الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

الشيخ محمد تقي فلسفي

الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي فلسفي


المحقق: فاضل الحسيني الميلاني
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94553-6-1
ISBN الدورة:
964-94553-6-1

الصفحات: ٤٠٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

العيش والمعلومات الحياتية عن طريق الغريزة التي هي من نعم الله عليها بصورة تلقائية ولا تحتاج في ذلك إلى تعلم أو تربية . فالحيوان يحتاج إلى أُمه أياماً قليلة ليأخذ منها الغذاء المناسب وتشملها الرعاية اللازمة كي يخوض معركة الحياة بعد ذلك . . . أما أطفال الإِنسان فأنهم يجب أن يتلقوا من أمهاتهم بالإِضافة إلى التغذية والصحة ، مناهج مفصلة عن الحياة وفي الواقع إن الأطفال يتلقون من أُمهاتهم غذاءين : الغذاء المادي والغذاء الروحي . إن حجر الأم مضافاً إلى قيامه بالتغذية الجسدية ، يعتبر مدرسة لتربية الطفل وإن فترة هذه المدرسة طويلة . فما لم يتخرج الطفل من هذه المدرسة لا يزال طفلاً ، وهو يحتاج إلى الأم ، ولا يليق للإِنطلاق في الحياة .

التغذية السليمة :

كما أن جسم الطفل يحتاج إلى غذاء ، فإن روحه أيضاً تحتاج إلى غذاء . إن النمو الطبيعي والاعتيادي لجسم الطفل يكون نتيجة التغذية السليمة ، والنمو الكامل لروح الطفل يخضع أيضاً لأسلوب التغذية التربوية الصحيحة والتنمية النفسية السليمة . يقول القرآن الكريم : ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) .

بديهي أن الإِنسان يجب أن يهتم بطعامه وينظر إليه بعين الدقة والبصيرة والظاهر أن المراد من الطعام هنا هو المواد النباتية التي يتغذى منها الإِنسان بقرينة الآيات اللاحقة التي تتحدث حول نزول المطر ، وإخضرار الأعشاب ونمو الأشجار المثمرة . إن التفكر في المواد الغذائية والدقائق الموجودة في عالم النبات والحيوان يدفع الإِنسان إلى الإيمان بالله والمعاد ، كما أنها تعتبر من زاوية العلوم الطبيعية مجالاً واسعاً للبحوث العلمية والاستنتاجات المفيدة منها. لكن الإِمام الباقر والإِمام الصادق يفسران الطعام في هذه الآية بالعلم :

١ ـ « عن أبي جعفر في قوله تعالى : ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) قال : علمه الذي يأخذه ، عمن يأخذه فلينظر الإِنسان إلى طعامه » (١) .

٢ ـ « عن أبي عبد الله في قوله تعالى ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ )

____________________

(١) تفسير البرهان ص ١١٧٣ .

٢٠١

قلت : ما طعامه ؟ قال : علمه الذي يأخذه ، عمن يأخذه » (١) .

غذاء الروح :

بالإِضافة إلى الحديثين السابقين نجد الأئمة يعبّرون في موارد أُخرى عن التعاليم الروحية بـ ( الغذاء ) أو ( الطعام ) ، ويعتبرون التعلم غذاء للروح . وسيكون بحثنا معتمداً على هذين الحديثين لننطلق منهما إلى التعليم والتربية على أساس هذه التعبير ، أي باعتباره غذاء روحياً .

وعلى الرغم من أنه يمكن عقد المقارنه بين غذاء الروح والجسد من عدة جوانب والاستفادة من هذا التشبيه لأغراض مختلفة ، لكن بحثنا هذا سيدور حول نقطتين : الأولى : نظافة الغذاء وسلامته الثانية : كون الغذاء جامعاً ، وكاملاً . وقبل الخوض في الحديث لا بأس بتقديم مقدمة في أهمية الغذاء للجسد والروح ، ومجاري تغذية كل منهما .

يحتاج الإِنسان كسائر الأحياء إلى الغذاء ، فبالغذاء يستطيع أن يستمر في حياته ، وإذا لم يتناول طعاماً فأنه يموت . إن جميع الشهوات والميول الإِنسانية التي هي مصدر النشاطات المختلفة تستيقظ بعد تناول الطعام وتدفع الإِنسان إلى الحركة والعمل والسعي . وفي العصور المظلمة كان بعض الناس يتوهمون أن الأنبياء لا يحتاجون إلى الطعام لمنزلتهم السامية ، ولذلك فقد جاء القرآن الكريم مفنداً هذه النظرة بصراحة : ( وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَّا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ ) (٢) .

خطر الجوع :

الجوع من أخطر حالات الإِنسان وأدقها تأثيراً ، حتى كأن الجائع ينسى دينه وإيمانه ، ويغفل عن الحنان والعاطفة ، ومن أجل أن يملأ بطنه ينقلب إلى حيوان مفترس .

لقد حدث في البصرة في القرن الثالث من الهجرة إنقلاب عظيم . فقد

____________________

(١) نفس المصدر ص ١١٧٣ .

(٢) سورة لقمان ؛ الآية : ٨ .

٢٠٢

قام ( صاحب الزنج ) في السنوات القليلة التي حكم فيها بأعمال إجرامية شديدة من إهراق الدماء البريئة وما شاكل ذلك حتى ذهب ضحية سيفه آلاف الرجال والنساء والأطفال . أما الذين قُدِّر لهم أن ينجوا بأرواحهم من طغيانه فقد كانوا يقضون النهار مختفين ، ويخرجون ليلاً بقلوب مليئة بالرعب والخوف للحصول على بعض الطعام . وقد عطلت الأعمال وتركت المزارع واستولى على الناس قحط شديد ، فاضطر الناس إلى أكل لحوم الكلاب والقطط وحتى أجساد الأموات فيما بعد . وكان يؤدي بهم الجوع أحياناً إلى أن يقتلوا الأشخاص المشرفين على الموت وأكل لحومهم والتاريخ يروي لنا قصه غريبة عن ذلك العصر . فقد وجدت إمرأة ماسكة رأساً مذبوحاً وهي تبكي ، فسألوها عن سبب بكائها . فأجابت أن الجياع كانوا مجتمعين حول أختها لتموت فيأكلوا لحمها ، وقبل أن تموت تماماً قطعوها وتقاسموا لحمها ، ولكنهم ظلموني فلم يشركوني في لحمها بل أعطوني رأسها فقط لأطعم منه . إن هذه المرأة كانت لفرط الجوع قد نسيت عواطفها فلم تفكر في قتل أختها ولم تتأثر لذلك . بل كان بكاؤها لعدم إشراكها في لحمها (١) .

وكذلك روح الإِنسان ، فهي حية بالغذاء الروحي ، فالإِنسان المحروم من التربية المعنوية والبعيد عن العلم لا يملك حياة انسانية أبداً . فهو في صورة إنسان لكنه في الواقع أخطر وأوطأ من أي حيوان مفترس .

طرق تغذي الجسم :

إن جسم الإِنسان يشبه قلعة محكمة الأسوار ، يحيط به الجلد كجدار يقوم حولها ، والعروق التي تعتبر بمثابة الطرق الرئيسية والفرعية في هذه القلعة لا ترتبط بالمحيط الخارجي ، أما المواد التي يحتاجها فأنها تدخل فيه بواسطة طريقين رئيسيين هما : الجهاز الهضمي والجهاز التنفسي . إن البدن يتصل بالبيئة الخارجية عن هذين الطريقين فهو يتلقى بهما المواد الغذائية والعناصر الضرورية للحياة ويستمر في القيام بأعماله .

____________________

(١) تتمة المنتهى ص ٣٨٠ .

٢٠٣

ومع أن الجسم يملك قوى دفاعية منظمة ، ويخضع الطريقان الآنفا الذكر لرقابة شديدة من جميع الجوانب ، فقد يصادف دخول المواد المضرة والخطرة من هذين الطريقين إلى الجسم ، فتؤدي إلى إضطراب الصحة وإحداث الأضرار العظيمة .

« تستمد المادة الغذائية التي يحملها الدم إلى الأنسجة من ثلاثة مصادر : من الهواء الخارجي عن طريق الرئتين ، ومن سطح الإِمعاء ، وأخيراً من غدد الأندوكرين . وجميع المواد التي يستعملها الجسم ، فيما عدا الأوكسجين تأتي عن طريق الإِمعاء سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة . . . ويكاد الجدار المعوي يحمي الجسم حماية تامة من غزو ذرات تخص أنسجة كائنات أُخرى ، وذلك بمقاومة تسرب البروتينات الحيوانية أو النباتية إلى الدم . ومع ذلك فأنه قد يسمح أحياناً لمثل هذه البروتينات بالدخول . . . » (١) .

طرق تغذي الروح :

إن الجهاز الروحي للإِنسان ـ بما فيه من الروح ، والنفس ، والمخ والعقل ـ ليس متصلاً مع المحيط الخارجي بصورة مباشرة . فهناك طريقان رئيسيان تربطان من الجهة المعنوية بين البيئة الخارجية والجهاز الروحي للإِنسان ، هما : العين والأذن . فإن القسم الأكبر من الواردات الفكرية والتغذية المعنوية عند الإِنسان يحصل من هذين الطريقين . وكما وجدنا إمكان مرور المواد المضرة من حدود الإِمعاء وحويصلات الرئتين أحياناً بالرغم من وجود القوى الدفاعية التي تراقب الواردات الغذائية والتنفسية ، يشتد هذا الخطر بالنسبة إلى الواردات الفكرية والتربوية عن طريق العين والأذن بلا رقابة أو تمييز بين الصحيح والفاسد منها ، حيث تنفذ هذه الواردات بواسطة هذين الطريقين إلى النفس وتصل إلى أعماق الفكر وتؤثر آثارها الصالحة أو الفاسدة .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٧٥ ـ ٧٦ .

٢٠٤

سلامة الطعام ونظافته :

بعد هذه المقدمة الوجيزة ننتقل إلى صلب الموضوع فنقول : إن النقطة الأولى التي يجب أن نبحث عنها هنا هي مسألة سلامة الطعام ونظافته . إن مما لا شك فيه أن بعض النباتات وكذلك لحوم بعض الحيوانات لا تلائم البناء الإِنساني ، وإذا تغذى شخص منها فأنها تسبب مسموميته أو حدوث أمراض أُخرى له . في العصور المتمادية كان الإِنسان ـ لقلة الموارد الغذائية من جهة ، وجهله بالغذاء المفيد والمضر من جهة أُخرى ـ يأكل كل حيوان يصطاده ، ويتغذى على لحم الكلب ، والقطة ، والحوت ، والفيل ، وغيرها من الحيوانات والحشرات وحتى من لحوم الإِنسان واللحوم العفنة والفاسدة . ومن جراء ذلك فقد لاقى ملايين الناس حتفهم لتسمم الطعام أو أنهم فقدوا الإِعتدال والسلامة في مزاجهم على الأقل . واليوم أيضاً توجد طوائف وشعوب تقتفي أثر ذلك السلوك الخاطىء ويأكلون من لحوم الحيوانات المفترسة والسباع وحتى من لحوم البشر ـ إذا قدر لهم ذلك ـ ولا يزالون يصابون بنفس العوارض والآلام .

« أثبتت البحوث الجغرافية للتغذية إن الإِنسان الذي يعيش في أحضان الطبيعة شأنه شأن الشعوب المتمدنة في العالم في عدم الإِلتزام بعقيدة معينة ، وهو يأكل أي موجود حي ، كالحية ، والحشرات ، والديدان ، واللحوم المتعفنة ، ولحم الكلب والفأر وما شاكل ذلك . . . هذا عندما لا يجدون لحوم أبناء جنسهم » (١) .

إن إحدى الخدمات المهمة التي أسداها الأنبياء لهداية البشر هي الإِهتمام بالمواد الغذائية . إن أُولئك القادة الروحانيين قد قسموا الأطعمة منذ أمد بعيد إلى الخبيث والطيب ، واعتبروا بعض الحيوانات محللة الأكل وبعضها محرمة الأكل ، وأجازوا لأتباعهم أن يتغذوا مما يحل أكل لحمه ومنعوهم عن أكل ما لا يحل أكل لحمه منعاً باتاً .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ تغذية إنسان ص ١١ .

٢٠٥

الأطعمة المفيدة والمضرة :

لقد استطاع الإِنسان في عصرنا هذا أن يعرف ـ بفضل التقدم العلمي ـ الأطعمة المفيدة والمضرة ، إلى درجة ما . فالأمم المتمدنة تمتنع عن أكل اللحوم الفاسدة والحيوانات المريضة.

ولقد عرف العلماء المواد الغذائية والعناصر المعدنية وغير المعدنية الضرورية للإِنسان وتوصلوا إلى كمية المواد العضوية الموجودة في أنواع الخضروات واللحوم والزيوت الحيوانية والنباتية ، ولقد استطاعوا تعيين الكميات اللازمة من كل نوع لفرد واحد في الأعمار والحالات المختلفة في قوائم الإِعاشة والتموين ، فتوصلوا مثلاً إلى بيان نوعية الغذاء اللازم لطفل في السنة الثانية ، أو صبي في العاشرة ، أو عامل يبذل جهداً عضلياً ، أو أُستاذاً يصرف جهداً فكرياً ، أو شيخ عجوز يقضي وقته كله في الراحة .

إن معرفة الأطعمة المفيدة والمضرة من جهة ، وإزدياد إنتاج المواد الغذائية من جهة أُخرى ، عاملان رئيسيان في إنهاء الاضطراب الناجم من سوء التغذية في دول العالم المتمدن . فشعوب هذه الدول ليسوا مضطرين إلى أن يأكلوا من لحوم السباع والحيوانات المفترسة والميتة واللحوم المتعفنة أو أن يملأوا بطونهم من الأطعمة المسمومة والحيوانات المريضة والملوثة .

وعلى الرغم من الخطوات الواسعة التي قطعها علماء الغرب في هذا المضمار ، فأنهم لم يتوصلوا بعد إلى معرفة جميع الجوانب المفيدة والمضرة في الأطعمة ، فهناك جوانب كثيرة لم تصل إليها يد العلم .

« وبفضل التقدم العلمي في مجال صناعة الأدوية ومعرفة الأطعمة ، ظهرت فوائد وخصائص عديدة في المواد الغذائية وإزدادت أهمية الغذاء يوماً بعد يوم . وفي القرن الأخير قامت بحوث عميقة في المواد الغذائية وحصل الباحثون على نتائج ومعلومات دقيقة وقيمة ، ولكنه يمكن القول بأنهم لم يتوصلوا بعد إلى معرفة فوائد جزء من الألف جزء بل جزء من المائة ألف جزء

٢٠٦

منها » (١) .

لقد حظر الإِسلام بعض الأطعمة ومنع من إستعمالها قبل أربعة عشر قرناً . واليوم نجد العالم المتحضر في أوروبا وأمريكا لا يرى مانعاً من أكلها . إن الشعوب الغربية تتغذى على دم البقر والغنم ، أما في الإِسلام فإن شرب الدم حرام . وكذلك يأكلون لحم الخنزير والأسماك المحرمة في الشريعة الإِسلامية . والدول الأوروبية والأمريكية تتناول الخمر بكل حرية ، أما في الشريعة الإِسلامية فإن الخمرة محرمة . . إن ما لا شك فيه أن تداول هذه الأطعمة عندهم نتيجة قصور العلم في دنيا الغرب ولو كان العلم الحديث متوصلاً إلى معرفة جميع جوانب الفائدة والضرر في الأطعمة لما كان يبيح تناول الدم أو شرب الخمرة أصلاً . وسوف لا تمضي مدة طويلة حتى بكشف العلم في تقدمه ، الحقائق العلمية المتينة التي جاءت بها التعاليم الإِسلامية فيعترف حينذاك بعظمة الإِسلام .

أثر الطعام في روح الانسان :

والطريف هنا أن أثر الطعام لا يقتصر على جسم الإِنسان منتجاً آثاره الصالحة أو الفاسدة ، بل أنه يترك من الجهة المعنوية آثاره الحسنة أو السيئة على روح الإِنسان ، وهذا الأمر متسالم عليه من قبل العلماء المعاصرين . وقد صرح الإِسلام بذلك في تعاليمه القيمة .

إن المختبرات العلمية في العصر الحديث قادرة على فحص المواد الغذائية من حيث العناصر الطبيعية المكونة لها وخواصها الكيمياوية إلى حد ما ، أما الآثار المعنوية والأخلاقية للأطعمة فأنها إما أن تكون غير قابلة للفحص المختبري أبداً ، أو أن الوسائل الحديثة لم توفق لهذا الموضوع لحد الآن على الأقل ، وعلى هذا فما أكثر الأطعمة التي تضر بسعادة الإِنسان من الجانب المعنوي والنفسي ، والعلم قاصر عن إدراك تلك الحقائق في العصر الحاضر .

____________________

(١) إعجاز خوراكيها ص ١٥ .

٢٠٧

« إن تأثير المخلوطات الكيميائية التي يحتوى عليها الطعام على النشاط الفسيولوجي والعقلي لم يعرف معرفة تامة حتى الآن . . . فالرأي الطبي فيما يتعلق بهذه المسألة ليست له غير قيمة ضئيلة لأنه لم تجر تجارب ذات أمد كاف على البشر للتحقيق من تأثير طعام معين عليهم . وليس هناك شك في أن الشعور يتأثر بكمية الطعام وصفته » (١) .

« نحن نعرف كيف نغذي أطفالنا كي يصبحوا رشيقي القامة وعلى جانب كبير من الجمال وتقل وفياتهم . وذلك بمعونة علم معرفة الغذاء الحديث . لكن هذا العلم لم يعلمنا كيف نوجد جهازاً عصبياً متيناً ، فكراً معتدلاً وشجاعة ، وحسن خلق ، ومقدرة عقلية ، وكيف نحميهم من الإِنهيار النفسي » (٢) .

يقول الإِمام الرضا عليه‌السلام : « إن الله تبارك وتعالى لم يُبح أكلاً ولا شرباً إلا لما فيه من المنفعة والصلاح ولم يحرم إلا لما فيه الضرر والتلف والفساد » (٣) . فتحريم الأشياء إذن أو إباحتها عن أساس المصالح والمفاسد لا أكثر .

شرب الدم والقساوة :

إن نظرة أئمة الإِسلام إلى الأطعمة كانت تشمل جميع منافعها ومضارها الروحية والبدنية ، وقد صرحوا في بعض الموارد بالمفاسد الروحية والنفسية لها عند التعرض لذكر أضرارها البدنية . وها هو كلام الإِمام الرضا عليه‌السلام في علة حرمة شرب الدم بعد ذكر الأضرار البدنية لذلك : « ويُسيىء الخُلقَ ، ويورث القسوة للقلب ، وقلة الرأفة والرحمة ، ولا يُؤمن أن يقتل ولد ووالده » (٤) .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٢٣٢ .

(٢) راه ورسم زندگى ـ المقدمة ـ ص (ب) .

(٣) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٣ ص ٧١ .

(٤) بحار الأنوار للمجلسي ج ١٤ ص ٧٧٢ .

٢٠٨

الخمرة والاجرام :

والإِمام الباقر عليه‌السلام حين يتطرق لعلة حرمة الخمر يقول : « إنَّ مُدمِن الخمر كعابد وَثَن ، ويورثه الإِرتعاش ، ويهدم مروءته ، ويحمله على التجسّر على المحارم ، من سفك الدماء ، وركوب الزنا » (١) .

إن العوارض التي تصيب البدن من جراء شرب الدم يمكن قياسها أما قساوة القلب فلا يمكن فحصها في المختبرات . وكذلك أثر الكحول على الأعصاب والإِبتلاء بالخرف فأنه غير مخفي على العلماء ، ولكن لا يمكن مشاهدة المروءة والقيم الأخلاقية في المختبر .

إن التغذية تلعب دوراً أساسياً في المسائل الإِجتماعية في العصر الحديث . فالمؤسسات المختصة بهذا الموضوع والمجهزة بالوسائل العلمية المختلفة تفحص جميع جوانب الغذاء ، بأن لا يكون فاسداً ، وأن يكون الباعة أو الطهاة سالمين ، وأن تكون المطاعم مطابقة للشروط الصحية من كل جانب . . . وبصورة موجزة فأنها تعمل جهدها مستعينة بالوسائل العلمية والقوى التنفيذية الصارمة لكي تقف أمام تلوث الغذاء وفساده . فقد يصادف تسمم البعض من جراء تناول ( الدوندرمة ) وحينئذ تعمل جميع المؤسسات ، والناس يعترضون ، والجرائد تتحدث حول الموضوع ، البائع يوقف ويتحقق معه : لماذا صنعت الدوندرمة من حليب فاسد وسببت تسمم مئات الأفراد ؟ ! ! .

وإذا لم تكن قيمة التغذية الروحية أعلىٰ من قيمة التغذية المادية فهي ليست أقل منها . فمن الضروري أن يبذل الإِهتمام للغذاء الروحي بنفس النسبة من الإِهتمام بالغذاء المادي ، والذي يرغب في أن يكون سعيداً يجب عليه أن يلتفت إلى سلامة غذائه الروحي كالتفاته إلى سلامة غذائه المادي . إن خطر التسمم الروحي أشد بكثير من خطر تسمم الجسم ، فإذا تسمم ألف شخص في مدينة من جراء تناول طعام فاسد ولم تنجح علاجات الأطباء معهم وماتوا جميعاً فقد مات من تلك المدينة ألف شخص فقط . أما إذا أصيب ألف فرد في

____________________

(١) بحار الأنوار للمجلسي ج ١٤ ص ٧٧١ .

٢٠٩

تلك المدينة بالتسمم الفكري والروحي فمن المحتمل أن يتسبب هؤلاء في تسمم أهل المدينة كلهم ، وقد يؤدي وجود ألف فرد منحرف في دولة إلى إنهيار تلك الدولة بأجمعها .

من السهل إعادة الصحة والسلامة لمن أصيب بالتسمم الناشىء من تناول طعام فاسد بالعناية الصحية الدقيقة ، أما الفكر المسموم والمشبع بالأفكار الخاطئة والمنحرفة فإعادة السلامة إليه من الأمور الصعبة جداً . إن خطر إناء من الدوندرمة الفاسدة في محل أقل بكثير من خطر فلم مسموم وهدام . وحين يقدم أبو الاسرة على شراء طعام لأطفاله يحاول التأكد من سلامة ذلك الطعام ، أما حين يقدم على شراء كتاب أو مجلة ليضعها في متناول أيدي أطفاله فهو لا ينتبه إلى أن هذه المجلة إنما هي غذاء أرواحهم فإن كان فاسداً أُصيبت الأسرة بأجمعها بذلك التسمم الفكري .

« عن أمير المؤمنين عليه‌السلام قال : ما لي أرى الناس إذا قرب إليهم الطعام ليلاً تكلفوا إنارة المصابيح ليبصروا ما يدخلون بطونهم ، ولا يهتمون بغذاء النفس بأن ينيروا مصابيح ألبابهم بالعلم ، ليسلموا من لواحق الجهالة والذنوب في إعتقاداتهم وأعمالهم » (١) .

« قال الحسن بن علي عليه‌السلام : عجبت لمن يتفكر في مأكوله ، كيف لا يتفكر في معقوله ، فيجنب بطنه ما يؤذيه ، ويردع صدره ما يريده » (٢) .

إن الذي يهتم بصحته لا يتناول طعاماً من يد شخص مصاب بالسل أو الجدري لأنه لا يطمئن إلى سلامة الطعام ونظافته . هناك أفراد مصابون بالأمراض الروحية والخلقية ولذلك فإن أقوالهم وكتاباتهم التي تعبر بمثابة غذاء روحي للناس ليست مأمونة ، وذلك لأن من الممكن أن يلوث فساد الفكر ألسنتهم وأقلامهم أيضاً ويؤدي ذلك إلى إنتشار الإِنحراف والفساد في المجتمع . إلى هذا يشير الإِمام الباقر والإِمام الصادق في تفسير الآية موضوع البحث : ( فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ ) قال عليه‌السلام : علمه الذي يأخذه عمن يأخذه

____________________

(١) سفينة البحار للقمي ص ٨٤ ـ مادة طعم .

(٢) نفس المصدر ، والصفحة .

٢١٠

فعلى الإِنسان أن ينتبه إلى علمه الذي هو غذاء روحه عمن يأخذه . فإن كان المعلم منحرفاً وفاسداً فلا يمكن الإِطمئنان إلى سلامة أقواله وتعاليمه .

أهمية التغذية في الطفل :

على الرغم من أن الإِهتمام بسلامة الغذاء ـ بنوعيه ـ ضروري في جميع مراحل الحياة ويجب أن يخضع لرقابة شديدة دائماً ، لكن ما لا شك فيه إن سلامة التغذية الروحية والمادية بالنسبة إلى الطفل أهم منها بالنسبة إلى الشاب أو الشيخ ، لأن مرحلة الطفولة هي المتعهدة ببناء كيان الطفل روحياً وجسدياً ، وإن خطأة واحدة يمكن أن تؤدي إلى إنحراف الطفل عن طريق السعادة وبقاء آثارها السيئة طوال أيام حياته . . . ذلك أن اللبنة الأولى في بناء البيت إذا وضعت بصورة منحرفة إستمر البناء في إنحرافه مهما علا في السماء .

« إن كثيراً من الأفراد بالرغم من أنهم يملكون أُسساً وراثية جيدة يعجزون عن إدارة حياتهم يسبب العيوب المكتسبة التي لا يقل تأثيرها من العيوب الموروثة » .

« يحتمل أن يكون ٢٥ % من حالات البلاهة نتيجة الإِختلالات الحادثة على نمو المخ طوال الحياة الجنينية أو عند الولادة ، أو في المرحلة الأولى من حياة الطفل . إن إتزان الجهاز العصبي وسلامة التفكير يرتبطان إلى حد بعيد بتركيب المواد الغذائية في مراحل تكون المخ والنتوءات العصبية . من البديهي إن الجهاز العصبي والبنيان العام وشعور الأطفال الذين تغذوا من القهوة والخبز الأبيض والسكريات ، والكحول أحياناً . . . يكون مصاباً وغير سليم » (١) .

« لقد علمنا علم التغذية الحديث : أن التغذية الفاسدة يمكن أن تؤثر في الطفل ، فتوجد فيه نقائص بدنية وروحية غير قابلة للعلاج » (٢) .

____________________

(١) راه ورسم زندکى ص ١٥٨ .

(٢) المصدر السابق ص ٧٤ .

٢١١

يمتاز المتقدمون في السن عن الأطفال في أنهم بفضل وجود العقل يملكون قوة دفاعية ، فمن الممكن أن يقيسوا الأشياء التي يسمعونها أو يقرأونها في الكتب بعقولهم ، فإن لم تكن صحيحة رفضوها . . . وبعبارة أُخرى يستطيعون طرد الغذاء العقلي الفاسد من المخ ويمتنعون عن هضمه . أما الطفل فلضعف إدراكه لا يملك قوة دفاعية تجاه المستوردات الفكرية الفاسدة ، فهو يتقبل كل كلام فارغ ، وكل عقيدة باطلة ، وكل أسطورة مسمومة ، وكل قول هدام . . . ويثبت ذلك في تفكيره وتستمر آثاره الفاسدة إلى مدى الحياة .

الانحرافات الخلقية عند الطفل :

كثيراً ما تتأثر نفوس الأطفال بالإِيحاءات الجاهلة التي تصدر من الأبوين تجاه الطفل فينشأون ضعفاء جبناء ، أو كاذبين خونة . إن للإِعتقاد بنحوسة العدد (١٣) والتشاؤم من صوت البوم وما شاكل ذلك أصولاً ثابتة في أفكار بعض الناس ، وقد تظهر أحياناً بصورة عقدة نفسية تجعل الحياة جحيماً لا يطاق . أكثر هذه الأفكار الخاطئة يرجع إلى أيام الطفولة ومنشؤها التربية الفاسدة والتغذية الروحية المنحرفة .

يقول المسيح عليه‌السلام في هذا الصدد : « بحقٍ أقول لكم : إنه كما ينظر المريض إلى طيب الطعام فلا يلتذه مع ما يجده من شدة الوجع كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبارة ، ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب المال » (١) .

فالأطفال الناشئون على الأساليب التربوية الفاسدة لا يلتذون بحلاوة الفضلية التي هي الطعام اللذيذ لروح الإِنسان ، ذلك أن أرواحهم مريضة والمريض لا يلتذ بالطعام اللذيذ .

*  *  *

إلى هنا نكون قد إنتهينا من النقطة الأولى في الموضوع ، وهي البحث عن سلامة الغذاء ونظافته بكلا نوعية . والآن لننتقل إلى النقطة الثانية في

____________________

(١) تحف العقول ص ٥٠٧ .

٢١٢

البحث ، وهي : الغذاء الكامل .

الغذاء الكمال :

الغذاء يجب أن يكون جامعاً وكاملاً ، فالبحوث العلمية الحديثة لفتت أنظار الناس إلى هذه النقطة وهي أن البدن يحتاج لاستمرار حياته إلى المواد الغذائية المتنوعة . فلا يكفي نوع واحد أو نوعان لحفظ حياة الإِنسان وسلامته . فاللحم وحده أو المواد الدهنية وحدها ، أو المواد السكرية فقط لا تشكل غذاء كاملا . إن نقصان المواد الغذائية يؤدي إلى عوارض مختلفة كان يجهلها الإِنسان فيما مضىٰ ، فإن جانباً كبيراً من الأمراض والوفيات التي كانت تحدث في الماضي كان سببه نقصان المواد الغذائية الضرورية .

لقد ألف العلماء في موضوع الغذاء وتركيباته المختلفة كتباً عديدة وجرت بحوث حوله في نقاط مختلفة من العالم . وهنا لا بأس من إقتباس بعض العبارات من تلك الكتب لزيادة الإِطلاع .

« هناك ترابط وثيق بين النشاط الخلقي والفكري والغدي فإن المواد التي تفرزها الغدد الواقعة فوق الكلية والتي تصنع ( الهيبوفيزوثايروكسيد ) هي التي أعدت دماغ باستور للإِكتشافات التي تعتبر فاتحة للعصر الحديث في تاريخ البشرية . إن الذكاء وصلابة الإِيمان التي تجعل الإِنسان يتحمل المشاق العظيمة التي تعترض طريقه ، وفي نفس الوقت ناتجة من الغدد الداخلية ، وعدد الخلايا المخية . . . إن أبسط تغيير في مقدار الحديد والكالسيوم والفلزات من الدم يؤدي إلى فقدان الأتزان العضوي والنفسي عند الإِنسان » (١) .

« إن الإِختلالات التي توجد طوال مرحلة الطفولة أو الشباب في بناء الغدد الداخلية والجهاز العصبي ، تنعكس على الشعور دائماً .

____________________

(١) راه ورسم زندگى ص ١٦٧ .

٢١٣

فانعدام اليود في المناطق المسكونة من مرتفعات الألب وهمالايا يوقف نمو غدة الثايروكسيد ويصاب الأطفال بالبلادة الثايروكسيدية » (١) .

« يلاحظ إنتشار إنحناء العظام عند أطفال الفقراء خصوصاً في المدن الكبيرة ، ويظهر ذلك بتكلس عظام البدن وعدم إنتظام ونزاكة الأسنان . وهذا المرض إنما هو نتيجة عدم كفاية الفيتامين d وعدم التوازن بين الكالسيوم والفسفور في البدن » (٢) .

« إن خروج العينين من الحدقة مرض يمكن أن يؤدي إلى العمى ؛ وسبب ذلك نقصان الفيتامين A في الطعام ( المادة الصفراء التي توجد في الجزر والخضروات تتحول في البدن إلى فيتامين A ) »(٣) .

« أحياناً يكون فقر الدم مرتبطاً بالغذاء ؛ إن عدم كفاية الحديد في الكريات يؤدي إلى نقصان المادة الملونة التنفسية في الدم أي الهيموغلوبين » (٤) .

« وربما كان بطء نمو الأطفال والمراهقين وانحراف مزاج البالغين ناشئاً من قلة الحوامض العضوية في البدن » (٥) .

التغذية السليمة :

تشكل الروايات المتعلقة بالأطعمة والأشربة وإرشاد الناس إلى التغذية السليمة ، جانباً واسعاً من التعاليم الإِسلامية العظيمة ، فهناك نصوص كثيرة حول اللحوم المفيدة والمضرة والتوازن في إستعمالها ، وكذلك الذهنيات

____________________

(١) المصدر نفسه ص ١٥٨ .

(٢) چه ميدانيم ؟ تغذيه إنسان ٢٤ .

(٣) نفس المصدر ، والصفحة .

(٤) المصدر نفسه ص ٢٥ .

(٥) نفس المصدر ، والصفحة .

٢١٤

والسكريات والفواكه والحبوب والخضروات .

إن الحقائق التي توصل إليها علماء البشر عن طرق التجارب العلمية في هذا المضمار ، سبقهم إلى كشفها أئمة الإِسلام عن طريق الوحي والإِلهام ولقد طبقوها على أنفسهم وأرشدوا أتباعهم إلى العمل بها أيضاً وهنا نشير إلى زاويتين منها فقط على سبيل المثال .

أ ـ النخالة :

« تشكل نخالة الغلات كالقمح والشعير والرز وما شاكل ذلك مصدراً مهماً من مصادر الفيتامين B (١) .

« يظهر مرض الكساح مصحوباً بالإِختلالات العصبية والمعدية والقلبية ويمكن أن يؤدي إلى الموت . لقد أثبت العالمان ( إيكمان ) و ( كريتسن ) أن هذا المرض يحدث من فقدان نوع من الفيتامين B١ في الطعام . إن حبة الرز الكاملة ( مع القشرة ) واجدة للفيتامين B١ .لكن الحبة المهبوشة لا تحتوي على هذا الفيتامين » (٢) .

والآن لننتقل إلى سيرة أئمتنا عليهم‌السلام : في الأطعمة ، وبالنسبة إلى النخالة بالخصوص :

« يقول سويد بن غفلة : دخلت على الإِمام أمير المؤمنين عليه‌السلام يوماً وقد حان وقت تناول الغذاء فرأيته جالساً على جانب مائدة ، وفي يده رغيف أرى قشار الشعير في وجهه ، فذهبت إلى خادمته وقلت لها : يا فضة ألا تتقين الله في هذا الشيخ ؟ ! ألا تنخلون له طعاماً مما أرى فيه من النخالة ؟ فقالت : قد تقدم إلينا أن لا ننخل له طعاماً . . . فرجع سويد إلى الإِمام ثانية وذكر قصته مع فضة ، فتبين أن الإِمام عليه‌السلام قد تعلم هذا الأسلوب من النبي الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم . . . ثم تذكر عظمة النبي قائلاً : بأبي وأمي من لم ينخل له طعام » (٣) .

____________________

(١) إعجاز خوراكيها ص ٩٥ .

(٢) چه ميدانيم ؟ تغذيه إنسان ص ٢٣ .

(٣) بحار الأنوار للمجلسي ج ٩ ص ٥٠١ .

٢١٥

وها هو الإِمام الصادق عليه‌السلام يتحدث عن طعام سليمان فيقول : « ويأكل هو الشعير غير منخول » (١) .

ب ـ الخضروات :

« كان البحارة والمكتشفون والجنود المرابطون في الأماكن القاحلة يصابون ـ لعدم وجود الفيتامين C في طعامهم ـ بمرض خطير يمسىٰ بـ ( رقة الدم ) . إن حالة المصاب مؤلمة جداً ، فالدم يجري من لثته ، وأسنانه تسقط ، يجري الدم من مؤخرته . تلتهب رئتاه ، تتفكك عظامه ويصاب بالإِغماء الشديد والإِعياء المذهل ، ويموت بعد شهرين أو ثلاثة من معاناة الآلام الشديدة . إن الخضروات الطرية تعالج هذا المرض أو تمنع ظهوره . إن كيفية هذه المسألة قد اتضحت بفضل الإِكتشافات الجديدة نسبياً في موضوع الفيتامينات » (٢) .

وإذا ما تصفحنا سيرة أئمتنا عليهم‌السلام بهذا الصدد ، نجد التأكيد الشديد على إستعمال الخضروات مع الطعام . « عن أحمد بن هارون ، قال : دخلت على الرضا عليه‌السلام فدعا بالمائدة ، فلم يكن عليها بقل ، فأمسك يده ثم قال : يا غلام أما علمت أني لا آكل على مائدة ليس عليها خضراء ؟ فأت بها ، قال : فذهب وأتى بالبقل ، فمد يده فأكل وأكلت معه » (٣) .

فهنا نجد الإِمام الرضا عليه‌السلام يمتنع عن أن يمد يده إلى مائدة ليس فيها شيء من الخضروات حتى تخضر له .

« إن جميع الأمرض ترتبط بسوء التغذية إما بصورة مباشرة أو غير مباشرة ، وإن علاج جميع الأمرض متوفر في المواد الغذائية . إن الغذاء الجيد لا يقتصر أثره على إشباع الإِنسان ووقايته من أشد

____________________

(١) مستدرك الوسائل للمحدث النوري ج ٣ ص ١٠٣ .

(٢) چه ميدانيم ؟ تغذيه إنسان ص ٢٢ .

(٣) مكارم الأخلاق للطبرسي ص ٩٠ .

٢١٦

الأمراض فقط ، بل يمنحه عمراً طويلاً ، ويجعله وسيماً ورشيقاً ، وينشط دماغه ويقوي مواهبه » (١) .

العلاج بالغذاء :

تعالج بعض الأمراض في العصر الحديث بواسطة الغذاء ، وبذلك تعود للأفراد قوتهم وصحتهم ، وعن طريق الغذاء الكامل المناسب نجد أنهم يحولون الوجوه الشاحبة إلى وجوه نضرة ، والعيون الغائرة إلى براقة ، ولقد راعى الإِسلام في العصور الماضية هذه النكتة تماماً ، فمن بين الروايات العديدة التي وردت في موضوع الأطعمة على إختلاف أنواعها نجد الرسول الأعظم والأئمة الكرام عليهم‌السلام قد عالجوا المرضى والعجزة بالإِرشادات الغذائية ، وتجاوزوا ذلك إلى إرشادات حول تقوية الذكاء والحافظة عن طريق بعض الأطعمة . إن العسل من الأطعمة اللذيذة ، ولقد تحدث القرآن عنه : ( فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ) (٢) .

إن العالم الحديث يمتنع ـ قدر المستطاع ـ عن استعمال الدواء . ذلك إن الدواء في نفس الوقت الذي يقع مفيداً من جهة يكون مضراً من جهة أُخرى . . . يقول الإِمام الرضا عليه‌السلام بهذا الصدد : « ليس من دواء إلا ويهيج داء » (٣) . فأحسن طرق العلاج وآمنها ، هو الاستفادة من المواد الغذائية المختلفة التي أودعها الخالق العظيم بين أحضان الطبيعة لفائدة البشر .

« الكل يعلمون أن العامل الوحيد في إنتشار الأمراض التي تنتقل بالعدوى موجودات صغيرة جداً تسمى بـ (الميكروبات) وبعد أن اكتشف باستور وجود هذه الميكروبات ، تصور الناس جميعاً أنهم يستطيعون إقتلاع جذور الأمراض بمقاومة إنتشار الميكروبات ، ولذلك فقد إنتشر في أنحاء أوروبا طريقة شرب

____________________

(١) إعجاز خوراكيها لغياث الدين الجزائري ص ١٤ .

(٢) سورة النحل ؛ الآية : ٦٩ .

(٣) روضة الكافي ص ٢٧٣ .

٢١٧

الماء المغلي والأطعمة المطبوخة تماماً » .

« كان الجميع يتوقعون هبوط نسبة الوفيات والإِصابات بالأمراض يوماً بعد يوم ، ولكن المؤسف أنه لم يتوقف فشل هذا التوقع عند عدم إنتاج هذه الطريقة في تقليل الإِصابات . بل إن أكثر من نصف سكان أوروبا ـ والأشخاص الواعون منهم بالخصوص ، الذين كانوا مراقبين أكثر من غيرهم وكانوا يخافون من المكروبات ويطعون أوامر الأطباء بصورة عمياء ـ قد أصيبوا بأمراض عديدة . وبديهي أن أمراض هؤلاء لم تكن من نوع الأمراض المعدية التي تنتقل بالجراثيم بل كانت نتيجة الفرار من الأطعمة النيئة ، وغلي الأطعمة التي تموت فيتاميناتها بالغليان » (١) .

تعادل المواد الغذائية :

يستنتج مما مر : أن سلامة الإِنسان منوط بالتغذية الصحيحة والكاملة . إن الطعام يجب أن يكون حاوياً لجميع المواد اللازمة التي تحتاجها الأقسام المختلفة من الجسم . إن الإِستفادة السليمة من النعم الإِلهية والإِنتفاع الجامع والمعتدل من الأطعمة المطبوخة والنية ، من اللحوم المحللة والمواد الدهنية والسكرية والفواكه والخضروات كفيل يجعل الإِنسان قوياً وسليماً طيلة عمره .

وكذلك سلامة الروح وسعادتها . فهي منوطة بالتغذية الروحية الكاملة والسليمة . فالذين يريدون أن يحصلوا على روح سليمة ونفس طاهرة يجب عليهم الإِهتمام بجميع ميولهم الروحية وعواطفهم المعنوية وإشباعها عن طريق التغذية الكاملة .

إنه يجب البحث عن الغذاء الروحي الكامل في مجموعة الإِيمان والعلم والفكر والأخلاق والعواطف الإِنسانية وغير ذلك من المزايا الروحية .

إن من الأطعمة الضرورية والمفيدة للبدن ، اللحوم على إختلاف أنواعها ( من لحوم الطيور والأنعام والأسماك ) . وتبعاً للتعاليم الدينية والعلمية يجب

____________________

(١) إعجاز خوراكيها ص ٢٥ .

٢١٨

على الإِنسان أن يستفيد لحفظ حياته وسلامته من هذه المادة الحياتية المهمة ، ولكننا على يقين من أن اللحم وحده لا يكون غذاء كاملاً ، ولا يستطيع أن يحفظ للإِنسان حياته وصحته إلى الأبد .

والفروع العلمية المختلفة من طبيعية ورياضية وأدبية تشبه أنواع اللحوم الضرورية ، ولكن لا تشكل هذه العلوم وحدها غذاء روحياً كاملاً للإِنسان ولا تستطيع أن تحفظ للروح الإِنسانية حياتها وسلامتها إلى الابد .

وما أكثر البحارة الذين كانوا يملكون في بواخرهم المقادير الكافية من اللحوم والمواد الدهنية والسكرية ، ولكن حيث أنهم كانوا فاقدين للخضروات ، فقد خلت أطعمتهم من الفيتامين Cu ، فأصيبوا بنزف اللثة والمخرج والتهاب الرئة ، وماتوا أخيراً بأفظع صورة وأشد الآلام ، ، وكذلك ما أكثر الأشخاص المطلعين على المقدار الكافي من مسائل العلوم الطبيعية والرياضية ، ولكنهم عند هجوم المصائب عليهم ، أصيبوا بالأمراض النفسية أو الروحية أو أقدموا على الإِنتحار لعدم وجود الرصيد الإِيماني والأخلاقي عندهم .

إن إصابة أولئك وموتهم كان لنقص المواد الغذائية البدنية ، وإصابة هؤلاء وإنتحارهم لنقص المواد الغذائية الروحية ، ونتيجة كل منهما الشقاء والموت . فكما أن غذاء الجسد يتشكل من مجموعة من العناصر المختلفة : الدسم ، السكر ، الفسفور ، الكالسيوم ، الحديد ، اليود ، الفيتامين ، ونظائرها ، وأن فقدان أي عنصر منها يؤدي إلى عوارض خاصة كذلك غذاء الروح يتشكل من مجموعة من الثروات المختلفة : العلم ، الإِيمان ، العفة ، الأمانة ، الشجاعة ، التقوى ، وأمثالها . وإن فقدان أي واحد منها يتضمن عواقب وخيمة .

« وبصورة كلية فإن نظام التغذية الفاسدة عبارة عن فقدان بعض العناصر وعدم تعادلها ، من دون أن تظهر علائم بعضها في مقابل البعض الآخر . فحينذاك يصبح الجسم ضعيفاً ومستعداً لتقبل الأمراض المختلفة . وكما تقول ( مادام راندوان ) فأنه يمكن

٢١٩

الوصول إلى الأسباب الرئيسية لبعض الأمراض القاضية كالسل والسكر والسرطان في سلسلة من الأخطاء التي ترتكب بالنسبة إلى كيفية صنع الأطعمة طيلة أجيال عديدة . أن الجسم يستطيع أن يعيش مع وجود التغذية الناقصة وغير المتعادلة لفترة ما ، ولكن سرعان ما تظهر الإِختلالات وحينذاك فالألم يكون شديداً جداً . وقد يؤدي ذلك إلى إنهيار الصحة تماماً . إذا ظهر مرض سار فانا نقاوم الجراثيم الناقلة لذلك المرض ونكافحها ، ولكننا لكشف العلة الأصلية في نشوء الألم ما نحتاج إلى دقة شديدة ، وعلى أي حال فإن تشخيص المرض أصعب من إزالته « بكثير » (١) .

الروح الضعيفة :

لقد وجدنا إن الجسم يستطيع أن يعيش مع التغذية الناقصة وينمو قليلاً . ولكن عندما يصاب بمرض سار فلا يستطيع مكافحته إذ يواجه إختلالات عديدة ، فالآلام الشديدة تقض عليه مضجعه وقد تؤدي به إلى الموت .

وكذلك الروح فانها تستطيع أن تستمر على الحياة مع التغذية الروحية الناقصة ، ويكون الفرد حينذاك فرداً إعتيادياً في المجتمع ظاهراً ولكن في المواقف الحرجة ، وأمام الحوادث المؤلمة ، لا تملك قدرة المقاومة وأخيراً يفشل في المعركة وينسحب بعد أن فقد شخصيته .

قد نجد شاباً مؤدباً ، وقراً ، يبدو إعتيادياً جداً ، ولا يشاهد منه أي إنحراف ، يقضي الأيام في الذهاب إلى الثانوية ، وحين يحين موعد الإِمتحان يستعد لذلك ، ويجيب على الأسئلة ، ولكنه يرسب في ثلاثة دروس فيتألم لهذه الحادثة كثيراً ، ولا ينام ليله ، تسوء أخلاقه ويتشاءم من النظر إلى أي انسان في الحياة . . . وبدلاً من أن يتصرف بتعقل ويصمم على أن يجتهد أكثر ويعد نفسه لإِمتحانات السنة القادمة ، يختلي بنفسه وينهي حياته بتناول شيء من السم . . .

____________________

(١) چه ميدانيم ؟ تغذية إنسان ص ٢٥ .

٢٢٠