الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

الشيخ محمد تقي فلسفي

الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي فلسفي


المحقق: فاضل الحسيني الميلاني
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94553-6-1
ISBN الدورة:
964-94553-6-1

الصفحات: ٤٠٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

مفسداً داعياً إلى الفناء والهلاك » (١) .

نتائج الذنوب :

وإذا تصفحنا أقوال أئمة الإِسلام وقادتنا الكرام عليه‌السلام ، نجد أنهم يعللون جميع المآسي والمشاكل والنكبات الفردية والإِجتماعية بالجرائم والذنوب التي يرتكبها الناس ، نتيجة تخلفهم عن القوانين الإِلهية ، فيلاقون جزاءهم على ذلك التخلف والخروج على أحكام الله .

فلكل من الذنوب أثر خاص في الأضرار بالإِنسان ، فالظلم والخيانة والكذب والتزوير ، هتك الأعراض والميوعة ، قول الزور والتجاوز على حقوق الآخرين ، الفتنة والنميمة . . كل هذه الذنوب تشبه الأمراض التي تصيب جسم الإِنسان . وهنا يجدر بنا الإِشارة إلى بعض النصوص الواردة عن أئمة أهل البيت عليهم‌السلام التي تبين العواقب المادية والمعنوية للذنوب والجرائم :

١ ـ يقول الإِمام الباقر عليه‌السلام : « ما من نكبة تصيب العبد إلا بذنب » (٢) .

٢ ـ وعن الإِمام الصادق عليه‌السلام : « تعوذّوا بالله من سطوات الله . بالليل والنهار ، قال ( أي الراوي ) : قلت له : وما سطوات الله ؟ قال : الأخذ على المعاصي » (٣) .

٣ ـ وعن الإِمام الصادق عليه‌السلام أيضاً : « إن الذنب يحرم الرزق » (٤) .

٤ ـ وعن الإِمام الباقر عليه‌السلام : « إن الله قضىٰ قضاء حتماً : ألا ينعم على العبد نعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنباً يستحق بذلك النقمة » (٥) .

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ٣ / ١١٨ .

(٢) الكافي للكليني ج ٢ / ٢٦٩ .

(٣) نفس المصدر . وسطوة الله : غضبه وأخذه بالشدة . كما في المصباح .

(٤) الكافي ج ٢ / ٢٧١ .

(٥) الكافي ج ٢ / ٢٧٣ . وفيه تلميح إلى قوله عز وجل : ( إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ ) سورة الرعد ؛ الآية : ١٢ .

٢١

٥ ـ وعن الإِمام الرضا عليه‌السلام : « كلَّما أحدث العباد من الذنوب ما لم يكونوا يعملون ، أحدث الله لهم من البلاء ما لم يكونوا يعرفون » (١) .

٦ ـ وعن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام : « وأيم الله ما كان قوم قط في خفض عيش فزال عنهم ، إلا بذنوب اقترفوها ، لأن الله ليس بظلام للعبيد » (٢) .

الجزاء الآجل :

لا شك في أن كل ذنب يترك أثراً سيئاً في الفرد والمجتمع على السواء والمذنب يلاقي جزاءه حتماً ، غاية الأمر أن بعض الذنوب تظهر نتائجها بسرعة ويلاقي المجرم جزاءه عاجلاً ، بينما لا تنعكس آثار بعض الذنوب على الفرد والمجتمع إلا بعد مدة طويلة . . وعليه فالمجرم لا يلقى جزاءه إلا بعد مدة من الزمن أو بصورة تدريجية .

فالذين يحبون الفضيلة والكمال ويريدون بلوغ الأوج في الفضائل والمثل الإِنسانية يتحاشون إرتكاب كل أنواع الذنوب والجرائم ، سواء كان جزاؤها مؤجلاً أو معجلاً . . أما بعض قصار النظر الذين لا يتمالكون من إقتراف الذنوب ولا يراعون الله والقيم العليا والمثل الإِنسانية ، فأنهم يظنون أن الخلاص يكمن في ترك الذنوب ذات الجزاء العاجل ، وحينئذ فهم لا يرون مندوحة في أن يمارسوا شهواتهم وأهواءهم بالنسبة إلى الجرائم التي يكون الجزاء فيها آجلاً .

إن أوضح مثال على ذلك نجده في التعاليم الصحيحة. فالطبيب يقول للمريض المصاب بالإِسهال : إمتنع عن تناول الأطعمة العسرة الهضم والفواكه النية ، والمريض يطيعه على ذلك . لأنه لو خالفه يصاب ـ بعد ساعة أو ساعتين مثلاً ـ بآلام شديدة ونزف معدي أو معوي وضعف عام في جسده ، بصورة موجزة

____________________

(١) المصدر السابق ج ٢ / ٢٧٥ .

(٢) المستطرف من كل فن مستظرف للابشيهي : ج ٢ / ٦١ . وخفض عيش : في سعة ولين من العيش .

٢٢

بما أن الجزاء سريع وعاجل فالمريض يضطر إلى إطاعة الطبيب .

أما إذا نصح هذا الطبيب شاباً بالإِجتناب عن الخمر والحذر عن الوقوع في أسرها ، وسأله الشاب : وماذا سيحدث إن « شربتها ؟ فيجيبه الطبيب : إنك ستجد بعد عشر سنين الآثار الوخيمة للخمرة في جسدك وروحك . . . ستصاب بالعوارض القلبية والكلوية والكبدية ، وتقترن حياتك ببؤس وشقاء وانحلال . . . وما أشبه ذلك .

ففي هذه الصورة نجد الشاب يتماهل في العمل بنصائح الطبيب ويعاقر الخمر ليل نهار ، والسبب في ذلك هو أن جزاءه آجل غير عاجل. وهكذا فكل قانون يكون عامل التنفيذ فيه قوياً وسريعاً فإنه يطبق بأحسن صورة وكلما فُقد عامل التنفيذ أو كان الجزاء فيه آجلاً فإن تطبيقه لا يتم بصورة مرضية (١) .

الجزاء العاجل :

إن القوانين الطبيعية تمتاز بأن مخالفتها تؤدي إلى أن يلاقي الفرد جزاءه عاجلاً . ولذلك فإن الناس يخافون الخروج عليها . . . النار تحرق فوراً ، الغاز يخنق رأساً ، ولذلك فإن هذه القوانين تقابل بالإِطاعة التامة والإِنقياد الكامل ، ومعها يضطر المريض إلى إطاعة أوامر الطبيب حينما يصطدم بالآم شديدة وحمى قوية وضعف تام بعد مضي ساعة على مخالفتها .

وهكذا ، فالمجرمون الذين يخرجون على القوانين الإِجتماعية إذا وجدوا أنفسهم أمام عقوبات صارمة كالسجن مع الأعمال الشاقة أو الإِعدام مثلًا فأنهم يضطرون إلى إطاعة القانون واحترامه . ويحذرون من تجاوز حدودهم المقررة في إطار القانون .

إلا أنه توجد في القوانين السماوية ذنوباً وجرائم ، يكون الجزاء عليها في الدنيا بطيئاً وفي الآخرة أبطأ . ولهذا فإن كثيراً من الناس لا يرتدعون عن

____________________

(١) وهذا هو السر في الصرامة الشدة التي يفرضها الإِسلام في عقوباته ، مما جعل الجهال يتحاملون عليه بأنه ليس ديناً صالحاً للتطبيق . والحال أن التجارب تثبت عكس ذلك .

٢٣

ارتكابها ـ أو لا يجدون في أنفسهم خوفاً من إرتكابها على الأقل ـ ظانين أنهم في حصن حصين عن الجزاء . ولقد رأينا كيف حدثنا التاريخ بالجريمة الكبرى التي ارتكبها عمر بن سعد في قتل الإِمام أبي عبد الله الحسين عليه‌السلام حيث وقع أسير التفكير الخاطء الذي وجد نفسه ـ معه ـ في أمن من العقاب لكونه بطيئاً غير معجل ، ولذلك فقد سُمع يردد ـ « وهل عاقل باع الوجود بدين ؟ ! ! » . إذ أن إمارة ري كانت معجلة بينما جزاء يوم القيامة بعيد وآجل . . . وعليه فلا يجب ترك العاجل بالآجل .

بينما نجد القرآن الكريم يفند هذه الفكرة ، وينبِّه الناس إلى ضرورة توقي الجزاء الآجل ، كما لو كان عاجلاً بقوله تعالى : ( إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا وَنَرَاهُ قَرِيبًا ) (١) .

يوم الجزاء :

إن يوم الجزاء بعيد جداً في نظر المذنبين والمجرمين ، لكن الله يرى ذلك اليوم قريباً جداً . إذ لا تمضي مدة طويلة حتى يلاقي هؤلاء المجرمون جزاء ما اقترفوه . وبالرغم من طول المدى فإنه لا بد من وجود يوم يعاقب فيه الخارجون على سنة الله وحكمه .

الآثار الوخيمة للذنوب :

إن جانباً من الأمراض الروحية والعصبية التي يصاب بها الناس ، ناتج من الإِنحرافات الخلقية وسوء القصد ، فالحسد مثلاً يفعل في بدن الحسود وروحه ما يفعله السرطان في الجسم ، والتكبر يولد في الإِنسان بعض الاختلالات الروحية وقد يؤدي إلى الجنون ، ولكنه قد لا تظهر هذه العوارض بسرعة بل تكون بطيئة وتدريجية .

وكثير من الشبان ينحطون إلى أسفل درك من الحضيض نتيجة الميوعة والتفسخ الخلقي . . . وأخيراً يؤدي بهم ذلك إلى الانتحار . وكم من رجل

____________________

(١) سورة المعارج ؛ الآيتان : ٦ ـ ٧.

٢٤

أردى به الحرص والطمع وطلب الجاه والأنانية إلى هوة سحيقة وعيش أمض من الموت ومصير مؤلم فظيع ! ! .

فالعاقل هو الذي لا يلوث أذياله بأي ذنب ، ويظل متحفظاً من أي انحراف في سلوكه ، وهكذا فإن الرجال العظماء والذين كانوا ولا يزالون مفاخر الإِنسانية جمعاء في كل عصر ، لم يحصلوا على تلك المنزلة إلا لأنهم عاشوا عيشة طاهرة منزهة من الدنس ، فالفضائل والكمالات لايمكن أن تتفق مع الذنوب ، ومن يريد الوصول إلى أوج الكمال والعظمة الروحية ، عليه أن يتخلى عن ميوله اللامشروعة وشهواته وأهوائه التي تقف في طريق تكامله . يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « إنك لن تدرك ما تحب إلا بالصبر عما تشتهي » (١) .

قد يولد الإِعجاب بالشهرة وطلب الجاه أثراً شديداً في نفس الفرد ، بحيث يضطره إلى أن يرخي عنان الصبر من يده ، ويرتكب كل جريمة في سبيل هدفه . . . ومع ذلك فالمصيبة العظمى أنه لا يصل إلى ما يريد بالرغم من إتخاذه كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيقه .

البؤس والحرمان :

وتأكيداً لما سبق نورد هنا حديثاً عن الإِمام الحسين عليه‌السلام نأمل أن يقع موقع الإِهتمام والعناية من قبل المسلمين ، وخصوصاً : الشبان منهم ويضعوه نصب أعينهم في جميع مجالات نشاطهم مدى الحياة :

« من حاول أمراً بمعصية الله كان أفوت لما يرجو وأسرع لما يحذر » (٢) .

. . . إذا كانت في نفسك رغبة ملحة في جمع المال ، فاحرص على أن تجمعه من طريق مشروع وبأساليب صحيحة بعيدة عن الخيانة . . . والسرقة . . . وإن كنت ترغب في الحصول على شهرة قوية في المجتمع فلا

____________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم للآمدي ص ١٤٩ ط النجف الأشرف .

(٢) بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج ١٧ / ١٤٩ .

٢٥

تطلب ذلك من طريق الإِجرام ، لأن النهاية هي البؤس والحرمان.

إن أصدق شاهد على كلمة الإِمام الحسين عليه‌السلام الآنفة الذكر ، نجده في تاريخ ألطف بصورة جلية ، فإن عمر بن سعد بن أبي وقاص كان يميل بشدة للحصول على إمارة ( ري ) ، وكانت أوهام الرئاسة على تلك المدينة وقيادة زمامها قد عاشت في مخيلته ، حتى راح يضحي بكل شيء عنده للوصول إلى هدفه. وأخيراً لم يجد بداً من أن يسلك مسلكاً غير مشروع لتحقيق أمنيته هذه فارتكب أشنع الجرائم وأبشعها في تاريخ البشرية وهي قتل الحسين عليه‌السلام وأصحابه مع تلك الحالة المفجعة الممضة غير القابلة للوصف . كل ذلك أملا في الحصول على إمارة ( ري ) . . . وأخيراً ـ وبالرغم من إرتكابه تلك الجريمة العظمىٰ ـ لم يصل إلى هدفه ، وخاب ظنه وخسر الدنيا بعد خسرانه الآخرة . . . هذا غير الوخز المؤلم من الضمير له والإِيقاع به في شبكة من الأمراض الروحية والعصبية ، نتيجة لخيانته الكبرىٰ تلك . . . وكانت نهاية حياته أن وقع فريسة دسمة بأيدي الثوار الذين نهضوا يطالبون بدم الحسين بقيادة المختار الثقفي ، وتحققت فيه قولة الإِمام عليه‌السلام : « من حاول أمراً بمعصية الله ، كان أفوت لما يرجو وأسرع لما يحذر » .

هذه نبذة يسيرة عن الذنب وبعض نتائجه وآثاره ، تطرقنا إليها كتمهيد للبحث وذلك بمناسبة قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في جواب علي عليه‌السلام : « أفضل الأعمال في هذا الشهر ، الورع عن محارم الله » .

نسأل الله عز وجل أن يوفقنا في هذا الشهر ، وفي سائر أيام السنة للإِجتناب عن السيئات والجرائم . وبذلك نجلب رضى الله تعالى بالحصول على السعادة في الدنيا ، والنعيم في الآخرة .

وفي نهاية المطاف أود أن أشير إلى أن بحثنا في المحاضرات القادمة سيدور حول أساس السعادة في تربية الطفل . وعليه فلا بد ـ كتمهيد لفهم الموضوع ـ من ذكر بعض المقدمات المرتبطة به . . . فنبحث ـ أولاً ـ في أصل السعادة ، ودور الوالدين في تحقيق سعادة الطفل وشقائه ، والمقارنة بين التربية والوراثة . ثم ندخل إلى صلب الموضوع . ولا يخفى أننا في ضمن بحثنا عن

٢٦

التعاليم القيمة التي جاء بها القرآن الكريم والنصوص الواردة عن المعصومين عليهم‌السلام ، بشأن التربية وما يتعلق بها ، نستشهد بالبحوث العلمية الحديثة التي توصل إليها علماء الغرب. وغرضنا من ذلك أمران : ـ

أولهما : ـ إنه يجب الإِعتراف بأن للعلماء الغربيين مطالعات دقيقة وبحوثاً قيمة في كثير من الموضوعات . وعلى كل عاقل حر أن يستفيد من أفكار العلماء وتجاربهم الصحيحة المعقولة ليستخدمها في حياته العملية . والإِسلام دين العقل والمنطق ، ولذلك فقد أوصىٰ المسلمين بأن يجدّوا في طلب العلوم والحكم ويأخذوها من أي شخص كان وأينما وجدوها ، وإن كان الملقي بها منحرفاً من ناحية العقيدة أو مأسوراً لعبادة الأوثان والشرك بالله . وعلى سبيل المثال نذكر بعض النصوص الواردة بهذا الشأن : ـ

وراء طلب العلم :

١ ـ قال الإِمام علي عليه‌السلام : « خذ الحكمة ولو من المشركين » (١) .

٢ ـ وعنه عليه‌السلام أيضاً : « لا تنظر إلى من قال وانظر إلى ما قال » (٢) . ومعناها : أطلب الكلمة الحقة من أي شخص كان .

٣ ـ وعنه عليه‌السلام : « خذ الحكمة ولو من أهل الضلال » (٣) .

٤ ـ ويقول أيضاً : « الحكمة ضالة المؤمن ، فاطلبوها ولو من عند المشرك » (٤) .

٥ ـ وعنه عليه‌السلام أيضاً : « أعلم الناس : من جمع علم الناس » (٥) .

الاسلام دين العلم والمعرفة :

الإِسلام دين التكامل والتحقيق ، دين العلم والمعرفة ، يراعي موضوع

____________________

(١) إثبات الهداة للحر العاملي ج ١ / ٤٩ .

(٢) المصدر السابق ج ١ / ٤٦ .

(٣) المصدر نفسه ج ١ / ٤٦ .

(٤) المصدر نفسه ج ١ / ٤٧ .

(٥) المصدر نفسه ج ١ / ٤٧ .

٢٧

حرية التعلم مراعاة كاملة ويصرح بوجوب تعلم العلم والحكمة من أي إنسان ولو كان ضالاً أو مشركاً .

إلا أنه يجب أن نعلم بأن الإِسلام يمنح الحرية لأصحابه في إستيعاب الحقائق العلمية الصحيحة ، لا لكل تقليد أعمىٰ وسلوك أهوج .

إن كثيراً من الناس في بلادنا بهرتهم المدنية الغربية وجمالها إلى درجة أنهم أخذوا يحسون بالحقارة والتصاغر في نفوسهم تجاهها ، ويتنكرون لتراثهم الخالد وتعاليمهم الدينية القيمة ، حتى ظنوا أنه لم يكن للمسلمين وجود إنساني فيما مضى أصلاً ، ولا قيمة لماضيهم المجيد وتراثهم الخالد . . . هؤلاء يظنون أن كل ما هو في أوروبا وأمريكا وكل ما يجري على الناس هناك حسن وصحيح وجدير بالتقليد ، ويبدو لهم أن الطريق الوحيد للسعادة منحصر في إتباعهم من دون تعقل أو روية ، غافلين تماماً عن أن هناك مساوء كثيرة في تلك البلدان في قبال بعض المحاسن التي يرونها . فالعاقل ـ إذن ـ هو الذي يقلد محاسن الأمم المتقدمة ويجتنب عن مساوئها .

حسن الاقتباس :

وبهذا الصدد يقول القرآن الكريم : ( الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ) (١) .

وقد ورد في الحديث : « خذوا الحق من أهل الباطل ولا تأخذوا الباطل من أهل الحق ، كونوا نقاد الكلام ، فكم من ضلالة زخرفت بآية من كتاب الله كما زخرف الدرهم من نحاس بالفضة المموهة ، النظر إلى ذلك سواء ، والبصراء به خبراء » (١) .

فلو كان مجتمعنا الإِسلامي قد تمسك بتعاليم القرآن الكريم واختار حسنات المدينة الحديثة وتجنب سيئاتها ، لكان قد حصل على نجاح باهر في مجالات

____________________

(١) سورة الزمر ؛ الآية ١٨ .

(٢) إثبات الهداة ج ١ / ١٣٦ .

٢٨

مختلفة إلى هذا الحين . . . ولكن المؤسف أن الأمر على عكس ما يريده لنا القرآن . فنجد تقليد المدنية الحديثة في علومها وتكاملها وفي مجالات البحث والإِختراع أقل ـ بكثير ـ من تقليدها في مجالات الإِنقياد للشهوات وشرب الخمر والميوعة والتحلل والفساد . فبينما نجد الشرقيين يسبقون الغرب في الجانب الثاني ، نجدهم في ركب متأخر عنهم في الجانب الأول ، ومع ذلك كله ، فالأمل لا يزال يحدونا إلى استعادة إستقامة سلوكنا والأخذ بمنهجنا القرآني الصحيح الكافل لسعادتنا ورقينا وازدهارنا ، والفرصة لا تزال سانحة للرجوع إلى اقتباس ما هو حسن وصالح من الغرب ، وترك ما هو مضر وفاسد فيه .

. . هذا فيما يخص الجهة الأولى من استشهادنا بأقوال العلماء الغربيين وبحوثهم في محاضراتنا هذه .

أما بالنسبة إلى الجهة الثانية ، فهي أن يتعرف المسلمون على حقيقة دينهم أكثر فأكثر ، ذلك لأننا نحاول ـ في محاضراتنا هذه ـ أن نستقصي الآيات القرآنية والنصوص الواردة بشأن ( تربية الطفل ) وما يتعلق به ، ونبحث عن الجوانب العلمية والنفسية التي أتت عليها ، ثم نستشهد ـ بالمناسبة ـ بنص العبارات الواردة في بحوث علماء النفس والتربية الغربيين وكتبهم ، وبذلك نقارن بين ما ورد في تعاليم الإِسلام وما ورد في بحوث أولئك العلماء ، فتتضح عظمة التعاليم الإِسلامية للملأ ، ويعرف المسلمون أن البحوث والتحقيقات التي يجريها علماء الغرب والجهود التي يبذلونها للوصول إلى الحقائق العلمية ليست أمراً جديداً للبشرية. بل جاء نبي الإِسلام وأوصياءه من بعده يشيرون إليها قبل أربعة عشر قرناً ، ويفيضون بها على الناس من منبع الإِلهام والوحي الإِلهي .

وبديهي أنه كلما ظهرت القيمة العلمية للإِسلام أكثر ، إزداد الناس ـ والطبقة المثقفة منهم بالخصوص ـ إذعاناً وإحتراماً لعظمة الإِسلام والقرآن . وأي هدف أعظم من توجيه عقول البشرية إلى نور الإِسلام وعظمته ؟ ! .

٢٩

إتباع العقل :

يسأل يعقوب بن السكيت من الإِمام الرضا عليه‌السلام أسئلة حول معاجز الأنبياء ، وبعد أن يجيبه عن تلك الأسئلة ، يسأله عن الحجة القاطعة والدليل الساطع على نبوة النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قائلاً : « فما الحجة على الخلق اليوم ؟ فقال عليه‌السلام : العقل » (١) .

يشير الإِمام الرضا عليه‌السلام بكلامه هذا ، إلى أن الأفراد يجب أن ينظروا في تعاليم القرآن بنظر العقل والدقة ، ويوجهوا أفكارهم إلى حقيقة ساطعة هي : أن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قام في عالم مظلم ودور جاهلي أهوج ، في الحجاز . . . حيث مظاهر البداوة والتفرقة والحزازات ، حيث لا مدرسة ولا مكتبة ، ولا حديث عن العلم والعالم ، ولا أثر للمنطق والتفكير . . . قام في مثل ذلك الدور العصيب ـ وهو أُمي لم يدرس عند أحد ـ فأخذ يدعو الناس إلى الإِيمان ، بحماس وثبات شديدين ويهديهم إلى شاطىء الأمن والسعادة ، وأخذ يقول في كل شيء كلمته بمنطق صحيح ودليل قاطع ، ووضع القوانين لكل جانب من جوانب الحياة ، وأخذ بيد تلك الأمة المتأخرة إلى حيث العزة والكمال والعظمة . . . ولا تزال تعاليمه الرصينة تهب الحياة للبشرية من دون أن تفقد قيمتها العلمية والإِجتماعية . . . في مثل هذه الظروف وعلى مثل هذه الأوضاع يحكم العقل ـ بلا تردد ـ بأن البشر العادي ـ سواء في أمسه أو يومه ـ يستحيل عليه أن يقوم بعمل جبار كهذا ويترك هذه الآثار العظيمة في الجوانب المختلفة من الحياة . فليس ذلك النبوغ وتلك العظمة وهذه الرصانة في التعاليم إلا نتيجة الإِتصال الوثيق بخالق الكون عن طريق الوحي والإِلهام .

( إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ ) (١) .

وليس معنى الإِيمان بالنبي والنبوة إلا هذا الاعتقاد بالإِرتباط المعنوي بين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والله تعالى وكونه سفيراً له على وجه الأرض ، لهداية البشر إلى

____________________

(١) إثبات الهداة ج ١ / ٨٠ .

(٢) سورة الأحقاف الآية : ٩ .

٣٠

الصراط ؟ المستقيم ، وهذا هو المائز الحقيقي الذي يفصل بين النبي وبين الفلاسفة والعلماء العاديين ، فالعلماء قد درسوا في فرع واحد أو عدة فروع من العلوم بصورة اعتيادية ، ومن طريق الكتاب والمدرسة والمعلم وما شاكل ذلك حتى وصلوا إلى ما وصلوا إليه . . . بينما النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أُمي لم يدرس عند أحد ، لكنه تلقى الوحي والإِلهام من الله تعالى ، فكان هو مدرسة الأجيال كلها ، وكتاب العلماء كلهم ، وأستاذ المعلمين كافة .

وفي الختام نرجو أن نعمل على هدى النبي وأهل بيته الكرام عليهم الصلاة والسلام . متخذين من العقل الصحيح أقوىٰ دليل على الإِيمان والثبات على العقيدة .

٣١

المحاضرة الثانية

الآراء البشرية حول السعادة ـ الاسلام والسعادة

قال الله العظيم في كتابه الحكيم : ( فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا . لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ . . ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ ، وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ) (١) .

السعادة :

نشأ الإِنسان منذ نعومة أظفاره محباً للسعادة والهناء ، فاراً من البؤس والشقاء . . . فكل الناس يحبون أن يكونوا سعداء مرفهين ، ويصرفون كل جهودهم في سبيل تحقيق ذلك الهدف المقدس النير . . . السعادة .

ولكن المشكلة المهمة هي معرفة أساس السعادة وحقيقة الرفاه ، إذ لا يتسنى لمن لا يعرف حقيقة السعادة أن يطلبها ويسعى وراءها ، لأن السعي وراء أمر مجهول عبث وباطل .

وطوال القرون المتمادية والأعصار المنصرمة ، بحث العلماء عن السعادة البشرية وألفوا فيها وأوردوا نظريات مختلفة في هذا الموضوع . وكذلك الأمم والكتل البشرية اتخذت طرقاً معينة وأساليب خاصة للوصول إلى السعادة ، وإذا أردنا أن

____________________

(١) سورة الروم ؛ الآية : ٣٠ .

٣٢

نستقصي جميع تلك النظريات والآراء والطرق والأساليب لاحتجنا إلى وقت أوسع من هذا ، إلا أننا سنكتفي بذكر أهم تلك الآراء والنظريات المعروفة الآن . ثم نشير إلى بعض الأحاديث الواردة بشأن السعادة . هذا ولا يخفى أن المدار في تلك النظريات والأقوال ومحل النزاع في البحث هو ما يعتبره كل طائفة أصلاً ثابتاً للوصل إلى السعادة وأساساً لتحقيقها.

المبدأ النفسي :

١ ـ ذهب بعض العلماء والفلاسفة اليونانيين الذين سبقوا ( أرسطو ) إلى أن سعادة البشرية تنحصر في الكمالات النفسية ، وهم يرون أن أساس السعادة الإِنسانية أربع صفات هي : الحكمة ، الشجاعة ، العفة ، العدالة . فمن كان واجداً لهذه الصفات كان سعيداً ، ومعها لا حاجة إلى الكمالات الجسدية وسلامة الجسم أو أمور خارجة عن البدن ، فهؤلاء يقولون : « إن الإِنسان إذا حصل تلك الفضائل لم يضره في سعادته أن يكون ناقص الأعضاء مبتلي بجميع أمراض البدن » (١) .

فالأمراض البدنية عندهم لا تضر بالسعادة إلا إذا أوردت نقصاً على الجانب المعنوي منه ، وأدت به إلى الجنون أو الحمق ، وكذلك الفقر والتردي الإِجتماعي فانهما لا يضران بسعادة الإِنسان إذا كان محرزاً للصفات النفسانية الأربع الآنفة الذكر .

٢ ـ ويعتقد المرتاضون بالمبدأ النفسي في السعادة البشرية ، فهم يقولون : ـ إن السعادة والكمال يرتبطان بكمال النفس والتعالي في الجوانب الروحية فقط . ويجب تحقيق تكامل الروح وإظهاره في الخارج عن طريق الرياضة النفسية ومجاهدة الأهواء والشهوات . ويفرط المرتاضون في عدم إعتنائهم إلى الجانب البدني كثيراً حتى أنهم أشد تفريطاً من اليونانيين الذين سبقوا ( أرسطو ) بالنسبة إلى أبدانهم . فبينما كان يرى حكماء اليونان أن السعادة تتعلق بكمال النفس ولا يضر معها نقصان البدن ـ وليس في منهجهم ما يوجب

____________________

(١) طهارة الأعراق لابن مسكويه ص ٧٨ .

٣٣

الإِضرار بالبدن ـ نجد المرتاضين يعتقدون بأن كمال النفس يتناسب تناسباً طردياً مع حرمان البدن والإِضرار به . فكلما كانت درجة الحرمان عن اللذائذ والطيبات عندهم أكثر ، كانت درجة التكامل الروحي أكثر . ولهذا فإن السالكين في هذا الطريق يسعون بجد واجتهاد لحرمان الجسد من ميوله وأهوائه ، ويعذبون أجسادهم بالنوم على المسامير أو التعليق من غصن شجرة وما شابه ذلك من أساليب التعذيب أملاً في الحصول على السعادة المعنوية الكاملة .

٣ ـ وطائفة ثالثة تعتقد بالمبدأ النفسي في سعادة الإِنسان أيضاً ، ولكنها في نفس الوقت لا تغمط الجسد حقه . هؤلاء يقولون : إن السعادة الحقيقية تكمن في التكامل الروحي ويجب الاعتناء به كثيراً . ولكن لا ينبغي التغافل عن إرضاء الميول الجنسية الخارجة عن حريم السعادة . ويؤكدون على نقطة مهمة هي أن كل ما كان مشتركاً بين الإِنسان والحيوان من الصفات والميول والشهوات فهو خارج عن نطاق السعادة الإِنسانية ، ولذلك يقول قائلهم : « إن ما كان منها عاماً للإِنسان والبهائم فليست سعادة لنا » (١) .

إن نقطة الإِشتراك بين هذه العقائد الثلاث التي كان لها أنصار في الأزمنة الغابرة بين الفلاسفة والحكماء اليونانيين وغيرهم من الناس طوال القرون المتمادية ، هي أن الجانب النفسي فقط هو الذي يراعى فيه ويفقد الجانب البدني الاعتناء والمراعاة اللازمة ، فالجسد عندهم يفقد قيمته الحقيقية وليس له أي دخل في تحقيق السعادة البشرية . والميول والرغبات المادية تلاقي حرماناً وكبتاً شديدين في نظرهم ، حتى أنها لتقع تحت مطرقة الرياضة النفسية الثقيلة والتعذيب الشديد . . . ولا يخفى على من له مسكة من العقل أن هذا هو الشقاء والحرمان بعينه ، وليس موصلاً إلى السعادة ـ كما يظنون ـ أبداً .

السعادة في المدنية الحديثة :

وتعرف السعادة في العالم اليوم ـ وفي كنف المدنية الحديثة ـ بلون آخر ، وتفسر بتفسير مضاد لتفسير الأمم السالفة والعصور القديمة مضادة تامة . فبينما

____________________

(١) ترتيب السعادات لابن مسكويه ص ٢٥٩ .

٣٤

كان أولئك يرون أن الأصل في الوصول إلى السعادة هو الكمال النفسي والتكامل الروحي ، يذهب هؤلاء إلى التمسك بالجانب المادي واعتبار الأهواء والرغبات المادية ملاكاً في معرفة السعادة . وعليه فالكمالات النفسية والسجايا الخلقية والفضائل تفقد أثرها على مذهب هؤلاء المتمدنين .

وبصورة موجزة ؛ فإن الإِفراط الشديد في الجانب الروحي ، والتفريط الشديد في الجانب المادي . . . اللذين كنا نشاهدهما عند فلاسفة العصور القديمة قد أنقلبا إلى العكس تماماً في المدينة الغربية المعاصرة . فأخذت بالافراط الشديد في الجانب المادي والتفريط الشديد في الجانب الروحي ، كرد فعل للنظرة السابقة . وهنا لا بأس بأن نتطرق إلى بعض تلك المبادىء بصورة إجمالية :

المبدأ الاقتصادي :

يعتقد العالم المتمدن اليوم ـ وفي المعسكر الشرقي منه بالخصوص ـ بأن السعادة منحصرة في التقدم الاقتصادي ، وإن مصير السعادة الإِنسانية مرتبط بمصير الوضع الإِقتصادي ، هؤلاء ينظرون إلى كل زوايا الحياة بمنظار الإِقتصاد ، ويعللون جميع المسائل الإِخلاقية والإِجتماعية والدينية والاعتقادية بعلل إقتصادية . . . فهم يقولون : ـ

« إن تغيُّر الأساس الإِقتصادي يزعزع كل البناء الفوقي والهائل علي صور مختلفة من السرعة أو البطء . . . هذا الانقلاب الذي يشاهد بالضبط الخاص بعلوم الطبيعة وبين الأشكال الحقوقية والسياسية والدينية والفنية والفلسفية أو بكلمة مختصرة ، الأشكال الفكرية التي يتصور فيها الناس هذا النزاع ويكافحونه . . . فينبغي تفسير هذا الوعي في المجتمع بالقوى المنتجة وعلاقات الإِنتاج . . . » (١)

وكما وجدنا المرتاضين والمنخرطين في سلك المبدأ النفسي ينكرون

____________________

(١) المادية الديالكتيكية والمادية التأريخية ، تأليف ستالين . ترجمة خالد بكداش ص ٦٢ .

٣٥

كثيراً من الحقائق المادية والميول الجسدية ، نجد في الطرف المقابل أن المنخرطين في سلك المبدأ الإِقتصادي ينكرون كثيراً من الحقائق الروحية والاعتقادية والإِخلاقية ولم يعتبروا لها وجوداً أصلاً . . .

نحن لا ننكر أن الكمالات النفسية والسجايا الخلقية تشكل الأركان المهمة للسعادة ، ولكن لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الأخلاق والمثُل . كما أننا لا ننكر أن الإِقتصاد من الأسس القويمة للسعادة البشرية ، إذ بدونه لا تحصل السعادة الكاملة ، كما ورد في الحديث : « من لا معاش له لا معاد له » إلا أنه لا يصح القول بأن السعادة البشرية منحصرة في الإِقتصاد .

وهنا لا بأس بأن نستشهد بكلام لأحد العلماء الغربيين المعاصرين بهذا الصدد :

« نحن اليوم نسير في جادة الزمن مع التقدم التكنولوجي (١) من دون أن نعير أهمية إلى الاحتياجات الأصلية للجسد والروح . ومع أننا نتخبط في المادة نعتبر أنفسنا بمعزل عنها ولا نحاول أن نفهم بأنه يجب ـ لأجل الاستمرار في الحياة ـ السير بمقتضى طبيعة الأشياء وطبيعة أنفسنا لا على طبق الأهواء والرغبات. إن البشرية المتمدنة تتردى منذ قرون طويلة في هذه الهوة السحيقة . وإن تاريخ الإِنحطاط الخلقي والابتعاد عن الروح الدينية يتفق تماماً مع تاريخ الخروج على القوانين الأصلية للطبيعة . إنه لا يمكن حصر النشاطات البشرية كلها في الجوانب المادية فقط إلا بعد تحطيم شخصية الإِنسان لأن الإِنسان لم يخلق للأكل والتكاثر بل أقدم منذ نعومة أظفاره على ابتداء التكامل بحب الجمال ، والإِحساس الديني والنشاط الفكري ، والشعور بالتضحية والحياة البطولية . . . » (٢) . « وإذا حددنا الإِنسان بنشاطه الإِقتصادي فقط

____________________

(١) التكنولوجيا : هو العلم الذي يعني بدراسة الفنون وأنواعها وتاريخها .

(٢) راه ورسم زندگى ص ٣٤ .

٣٦

فكأننا فصلنا جزءاً كبيراً منه . وعليه فإن الليبرالية والماركسية تسحقان الرغبات الأصلية والنوازع الفطرية في النفس الإِنسانية » (١) .

« إن الفضيلة من القيم الإِنسانية القديمة ، ويمكن العثور عليها في العالم المتمدن ، إلا أنه يندر العثور عليها في الجماعات التي ترزح تحت نير النظم المادية ، إن المجتمع الذي يقدس الإِقتصاد لا يعرف شيئاً عن الفضيلة . لأن الذي يريد الفضيلة لا بد وأن يبتغي إطاعة القوانين الحياتية . أما إذا قيد الإِنسان نفسه بالنشاط الإِقتصادي فقط فلا يطيع القوانين الكونية والاجتماعية أصلاً » (٢) .

مبدأ اللذة :

وتذهب طائفة كبيرة من المتمدنين اليوم إلى أن الأصل في السعادة الإِنسانية هو اللذة . وعليه فالسعادة عبارة عن تحقيق اللذائذ المادية ، والمثل الأعلىٰ للإِنسان السعيد هو الذي يستفيد من لذائذ الحياة أكثر من غيره .

ويمكن اعتبار العالم النفسي ( سيجموند فرويد ) ومن لف لفه ، رافعي راية هذا المبدأ . وكما رأينا أصحاب المبدأ الإِقتصادي ينظرون إلى كل شيء بمنظار الإِقتصاد ، فإن فرويد يعلل جميع ظواهر الحياة بمنظار الميول والدوافع الجنسية ، ولذلك فهو يقول في موضوع حقيقة السعادة :

« إنه لا يفوتني الإِدراك بأن الحب هو مركز الحياة ، وعليه فأن الناس يعللون كل فرح ونجاح بالحب والمحبوبية وهذا الوضع النفسي موجود عند الجميع . إن من المظاهر التي يظهر فيها الحب هو الحب الجنسي الذي يكسبنا حالة من الإِنجذاب والشعور باللذة . وفي النتيجة فإن هذه اللذة تكون قدوة ودليلاً لميلنا نحو السعادة . فأي شيء إذن أقوم من أن نسلك الطريق إلى السعادة

____________________

(١) نفس المصدر .

(٢) نفس المصدر ص ٧٧ .

٣٧

في نفس الطريق الذي صادفناه أول مرة » (١) .

أرأيت كيف يعتبر فرويد ، اللذة والشهوة الجنسية مصدراً لكل شيء ؟ ! . حتى أنه يقول : إن الشهوة الجنسية هي التي تظهر بمظهر الأخلاق تارة وفي صور العقائد والأديان تارة أُخرى وهي نفسها التي تتشكل أحياناً بحنان الأم وعطف الأخ ، فهي الكل في الكل في هذه الحياة ؟ ! ! .

فمظاهر الحياة ـ عند فرويد ـ من أخلاقية وفنية ودينية وسياسية واقتصادية واجتماعية ، كلها وليدة الحب والجنس واللذة لا أكثر ، فالمظاهر وإن اختلفت إلا أنها متحدة في جوهرها ومآلها . واستمع إليه يقول :

« إن حنان الأم ، الحب الأبوي والأخوي ، الصداقة والصحبة مشتقة من الجنس عند فرويد . وجميع الروابط الاجتماعية بين الأشخاص كالعلاقة بين المعلم والتلميذ ، والعلاقة بين الأم والطفل وما شاكل ذلك إما أن تمتاز بطابع جنسي من ذاتها أو ترجع إلى أصل جنسي في النتيجة » (٢) .

ومع أن فرويد يقسِّم الغرائز الأولى عند الإِنسان إلى قسمين : الغرائز التي تتعلق بصيانة الذات ، والغريزة الجنسية ، نجده في المقام يغرق في الشهوة الجنسية حتى أنها تنسيه غريزة حب الذات ـ التي اعترف بها في بادىء الأمر ـ وكشاهد على ما نقول ، إليك العبارة الآتية :

« إن فرويد يثبت ـ بمعونة بعض الأمثلة ـ كيف أن الغريزة الجنسية التي هي أقوىٰ وأعمق القوى الروحية عند الإِنسان قد تكيفت بصورة مجهولة عبر الزمن ، وظهرت بمظاهر الميول المختلفة والأشكال المتباينة ، بحيث إذا واجه طبيب إختلالاً روحياً ـ مهما كان جزئياً ـ يتمكن من أن يحكم بصورة قطعية على أن حادثة غير

____________________

(١) أنديشه هاي فرويد ص ١١٢ .

(٢) المصدر السابق ٤٧ .

٣٨

طبيعية قد طرأت على الجهاز الجنسي والرغبات الجنسية للمريض وعليه فانه يرجعه إلى حالته الأولى بصورة تدريجية حسب التعاليم النفسية الدقيقة ، ويقلص من إطار مسؤوليته شيئاً فشيئاً حتى يصل إلى نقطة الإِختلال الباعثة على الإِنحراف في جهازه الجنسي هذا هي خلاصة نظرية ( فرويد ) في العلاج النفسي . . . » (٢) .

هذا هو موجز الاكتشاف العظيم الذي يراه فرويد والفرويديّون منشأ التحوّل في العلاج النفسي الحديث . أما كيف استدل فرويد على أن أي اختلال روحي يستند إلى حدوث شيء في الغريزة الجنسية ؟ ! أما كيف لا يكون التطور الحادث في الغريزة الجنسية هو المسبّب عن حدوث الاختلال الروحي ؟ . . فذلك ما لا يريد أن يفهمه فرويد واتباعه ، نعم ! إن كان فرويد يدعي أن أكثر الاختلالات الروحية تستند إلى الغريزة الجنسية فلربما كان يلاقي كلامه هذا قبولاً من القارىء ، وكان يؤدي به إلى أن يفكر في نفسه أن فرويد كان باحثاً عميقاً وأنه استند إلى الإِحصاءات الدقيقة للأمراض الروحية ووصل إلى هذه النتيجة ، أما حين يسمعه يقول :

« إذا واجه طبيب إختلالاً روحياً ـ مهما كان جزئياً ـ يمكن أن يحكم بصورة قطعية على أن حادثة غير طبيعية قد طرأت على الجهاز الجنسي والرغبات الجنسية للمريض . . . » .

هنا يقطع الإِنسان بأن القائل قد وقع تحت تأثير الغريزة الجنسية إلى درجة أنه لا يتمالك على نفسه من الهذيان والتطاول بالباطل .

لنفرض عاملاً فنياً قد قضى أربعين سنة في عمل ما ، أصيبت عينه في أثناء العمل فدخل المستشفى ، وصرف جميع ما يملك في هذا السبيل وفقد بصره في النهاية . إن التفكير في العمى والبطالة والفقر والبؤس يقض عليه مضجعه ، وأخيراً يؤدي به إلى الإِختلال الروحي ، وحين يفحصه الطبيب

____________________

(١) كتاب فرويد ص ٦٢ .

٣٩

النفساني يتوصل إلى أن العلة الأصلية في ذلك الاختلال هو فقدان البصر وفقره . .

وهكذا فإن إنساناً محترماً قد أشرف على الشيخوخة يُتَّهم بالسرقة أو الإِرتشاء من قبل أُناس مغرضين . فيذهب ماء وجهه وذلك يؤدي به إلى الاختلالات الروحية ، فلا يمكن أن يوجد في العلاج النفساني أصل لهذا الاختلال غير الإِتهام بالسرقة . . . وهكذا فإن أمثال هذه القضايا كثيرة في المجتمع ، ولا ربط لها أصلاً بالأمور الجنسية كما يدعي فرويد .

ولولا أن فرويد نفسه قد اعتبر غريزة حب الذات مغايرة للغرائز الأُخرى كحنان الأم وغيره من الميول الطبيعية المتفرعة عن الغريزة الجنسية لكان يصح كلامه هذا وكان قابلاً للتصديق ! اما وأنه ينسب جميع الاختلالات الروحية إلى حدوث تغيرات في الغريزة الجنسية فليس معنى ذلك إلا اعتبار غريزة حب الذات فرعاً من فروع الغريزة الجنسية وهذا ينافي حبُّ الذات مستقلة عن غيرها من الغرائز الجنسية يا أُستاذ فرويد ! ! فلماذا لا تنسب بعض تلك الاختلالات الروحية التي ذكرتها إليها ؟ .

إنه لا ريب في أن الغريزة الجنسية تعتبر إحدى الغرائز القوية التي أودعها الله في النفس الإِنسانية إلا أن فرويد يفرط في هذا الموضوع ويغالي في حقها كثيراً .

ومن يطالع عقائد فرويد في الكتب المختلفة بدقة ، يصل إلى هذه النتيجة في نهاية المطاف ، وهي : إن الإِنسان مجموعة من اللحم الحي الذي يملك غريزتين إحداهما حب الذات والدفاع عنها . والأُخرى الشهوة الجنسية ، لكن جميع أوجه النشاط البشري في جميع المظاهر الحياتية ترتبط بالأخيرة وهي الغريزة الجنسية فقط .

إنه لم يوجد في تاريخ العلوم البشرية أحد قد تأثر بالغريزة الجنسية واهتم بها بقدر تأثر فرويد بها وإهتمامه لها ، ولا يوجد أحد ينظر إلى الإِنسان هذه النظرة الطفيفة الخسيسة . والعلماء اليوم بالرغم من اعتمادهم على طريقة

٤٠