف :

كان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جاداً تماماً في مقام تنفيذ القوانين وعقاب المجرمين ولهذا فقد كان الناس يخافون من إرتكاب الجرائم ، ولكنه في المعاشرات

____________________

(١) بحار الأنوار ج ١٧ ص ١٠٥ .

(٢) نهج البلاغة ص ٤٧٥ .

٣٨٧

الإِجتماعية كان أباً عطوفاً ، لا يخافه أحد وإذا صادف أن أحداً كانت تأخذه الهيبة من محادثته ، فإنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحطم ذلك الشعور في نفس المخاطب . « عن ابن مسعود ، قال : أتى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم رجل يكلمه فارعد . فقال : هوّن عليك فلست بملك » (١) .

لقد كانت صلات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع المسلمين لينة هادئة إلى درجة أن بعض الأشخاص كانوا يتمازحون معه بالمزاح الذي يصعب قبوله من قبل الأفراد العاديين . نهى عليه‌السلام أبا هريرة عن مزاح العرب فسرق نعل النبي ورهنه بالتمر ، وجلس بحذائه يأكل . . . فقال عليه‌السلام يا أبا هريرة ما تأكل ؟ فقال : نعل رسول الله » (٢) .

أي حاكم يجرأ على ممازحته فرد عادي ، فيرهن حذاءه عند بقال لقاء شيء من التمر ؟ لقد عد الله هذه الفضيلة الخلقية للرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من مراتب رحمته وعنايته : « فبما رحمة من الله لنت لهم . . . » .

لقد كان شديد التأكيد على صفاء قلبه بالنسبة إلى أصحابه إلى درجة أنه قال : « لا يبلغني أحد منكم عن أصحابي شيئاً ، فاني أُحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » (٣) .

الحكومة الحرة للامام علي عليه‌السلام :

أما الإِمام علي بن أبي طالب عليه‌السلام فهو أعظم تلميذ من تلامذة الإِسلام ، تعلم درس الحرية والإِنسانية من الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولذلك فقد كانت علاقاته مع الناس متصفة بالعطف والرحمة ، أما في مقام إقامة العدالة فكان صريحاً وجدياً . ومن هنا وصفه عدي بن حاتم في مجلس معاوية ضمن أحاديثه عنه عليه‌السلام فقال : « وكان فينا كأحدنا ، يجيبنا إذا سألناه ، ويدنينا إذا أتيناه ، ونحن مع تقريبه لنا وقربه منا ، لا نكلمه لهيبته ، ولا نرفع أعيننا إليه لعظمته .

____________________

(١) بحار الأنوار ج ٦ ص ١٥٢ .

(٢) المصدر السابق ج ٦ ص ١٦٦ .

(٣) المصدر نفسه ج ٦ ص ١٥٢ .

٣٨٨

فإن تبسم فعن اللؤلؤ المنظوم . . . يعظم أهل الدين ويتحبب إلى المساكين . . . لا يخاف القوي ظلمه ، ولا ييأس الضعيف من عدله » (١) .

خوف الطفل من الذنب :

في الدولة الصغيرة للأسرة يكون خوف أفراد الأسرة على قسمين : فبعضهم يخاف من الذنب ، والبعض الآخر يخاف من الأب . عندما يكون الخوف من الذنب موجوداً فإن المخاوف الباطلة الواهية تنعدم ، وهنا يكون المهد الصحيح للتربية . وتتفتح أزهار الشعور بالمسؤولية في نفوس الأطفال واحدة بعد الأخرى ، ويتعود الصغار على الإِستقامة منذ البداية . إن أعضاء هذه الأسرة يطمئنون إلى أنهم إذا لم يتجاوزوا على حقوق الآخرين ولم يتلوثوا بالذنب والإِنحراف ، فال ينالهم شيء بل يكونون مقربين عند الأبوين تماماً .

في مثل هذه الظروف يكون الأب في محيط الأسرة حائزاً على الشخصية والعطف معاً ، والأطفال يخافون من مؤاخذته الصحيحة والمنصفة فلا يمارسون الذنوب ولا ينحرفون .

« ويجب على الذي يقوم بإجراء العقوبة أن يعتقد ببعض القواعد ويستمع إلى نداء الوجدان ، ولا يحكم بدافع التعصب . وعليه ـ في نفس الوقت ـ أن يكون حميداً في سلوكه وعطوفاً ، لا بأن يظهر ضعفه وحقارته ، بل يكون ذا شفقة عامة وإنسانية تظهر في حدود القوانين المحدودة والقابلة للإِحترام الإِجتماعي والدولي » (٢) .

« إن المربي سيتظاهر بأنه سوف لا يعاقب ، بل أنه يجري قوانين العدالة كموظف مختص مجبر على ذلك ، وسيفهم الطفل هذه النكتة بصورة حسنة . ولما كان التوبيخ ذا جانب عاطفي تماماً هنا فيجب أن لا يخرج عن حدود الإِنسانية ، وبهذا تكون عقوبة كهذه

____________________

(١) سفينة البحار مادة ( عدا ) ص ١٧٠ .

(٢) جه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص ٩٣ .

٣٨٩

غير إنحيازية » (١) .

خوف الطفل من الأب :

عندما يكون الخوف من الأب السيء الخلق والقاسي ، الأب الذي يتحجج ويتعنت ، الأب الذي يفحش في القول ويضرب أبناءه بلا سبب فيجازي أبسط الزلات بأكبر العقوبات ، الأب الذي يثأر لاتعابه الخارجية فينتقم من أطفاله الأبرياء ، والذي يحل عقدة الفشل التجاري أو الإِداري أو الإِجتماعي عنده بإيذائهم . . ففي الأسرة التي يحكمها مثل هذا الأب لا تحترم الأمانة والإِستقامة ، ولا تعرف الفضيلة والأخلاق ، إنما المهم في نظر الأطفال إرضاء أبيهم المستبد ، وإتقاء شره ! .

إن العصر الحديث يخطىء من الناحية العلمية والتربوية ، طريقة ضرب الأطفال وإيذائهم بغية التأديب ، ويكاد يمنع الضرب في جميع الدول الحية فيحذر الآباء والأمهات في البيت ، والمعلمون في المدرسة ، عن ضرب الأطفال بصورة أكيدة .

قد يتصور البعض إن هذه النظرية مبتكرة في عصرنا الحاضر ، وإن الإِنتباه إلى أهمية هذا الموضوع حصل في العصر الحديث فقط . بينما نرى من الضروري أن نرفع هذا الوهم عن أذهان أولئك ونقول بصراحة : إن الإِسلام سبقهم إلى ذلك . . فعلاوة على الروايات في المنع من ضرب الأطفال ؛ أفتى الفقهاء المسلمون في القرون الماضية بحرمة ذلك في رسائلهم العملية التي تعد المناهج اليومية لعمل المسلمين .

« قال بعضهم : شكوت إلى أبي الحسن عليه‌السلامإبناً لي ، فقال : لا تضربه واهجره . . . ولا « تطل » (٢) .

____________________

(١) المصدر السابق ص ٩٥ .

(٢) بحار الأنوار للمجلسي ج ٢٣ ص ١١٤ . ومعنى الهجر : إظهار عدم الرضا بأعماله وعدم الإِعتناء إليه .

٣٩٠

ففي هذا الحديث نجد أن الإِمام يمنع من ضرب الطفل بصراحة ، مستفيداً من العقوبة العاطفية بدلاً من العقوبة البدنية . فالأب هو الملجأ الوحيد للطفل ومعقد آماله ، وإن هجره للولد أكبر عقوبة روحية ومعنوية انه عليه‌السلام يطلب من الوالد ان يهجر الولد ولكنه سرعان ما يوصيه بعدم طول مدة الهجرة ، ذلك أنه إذا كان لهجر الوالد أثر عميق في روح الطفل فإن طول مدته يبعث على تحطيم روحيته وإذا كان أثر هذا الهجر ضعيفاً فإن شخصية الوالد ستصغر في نظر الطفل لطول مدة الهجر وسوف لا يكون لتألم الوالد أثر أصلاً .

« إن للعقوبات التي ترجح فيها الوسائل العاطفية والأخلاقية على الوسائل المادية تأثيراً كبيراً ، ففي مثل هذه العقوبات بدلاً من أن يحرم الطفل من الماديات يجب السعي للتأثير في قلبه ونفسه ووجدانه وعزته وغروره ، فإن لم ترتبط المحروميات المادية مع مشاعره وعواطفه فانها تفقد طابع العقوبة » (١) .

وفي هذا الصدد يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « إن العقل يتعظ بالأدب والبهائم لا تتعظ إلا بالضرب » (٢) .

دية اللطم والعقوبة البدنية :

وهنا لا بأس بذكر الفتوى المتعلقة بالبحث من الرسالة العلمية ( توضيح المسائل ) لآية الله الفقيد السيد حسن الطباطبائي البروجردي التي هي في متناول يد الجميع :

« مسألة ٢٨١٦ ـ إذا لطم على وجه أحد باليد أو بشيء آخر فاحمر وجهه ، فديته مثقال ونصف من الذهب ( كل مثقال ١٨ حبة ) وإن اخضر لونه فثلاثة مثاقيل وإن أسود لونه فستة مثاقيل ، ولئن تغير لون سائر البدن على أثر الضرب ، فاحمرّ أو اخضرّ أو إسودّ ، فديته نصف ما ذكر » .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص ٩٤ .

(٢) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ١٠٨ طبعة النجف الأشرف .

٣٩١

« مسألة ٢٨٢٠ ـ إذا ارتكب الصبي إحدى المعاصي الكبيرة جاز للولي أو المعلم ضربه بمقدار التأديب ما لم يصل حد الدية » .

« مسألة ٢٨٢١ ـ إذا ضرب صبياً إلى حد وجوب الدية كانت الدية للصبي ، فلو مات الصبي فعلى الضارب أن يدفع ديته إلى ورثته ولو ضرب الوالد ولده حتى مات كانت ديته لسائر الورثة ، وليس له شيء من الدية » .

يستفاد من هذه الأحكام الدينية الثلاثة أنه لا يجوز ضرب الطفل فإذا ضرب أحد الوالدين أو المعلم طفلاً على وجهه وسبب تغير لونه فعليه أن يدفع ديته ، وعند ارتكاب الطفل إحدى المعاصي يجوز ضربه بحيث لا يصل حد وجوب الدية .

إن الآباء والأمهات الذين يضربون أبناءهم إلى حد وجوب الدية مدينون إليهم بقيمة الدية . فأما عليهم أن يرضوهم أو يحصلوا على العفو منهم . وكذلك حكم المعلمين الذين يضربون تلامذتهم .

جزاء الوالد السيء الخلق :

على الآباء المسلمين الذين لا يفحشون في المنزل ، ولا يصدر منهم أذىً ولا يضربون أزواجهم وأطفالهم . . . ولكنهم سيئون الخلق معهم أن يدققوا في هذا الحديث :

كان ( سعد بن معاذ ) أحد صحابة الرسول الأعظم المحترمين . وعند وفاته مشى النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنفسه في جنازته ، حتى إنه حملها على كتفه عدة مرات ، وحفر القبر بنفسه ، وشق له اللحد ودفنه فيه . . . فلما وجدت أم سعد ذلك غبطته على تلك المنزلة فقالت :

يا سعد هنيئاً لك الجنة . فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يا أم سعد ، مه لا تجزمي على ربك ، فإن سعداً قد أصابته ضمة . . . (١) .

____________________

(١) الضمة : الضغط والعصر ، ويقصد عصرة القبر . فقد ورد في الروايات أن سوء الخلق مع العيال يوجب الضيق في القبر .

٣٩٢

وعندما سئل عن سبب ذلك ، قال : إنه كان في خلقه مع أهله سوء .

٣ ـ الدوام في ظل العدل :

إن بقاء عمارة مؤسسة من مئات الأطنان من الحديد والجص والصخر مرتبط بالتوازن والتعادل الكائن بين ركائزها ، وعدم خروج اعمدتها وجدرانها عن حدود الهندسة التي أنشئت على أساسها .

فإذا كانت العمارة منشأة منذ البداية على أساس غير موزون وبلا مقياس صحيح ، أو أن العوامل المختلفة أدت إلى اختلال توازنها فلا تكون قابلة للبقاء والاستمرار ، وسيؤول أمرها إلى التهدم والخراب . . . فما أكثر العمارت التي لا زالت تحتفظ بمتانتها وقوتها بالرغم من مرور السنين الطوال على إنشائها ، وذلك لمحافظتها على التعادل الهندسي المنشأة على أساسه ، ولكن ما أسرع أن تتهدم العمارة عندما لا تؤسس على توازن صحيح أو تفقد توازنها فيما بعد .

إن كل دولة تشبه عمارة ضخمة ، متكونة من ملايين الأفراد ويجب أن تقوم على أساس التوازن والتعادل.

فالدول التي تدار بالقانون والعدالة ، وتكون الحدود كلها مرسومة بين الطبقات المختلفة على أساس الحق والإِنصاف ، يعيش أفرادها في هدوء فكري وإطمئنان تام ، فلا يستغل الحكام سلطانهم لاضطهاد الناس . . . هذه الدول تستمر ثابتة وقوية محتفظة بحياتها الوطنية على الرغم من مر القرون وفي هذا يقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « العدل جُنة واقية ، وجنة باقية » (١) .

الحكام الجائرون :

أما في الحكومة الجائرة التي يحرم فيها الأفراد من نعمة القانون والعدالة والحق والفضيلة . . . فالحكام يفرضون إرادتهم بإراقة الدماء والتجاوز على حقوق الآخرين ، واضطهاد الشعب وإيذائهم . ولذلك فالمواطنون يسكتون

____________________

(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ١٧ ص ٤٧ .

٣٩٣

خوفاً ، ولا ينطقون بحديث عن السلطة الحاكمة ولكنهم لا يملكون هدوءاً روحياً ، فالقلوب تمتلىء بالغيظ والحقد ، وينتظرون الفرصة المناسبة التي يثورون فيها وينتقمون من حكامهم.

والحكام أنفسهم قلقون دائماً ، خائفون على مناصبهم .

في مثل هذه الدولة يتمادى الحكام في الظلم والقسوة ، وكل ظلم يصدر منهم يولد إثارة جديد في الرأي العام . فإن إعترض المواطنون على حكامهم لقيامهم باعتداء ، جنحوا لاسكاتهم إلى إعتداء جديد ، وهكذا كلما يتقدمون خطوة يضطهدون أكثر ، حفظاً على مقامهم وشوكتهم وكلما يزداد الإِضطهاد تشتد العداوة والفجوة بينهم وبين أبناء الشعب وتتراكم الأحقاد إلى أن يحين اليوم الذي تنفجر العقد وتلتهب نتائجها الوخيمة عن نار لا تبقي للظالمين ولا تذر . وفي ذلك يقول الصادق عليه‌السلام « من زرع العداوة حصد ما بذر » (١) .

بنو أمية واعتداءاتهم :

إنَّ تاريخ بني أمية وجرائمهم أصدق شاهد على ما ذكر . فقد قام يزيد لتثبيت قدرته وتحكيم أساس حكومته بقتل الإِمام الحسين عليه‌السلام ، وإحداث فاجعة كربلاء بذلك الوضع المزري الذي بعث على الاشمئزاز في جميع أرجاء الدولة الإِسلامية ، وقام الناس في المدينة طالبين عزل ( يزيد ) عن الخلافة بكل صراحة . فكان رد الفعل منه أن أقدم على جريمة جديدة فولغ في دماء أهل المدينة وأعراضهم بواسطة الجيش الجرار الذي بعث به من الشام ففعلوا ما فعلوا مما يندى له جبين الإِنسانية .

يذكر لنا المؤرخون أن أحد الجنود الشاميين دخل إلى بيت امرأة قريبة عهد بوضع حملها حيث كانت ترقد في فراش الإِستراحة ، فطلب منها مالاً فأقسمت المرأة التي كانت قد فقدت كل وجودها في غارة أهل الشام على المدينة بأنها لا تملك شيئاً ، ثم خاطبت وليدها قائلة والله لو كنت أملك من حطام الدنيا شيئاً لافتديت به عنك ، وحقنت به دمك ، وهنا وجم الجندي

____________________

(١) الكافي لثقة الإِسلام الكليني ج ٢ ص ٣٠٢ .

٣٩٤

القاسي البعيد عن الإِيمان إذ يئس من الحصول على المال ثم اختطف الطفل من أمه وهي ترضعه ، ورمى به إلى الجدار بشدة حيث تحطم مخه . . . (١) .

وانقشعت الغيوم عن إنفجار المسلمين ضد بني أمية وحكمهم ، وأثمرت بذور الحقد والعداوة التي زرعوها في قلوب الناس ، فصاروا ينتقمون منهم . وحينئذ لم يرحموا امرأة أو رجلاً ، شيخاً ، أو شاباً ، حتى أنهم بعد قتلهم لهم كانوا لا يدفنون جثث القتلى بل يتركونها في الخرائب طعمة للكلاب السائبة والطيور الجارحة .

بقاء الأسرة في ظل العدل :

عندما يحكم الآباء والأمهات في الدولة الصغيرة للأسرة بقوة الحق والفضيلة ، وعلى أساس العقل والعدالة فإن تلك الأسرة تبقى قوية ونشيطة على مدى الأجيال ولا تستطيع القرون المتمادية أن تحطم تلك العائلة وتهدم بناءها ، ذلك أن الفضائل الخلقية والعدل والإِنصاف تضمن دوام تلك الأسرة .

وعلى العكس من ذلك فإن الآباء الذين يديرون الأسرة بالضغط والاضطهاد والتهديد ، وبدلاً من قيامهم بالتربية الصحيحة والعقلانية يعذبونهم ، فانهم يبذرون بذور العداوة في قلوبهم ، ويسقون أشجار البغض والحقد بأعمالهم الفاسدة ، فيهيئون بذلك وسائل الشقاء لأنفسهم ولأطفالهم فعندما يتحطم سد التهديد في يوم ما بموت الأب أو سفره أو عجزه ، فتنفجر العقدة النفسية للأطفال وتؤدي إلى سيل من الإِنتقام والثأر الذي يمكن أن يتضمن نتائج وخيمة .

« هناك آباء وأمهات مستبدون لا يتمالكون على أنفسهم من الإِساءة والضرب . وفي هذه الصورة لا تكون بعض العقوبات البدنية مضرة بمقدار ضرر بعض التشديدات بالنسبة إلى القلب . إن الحبس في غرفة ، أو النظر إلى الجدار من دون أن يجرأ على القيام بحركة

____________________

(١) تتمة المنتهى للشيخ عباس القمي ص ٦١ .

٣٩٥

صغيرة تحطم القابلية على التحمل عند الطفل » .

« هناك بعض الأولياء يصبون طعام الطفل في أناء يشبه أناء طعام الحيوانات : وحتى في بعض الأحيان يقوم هذا الأب أو الأم غير العاديين بتقديم الطعام إلى الطفل في وعاء القاذورات ، أو يبصق الأب في وجه الطفل أو يعريه في الشارع وأمثال ذلك مشاهدة بكثرة ! » .

« هؤلاء الأطفال تتحطم أعصابهم ، وتصبح أفعالهم خالية من التروي والتفكير ، وغالباً يؤدي بهم النفور نحو الإِنحراف وظهور ذلك في مظهر الجريمة ، ذلك أن هؤلاء الأطفال يريدون أن ينتقموا ممن يعذبهم بواسطة نوع من الإِنتحار الخلقي ، ولذلك فانهم لا يهتمون كثيراً بالترحم الذي يمكن أن يصيبهم ، كما أنهم لا يتأثرون بكل عقوبة » (١) .

فمن الضروري أن تكون إدارة الأسرة قائمة على العقل والدراية والإِنصاف والعدالة ، وفي هذا يقول الرسول الأعظم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « ما من بيت ليس فيه شيء من الحكمة ، إلا كان خراباً » (٢) .

٤ ـ تقسيم العمل والكفاءة :

يشبه المجتمع جسد الإِنسان إلى حد كبير ، فكما أن أعضاء الجسد الواحد تتقاسم الوظائف فيما بينها ، كذلك المجتمع ، إذ يجب أن تقسم فيه الواجبات بين الأفراد ، ويختص كل فرد بقسم معين منها .

إذا دققنا النظر وجدنا أن في بناء البدن تتناسب لياقة كل عضو مع الوظيفة المعهودة بها إليه ، فقد خلق الله تعالى أعضاء بدن الإِنسان حسب الوظائف التي يجب أن تقوم بها ، فمثلاً يقوم القلب بالعمل طيلة العمر وهو أنشط عضلات البدن من حيث الفعالية ، وقد خلقه الله تعالى قوياً متيناً يتناسب ذلك

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ تربيت أطفال دشوار ص ٣٠ .

(٢) تفسير مجمع البيان للشيخ الطبرسي ج ١ ص ٣٨٢ .

٣٩٦

مع ثقل العمل المفروض عليه . كذلك المجتمع فانه يجب أن يفوض كل عمل فيه إلى من توجد عنده الكفاءة والقابلية على القيام بواجبه . . . وهذا هو أهم المسائل الإِجتماعية في كل دولة وسر ترقي الناس وسعادتهم .

العمل في الدولة الاستبدادية :

إن الأعمال لا تقسم بين الناس في الدول الإِستبدادية حسب الكفاءات والقابليات ، وليس الوصول إلى المراكز الحساسة في تلك الدول منوطاً بالصلاحية والقابلية . . . فلا قيمة للخبرة والعلم هناك ، بل العامل الوحيد للتقدم هو إرضاء الحاكم والتقرب منه فحسب ! . إنه يستطيع تفويض أخطر الوظائف الحساسة في الدولة إلى أقل الأفراد كفاءة في ذلك المجال ، وهو الذي يقدر على حرمان أعظم الأفراد كفاءة من أبسط الأعمال الإِجتماعية ، وجرهم إلى أحط المنازل والمراتب .

على الناس في مثل هذه الدول أن يتعلموا درس التملق والمراء بدل إكتساب العلم والمعرفة . . . فمن كان أمهر في مدح الحكام والتزلف إليهم وكان أشد إخلاصاً لتنفيذ أوامرهم من غيره فهو الذي ينال الوظيفة المهمة والمقامات العظيمة .

وبديهي أن أسلوباً كهذا يجر وراءه سلسلة من الفساد والإِجرام والإِنحطاط والتأخر . ففي مجتمع كهذا تعطل كفاءات ثلة من العلماء والمحققين والخبراء من جهة . ويعجز المتربعون على زمام الحكم من الفاقدين للأهلية والقابلية عن إدارة شؤون الدولة بالشكل اللائق . . وتكون النتيجة أن يخطو المجتمع في كل يوم خطوة إلى الوراء ! ! ! .

العمل في الحكومة القانونية :

أما في ظل العدل والإِنصاف ، وتحت سماء الحرية والقانون . . . في الدولة التي تقسم فيها الأعمال حسب الكفاءات فيكون الجو الكامل للعلم والعمل ، والمحيط الصالح لتنمية الإِستعدادات الإِنسانية ، يملأ نور الأمل قلوب الكل ، ويكون طريق التقدم والترقي مفتوحاً أمام الجميع . هناك يكون

٣٩٧

الأفراد أحرار في الحصول على الكفاءات ، فمن يكون نتاجه أفضل ينال صلاحيات أوسع . هذه الدولة تكون من النظرة المادية والمعنوية مهداً للفضيلة ، ومنشأ للسعادة والراحة .

الأسرة والحرية :

تخضع نفسيات الأفراد في الأسرة إلى وضع حكومة الآباء . فالأب الذي يتحدث إلى أبنائه بلسان التهديد والعقاب فقط ويكون إطاعته له قائمة على أساس الخوف منه ، ينعدم حب التعالي والترقي من نفوس الأطفال ، ولا تظهر إستعدادتهم الخفية ولا يفكرون في تحصيل الكفاءات لأنفسهم . وبصورة أساسية فإن الأطفال في أمثال هذه الأسر لا يدركون أنفسهم ، ولا يلتفتون إلى وجودهم بين ظهراني المجتمع ، لأنهم لم يسمعوا كلاماً من رب الأسرة حول إظهار شخصياتهم ، إنه كان يتحدث معهم بلغة السوط والعصا فقط ! .

أما في الأسر التي تقوم على أساس التعالي النفسي وحب الكمال ، الأسر التي تهدف التربية فيها إلى إيجاد الكفاءة والفضيلة والصلاحية في نفوس الأفراد ، تنعدم لغة التهديد والعقوبة ، بل يستند المربي حينئذ إلى شخصية الأطفال ويستفيد من غريزة حبهم للكمال في تشجيعهم على العمل المثمر الحر .

إن الحديث الذي بدأنا به المحاضرة يستند إلى هذا الأساس . فالإِمام الحسن عليه‌السلام لم يتحدث عن نفسه مع أطفاله ولم يهددهم بقوته ، بل أشعرهم بأنهم صغار اليوم ، وربما كانوا كبار الغد ، وإن العظمة وذيوع الصيت في المجتمع يستلزم الكفاءة ، فأخذ يحثهم على التعلم وتحصيل المعرفة .

*  *  *

تجانس الدولة والأسرة :

من هذه النقاط التي تقدمت ندرك مدى التشابه بين جو الأسرة ومحيط الدولة ، نتوصل إلى أن الحكومة الإِسلامية والنظام الإِجتماعي فيها يقوم على الحرية والعدالة .

٣٩٨

« إن القوانين التربوية هي أولى القوانين التي تحكم فينا ، ولما كانت هذه القوانين تعدنا لنكون مواطنين صالحين فعلى كل أُسرة أن تدار وفق المنهج العام الذي يدار به المجتمع . ولذلك فإن قوانين التربية تختلف بالنسبة إلى أقسام الحكومات » (١) .

« تكون كل أسرة حكومة مستقلة في النظم الإِستبدادية وإن التربية ( والغرض الأصلي منها الحياة مع الآخرين ) تكون محدودة في ظل هذه النظم . فالتربية في الحكومة الإِستبدادية عبارة عن تمكين الخوف في القلوب » .

« إذن فالتربية في هذه الدول بمنزلة الصفر واللاشيء . لأنه إن لم تزل تربية الأفراد تماماً فلا توجد الحكومة الإِستبدادية . والأفضل أن أقول : إنه لا بد من وجود رعية منحطة حتى تكون عبداً جيداً . . . » (٢) .

إن التربية في ظل النظام الإِسلامي تقوم على العدل والحرية ، وتنمية حب التعالي والتكامل في نفوس الأطفال .

يقول الإِمام علي عليه‌السلام لولده الحسن : « ولا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً » (٣) .بهذه الجملة القصيرة يزرع الأب العظيم أعظم ثورة للشخصية في نفس ولده ، ويعوّده على الحرية الفكرية .

وبالنسبة إلى تعلم الأطفال قال عليه‌السلام : « من لم يتعلم في الصغر ، لم يتقدم في الكبر » (٤) .

إن المربي القدير هو الذي يستفيد من غريزة حب الكمال والتعالي عند الطفل ويقيم قسماً كبيراً من أساليبه التربوية على هذا الأساس .

____________________

(١) روح القوانين لمونتسكيو ص ٣٨ .

(٢) المصدر السابق ص ٤٢ .

(٣) نهج البلاغة ص ٤٥٠ .

(٤) غرر الحكم ودرر الكلم ص ٦٩٧ .

٣٩٩

فهرس تفصيلي

كلمة المترجم .......................  ٥

المحاضرة الأولى

حول الذنب ـ حرية التعاليم ............  ٩

وسائل القرب المعنوي من الله ..........  ٩

التقوى ...........................  ١٠

معالجة الإِنحراف ...................  ١١

هدف القرآن ......................  ١٢

إنهيار المجتمع ......................  ١٤

ما هو الذنب .....................  ١٤

جزاء التخلف عن القوانين ...........  ١٥

إنحطاط البشرية ....................  ١٨

التفكير في الذنب ..................  ١٨

نتائج الذنوب .....................  ٢١

الجزاء الآجل ......................  ٢٢

الجزاء العاجل .....................  ٢٣

يوم الجزاء .........................  ٢٤

الآثار الوخيمة للذنوب .............  ٢٤

البؤس والحرمان ....................  ٢٥

وراء طلب العلم ...................  ٢٧

الإِسلام دين العلم والمعرفة ...........  ٢٧

حسن الإِقتباس ....................  ٢٨

إتباع العقل .......................  ٣٠

المحاضرة الثانية

الآراء البشرية حول السعادة .........  ٣٢

السعادة ..........................  ٣٢

المبدأ النفسي ......................  ٣٣

السعادة في المدنية الحديثة ...........  ٣٤

المبدأ الإِقتصادي ...................  ٣٥

مبدأ اللذة ........................  ٣٧

مبدأ الواقع ........................  ٤٢

حجر الأساس في السعادة ...........  ٤٣

الأمان والأخلاق ...................  ٤٣

٤٠٠