الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

الشيخ محمد تقي فلسفي

الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي فلسفي


المحقق: فاضل الحسيني الميلاني
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94553-6-1
ISBN الدورة:
964-94553-6-1

الصفحات: ٤٠٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

داخلي أو قلق باطني . . . ولكنهم غافلون عن يقظة الوجدان ، وأنه من الذكاء والفطنة بحيث تنطلي عليه التلفيقات ولا تغيير مظهر الذنب بمظهر آخر ، ولا يكف عن واجبه المقدس ، وهو توجيه اللوم إلى المجرم .

« إذا كنا نقضي من هذه الظواهر بانطفاء جذوة الوجدان فقد وقعنا في خطأ كبير . إن الوجدان لا يزال حياً حتى في حالات الموت الروحي ، ويستمر في القيام بعمله بكل هدوء ويستطيع أن يكشف عن وجوده فجأة بإشراقة خلابة وغير متوقعة . فهناك إلى جانب الوجدان الذي يقوم بإظهار ميوله وعقائده وأفكاره ، يوجد وجدان مستتر يحكي عن حالة روحية غير مرئية . إنه يمكن الإِستعانة ببعض التعابير التي يستعملها المريض والتي تعد فاقدة للمعنى وجنونية في الظاهر ، كدليل على وجود هذا الثبات . هذه التعابير ترينا أن الوجدان يستطيع أن يبقى حياً تحت خرائب الذكاء والعقل » .

« إن الوجدان يؤثر حتى في حياة الأنسجة وفي وضعية الأعمال الجسدية التي تملك شخصية حية بنفسها أيضاً » (١) .

وفي قضية عمر بن سعد ، وقيامه بتلك المعركة الدامية على صعيد كربلاء أملاً في الحصول على حكومة الري ، أجلى شاهد على ما ذهبنا إليه . فمن جهة نجد أن قتل الحسين بن علي عليه‌السلام وثلة من أصحابه الأبرار والأبرياء عمل مخالف للوجدان والدين والعقل . ومن جهة أُخرى كان يرغب في الحصول على حكومة الري وفي ذلك لذة الرئاسة ، والرغبة النفسية التي تلح عليها نفسه الأمارة . فعندما إقترح عبيد الله بن زياد حكومة الري عليه بشرط قتل الإِمام الحسين عليه‌السلام إضطرب عمر لذلك وتحير في أمره ، فلو كان فرداً مؤمناً ومتديناً لكان يرد ذلك الإِقتراح بسرعة ولم يكن يقوم بتلك الجريمة الشنيعة لقاء حكومة لا تدوم أياماً . وإذا كان إنساناً منحرفاً وبعيداً عن الدين بتمام معنى

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص ٦٣ .

٣٤١

الكلمة لا يقيم وزناً للوجدان والإِيمان والعقل والرأي العام ، فانه كان يوافق على الإِقتراح بدون ترديد ولا يقول شيئاً أبداً . ولكن الذي يظهر من وضعه أنه كان يحس بالاضطراب وعدم الإِرتياح لعمله هذا في ضميره الباطن ، ولكن لم يكن إحساسه هذا بالدرجة التي تجعله يغض الطرف عن لذة الرئاسة والجاه . فاستمهل عبيد الله ليأتيه بالجواب النهائي . وحين أقبل عليه المساء تنحى زاوية خلية ، وجسد أمام ناظريه معسكرين متعارضين يقف في أحدهما الله والرسول ، والعقل والشرف ، والوجدان والإِنسانية . . . أما في المعسكر الأخر ، فيقف حب الجاه والرئاسة ، اللذة والشهوة ، الحكومة وعبادة الذات . فبقي متحيراً بين هذين المعسكرين فعندما كان ينظر إلى الله والوجدان والعقل كان يقول : يجب ألا ارتكب هذه الجريمة الشنيعة ، أن لا أشرك في دم الحسين عليه‌السلام أما حين يلتفت نحو الشهوة والرئاسة كان يقول : يجب ألا أترك الفرصة تفوتني ، فإن مقاماً مع هذه العظمة لا يتيسر دائماً . . . وأخيراً تذرع ببعض المغالطات الباطلة لإِقناع الوجدان الذي يوجد في باطن كل إنسان متدين وملحد . وأخيراً حلل القضايا من الوجهة الدينية ، وكان أن قال :

يقولون إن الله خالق جنة

ونار ، وتعذيب ، وغل يدين

فان صدقوا فيما يقولون ، إنني

أتوب إلى الرحمان من سنتين

وإن كذبوا فزنا بدنيا عظيمة

وملك عقيم دائم الحجلين

فأوجد هذه المسرحية الخيالية في ذهنه وجعلها ملجأ لجنايته ، وتبريراً لخيانته ، ظاناً أنه يستطيع إقناع وجدانه بهذا العمل ، وأنه يستطيع أن يخفيه خلف أستار المغالطات الموهومة ، ويحفظ نفسه من تعذيب الضمير إلى الأبد غافلاً عن أن الوجدان الأخلاقي الفطري ينظر بنور الواقع ، وأنه لا يسكت بالتبريرات الباطلة ، فالوجدان مشعل وضّاء موجود في باطن الإِنسان . بأمر من الله ، ولا يمكن إطفاؤه بهذه الكلمات . إن الوجدان الأخلاقي لا ينسى واجبه السماوي ، ولا يدع المجرم لوحده ، ولا يفسح المجال له ليتخلص من تعذيبه ولومه وتقريعه .

٣٤٢

ولقد صمم ابن سعد على ألا يستمع لنداء الوجدان ، ويتجاهل وجوده تماماً ، ولكن تجاهل الحقيقة لا يقدر على إزالة الحقيقة .

« إن ما لا شك فيه أن هذه الحالات ناتجة عن أن الإِنسان يمتنع عن سماع نداء الوجدان ، هذا الإِمتناع هو الذي يولد هذا التصور الخادع القائل بأنه لا يوجد وجدان . في حين أن الوجدان اليقظ قد لاذ بالوجدان المغفول » (١) .

وأخيراً فقد صمم على إرتكاب الجريمة ، وأقدم على أعظم الذنوب أملاً في الحصول على حكومة الري . . . ولكن أسفرت النتيجة عن حرمانه من تلك الأمنية ، وهنا تناوشته الضربات القاضية من قبل الوجدان من جهة وحزَّ في نفسه إنهياره السياسي وفشله الإِجتماعي من جهة أُخرى . . . فوقع في أسر الأمراض الروحية والاضطراب النفسية وسلبت من راحته فأمر أن يمد فراشه طوال الليل والنهار ، فكان يستلقي في الفراش تارة ، ويتمشى في البيت أُخرى ويتخطى في الأزقة بلا إرادة ثالثة . . . وكانت عاقبته أن لاقى حتفه على يد أحد الضباط الثوار في ذلك الفراش ، وأنهىٰ حياته المشؤومة بهذا الوضع المزري .

*  *  *

الهدوء النفسي :

إن أسعد الناس هو الذي يملك نفسه ويسيطر على رغباته ، لا يحوم حول الذنب ، يستمع إلى النداء الواقعي للوجدان بأذن الذكاء ، يعيش حياة ملؤها الهدوء والإِرتياح ، ويغادر الحياة بروح مطمئنة ونفس هادئة . . . ولكن المؤسف أن هؤلاء الأفراد هم الأقلية في كل مجتمع وأمة . . . فإن الأكثرية يقعون تحت أسر الأهواء والميول النفسانية ، ونجد أن الغرائز والشهوات تسيطر بقوتها القاهرة ، على أكثر طبقات المجتمع وتبعثهم على الإِجرام والدنس ! .

لقد فتح الأنبياء عليه‌السلام أبواب الاستغفار والتوبة والكفارات على هؤلاء لإِنقاذ

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بيماريهاى روحى وعصبى ص ٦٦ .

٣٤٣

المجرمين من الإِنهيار التام ، ولإِرجاعهم مرة أُخرى إلى طريق السعادة والفضيلة وتخليصهم من تعذيب الضمير . . . ولذلك نجد أن رسل السماء كانوا يبشرون الناس على مر العصور بالعفو والمغفرة والرحمة من الله العظيم ، ولهذا الإِرشاد السماوي العظيم أهمية كبيرة في أنظار علماء النفس المعاصرين ، حيث يعتبرونه من المسائل الأساسية في علاج الأمراض الروحية .

« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية ، ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظيمة في الأديان السماوية » (١) .

إن على المجرمين إما أن يستمروا في إنحرافهم ويتمادوا في طغيانهم يعمهون ، ويزجوا بأنفسهم والمجتمع في النتائج الخطيرة والوخيمة ، والنفسية لها والإِجتماعية ، أو يرجعوا عن الطريق المنحرف ويتوبوا إلى الله تعالى أملاً في العفو والمغفرة . ويكفّوا عن الذنوب فيصبحوا أُناساً طيبين طاهرين تماماً .

في الصورة الأولى نجد عوارض وأخطاراً تنتاب الفرد وتعم غيره من جراء الاستمرار في إجرامه نستعرض على سبيل المثال بعضاً منها :

١ ـ خطر اليأس :

إن المجرم الذي يستلذ طعم الإِجرام ، ويرى أن القيام به متأصل في نفسه وغير قابل للزوال ، ولا يملك أي أمل في تطهير نفسه ومغفرة الله له يستمر في إرتكاب الجرائم بجسارة وجرأة كبيرتين لا يتورع من القيام بأي عمل مخالف ، وبديهي أن إنساناً كهذا يصبح فرداً خطراً في المجتمع بدلاً من أن يكون عضواً نافعاً فيه ، ذلك لفقدانه الأمل في المغفرة ، واليأس من العودة إلى الصواب ، ولجرأته في الذنوب . . . وهكذا يكون خطراً شديداً على مجتمعه .

٢ ـ إتهام الأبرياء :

إن المجرم يحاول ـ لتبرئة نفسه ، وبسبب ا لآلام الوجدانيه التي يلاقيها ـ

____________________

(١) المصدر السابق ص ٦٦ .

٣٤٤

أن يتهم الأبرياء ، وينسب جرائمه إليهم . . . وهذا العمل بنفسه يُعدّ جريمة أكبر من إرتكاب الجريمة ذاتها ، إذ من الممكن أن يؤدي في بعض الحالات إلى نشوء الإِختلالات الإِجتماعية ، والمفاسد التي لا تدرأ ، أو أن يعرّض أرواح الناس وأموالهم إلى أخطار شديدة .

« إن الجرائم تتضمن أخطاراً كبيرة للمجتمع ، والإِحساس بالإِجرام ، يمكن أن يؤدي إلى ظهور بعض الأعراض النفسيه التي منشؤها حب البراءة والتي تنتهي إلى تحطيم الكيان الإِجتماعي ، وإذا دققنا في الموضوع وجدنا أن هذه الأعراض الناشئة من حب البراءة ، تقود الإِنسان إلى إتهام الآخرين ، الأبرياء الذين يرمون بالتهم الكاذبة يقفون بدورهم موقفاً دفاعياً ضد تلك الإِتهامات وهكذا تولد موجة من التهم والمواقف الدفاعية التي لاحظنا بعض النماذج الحية منها . . . وأخيراً تنتهي هذه الحالات بهدم العنصر الأخلاقي والقيم المثلى في المجتمع الذي تحدث فيه » (١) .

غفران الذنوب :

عندما تكون نوعية الذنب مهمة جداً ، ولا يملك المذنب أملاً في المغفرة والعفو الإِلهي فان الضغط الشديد الذي يلاقيه من الوجدان الأخلاقي يؤدي به إلى الجنون ويبعث به إلى إرتكاب الجرائم الخطيرة ، ويفقد مجتمع بأسره راحته وهدوءه من جراء جرائمه التي لا تعد ولا تحصر . أما في الصورة الثانية عندما يندم المذنب على ما ارتكبه بفضل إرشادات الأنبياء ، ويطمئن إلى المغفرة والعفو ، ويُظهر ندمه وتوبته بلسان الاعتذار إلى المقام الإِلهي . . . حينذاك تحل عقدته الباطنية ، ويهدأ وجدانه ، ويتخلص من اللوم الباطني ويستمر حياته بروح مطمئنة هادئة وبهذه الصورة يمكن الوقوف أمام سقوط عضو من أعضاء المجتمع .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ بيماريهاي روحي وعصبى ص ٦٦ .

٣٤٥

« عندما تمد الأيدي إلى أحضان الوجدان ، وعندما يقر المجرم بذنبه ، ويستعد لإِصلاح نفسه . . . فإن الأمل في الرحمة والمغفرة يطفىء الإِحساس بالجريمة ، ويولد فيه الهدوء والسكينة حيث يستطيع بها أن يخرج رأسه بفخار من كابوس الإِجرام الفظيع ، وينسى بذلك ماضية » (١) .

*  *  *

على أن التوبة الحقيقية والمغفرة للذنوب والفرار من الضغط الوجداني تستلزم بعض القواعد والأسس المعنوية والنفسية ، وبدونها لا يمكن الحصول على الإِطمئنان النفسي ، والفرار من دنس الجريمة . وهي :

١ ـ الاقرار بالذنب :

على المذنب أن يقر ويعترف بذنبه تجاه المقام الإِلهي بصراحة ، ويطلب منه العفو والمغفرة ، إن الإِقرار بالذنب يستطيع أن يزيل دون الذنب ، ويجلب رحمة الله الواسعة ، ويقنع الوجدان الأخلاقي الناظر بعين الواقع ، ويحلّ العقدة الباطنية ، ويخلص الإِنسان من الضغط المتواصل للنفس اللوامة .

أما الذين يرتكبون الذنوب ، ولا يعترفون بإجرامهم بسبب الأنانية والكبرياء لا يتوفقون للتوبة الحقيقية ، ويكونون مشمولين للعذاب الإِلهي ومصابين بمضايقة الوجدان ، واللوم والتقريع المستمرين منه .

« عن أبي جعفر عليه‌السلام : « والله ما ينجو من الذنب إلا من أقرَّ به » (٢) . وقد ورد عنه ( أي الإِمام الباقر ـ عليه‌السلام ـ ) أيضاً : « ما أراد الله تعالى من الناس إلا خصلتين : أن يقروا له بالنعم فيزيدهم ، وبالذنوب فيغفرها لهم » (٣) .

يقول الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام : « حسن الإِعتراف يهدم الإِقتراف » (٤) .

____________________

(١) بيماريهاى روحى وعصبى ص ٦٧ .

(٢) الكافي ج ٢ ص ٤٢٦ .

(٣) المصدر نفسه ج ٢ ص ٤٢٦ .

(٤) الإِرشاد للمفيد ص ١٤٢ .

٣٤٦

٢ ـ رجاء المغفرة :

يجب على المذنب أن يكون مطمئناً إلى رحمة الله الواسعة وراجياً لعفوه ومغفرته ، لأنه لو لم تكن فيه هذه الحالة النفسية والاعتقاد الواقعي لا يستطيع أن يزيل وصمة الإِجرام بالتوبة والإِعتذار ، ولا يتسنى له التخلص من تأنيب الضمير .

لقد وضع الإِسلام الناس في مركز وسط بين الخوف والرجاء فحث المستقيمين في سلوكهم على عدم الإِعتداء والعجب بالنفس ، وان لا يروا أنفسهم بمأمنٍ من عذاب الله لحظة واحدة ، وأوصى المذنبين أيضاً بأن لا ييأسوا ، بل يعمروا قلوبهم بالرحمة من الله دائماً .

يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام بهذا الصدد : « إن من الكبائر عقوق الوالدين ، واليأس من روح الله ، والأمن لمكر الله » (١) .

إن ميدان الخوف والرجاء في الروايات الإِسلامية واسع جداً ، فمهما كان المذنبون غارقين في المعاصي يجب عليهم أن لا ييأسوا من رحمة الله . يقول الإِمام أمير المؤمنين لولده عليه‌السلام مذكراً إياه برحمة الله التي لا تتناهى ومغفرته التي لا تقف عند حدّ . . . « وأرجُ الله رجاءً إنك لو أتيته بسيئات أهل الأرض غفرها لك » (٢) .

فليس للمسلم المذنب أن ييأس من فيض رحمة الله ، مهما عظمت ذنوبه . . . ( قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ ، لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ، إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ) (٣) .

٣ ـ الندم وطلب المغفرة :

إن على المذنب بعد الإِقرار بالذنب ، ورجاء المغفرة ، أن يطلب العفو والغفران في كمال الصدق مظهراً ندمه الواقعي على أفعاله السيئة . وطبيعي أن

____________________

(١) الكافي للكليني ج ٢ ص ٢٧٧ .

(٢) مجموعة ورام ج ١ ص ٥٠ .

(٣) سورة الزمر ؛ الآية : ٥٣ .

٣٤٧

يغفر الله الذنوب مهما كان عظيماً في ظروف مثل تلك ، وهذا هو معنى التوبة الحقيقية . فإذا أظهر شخص الإِستغفار بلسانه ولم يكن نادماً في قلبه على أعماله البذيئة ، فانه لم يتب توبة حقيقية ولا تطهر نفسه.

يقول الإِمام الرضا عليه‌السلام بهذا الصدد : « من استغفر الله بلسانه ولم يندم بقلبه ، فقد استهزأ بنفسه » (١) .

إن المذنبين الذين يتوفقون للتوبة الحقيقية ويخلصون أنفسهم بذلك ـ وفي ظل العنايات الإِلٰهية ـ من دنس الذنوب ، يحزون على ضمائر هادئة وأرواح مطمئنة ، فلا يحسون بالحقارة والضعة في نفوسهم بعد ذلك ولا يسمعون تأنيباً من الضمير ، ويبلغ بهم التنزه عن الذنوب إلى درجة أنهم يصبحون كأن لم يقترفوا ذنباً أصلاً ، يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام « التائب من الذنب كمن لا ذنب له » (٢) .

*  *  *

الايمان وتدارك الخطأ :

لا بد من التنبيه إلى هذه النقطة ، وهي أن الشرط الأول للتوبة الحقيقية وغفران الذنب هو الإِيمان بالله . إن الذي لا يملك رصيداً قوياً من الإِيمان أو أنه مادي ومنكر لله أساساً ، لا يوفق لتطهير نفسه عن طريق التوبة وغفران الذنوب ، فهو يلاقي الجزاء الصارم من تأنيب الضمير وكابوس الوجدان حتى آخر عمره ، إن السبب في الإِختلالات الروحية أو الجنون الذي يحصل للبعض من جراء تعذيب الضمير إنما هو فقدان عنصر الإِيمان عندهم ، وعدم إحساسهم بوجود ملجأ معنوي . ولذلك فانهم لا يستطيعون حل العقدة النفسية المتفاقمة في نفوسهم عن طريق التوبة والإِستغفار . ولقد شاهدنا كثيراً من هؤلاء في عصرنا الحاضر ، كما أنهم كانوا موجودين في العصور السابقة أيضاً .

كيف يستطيع عمر بن سعد ( وهو الذي يظهر تزلزل العقيدة في كلماته ،

____________________

(١) مجموعة ورام ج ٢ ص ١١٠ .

(٢) سفينة البحار للقمي / مادة غفر ص ٣٢٢ .

٣٤٨

ويبدو تردده في الأُصول الإسلامية المسلم بها ) أن يطهر نفسه عن طريق التوبة الحقيقية ؟ ! .

وعلى العكس من ذلك . فإن الذين تتألق في نفوسهم جذوة من الإِيمان والإِعتقاد بالله ، إذا ارتكبوا ذنوباً كبيرة فإن أدنىٰ إلتفاتة نحو الله والإِستغفار منه كاف في تخليصهم من ورطة المعصية ، وإذا كان يأسهم من رحمة الله على أثر الغفلة أو الجهل فبمجرد أن يطلعهم على ذلك مرشد ديني عظيم نجدهم يرفعون أكف التضرع نحو الله تائبين نادمين ، والله يتقبل توبتهم ، ويغفر لهم ذنوبهم .

إن في القصة الآتية أجلى شاهد على ذلك : ـ

« كان علي بن الحسين عليه‌السلام في الطواف ، فنظر في ناحية المسجد إلى جماعة ، فقال : ما هذه الجماعة ؟ قالوا : هذا محمد بن شهاب الزهري ، اختلط عقله فليس يتكلم فأخرجه أهله لعله إذا رأى الناس أن يتكلم فلما قضى عليه‌السلام طوافه خرج حتى دنا منه ، فلما رآه محمد بن شهاب عرفه . فقال له علي ابن الحسين عليه‌السلام : ما لك ؟ قال : ولّيت ولاية فأصبت دماً فدخلني ما ترى . فقال له علي بن الحسين : لأنا عليك من يأسك من رحمة الله أشد خوفاً مني عليك مما أتيت . ثم قال له : أعطهم الدية . فقال : فعلت فأبوا . قال : اجعلها صرراً ، ثم انظر مواقيت الصلاة فألقها في دارهم » (١) .

فنجد إن الإِمام عليه‌السلام يحل مشكلة اليأس عند ذلك الوالي الذي قتل شخصاً بغير حق فأصيب بالجنون ، بعلاج نفسي بسيط . . . ولذا نجد أن الغربيين يهتمون بهذه العلاجات . وفي ذلك يقول الأُستاذ ( هنري باروك ) فيما مضى من حديث :

« إن تعذيب الضمير مؤلم جداً ، فقد يظهر بمظهر الندم الذي لا يمكن تهدئته إلا بتدارك الخطأ أو الدية . ولهذا فإن لغفران الذنوب دوراً كبيراً وأهمية عظمية في الأديان السماوية » .

____________________

(١) مجموعة ورام ج ٢ ص ٤ .

٣٤٩

المحاضرة الرابعة عشرة

التربية على أساس الايمان

قال الله تعالى : ( فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ ، فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ، وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (١) .

لقد تعرضنا في محاضرة سابقة إلى ضرورة إستناد تربية الطفل إلى الإِدراكات الطبيعية والميول الفطرية للإِنسان ، فأساليب التربية التي تبنى على هذا الأساس تكون هي الصحيحة ، وهي الطريق الواقعي للسعادة الإِنسانية . وجرّنا هذا الحديث إلى البحث في الوجدان الفطري بصنفيه : العقيدي والأخلاقي بإسهاب ضمن ثلاث محاضرات . ولهذا فسيدور بحثنا من اليوم فصاعداً حول كيفية الإِستفادة من الفطريات في تربية الطفل.

الأساس الأول للتربية :

إن الأساس الأول الذي يجب تعليمه للطفل في سبيل التربية الصحيحة إشعاره بوجود الله والإِيمان به بلسان ساذج متيسر الفهم . لقد سبق أن بينا في المحاضرة العاشرة إن الحاجة للإِيمان بالله موجودة في باطن كل إنسان بفطرته الطبيعية . فعندما يبدأ جهاز الإِدراك عند الطفل بالنشاط والعمل ، ويستيقظ

____________________

(١) سورة البقرة ؛ الآية : ٢٥٦ .

٣٥٠

حس التتبع فيه ، ويأخذ في السؤال عن علل الأشياء ومنشأ كل منها ، فإن نفسه الطاهرة وغير المشوبة تكون مستعدة تماماً لتلقي الإِيمان بخالق العالم ، وهذه الحالة هي أشد الحالات طبيعية في بناء الطفل .

وعلى القائم بالتربية أن يستفيد من هذه الثورة الفطرية ، ويفهمه أن الذي خلقنا ، والذي يرزقنا ، والذي خلق جميع النباتات والحيوانات والجمادات ، والذي خلق العالم ، وأوجد الليل والنهار ، هو الله تعالى . . . إنه يراقب أعمالنا في جميع اللحظات فيثيبنا على الحساب ويعاقبنا على السيئات .

هذا الحديث سهل جداً وقابل للإِذعان بالنسبة إلى الطفل ونفسه فنراه يؤمن بوجود الله في مدة قصيرة ويعتقد به . بهذا الأُسلوب نستطيع أن نخلق في نفس الطفل حب النظام والإِلتزام ونحثه على الإِستقامة في السلوك وتعلم الفضائل الخلقية والملكات العليا بالتدريج .

إن للإِيمان بالله ـ وهو إحياء لأعظم قوة وجدانية عند الإِنسان ـ آثاراً ونتائج مهمة في « احياء سائر الفطريات الخلقية والمثل العليا ، وبإمكانه أن يخرج تلك الفطريات جميعها من مرحلة القوة إلى الفعلية بأحسن صورة وبعبارة أوضح نقول إن للإِيمان بالله أثرين مهمين : ( الأول ) : انه يعمل على احياء أعظم واقعية روحانية أي الفطرة العقيدية ، ويصب ركائز السعادة الواقعية للإِنسان . ( الثاني ) : إن جميع الفطريات الروحية والفضائل الخلقية تستيقظ في ظل القوة التنفيذية للإِيمان ، وتتحقق في الخارج :

ومهما بلغت قيمة الوجدان الأخلاقي ، ومهما خطر دوره في تحقق سعادة الإِنسان ، لكنه إذا لم يكن مستنداً إلى الإِيمان فلا يقوى على حفظ البشرية من التردي والسقوط . وكذلك سائر الصفات الصالحة إن لم يكن لها سند إيماني فانها تندحر أمام الغرائز والميول اللامشروعة في الصراع بينها .

القوانين الطبيعية من سنن الله :

لا شك في أن العالم ثابت على أساس من العلم والنظام الدقيق ،

٣٥١

والحكمة المتناهية ، فكل جزء من أجزاء الكون قد استقر في الموضع المخصص له حسب نظام دقيق وقياس كامل . وهذه الظاهرة بنفسها تعتبر في نظر العلماء سنداً ثابتاً ودليلاً متقناً على وجود المبدأ القادر للعالم . إن الصدفة ( التي يستند إليها الماديون في نظريتهم ) لا علم لها ، ولا قدرة ، ولا حافظة ، ولا وجدان . . . وهي تعجز عن أن توجد هذا النظام العجيب والمحير للعقول .

يشرح الإِمام الصادق عليه‌السلام بعض آثار عظمة الله وقدرته في عالم المخلوقات لتلميذه المفضل الجعفي ، ويستدل بها على وجود الله تعالى ، وفي الأثناء يسأل المفضل من الإِمام عليه‌السلام قائلاً : « يا مولاي ، إن قوماً يزعمون إن هذا من فعل الطبيعة . فقال : سلهم عن هذه الطبيعة ، أي شيء له علم وقدرة على مثل هذه الأفعال أم ليست كذلك ؟ فإن أوجبوا لها العلم والقدرة فما يمنعهم من إثبات الخالق ؟ فإن هذه صنعته . وإن زعموا أنها تفعل هذه الأفعال بغير علم ولا عمد ، وكان في أفعالها ما قد تراه من الصواب والحكمة فاعلم ان هذا الفعل للخالق الحكيم وان الذي سموه طبيعة هو سنة في خلقه الجارية على ما أجراها عليه » (١) .

إن النظام الدقيق والإِنسجام الشامل لإِرجاء الكون ، هو معلول القوانين والسنن المتينة للكون . وهذه النواميس والسنن الكونية تحكم جميع الموجودات ، فهناك القوانين الفلكية التي تنظم آلاف الملايين من الأجرام السماوية ، وتجعل كلاً منها في المدار الخاص به ، أما قوانين الحياة فهي تنظم عالم النباتات والحيوانات والبشر بالدقة المتناهية . لكن هذه القوانين لا تملك أقل إطلاع عن الأعمال العظيمة والمحيرة التي تقوم بها . إن مثل القوانين الطبيعية في النظام والترتيب والجهل بالنشاط الصادر منها مثل الآلة الحاسبة : ففي نفس الوقت الذي تؤدي الآلة الحاسبة عملها مجيبة على المسائل الرياضية لا تعرف شيئاً عن عملها ، إن الآلة الحاسبة لا تعرف أنها تشتغل في

____________________

(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٢ ص ٢١ .

٣٥٢

المصرف ، إنها لا تعلم بمدى ضخامة الأعداد التي تجيب عليها بسرعة . إن الآلة الحاسبة تؤدي عملها هذا تبعاً لقاعدة الجبر ، ولا تملك أي إرادة أو إختيار في ذلك . لكن تركيبها الدقيق والنظم يعد أكبر سند متقن وصريح على وجود مهندس عالم كون تلك الآلة بعلمه وقدرته ، وسيرها لأداء هذه المهمة .

كذلك القوانين الطبيعية في العالم التي لا تملك علماً أو إختياراً . وهي تكون دليلاً واضحاً وشاهداً على وجود الخالق الحكيم الذي أوجدها وعين لكل منها واجباً خاصاً .

ولقد رأينا كيف أن الإِمام الصادق عليه‌السلام إستدل عن طريق القوانين الطبيعية على وجود الله تعالى واعتبر ذلك سنداً محكماً على إثباته .

العالم في نظر الالهيين والماديين :

إن الأثر الأول الذي يظهر من إحياء المعرفة الفطرية والإِيمان بالله والذي يقسم الناس إلى صنفين : مؤلهين وماديين ، هو نظرتهم إلى الكون فالإِلهيون يرون أن هذا الكون عبارة عن هيكل عظيم وضخم أسس بعلم الله تعالى وإرادته على أساس المصلحة والحكمة ، أما الماديون فيرون أن الكون عبارة عن مجموعة أوجدتها الصدفة العمياء الصماء ، بلا علم أو إختيار .

الإِلهيون يرون أن الإِنسان موجود ممتاز خلقه الله مع قابلية التعالي والتكامل الذي لا يقف عند حد وسوىّ له طريق التقدم في ظل العقل . أما الماديون فيرون أن الإِنسان وجد على أثر طائفة من العوامل الإِتفاقية وحصل على العقل عن طريق الصدفة ، وصار بهذه الصورة الحاضرة .

الإِلهيون يرون أن الوجدان الخلقي ثروة ثمينة أودعها الله تعالى في باطن الإِنسان لضمان سعادته ، وأن الخالق الحكيم الذي هيأ لكل موجود ما يساعده في التكيف لظروف الحياة هو الذي منح للإِنسان هذه الطاقة الجبارة ( الوجدان ) ليميز في ظلها بين الخير والشر ، ويسير في طريق التعالي النفسي ، والتكامل

٣٥٣

الروحي . أما الماديون فانهم يرون أن الوجدان الإِنساني يشبه الإِنسان نفسه في كونه وليداً للصدفة ، وواقعاً على سبيل الإِتفاق .

الإِلهيون يرون أن الإِنقياد إلى أوامر الوجدان إنما هو إنقياد للهداية التكوينية التي أوجدها الله الذي يحب الخير والسعادة للإِنسان ، وهم يرون أن الوجدان الأخلاقي قوة مقدسة ، ومشعل وضاء ، أشعله الخالق العظيم في باطن كل إنسان . ولذلك فانهم ينظرون إلى هذه الثروة العظمية التي هي منحة الله تعالى بعين التكريم والإِحترام . ويرون طريق الساعدة والفلاح منحصراً في تنفيذ أوامرها . أما الماديون فيرون أن الوجدان ـ وهو معلول للصدفة العمياء الصماء ـ لا يتصور له أي إحترام أو تقديس ولا ضرورة في تنفيذ أوامره أصلاً لأنه لم يوجد تبعاً للعلم والمصلحة .

الايمان وإحياء الفطريات :

إن ما لا شك فيه أن إحياء المعرفة الفطرية وسيلة لحسن تنفيذ سائر الفطريات . فالذين يؤمنون بالله إيماناً واقعياً ويعملون على إيقاظ الفطرة التوحيدية في باطنهم ، يصغون إلى نداء الوجدان الأخلاقي بدقة وينفذون أوامره ، لأنهم يرون فيه إلهاماً إلهياً ، وهداية نحو السعادة .

« إن أفراد البشر في أي سن كانوا ، يستجيبون للإِحساس في نشاطهم أكثر من إستجابتهم للمنطق ، وبذلك يطيعون قوانين الحياة الصارمة إذا وجدوها مظهراً لإِرادة الله تعالى لا قوة عمياء . . . برغبة أكثر . ولقد ثبت بالتجربة أن الإِنقياد إلى شخص واحد يكون أفضل بكثير من الإِنقياد إلى قاعدة . إن القوانين الطبيعية التي تخص حفظ الحياة ودوام التكاثر ، والتعالي النفسي تلقى سنداً ونفوذاً أكثر إذا استمدت إلى المشيئة الإِلٰهية » (١) .

____________________

(١) راه ورسم زندكي ص ١٦٩ .

٣٥٤

لقد شرحنا في محاضرات سابقة أن الغرائز والهدايات التكوينية في عالم الحيوانات هي التي تخطط لها طريق تكاملها وتقدمها ، وهي مجبرة على الإِنقياد لها ولا توجد هناك رقابة لتنفيذ تلك الخطط من قبل الحيوانات ، أما الإِنسان العاقل والحر في إطاعة الإِلهام الإِلهي ومخالفته ، يستطيع أن ينقاد لتلك الهداية ويسعد بها أو يخالف فيشقى . إن الإِيمان وإحياء المعرفة الفطرية هو الرقيب الصارم لتنفيذ الهدايات التكوينية والفطريات الخلقية . إن القوة الإِيمانية تستطيع أن تحفظ الإِنسان في مزالق الغرائز . وتحثه على إطاعة أوامر الوجدان الأخلاقي والإِلهام الإِلهي .

إن جميع الناس يملكون وجداناً فطرياً . . كلهم يعلمون أن الظلم قبيح ويدركون أن الخيانة سيئة . . الكل يرتاحون للصدق ، ويميلون فطرياً إلى الأمانة والوفاء بالوعد ، كل الناس يستاءون من الخيانة والكذب وبصورة موجزة : فإن الناس جميعاً يدركون حسن وقبح أصول الفضائل والرذائل بوحي من فطرتهم . ولكنهم في مقام العمل قلما يلتفتون إلى نداء الفطرة ، ذلك أن الإِنسان حر في إطاعة أوامر الوجدان أو الخروج عليها فعندما لا يوجد تعارض أو تصادم بين الوجدان والميول النفسانية فان الإِنقياد للوجدان أمر هين . ولكن عندما تستلزم إطاعة الوجدان الأخلاقي التخلي عن بعض الميول الغريزية فهناك تشتد العقدة ، وفي الغالب تنتصر الغريزة ويندحر الوجدان ، إلا إذا كان الوجدان مستنداً إلى الإِيمان وكان الإِعتقاد الحقيقي بخالق الكون يدعم الصفات الإِنسانية .

لقد تعرض الصدّيق يوسف في ريعان شبابه واحرج مراحل نضجه الجنسي ، إلى أخطر مشكلة منافية للعفة والشرف : فقد وقعت امرأة متزوجة في غرامه ، وعرضت عليه الإِتصال الجنسي به . كانا ـ كلاهما ـ بشرين ولكل منهما رصيد ضخم من الميول الجنسية . . . ولكن قوة الغريزة غلبت على عفة المرأة وجعلتها تطاوع رجلاً غريباً في نفسها فاستلمت إلى ميولها بينما نجد أن للقوة الإِيمانية والبرهان الإِلهي الأثر الفعال في الدفاع عن عفة يوسف وصد تيار الغريزة الجارف . وبذلك حفظ شرفه ، واحتفظ على نقاوة ذيله من دنس

٣٥٥

الإِنحراف ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَن رَّأَىٰ بُرْهَانَ رَبِّهِ ) (١) .

طغيان الغرائز واندحار الوجدان :

كان عبد الملك بن مروان يعيش حياة هادئة في شبابه ، وكان إنساناً رحيماً وشفوقاً ، يعطف على الناس ، ولا يحاول إيذاءهم ولا يتحدث عن أحد بشرّ ، وكانت رغباته النفسية وميوله الغريزية مخفية ، وذلك لعدم وجود ميدان لظهورها . . . ولم يكن يتصور أنه سيمسك بزمام الحكم في الدولة الإِسلامية الواسعة ويتصرف في مقدرات ملايين الناس في يوم من الأيام .

ومرت الأيام بالتدريج ، حتى ظهرت الأوضاع والتحولات المفاجئة التي أدارت سير الزمن لصالحه . فقد تربع أبوه ( الذي كان والياً في يوم ما على المدينة ثم عزل من ولايته عليها ) على دست الخلافة ، على أثر التطورات السياسية المعروفة ، ونصب ( عبد الملك ) ذلك الشاب العطوف ولياً للعهد . . .

ولم تمض أشهر قليلة حتى دُس السم إلى مروان ومات . . فجلس عبد الملك على كرسي الخلافة بعده . . وهنا استيقظت ميوله وشهواته ووجدت لها مجالاً واسعاً للمبارزة والكفاح .

لقد كان الوجدان يحكم إلى الأمس القريب في سلوك عبد الملك دون معارض أو معاند ، ولذلك كان يجتنب من الظلم والأفعال اللاإنسانية أما اليوم فقد استيقظت غرائزه ، وتعالت ألسنة نيرانها ، حتى اضطر وجدانه إلى الإِنسحاب والإِندحار أمام تلك الأوضاع ، وكأن لم يكن في باطن عبد الملك وارتكبوا الجرائم الفظيعة التي لا حد لها ولا حصر .

يذكر لنا المؤرخون أنه لما أرسل ( يزيد ) جيشاً إلى مكة لقتل ( عبد الله بن الزبير ) كان عبد الملك يقول : ألعياذ بالله أفهل يجهّز أحد جيشاً لمحاربة بيت الله الحرام ؟ ! أما عندما تولى الخلافة بنفسه فقد أرسل جيشاً أعظم بقيادة

____________________

(١) سورة يوسف ؛ الآية ٢٤ .

٣٥٦

الحجاج بن يوسف ( المجرم المعروف ) إلى مكة ، وقتل في سبيل ذلك كثيراً من الناس في حرم الله ليقبض على عبد الله بن الزبير وأخيراً فقد حزّ رأسه وأرسله إلى عبد الملك في الشام وعلق جثته على عود المشنقة .

حينئذ يقول عبد الملك : إني كنت أتمانع من قتل نملة ضعيفة أما الآن فعندما يخبرني الحجاج عن قتل الناس لا أجد أي قلق أو تأثر في نفسي ! لقد قال أحد العلماء اسمه ( الزهري ) يوماً لعبد الملك : سمعت أنك تشرب الخمر ! فأجابه نعم والله ، أشرب الخمر وأشرب دماء الناس أيضاً (١) .

ما أكثر الناس من أمثال عبد الملك على مر التاريخ ، وحتى في عصرنا الحاضر ! إن الغالبية العظمى من الناس يتبعون ضمائرهم في الحالات الإِعتيادية ولكنهم عندما تثور غريزة من غرائزهم يسحقون الوجدان بأقدامهم ، ويطلقون العنان لميولهم النفسية ، إلا إذا استكانوا بالإِيمان وتسلحوا به ضد طغيان الغرائز ! . . . ( إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ ، إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي ) (٢) .

العقل والغرائز :

والعقل هو الآخر عامل مهم في التلطيف من حدة الغرائز ، وتعديل الميول النفسانية ، فعندما يكون طغيان الغرائز خفيفاً يستطيع العقل إلى حد ما من تخفيف حدتها ، أما عندما يشتد هيجانها ، وتظهر الغرائز بصورة سيل عارم يقتلع كل ما يجد في طريقه فإن سد العقل يتحطم وبذلك يفقد العقل الإِنساني قدرته على المقاومة ، وتندفع نيران الرغبات النفسية كمخزن مشتعل من البارود ، وحينذاك يكون زمام الأمور بيد الشهوة ، تسيطر على الإِنسان وتوجهه كيف تشاء .

وعن أمثال هؤلاء الأفراد يتحدث الإِمام علي عليه‌السلام فيقول : « قد أحرقت الشهوات عقله ، وأماتت قبله ، وأولهت عليها نفسه » (٣) .

____________________

(١) تتمة المنتهى ص ٨٤ .

(٢) سورة يوسف ؛ الآية : ٥٣ .

(٣) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ٥٣٢ ط إيران .

٣٥٧

العلم والغرائز :

يتصور البعض إن إرتفاع المستوى الثقافي ، والتقدم في المدنية قادر على التخفيف من حدة الغرائز الثائرة ، والأخذ بيد الإِنسان إلى الفضيلة والكمال . . . غافلين عن أن قوة التمدن المادية ( أي العلم الفاقد للإِيمان ) عاجزة عن الوقوف أمام تيار الغرائز ، شأنها في ذلك شأن العقل والوجدان ذلك أن الغرائز والشهوات من القوة في سلوك الإِنسان بحيث إنها عندما تثور ، ويشتد ضرامها وتندفع كسيل منحدر من قمة جبل ، تدع العقل والعلم والوجدان كقطع الخشب والأحجار التي تنقلع لأول صدمة ، ثم تتقلب وسط الأوحال إلى أعماق الوادي .

غلبة الغريزة على العلم :

ما أكثر المثقفين والعلماء الذين لا يملكون قوة الوقوف أمام تيار الميول الغريزية والرغبات اللاإنسانية ، ولا يستطيعون ضبط نفوسهم في تلك المواقف ! .

ما أكثر المثقفين الذين يستطيعون تأليف كتاب حول قبح الإِرتشاء وأكل أموال الناس بالباطل ، وإثبات فساد ذلك من الناحية الإِجتماعية والقضائية والإِقتصادية والسياسية والوطنية وغير ذلك من النواحي ، ولكنهم في مقام العمل وفي مرحلة التطبيق ، لا يتورعون من أخذ الرشوة ، ولا ينصرفون عن الدرهم الواحد ! .

ما أكثر المتمدنين الذين يعرفون أضرار الخمرة عن طريق العلم ويعرفون عوارضها المختلفة على الكبد والكلية والأعصاب والجهاز الهضمي ولكنهم لا يستطيعون الإِمتناع عن شربها حتى ليلة واحدة ! .

ولهذا فقد وردت أحاديث كثيرة في ذم العلماء لا يطبقون علمهم وينقادون لأهوائهم . . . منها :

١ ـ قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « العلماء عالمان : عالم عمل بعلمه فهو ناج ، وعالم

٣٥٨

تارك لعلمه فقد هلك » (١) .

٢ ـ وقد ورد أيضاً : « أوحى الله إلى داوُد : لا تسألني عن عالم قد أسكره حب الدنيا ، فأولئك قطاع الطريق على عبادي » (٢) .

٣ ـ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا أبا ذر ، إن شر الناس عند الله يوم القيامة عالم لا ينتفع بعلمه » (٣) .

٤ ـ وفي حديث آخر : « أشد الناس عذاباً في القيامة ، عالم لم يعمل بعلمه ، ولم ينفعه علمه » (٤) .

إن نسبة الجرائم والجنايات تزداد يوماً بعد يوم في الأمم المتمدنة في العالم بالرغم من الرقابات البوليسية الشديدة والعقوبات القانونية . . . وهذا هو أجلى شاهد على أن التمدن والرقي وارتَفاع مستوى الثقافة عاجز بوحده من مقاومة طغيان الغرائز ودفع الإِنسان إلى التمسك بالفضائل والمثل الإِنسانية ولحسن الحظ فإن علماء الغرب أنفسهم يعترفون بهذا ! .

« إن الأعمال التخريبية التي يرتكبها كثير من الناس بمجرد إضمحلال بعض القيود والموانع الإِجتماعية تثبت أنه ان كان الأفراد يعيشون في المجتمع ويجدون المدنيات المختلفة ، لكنهم ليسوا متمدنين ».

« هذه الأكثرية بهذا المعنى ليست متمدنة ، حيث تحترم مظاهر المدنية تحت ضغط الرقابة الإِجتماعية فقط » (٥) .

الهمجية في لباس التمدن :

لقد كان العالم المتمدن يرفع عقائر السلام والرخاء والإِنسانية قبل الحرب

____________________

(١) لئالي الأخبار ص ١٩٢ .

(٢) المصدر السابق ص ١٩٢ .

(٣) نفس المصدر .

(٤) مجموعة ورام ج ١ ص ٢٢٠ .

(٥) انديشه هاي فرويد ص ١١٦ .

٣٥٩

العالمية . ولكنه عندما إندلعت نيران الحرب إنفجرت القنابل واضطرمت نيران المعارك الدموية وتحطمت الهياكل الجوفاء للمدنية وفقدت زينتها الظاهرة . . . وحينذاك ظهر العالم المتمدن في ثوب الهمجية والفوضوية ـ أي لباسه الواقعي ـ فقد استولت سحب الإِجرام وسفك الدماء على سماء العالم وحل الحقد والإِنتقام محل الضحكات المتصنعة في وجوه الجماهير المتمدنة ! .

« التبعيد ، والقتل العام للمدنيين ، ومعسكرات العمل الإِجباري ( التي لم يكن ينتشر فيها الجوع والأمراض السارية فحسب ، بل كانت تستعمل فيها مختلف وسائل التعذيب والقمع والإِرهاب ) ، والتدمير الشامل اللامعقول بالقنابل . . . كل هذه الوسائل كانت تستعمل كأساليب طبيعية واعتيادية في الحرب . ولذلك فقد كان الخوف والاضطراب مستولياً على العالم أجمع في الحرب العالمية الثانية ، وهكذا اختفت مظاهر إحترام الحياة والمثل الإِنسانية ، والقيم الأخلاقية في كل مكان » (١) .

لقد كان فرويد ( وهو الذي يبدي مخالفته الصريحة للتعاليم الدينية والعقائد الإِلٰهية ) قبل الحرب يأمل إنتشار التعليم والقوانين التربوية وأصول المدنية الحديثة حتى تستطيع أن تحل محل الدين في أفكار العامة وبذلك يوصل البشرية إلى الكمال المنشود لها . . . إنه يقول :

« إن ما لا شك فيه أن الدين قد قدم خدمات مهمة إلى الإِنسانية والمدنية نظراً للدور الكبير الذي لعبه في تهدئة الغرائز غير الإِجتماعية ، ولكنه لم يستطع أن يتقدم في هذا المجال بالمقدار الكافي » (٢) .

إن فرويد يوصي بما يلي : ـ

« من المستحسن أن نختبر منهاجاً تربوياً غير ديني ، فيعوَّد الناس

____________________

(١) المصدر السابق ص ١١٧ .

(٢) المصدر السابق ص٩٦ .

٣٦٠