الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

الشيخ محمد تقي فلسفي

الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي فلسفي


المحقق: فاضل الحسيني الميلاني
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94553-6-1
ISBN الدورة:
964-94553-6-1

الصفحات: ٤٠٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

والوجدان على قبيلة خيالية إصطنعها في ذهنه . واستمر بحثه ، ومتى إصطدم بالحواجز تخلى عن البحث .

إن قسماً من علماء النفس الغربيين الذين سايروا نظريات فرويد تقريباً لم يستطيعوا السكوت على عدم نضج كلماته بصدد المذهب : ـ

« إن الذي يطالع آثار فرويد يصل إلى هذه النتيجة وهي أنه لم يجب على إستفسارات وأسئلة القراء في القضايا المذهبية وما شكال ذلك . ولكن يجب أن لا يغيب عن أذهاننا أن فرويد لم يدع أبداً أنه قدم توضيحاً كافياً في المسائل الدينية » (١) .

ونظراً لأن التحليل النفسي يعرض إلى الأسواق الفكرية في بلادنا كمتاع جديد ، ولا بد من إقتران اسم فرويد معه ، فمن الممكن أن يستغل البعض كلماته ـ عمداً أو جهلاً ـ لالقائها كقواعد مسلم بها وبحوث ثابتة في أذهان الشباب الساذجين والمؤمنين ، وبذلك يتسببون في إنحرافهم العلمي والديني ، أو يروجون سوق الدعارة والتحلّل والتفسخ ، ويجرون جيلنا الجديد إلى هوة سحيقة لا تحمد عقباها . . ـ فنرى لزاماً أن نناقش بعض كلمات فرويد بصورة علمية ونضعها على طاولة التشريح ، عسى أن تقع مفيدة لشبابنا الأعزاء والمثقفين منهم بالخصوص .

إنكار الوجدان الفطري :

من المغالطات المهمة التي يذهب إليها فرويد ، إنكاره للوجدان الفطري . فالوجدان الفطري في نظره ليس إلا رد فعل . ولو كان فرويد يقسم الأمور الوجدانية عند الإِنسان إلى طائفتين : إحداهما فطرية ، والأُخرى ناتجة من النواهي والمراقبات الإِجتماعية فانا كنّا نوافقه على ذلك ولكنّه يعتبر جميع الأمور الوجدانية وليدة الرقابات الإِجتماعية والميول المكبوتة ويصرّح بأنه لا يوجد في الإِنسان تصورات أوليّة للخير وللشر ، ويتطرق في كلماته إلى موضوع القتل ويجعل بحثه يحوم حوله .

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٨٦ .

٢٨١

ولأجل إتضاح الوجدان الأخلاقي الفطري ، وللتمهيد إلى الحديث عن كيفية الإِدراك الفطري لقتل النفس وطائفة من الصفات الخلقية الأُخرى لا بد من ذكر مقدمة :

إن لفوهة البندقية حركتين : إحداهما ناشئة من إحتراق المواد الداخلية للطلقة ، والثانية الحركة الطبيعية . ففي الصورة الأولى إذا حركنا زناد البندقية ووجهنا الفوهة إلى أي جانب فإن الطلقة تندفع إلى ذلك الجانب ، وفي الصورة الثانية إذا تركنا فوهة البندقية حرّة في الفضاء ودون حركة . فإن الطلقة تندفع إلى جانب واحد وهو جهة الجاذبية الطبيعية للأرض .

فإذا أردنا قياس الحركة الطبيعية للرصاصة فيجب أن نتركها حرة في الفضاء تماماً ، ولا نخضعها لتأثير أي عامل مخالف .

إن الوجدان الأخلاقي والميول الباطنية للإِنسان تشبه الحركة الطبيعية للرصاصة . فإذا أردنا أن نعرف الإِدراك الخلقي والوجدان الفطري للإِنسان يجب علينا أن نبحث على إنسان طبيعي مائة في المائة . . الإِنسان الذي لم يخضع لأي تأثير مخالف . فمثلاً إذا أردنا أن نعرف مدى قبح قتل النفس في الوجدان الفطري عند الإِنسان ، يجب أن نبحث على إنسان لم تلوث فطرته ولم يتغلب على إدراكه الباطني عارض من العوامل المختلفة . فإن من يرتكب جريمة قتل لوقوعه تحت تأثير الشهوة أو الغضب ، أو أن من يقتل الناس في ساحة الحرب على أساس التعصب وطلباً للشهرة ، أو أن يرتكب جريمة شنيعة حصولاً على المال أو وصولاً إلى الجاه . . . هؤلاء لا يمكن أن يكونوا مجالاً مناسباً للبحث عن الإِدراك الفطري للوجدان الأخلاقي عند الإِنسان ، لأن حركة هؤلاء تشبه الرصاصة المندفعة تحت تأثير الإِحتراق الداخلي للبارود ، إذا أن حركتها غير طبيعية .

ولأجل أن يسلب فرويد قبح قتل النفس من إدراك الوجدان الأخلاقي وينسبه إلى ندامة القاتل من عواقب الجريمة الوخيمة ، يفترض قبيلة خيالية في فكره ، ثم يصنع من الشهوة الجنسية بطلاً للأسطورة حيث يقدم على قتل الأب

٢٨٢

الخيالي . ثم يستند إلى هذه القبيلة الإِفتراضية ويأتي بسلسلة من النظريات الباطلة التي لا أساس لها من الصحة أصلاً بالنسبة إلى الله والدين والأخلاق والوجدان ! ! .

« يرى فرويد أن الأب أو رئيس القبيلة كان يحتفظ لنفسه بالملكية الجنسية لجميع النساء ، أي أنه كان يتصرف في النساء والبنات ، وكان يسلك بشدة وخشونة تجاه أبنائه الذين كان يعتبرهم الرقباء الجنسيين والمزاحمين لقدرته » .

« كان هذا الأسلوب مستمراً مدة من الزمن حتى فقد الأب قوته بالتدريج إلى أن إنهزم من الميدان تحت ضربات قاضية وجهها نحوه أحد أو جماعة من أولاده » (١) .

« ولم يكن مقدوراً لأحد من الأولاد أن يحقّق أمنيّته ويستحلّ منزلة أبيه ، إذ أنه على ذلك كان يلاقي نفس مصير أبيه وكما نعلم فإن ردود الفعل الروحية والمعنوية لليأس والفشل أعظم أثراً من ردود فعل الإِنتصار » (٢) .

« ولقد أدى قتل الأب في القبيلة الأولى وردوده الروحية الناتجة عنه إلى ظهور الأمر الصادر من النفس فيما بعد والقائل : إنك سوف لا تقدم على القتل » (٣) .

« ربما لو لم تقع جريمة قتل الأب في تلك القبيلة ولم تظهر نتائجه الوخيمة المؤلمة فما بعد ، فإن أحفاد الإِنسان الأول كانوا يستمرون في قتل بعضهم البعض ذلك أن هذا القتل هو الذي سبب صدور الأمر النفسي بصورة : إنك سوف لا تقدم على القتل ـ ثم إنتقل

____________________

(١) أندهشه هاى فرويد ص ٧١ .

(٢) المصدر السابق ص ٨٠ .

(٣) المصدر السابق ص ٨٢ .

٢٨٣

إلى جميع أفراد البشر » (١) .

لما كان فرويد قد آلى على نفسه أن ينظر إلى الإِنسان من زاوية الغريزة الجنسية فقط ، وإغفال بقية الجوانب فيه ، يرى في العامل الجنسي للآباء في هذه الأسطورة المزعومة سبباً لقتل الأب .

لقد قام فرويد بذكر مجموعة من المغالطات وسلسلة من الكلمات الباطلة على أساس هذه القبيلة الوهيمة والقتل الخيالي ، ولا يهمنا التطرق إليها جميعاً في بحثنا هذا ، غير أن محل شاهدنا منها هو موضوع قتل النفس.

تلخّص آراء فرويد في هذا الصدد : أنه لما كان ينكر وجود الجذور العميقة للوجدان الأخلاقي في روح الإِنسان ، ويتجاهل وجود التصور البدائي للخير والشر في أعماقه ، فإنه يفسر قضية قتل الأب بجهل الإِنسان بقبح قتل النفس وإن أبناء القبيلة كانوا واقعين تحت ضغط جنسي ، وكانوا يريدون الوصول إلى نساء القبيلة ، وكان وجود الأب مانعاً من ذلك . ولأجل تحقيق أغراضهم الجنسية أزاحوا المانع عن طريقهم وقتلوا الأب ثم انتبهوا إلى وجود موانع أُخرى في طريقهم وعرفوا أنهم لا يستطيعون الوصول إلى أمانيهم . فندموا على فعلتهم وصدر الأمر الذي مضمونه : « إنك سوف لا تقدم على القتل » . . . هذا الأمر انتقل إلى جميع أفراد البشر وتلقى الناس جميعاً موضوع القتل على أساس أنه فعل قبيح . فالحقيقة ـ في نظر فرويد ـ أن جذور قبح قتل النفس في عالم الإِنسان إستمدت من إعلان الأبناء المولعين بالجنس ، الذين قتلوا أباهم ثم ندموا على ما فعلوا .

تحليل أسطورة قتل الأب :

ولنبدأ بتحليل أسطورة القبيلة وقتل الأب وأفعال الأبناء ، ليتضح صحة أقوال فرويد أو سقمها .

*  *  *

____________________

(١) المصدر السابق ص ٨٨ .

٢٨٤

الفطرة وراء ستار الشهوة :

لقد أسلفنا في مقدمة البحث أنه لتشخيص الفطرة يجب أن نجعل بحثنا على إنسان حر طليق من جميع الجوانب ، ولم يكن واقعاً تحت ضغط الشهوة أو الغضب ، أو حب المال والجاه وما شاكل ذلك .

أما أبناء القبيلة الذين يحترقون في نار الشهوة ، ويقتلون أباهم بصورة جنونية لغرض الوصول إلى النساء فليسوا أفراداً أحراراً وطبيعيين ، وإن حالتهم النفسية لا يمكن أن تكون مقياساً لتشخيص الفطرة الأخلاقية ، وكما أن النار تدفع البارود الموجود في الطلقة من فوهة البندقية وترميها بسرعة فائقة إلى إتجاه غير طبيعي ، فكذلك نار الشهوة ـ وهي أكثر دفعاً من البارود ـ حيث دفعت أبناء القبيلة إلى إتجاه مخالف للفطرة الإِنسانية وأدت بهم إلى قتل الأب . فإذا لم يحس الأبناء حين ارتكابهم للقتل بقبح ذلك ، فلأجل شدة نار الشهوة ، لا لفقدان الفطرة .

لا يقتصر الأمر على العصور القديمة أو القبائل المتوحشة ، وإنما القضية تسير على هذا المنوال حتى في عصرنا المتمدن هذا ، في عالمنا الذي يمر عليه ـ على حد قول فرويد ـ قرون عديدة على إيجاد إعلان الأبناء الذين قتلوا أباهم ، الإِستهجان من تلك الجريمة في الضمير الباطن للأفراد . فما أكثر الشبان الذين يرتكبون القتل على أثر الشهوة الجنسية أو إثارة قوة الغضب والإِنتقام ، ولا يشعرون بأنفسهم ساعة الجريمة ولا يتذكرون إعلان الأبناء الذين قتلوا أباهم .

الندم على القتل :

يقول فرويد : إن ردود الفعل الناتجة من إقدام الأبناء على قتل أبيهم هي التي سببت الندم على جريمتهم . إنه يعترف بالندم بعد القتل ولكنه يرى أن السبب في ذلك هو ردود الفعل الروحية المرتبطة بالشهوة أو الحياة . لِمَ لا يحتمل الأستاذ فرويد أن الندم حصل على أساس ردود الفطرة أي نداء الوجدان الأخلاقي ، الوجدان الذي كان موجوداً في الإِنسان وسيبقى موجوداً فيه ؟ ! ! .

٢٨٥

في حين نجد أن بعض علماء النفس الأوروبيين التابعين لمدرسة فرويد قد احتملوا هذا الوجه :

« وعلى أية حال ، فيجب الأعتراف إما بوجود إحساس ووجدان أخلاقيين مشابه لما هو موجود في الأمم المتمدنة أو على فرض فقدان هذا الوجدان ، فإن الروابط النفسية بين الأب والأولاد كانت شديدة لدرجة كافية لإِيجاد الضربات الروحية ، والندم المتواصل » (١) .

لقد وجدنا أن نار البارود قد وجهت الطلقة في الفضاء إلى جانب غير طبيعي بشدة ، وبمجرد إنتهاء استمرارية الإِنطلاق تتحرر الطلقة من الضغط وتسلك جهتها الطبيعية وترجع إلى الأرض بسرعة وكذلك الشهوة أو الغضب فانهما يخرجان الإِنسان عن طوره الطبيعي ويوجهانه إلى حركة غير طبيعية فيرتكب قتلاً أو جناية . وبعد أن تطفى نائرة الشهوة أو الغضب ويتخلص الإِنسان من الضغط الذي كان يعانيه يثوب إلى رشده ويعود إلى طريقه الطبيعي ، فيقوم وجدانه بتوجيه اللوم إليه على الجرائم التي قام بها ويجعله تحت كابوس روحي شديد .

إن التفسير الطبيعي لسبب الندم في أبناء أسطورة قتل الأب هو نداء الوجدان .

الحالات غير الطبيعية :

يجب أن نعترف سلفاً أن للقبائل البدائية حالات غير طبيعية كثيرة كالقبائل المتحضرة ، وهي يجب أن تستبعد من البحث العلمي . فمثلاً لا يمكن الإِستناد في البحث عن الوجدانيات إلى حالة أبناء القبيلة الذين صمموا على قتل أبيهم لثورتهم الجنسية العارمة ، وقتلوه . ولا إلى أفراد القبيلة التي يهاجم بعضهم بعضاً لسبب الجوع وعدم الوصول إلى صيد الحيوانات أو الأعشاب .

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٨٩ .

٢٨٦

أو إلى أسرة سرقت صيد أسرة أُخرى وأكلته ووقع الخصام بين الأسرتين ، وهجم بعضهم على بعض لعامل الغضب والتأثر . . . إلى غير ذلك من الحالات غير الطبيعية .

إننا يجب أن نبحث عن القبيلة الخيالية التي إفترضها فرويد في حالة يكون رجالها ونساؤها ، شيبها وشبابها في حالة طبيعية تماماً ، ولم يكن أبسط عامل مهيج في سلوكهم ومزاجهم باعثاً على إنحرافهم عن طريق الفطرة .

ولنفرض أنه اتفق خروج جميع أفراد القبيلة في جو لطيف إلى التنزه في قطعة أرض خضراء ، واجتمعوا على ضفاف نهر صغير وبالقرب من حقل واسع وانسجموا في أتم المحبة والوئام . . فالصغار أخذوا يلعبون هنا وهناك ، والشبان مولعون كل بعمله ، فقسم منهم يتأرجحون بين أغصان الأشجار ، والقسم الآخر يرمون بأنفسهم في النهر مفضلين السباحة ، وطائفة تقفز على الأرض وتلعب وبأيدي طائفة أُخرى عصي خاصة يقفزون بواسطتها . . . وفي هذه الأثناء إذا أهوى أحد الشبان بعصاه المدببة على رأس شاب آخر بلا سبب أصلاً وفي تمام الإِنتباه والإِرادة ، وقتله بتلك الضربة ألا يوجد هذا العمل إستياء في نفوس أفراد القبيلة ؟ ألا يعتبر هذا العمل في أنظارهم قبيحاً ؟ هل إن شج رأس إنسان مع العلم والعمد مساوٍ لكسر حجارة ؟ ألا يلومونه على عمله ؟ ألا يحس في نفسه بالاضطراب والقلق من فعله ؟ . وإذا كان شاب آخر جالساً على الأرض ويقلع الحصى منها بواسطة العصا المدببة التي في يده ، وفجأة إتجه إلى طفل صغير وطرحه أرضاً وأخرج عينيه من حدقتيه ألا يسأله أفراد القبيلة عن سبب إقتلاع عيني الطفل ؟ ألا يعتبرون هذا العمل قبيحاً ؟ ألا يعاقبون المرتكب لتلك الجريمة أو يلومنه على الأقل ؟ هل إن إقتلاع عيني طفل بريء مساوٍ في أنظار أفراد القبيلة مع إقتلاع الحصى من الأرض ؟ .

يدعي فرويد أنه يتساوى كسر الحجارة وشج رأس الإِنسان وقتله في نظر أفراد القبيلة من حيث الحسن والقبح . وكذلك يتساوى عندهم إقتلاع الحصى من الأرض وإقتلاع العين من الحدقة . . ذلك أن الإِنسان لا يملك وجداناً

٢٨٧

أخلاقياً فطرياً ، ولا يدرك الخير والشر بذاته .

إن نظرية فرويد في موضوع نفي الوجدان الأخلاقي تافهة عند علماء النفس إلى درجة أن تلاميذه وأتباع مدرسته لم يستطيعوا السكوت عن سفسطاته .

« وطبيعي أننا يجب أن لا نتلقى جميع نظريات فرويد على أنها صحيحة ومنطبقة مع الواقع تماماً ، فمثلاً لا تخلو نظريته في الوجدان الباطن من عيوب ونواقص » (١) .

تراجع فرويد عن عقيدته :

وألطف من ذلك أن فرويد نفسه قد غير عقيدته تجاه الوجدان الأخلاقي في أواخر أيام حياته ، واضطر إلى الإِقرار بمحكمة الوجدان الباطن .

« يقول فرويد في أحد آثاره الأخيرة باسم ( المؤتمرات الحديثة في التحليل النفسي ) إننا مضطرون للإِذعان بوجود محكمة قضائية خاصة في الحياة النفسية ، والتي تلعب دور الإِنتقاد والإِمتناع » (٢) .

يفسر فرويد عامل إرتكاب جريمة القتل في القبيلة الخيالية ـ شأنه في كل قضية ـ بالغريزة الجنسية للأبناء ، في حين وجود عوامل أُخرى يمكن أن تكون منشأ للفعاليات والنشاطات المفيدة والمضرة التي تصدر من الإِنسان .

« إن فرويد لا يتحدث عن المؤسسات الإِجتماعية المختلفة أو الظروف والأحوال الإِقتصادية للمجتمعات المختلفة بحيث يكون أُفق منظاره من الجانب الإِجتماعي ضيقاً جداً » .

« إنه يظهر نظرية مبتورة عن الحياة الإِجتماعية ، ويعتبر محيط

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٦٦ .

(٢) فرويد وفرويديسم ص ٦٧ .

٢٨٨

الأسرة مستقلاً عن العوامل الإِقتصادية والسياسية ومرتبطاً بعقدة أو ديب بصورة منحصرة » .

« وبالنتيجة فإن فرويد يغفل أهمية الصراع الطبقي في داخل المجتمع ، في حين أن الصراع الطبقي يقوم بدور مهم بآثاره الإِيجابية والسلبية التي تترتب عليه » (١) .

حادثة القتل الأولى في تاريخ الانسان :

إن أول حادثة للقتل وقعت في تاريخ الإِنسان ، هي أن أخاً قتل أخاه ، ولم يكن الدافع إلى ذلك ـ حسب النصوص الإِسلامية ـ هو الغريزة الجنسية ، بل خلافة الأب أو حب الرئاسة الممزوج بالغضب ! .

يسأل سليمان بن خالد من الإِمام الصادق عليه‌السلام عن سبب أول حادثة للقتل في أسرة آدم ، فيجيبه الإِمام عليه‌السلام : « يا سليمان إن الله تبارك وتعالى أوحىٰ إلى آدم : أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل وكان قابيل أكبر منه ، فبلغ ذلك قابيل فغضب ، فقال : أنا أولى بالكرامة والوصية » (٢) .

تقول المدرسة الإِسلامية : إن أول حادثة للقتل في تاريخ البشرية قد وقعت بسبب حب الرئاسة وثورة القوة الغضبية . أما المدرسة الفرويدية فانها تصورت أن القتل في القبيلة البدائية الموهوبة كان بسبب الغريزة الجنسية والقدر الجامع بين المدرستين أن القتل كان في ظرف غير عادي وحالة غير طبيعية .

انطفاء الوجدان :

إن أنصار الوجدان الفطري يشرحون حالة الإِنسان النفسية بالصورة التالية : إن الإِنسان يدرك في الحالة الطبيعية قبح القتل بواسطة الوجدان الأخلاقي والإِلهام الإِلهي ، ولا يزاحم حرية الأفراد الآخرين . وعندما تثور إحدى الغرائز ويقع الإِنسان تحت تأثير عوامل الغضب ، والجنس والجوع ،

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ٨٣ .

(٢) تفسير البرهان ص ٢٨٢ .

٢٨٩

والحسد ، وحب الذات والمال والجاه ، وما شاكل ذلك ، فإن شعلة الفطرة تنطفىء ، ولا يسمع الإِنسان نداء الوجدان وحينذاك يرتكب جريمة القتل بصورة جنونية .

هذا الوضع الثابت كان موجوداً في باطن الإِنسان منذ البداية ، ولا يزال يوجد في جميع نقاط العالم على نفس المنوال . ولقد إعترف المؤمنون بتعاليم الأنبياء وأكثر العلماء في العالم بهذا المنطق الطبيعي الذي يسمع من لسان الفطرة في كل زمان ومكان .

أما فرويد وأتباع مدرسته فقد شرحوا قصة القتل من زاوية التحليل النفسي بالنحو الآتي : ـ

« ربما لو لم يقع جريمة قتل الأب في تلك القبيلة ، ولم تظهر نتائجها الوخيمة المؤلمة فيما بعد ، فإن أحفاد الإِنسان الأول كانوا يستمرون في قتلهم بعضهم البعض ذلك أن هذا القتل هو الذي سبب صدور الأمر النفسي بصورة : إنك سوف لا تقدم على القتل . ثم انتقل إلى جميع أفراد البشر » (١) .

١ ـ لقد استعمل في البداية لفظة ( ربما ) . وهذا يدل على أن إتباع مدرسة فرويد لا يؤمنون بهذه النظرية مائة في المائة . بل أنهم يواجهونها على أساس الترديد والشك .

٢ ـ يستفاد من هذه العبارة أن أبناء البشر كانوا يستمرون في قتل بعضهم البعض بلا رادع أو مانع ، وإن حادثة قتل الأب الوهمي والندم الناشىء من ذلك ، الذي أدى إلى صدور الإِعلان الخيالي كانت السبب في إيقاف جرائم القتل .

إذا كان فرويد وأتباعه يرون أن توسع جرائم القتل قبل صدور الإعلان كان ناشئاً من ثورة غريزة من الغرائز كالذي حدث في قتل الأب ، فيجب أن

____________________

(١) أنديشه هاى فرويد ص ٨٨ .

٢٩٠

نقول لهم ، إن الإِعلان لم يترك أصغر الأثر في الإِنسانية لاستمرار جرائم القتل حتى بعد صدوره . ففي حالة السلم يُقتل يومياً مئات الأفراد في العالم لسبب الجنس والغضب والحسد ، وأما في حالة الحرب فلا تعدّ الضحايا ! ! .

فإن قالوا : إن أفراد البشر كانوا قبل صدور ذلك الإِعلان يقتل بعضهم بعضاً دون أي ثورة من الغرائز بل وفي الحالات الإِعتيادية وجاء الإِعلان ليمنع حدوث مثل تلك الجرائم . . . فبديهي أنهم خالفوا الواقع في ذلك . ذلك أن الكلاب ، الذئاب ، النمور وكذلك الطيور حين تصطرع فيما بينها فليس إلا بهيجان غريزة الجوع أو الجنس وما شاكل ذلك ، أما في الحالات الإِعتيادية فلا يزاحم بعضها بعضاً . اللهم إلا أن تدعي المدرسة الفرويدية أن الإِنسان أحط من الكلاب وأشد توحشاً من الذئاب . ونتيجة ذلك إن الذئاب لا تتنافس ولا تتزاحم في الحالات الطبيعية ، أما أفراد الإِنسان فانهم يقتل بعضهم بعضاً في الحالات الطبيعية وفي مثل هذه العبارات السخيفة فليحكم النقاد والباحثون ! .

قبح الخيانة :

لقد سبق أن قلنا : إن الوجدان الأخلاقي يدرك كثيراً من أمهات الفضائل والرذائل ، ولا ينحصر ذلك الإِدراك بقبح القتل ، الذي حللناه تحليلاً مفصلاً ، وتعرفنا فيه إلى عبارات فرويد ونظرياته وكنموذج آخر نستعرض قبح الخيانة في نظر الوجدان .

لنفرض طفلاً يملك تفاحة ، ويودع تفاحته عند آخر ليذهب إلى غسل يديه ويرجع . إنه يتوقع ـ طبيعياً ـ وينتظر ـ فطرياً ـ أن يسترجع أمانته . فإذا جاء ووجد أن الطفل الآخر قد أكل التفاحة فانه يتألم ويلومه ويدينه بفعل قبيح . وأما الطفل الذي أكل التفاحة فانه هو الآخر يحس بالتألم . ويضطرب ، يصفّر وجهه ، يحاول الفرار والإِبتعاد عن ساحة الخطيئة . وكذلك الأطفال المتفرجون فانهم يعتبرون هذا الفعل خطأ ، ويدركون بأن الذي أكل التفاحة قد ارتكب فعلاً قبيحاً ، هذا الإِحساس أو الشعور لا يرتبط بالتعليم والتربية وإنما هو إدراك ينبع من أعماق الفطرة وموجود عند جميع الأطفال .

٢٩١

أما فرويد فانه ينكر القبح الفطري للخيانة ، شأنه في سائر الأمور الفطرية الوجدانية ، ويعتقد أن الإِنسان الأول كان لا يفهم شيئاً من الحسنات والسيئات الخلقية . وهنا نجد من المناسب أن نرجع إلى القبيلة الوهمية التي تصورها فرويد لنجعل بحثنا يدور حولها .

إذا كان فرويد يدّعي أن أفراد القبيلة كانوا كقطيع من الأغنام لا يدركون معنى الأمانة أصلاً . فمن البديهي أن البحث عن قبح الخيانة يكون لغواً مع هذه الدعوى . إذ يجب أن لا نتحدث عن قبح الخيانة مع الأغنام التي لا تدرك الأمانة كي تدرك عكسها . ولكن المفروض أن فرويد لا يستطيع أن يدعي مثل ذلك ، لأنه قال عند التحدث عن أبناء القبيلة الذين قتلوا أباهم :

« ولم يكن مقدوراً لأحد الأولاد أن يحقق أمنيته ويستحل منزلة أبيه إذ أنه على ذلك كان يلاقي نفس مصير أبيه ».

يستفاد من هذه العبارة أن أفراد القبيلة الوهمية كانوا عقلاء مفكرين متعمقين إلى درجة أنهم كانوا يشاهدون الستار الذي يكمن وراء ستار الرئاسة ، وكانوا يعلمون أنهم بقبولهم الرئاسة سيلاقون نفس المصير المؤلم الذي لاقاه أبوهم من قبل ، وبديهي إن إدراكاً كهذا يكون نتيجة التعقل والتفكير ، ومن الواضح أن القبيلة الخيالية لم تكن تحت سيطرة حكومة الغرائز العمياء الصماء مثل الأغنام ، بل كانوا يدركون معنى الأمانة بكل وضوح .

لنفرض أن إحدى نساء القبيلة خرجت في الصباح إلى الغابة واستطاعت بعد عناء شديد أن تنظف بعض الفواكه لطعامها وطعام أطفالها ، وقد جرحت بالأشواك . . . وفي أواخر النهار تحمل الفواكه إلى حيث تسكن القبيلة . وبما أن طفلها يضيع في أثناء الطريق ، فانها تودع الثمار عند أحد أفراد القبيلة الذي كان بالقرب من تلك المنطقة ، وتعود إلى الغابة للبحث عن طفلها ، وعندما ترجع تجد أن الشخص الذي أودعت الثمار عنده قد وزعها بين أفراد أسرته وأكلوها جميعاً . . . أليس هذا العمل مخالفاً لما كانت تتوقعه المرأة بفطرتها ؟ ألا تحس المرأة أن عملاً قبيحاً قد وقع ؟ . ألا يحق لها أن تصيح وتولول

٢٩٢

وتضرب الخائن ؟ . وإذا إجتمع أفراد القبيلة وأطلعوا على القضية ألا يسألون الخائن عن قبح فعله ؟ ألا يسمحون لتلك المرأة أن تأخذ حقها من الخائن ؟ ألا تدل هذه الردود الروحية على القبح الفطري للخيانة ؟ ! إن جواب فرويد على هذه الأسئلة كلها بالنفي . إنه يقول : إن الخيانة ليست من الناحية الفطرية فعلاً حسنا أو قبيحاً . ذلك لأن الإِنسان الأول لم يكن يدرك الحسن والقبح .

أما أتباع الرسالات السماوية ، وكثير من العلماء في الماضي والحاضر فانهم يرون أن قبح الخيانة ـ كسائر الوجدانيات ـ أصيل في بناء الإِنسان . إن الله تعالى وهب الإِنسان ثروة فطرية عظيمة لهدايته إلى الحياة السعيدة ، وليصل عن هذا الطريق إلى الكمال الإِنساني اللائق به . ولكن الإِنسان الحر والطليق من تلويثات الغرائز فقط هو الذي يستطيع أن يسمع نداء الفطرة . ويدرك الخير والشر .

يقول الإِمام عليه‌السلام بهذا الصدد : « إن الله إذا أراد بعبد خيراً طيب روحه فلا يسمع معروفاً إلا عرفه ، ولا منكراً إلا أنكره » (١) .

الدعوة على أساس الفطرة :

لقد وجه الأنبياء إهتمامهم إلى الفضائل الأخلاقية التي لها جذور إلهامية وتكوينية في النفس الإِنسانية ، ولقد دعوا الناس في مناهجهم التشريعية إلى إحياء الفطرة الأخلاقية ، يقول الإِمام الصادق عليه‌السلام : « إن الله لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة » (٢) . وفي حديث آخر : « لا تنظروا إلى طول ركوع الرجل وسجوده ، فان ذلك شيء قد إعتاده ، فلو تركه استوحش لذلك ، ولكن انظروا إلى صدق حديثه وأداء أمانته » (٣) .

هذا الحديث يرشدنا إلى البحث عن إنسانية الرجل في حياة وجدانه الأخلاقي ، فإن من يطفىء جذوة الفطرة في باطنه وينحرف عن الصراط

____________________

(١) إثبات الهداة ج ١ ص ٨٧ .

(٢) و (٣) سفينة البحار ، مادة ( صدق ) ـ ص ١٨ .

٢٩٣

المستقيم يكون قد إنسلخ عن الإِنسانية ، وإن بدا صلاحه وكان يطيل الركوع والسجود . إن الوجدان الأخلاقي إذا كان حراً ولم تعصف به عواصف الجبن والغضب يدرك الخير والشر بالإِلهام الإِلهي ، ويستطيع أن يكتشف طريق سعادته من شقائه : « ونفس وما سواها ، فألهمها فجورها وتقواها » .

عدالة الوجدان :

إن الوجدان الأخلاقي يعتبر من أهم وأعظم العوامل التنفيذية للوقاية من الجرائم . فانه الذي يوجه اللوم والتقريع إلى المجرم ، ويوجه نحوه بذلك أشد الضربات . إن الوجدان الأخلاقي أطهر وأقدس محكمة قضائية لمعالجة الجرائم والجنايات . وإن عدالة محكمة الوجدان تضارع عدالة المحكمة الإِلهية في القيامة . . . فكما أن الله تعالى يحكم بين الناس بالحق في ذلك اليوم ، كذلك الوجدان الأخلاقي فانه يحاسب المجرم ويجازيه ، ولهذه المناسبة بينهما فإن الله تبارك وتعالى قد قرن النفس اللوامة بيوم القيامة في القرآن الكريم حين قال : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ  ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) .

« الأخلاق الصحيحة هي التي تستند على أساس إحترام الوجدان . وإن الوجدان الأخلاقي يعمل دائماً للإِرتباط بالدين لأنه سر نشوء الإِطمئنان والإِعتماد . ولهذا فإن الوجدان الأخلاقي يحكم في الأفعال بصورة عادلة وصحيحة بصورة كلية ، وذلك بخلاف العقيدة التي يمكن أن تؤثر فيها الدعايات بسهولة » .

« إن إحترام الوجدان الأخلاقي ليس منشأ الحرية والرفاه الإِجتماعي فحسب ، بل إنه منشأ الهدوء النفسي أيضاً . والآن حيث لا يمكن الخروج على إطاعة الوجدان الأخلاقي ، فالأجدر أن نتقبل أوامره بكل إرتياح وشوق ونخضع لحكمه وعدالته . هذه الطاعة النفسية توجد سلوكاً حميداً ومفضلاً » (١) .

____________________

(١) بيماريهاى روحى وعصبي ص ٦٩ .

٢٩٤

« لا بد من الإِهتمام الناشىء من عدم إرضاء الوجدان الأخلاقي . فالندم ، والغضب ، والتحمس للتبرئة ، والحقد ، هذه كلها من نتائج تعذيب الوجدان الأخلاقي . هذا التعذيب يمكن أن يوجد بعض الأمراض الروحية الخفيفة » (١) .

الميثاق الفطري :

لقد ورد التعبير عن الوجدان الأخلاقي في بعض الرويات بالميثاق الإِلهي . فعندما خلق الله الإِنسان علمه الخير والشر ، وكأنه عقد معه ميثاقاً وأخذ منه عهداً تكوينياً في أن يلتزم بالتعاليم الفطرية ، ولا ينحرف عن صراط الفطرة المستقيم .

فالذين يخرجون على الميثاق الفطري ويخالفون أوامر الإِلهام التكويني والوجدان الأخلاقي يعيشون في هذه الحياة بقلق واضطراب تماماً ويحسون بملامة دائماً ، وأما في القيامة فانهم يبتلون بعذاب الله .

وعلى العكس فإن الذين يوفون للميثاق الفطري حقه ويستمعون لنداء الإِلهام الإِلهي المتمثل في أوامر الوجدان الأخلاقي فانهم يعيشون حياة ملؤها الاطمئنان والهدوء ، وينصرفون من هذه الحياة إلى الحياة الأخرى مع نداء : ( يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً ) .

يتطرق الإِمام عليه‌السلام في ضمن حديث له إلى أوصاف المؤمن الكامل فيقول : « صدق بعهد الله ، وفي بشرطه ، وذلك قوله عز وجل : ( رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ) فذلك الذي لا تصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة » (٢) .

وفي حديث آخر : « وفى لله بالشروط التي إشترطها عليه ، فذلك مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً ، وذلك ممن يشفع

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٧٠ .

(٢) بحار الأنوار ج ١٥ ص ٥٠ .

٢٩٥

ولا يشفع له ، وذلك ممن لا يصيبه أهوال الدنيا ولا أهوال الآخرة » (١) .

إطاعة الوجدان الأخلاقي :

إن نتيجة إتباع الميثاق الفطري الأخلاقي هو الهدوء النفسي والسكينة والإِطمئنان . إن اتباع الوجدان الأخلاقي يورث الفضيلة والتجلي الروحي وإن الإِنحراف عن الفطرة يسبب الضلال والفساد ، ولقد كان الأنبياء يبذلون الجهود العظيمة التي لا تعرف الملل ولا الكلل ليعرفوا الناس بفطرتهم ويزيحوا الأستار المظلمة للغرائز والشهوات عنها وليُحيوا الفضائل الإِنسانية فيهم . ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ) (٢) .

إن أيام الله هي أيام الخلقة والفطرة ، أيام الإِيمان والفضيلة ، فكان على النبي موسى عليه‌السلام أن يذكّر الناس بتلك الأيام ويعلمهم نعمة الهداية الإِلٰهية التي كانت موجودة فيهم منذ اليوم الأول . فأنتم الذين تسعدون إن إتبعتم أوامر الإِلهام الألهي ، وتشقون وتعذبون إن خالفتم تلك الأوامر .

إن الوجدان الأخلاقي ثروة إنسانية كبيرة لتحقيق السعادة . فبالإِمكان وقاية الناس من الجرائم والمخالفات بإحياء الوجدان الأخلاقي فيهم ، وبذلك يمكن هدايتهم إلى الطريق المستقيم.

ولأجل التأكيد على ما نقول ، نسوق الحادثة التاريخية التالية شاهداً على ذلك :

« قال : سمعت غلاماً بالمدينة وهو يقول : يا أحكم الحاكمين ، أحكم بيني وبين أُمي. فقال له عمر بن الخطاب : يا غلام لِم تدعُ على أُمك ؟ فقال : يا أمير المؤمنين انها حملتني في بطنها تسعاً وأرضعتني حولين كاملين فلما ترعرعت وعرفت الخير من الشر ، ويميني عن شمالي طردتني وانتفت مني

____________________

(١) المصدر نفسه ج ١٥ ص ٥١ .

(٢) سورة إبراهيم ؛ الآية : ٥ .

٢٩٦

وزعمت إنها لا تعرفني . فقال عمر : أين تكون الوالدة ؟ قال : في سقيفة بني فلان . فقال عمر : علي بأم الغلام . فأتوا بها مع أربعة أخوة لها ، وأربعين قسامة يشهدون لها أنها لا تعرف الصبي ، وإن هذا الغلام مدع ظلوم غشوم يريد أن يفضحها في عشيرتها ، وإن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط ، لأنها بختام ربها ، فقال عمر : يا غلام ما تقول ؟ فقال : يا أمير المؤمنين هذه والله أُمي ، حملتني في بطنها تسعاً وأرضعتني حولين كاملين ، فلما ترعرعت وعرفت الخير والشر ، ويميني من شمالي طردتني وانتفت مني وزعمت إنها لا تعرفني ، فقال عمر : يا هذه ما يقول الغلام ؟ فقالت : يا أمير المؤمنين والذي إحتجب بالنور فلا عين تراه ، وحق محمد وما ولد ما أعرفه ولا أدري من أي الناس هو ، وإنه غلام يريد أن يفضحني في عشيرتي وأنا جارية من قريش ولم أتزوج قط وإني بخاتم ربي . فقال عمر : ألك شهود ؟ فقالت : نعم هؤلاء . فتقدم الأربعون قسامة وشهدوا عند عمر أن الغلام مدع يريد أن يفضحها في عشيرتها وإن هذه جارية من قريش لم تتزوج قط . وإنها بخاتم ربها . فقال عمر : خذوا بيد الغلام وانطلقوا به إلى السجن حتى نسأل عن الشهود ، فإن عدلت شهادتهم جلدته حد المفتري . فأخذوا بيد الغلام وانطلقوا به إلى السجن . فتلقاهم أمير المؤمنين عليه‌السلام في بعض الطريق فنادى الغلام : يا بن عم رسول الله . إني غلام مظلوم فأعاد عليه الكلام الذي تكلم به عمر ثم قال : وهذا عمر قد أمر بي إلى السجن . فقال علي عليه‌السلام : ردوه إلى عمر ، فلما ردوه قال لهم عمر : أمرت به إلى السجن فرددتموه إلي فقالوا : يا أمير المؤمنين أمرنا علي بن أبي طالب أن نردّه إليك وسمعناك وأنت تقول : أن لا تعصو لعلي أمراً . فبينا هم كذلك إذ أقبل علي عليه‌السلام فقال : عليَّ بأم الغلام ، فأتوا بها فقال علي عليه‌السلام : يا غلام ما تقول : ؟ فأعاد الكلام على علي عليه‌السلام فقال علي لعمر أتأذن لي أن أقضي بينهم ؟ فقال عمر : سبحان الله وكيف لا وقد سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : أعلمكم علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، ثم قال للمرأة : يا هذه المرأة ألك شهود ؟ قالت : نعم . فتقدم الأربعون قسامة فشهدوا بالشهادة الأولى ، فقال علي عليه‌السلام : لأقضين اليوم بينكم بقضية هي مرضاة الرب من فوق عرشه .

٢٩٧

علمني إياها حبيبي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال لها : ألك ولي ؟ قالت : نعم ، هؤلاء إخوتي . فقال لأخوتها : أمري فيكم وفي أختكم جائز ؟ قالوا : نعم يا بن عم محمد ، أمرك فينا وفي أختنا جائز . فقال علي عليه‌السلام : أشهد الله وأشهد من حضر من المسلمين إني قد زوجت هذا الغلام من هذه الجارية بأربعمائة درهم والنقد من مالي . يا قنبر : عليَّ بالدراهم . فأتاه قنبر . فصبَّها في يد الغلام فقال : خذها وصبها في حجر إمرأتك ولا تأتنا إلا وبك أثر العرس ـ يعني الغسل ـ فقام الغلام : فصب الدراهم في حجر المرأة . ثم تلببها ، وقال لها : قومي . فنادت المرأة : النار النار يا بن عم محمد أتريد أن تزوجني من ولدي ؟ هذا والله ولدي ، زوجني إخوتي هجيناً فولدت منه هذا . فلما ترعرع وشب أمروني أن أنتفي منه وأطرده هذا والله ولدي ، وفؤادي يتغلى أسفاً على ولدي ، قال . . . ثم أخذت بيد الغلام وانطلقت ، ونادى عمر : واعمراه لولا علي لهلك عمر » (١) .

الاستفادة من الوجدان :

إن التزوج بالأم قبيح ومذموم في الضمير الباطن ، وفي الوجدان الأخلاقي التربوي للناس ، ولقد استفاد الإِمام علي عليه‌السلام في مقام القضاء ولكشف الواقع من قوة الوجدان ، واكتشف ضمير المرأة ، وحملها على الإِعتراف بالواقع الذي حاولت إخفاءه ، وإذا كان الوجدان الأخلاقي التربوي مؤثراً لهذه الدرجة في الوقاية من الإِنحراف فمن البديهي أن تأثير الوجدان الأخلاقي الفطري الذي هو جزء من الفطرة الإِنسانية في إصلاح المجتمع أشد وأعمق .

فمن الضروري أن يستفيد القائم على تربية الطفل من الوجدان الفطري له منذ البداية ويحيي الميول الإِلهامية فيه ويقيم التربية على أساس الفطرة . وطبيعي أن تربية كهذه ستبقى ثابتة على أساس الفضيلة والطهارة .

____________________

(١) بحار الأنوار للعلامة المجلسي ج ٤٠ ص ٣٠٤ ـ ٣٠٦ .

٢٩٨

المحاضرة الثانية عشرة

الاختبار النفسي

قال الله تعالى : ( لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ ، وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ) (١) .

لقد تطرقنا في المحاضرة السابقة إلى قصة الأم التي أنكرت ولدها الحقيقي ، وقد إستند الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام إلى قوة الوجدان الأخلاقي في مقام القضاء ، واكتشف الضمير الباطن للمرأة وجعلها تقر بأمومتها ولما للاختبار النفسي والوصول إلى الأسرار الباطنية من أهمية كبيرة في البحوث النفسية والتربوية فاننا نخصص بحثنا في هذه المحاضرة لذلك .

العقدة النفسية :

هناك بعض الأسرار التي توجد عقدة في باطن الأَشخاص حيث لا يمكن إكتشافها من جهة ، وإن كتمانها يسبب القلق والاضطراب من جهة أُخرى وهي تجعل الحياة أحياناً مُرة وجحيماً لا يطاق ، وأحياناً تسبب أمراضاً نفسية . إن السبيل الوحيد للعلاج منحصر في إكتشاف ذلك السر المكتوم وحل تلك العقدة وهذه مهمة شاقة جداً .

____________________

(١) سورة القيامة ؛ الآيتان : ١ ـ ٢ .

٢٩٩

الضمير الباطن والظاهر :

ولإِيضاح معنى الضمير الباطن ، والضمير الظاهر من زاوية علم النفس نجد من الضروري أن نمثل لهما بمثال : تصوروا أسرة متوسطة مسلمة عاشت حياتها في طهارة وشرف ، فالزنا والاستهتار يعدان عملاً شنيعاً في أنظار أفراد الأسرة . ولم يسبق لهم أن دنسوا أذيالهم بتلك الجريمة . تتعارف فتاة من هذه الأسرة مع شاب بصورة سرية ، وبعد عدة لقاءات عادية يتفقان على أن يقضيا نهاراً كاملاً معاً ، تخرج الفتاة بحجة التذاكر في الدروس والذهاب إلى بيت إحدى زميلاتها وتذهب مع رفيقها للنزهة إلى ( سد كرج ) ، يتنزهان لساعتين أو ثلاث ، ويتلذذان بمشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة . . . وعند الظهر يذهبان إلى بيت ما للاستراحة وتناول طعام الغذاء . المحيط الهادىء وإنعدام الرقيب عليهما يهيجان عواطف الشباب و ـ بصورة موجزة ـ ينال وطره من الفتاة . وبالرغم من أن الفتاة لم تكن تملك فكراً هادئاً من أول الصباح وكانت تحس بالقلق في باطنها ، لكن فقدان بكارتها سبب لها إنهياراً شديداً ، ولكن الأوان قد فات ، وقد وقع ما كان واجباً أن لا يقع . وعند المغرب يرجعان إلى المدينة . كان غياب الفتاة هذا اليوم للمطالعة والتذاكر العلمي في الظاهر ، ولكن قد وقع في الباطن إتصال غير مشروع . إن الفتاة تحس باضطراب شديد من جراء عملها هذا ، وتشعر بأن شرفها مهدد بالخطر ، فإن أُفشي سرها فإن ذلك سيجر لها فضيحة عظيمة . إنها تفكر ، وتخطط ، وتصمم في النهاية ـ خلاصاً من الفضيحة ـ أن لا تتزوج مدى العمر وتحتفظ بهذا السر وتصحبه معها إلى القبر ، ولتنفيذ خطتها هذه تبدأ بالتمهيد للموضوع ، تتحدث عن مشاكل الزواج أحياناً . ثم لا يمضي بضعة أشهر حتى يجيء إليها من يطلب يدها . الفتاة تختفي عن الخاطبات ، وتخبر أبويها وأفراد أسرتها عن إمتناعها عن الزواج وتتحدث عن تصميمها دائماً : لا أتزوج ، الرجال غير أوفياء ، لا يوجد رجل في مجتمعنا ، لماذا أتزوج ؟ لماذا أرمي بنفسي في دوامة المشاكل والآلام ؟ ما أكثر الفتيات اللاتي تزوجن ورجعن ، بعد عدة أشهر إلى بيوت آبائهن ، حوامل ، وقضين حياة ملؤها الكدر والأسى . إني لا أرمي بنفسي في

٣٠٠