الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

الشيخ محمد تقي فلسفي

الطفل بين الوراثة والتربية - ج ١

المؤلف:

الشيخ محمد تقي فلسفي


المحقق: فاضل الحسيني الميلاني
الموضوع : علم‌النفس والتربية والاجتماع
الناشر: دار سبط النبي للبطاعة والنشر والتوزيع
الطبعة: ٢
ISBN: 964-94553-6-1
ISBN الدورة:
964-94553-6-1

الصفحات: ٤٠٧
  الجزء ١ الجزء ٢
  نسخة مقروءة على النسخة المطبوعة

مواجهة آثار الإِنحراف الوراثي ويؤمن نفسه من أخطاره الجسيمة .

ونظراً لأن الأساليب التربوية والظروف البيئية تختلف . وأن القوى الوراثية متفاوتة في الأفراد كما يقول الدكتور الكسيس في النص الذي نقلناه أنه يعامله معاملة غيره مع إضافة تشديد المراقبة عليه في تلقيه الدروس الإِيمانية والأخلاقية . . . فإنه يبقى في حيطة من أمره ومن مزاجه القائم على الإِنحراف . ولذلك فلا يرضى بأن يسلم زمام الحكم ومقدرات الأمة بيده .

إن ولد الزنا لو كان أعلم علماء عصره فانه لا يحق له أن يتقلد منصب مرجعية التقليد العام للمسلمين ، وقيادة الأمة الإِسلامية ، ومهما كان صاحب ذوق رفيع ونبوغ كامل في العلم ، فالإِسلام لا يرضى له أن يتقلد منصب القضاء بين المسلمين ، لأن من الممكن أن تظهر صفته الوراثية الرذيلة فجأة ، وتلتهب نار الفساد الكامنة تحت الرماد ، وتقطع بذلك القيود الدينية والتربوية ، وتجر بذلك الويل والثبور للذين يتقلد زمامهم .

*  *  *

وملخص ما مر أن بعض الصفات الوراثية تتصف بصفة الحتمية وهي من مصاديق القضاء والقدر الذي لا يقبل التغيير ، والبعض منها يسلك كعامل مساعد فقط في سلوك الطفل فهو ليس قضاء حتمياً وقدراً لازماً . . .

وإن الأساليب التربوية وعوامل المحيط إن اتفقت مع تلك الصفات الوراثية ظهرت بسرعة . وإن خالفتها فإن التربية تتغلب على الوراثة ، والمحيط يكون أقوىٰ من الصفات الموروثة .

ولهذا فإن الإِسلام يهتم بتربية الأفراد الذين يملكون تربة مساعدة للفساد والإِنحراف ويأمل وطيداً باحتمال إصلاحهم وسلوكهم سبل السعادة .

وحجر الأم هو المحيط الأول لتربية الطفل . فطوبى للأطفال الذين يولدون من آباء وأمهات طاهرين إهتموا بتربيتهم وتنشئتهم نشأه دينية صالحة . . .

١٤١

والإِسلام يحترم هذا النوع من الآباء والأمهات . . . ويوصي الأطفال بأن يخضعوا لهم ويقوموا بواجب الأطاعة والإِحترام تجاههم ، جزاء على جهودهم ويأمرهم بأن يدعوا لهم بدعاء الخير .

( وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . . . ) .

١٤٢

المحاضرة السادسة

النظام الطبيعي في الأحياء ـ التعليم والتربية في عالم الانسان

( لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ، ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ ، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ . . . فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ ) (١) .

للوصول إلى السعادة ، وتحقيق الكمال اللائق بالإِنسان من الناحية التربوية ، يجب الإِلتفات إلى أصلين مهمين :

( الأول ) : إحياء الاستعدادات الفطرية المفيدة .

و ( الثاني ) : إماتة الميول المنحرفة والاتجاهات الشريرة . وبعبارة أوضح فإن المربي الممتاز هو الذي يستطيع من أن ينمي القابليات والمواهب الفطرية التي يملكها الطفل بالأساليب التربوية الصالحة من جانب . ومن جانب آخر يعمل على دحر الصفات الوراثية الشريرة والاتجاهات التي لا تلائم السلوك الصحيح . ولأجل أن يتضح مدى أثر التربية وأهميتها بالنسبة إلى الوصول إلى الكمال الإِنساني اللائق به نرى لزاماً أن نبحث في هذه الجهات بحثاً مفصلاً . والظاهر أن هذا البحث مضافاً لما سيوضحه من ضرورة التربية بالنسبة للإِنسان سيرشدنا إلى إحدى آيات الله الدقيقة في هذا الكون ويدلنا على إرادته الحكيمة في تسييره .

____________________

(١) سورة التين ؛ الآيات : ٤ ، ٥ ، ٦ .

١٤٣

امتياز الانسان عن سائر الأحياء :

بالرغم من أن الإِنسان يعد أحد الموجودات الحية في العالم ، ويتركب وجوده من سائر العناصر المكونة للموجودات الأُخرى . . . لكنه يمتاز عنها بخصائص ومميزات تفصله عن سائر الأحياء . إن الإنسان يختلف عن الأشجار والأزهار ، وعن الحشرات والحيوانات في جهات متعددة . ومن جملة هذه الفروق : أن الحيوانات لا تحتاج في بلوغها الكمال المحدد لها إلى تعليم وتربية . إن الغرائز الفطرية التي أودعها الله تعالى فيها هي التي ترشدها بانتظام ، وفي جميع مراحل حياتها إلى مطاليبها ، وهي تسلك طريق تكاملها بصورة صحيحة . . . لكن الإِنسان يحتاج إلى التعاليم والتربية فأنه إن لم تكن تربيته مطابقة لأساليب علمية وعملية لا يصل إلى الكمال اللائق به ، ويستحيل أن تظهر إستعداداته الفطرية ومواهبه إلى حيز الخارج .

إن القرآن يحكي لنا قصة موسى وهارون حين توجها بأمر من الله إلى فرعون وقومه ليدعوهم إلى توحيد الله وعبادته ، ومن خلال تلك القصة يسأل فرعون عن الخالق الذي يدعو إليه قائلاً : « فمن ربكما يا موسى ؟! » فيجيبه موسى عليه‌السلام : « رَبُّنا الذي : اعطى كل شيء خلقه ثم هدى ! ! ! » .

الأعضاء اللازمة للحياة :

يتبين لنا من الآية السابقة إن الله تبارك وتعالى قد وهب لكل موجود ما يحتاجه ، وقرر له ما ينبغي له . ومن الواضح أن درجة إحتياج كل موجود إلى شيء ما تختلف . . . فالحيوانات مثلاً يختلف بناؤها الطبيعي ونوع الغذاء ، الذي تحتاجه ، وقد طورها الله على الشكل الملائم لها ، فأعطاها الأعضاء اللازمة لحياتها . أعطى الأسد مخالب قوية لتمزيق اللحوم ومنح الشاة أسناناً حادة لقضم الأعشاب . . . وهب البعض قوة الركض والجري السريع ، وأعطى للبعض الآخر القدرة على الطيران ، خلق في البعوضة الضعيفة خرطوماً للمص ، وجهز الطيور الداجنة بمنقار يختلف تماماً عن منقار الطيور القانصة .

إن أول دليل يقدمه موسى لفرعون على وجود الله تعالى هو أن : ربي هو

١٤٤

الذي نظم بناء الخلق العظيم بعلم وحكمة ، وأعطى لكل موجود ما يستحقه ويحتاجه في بلوغ مقاصده ، ولذلك فإن آثار قدرته تعالى ظاهرة في كل موجود . يقول الشاعر :

فانظره في حجر وانظره في شجر

وانظره في كل شيء . . . إنه الله

ويقول الآخر :

وفي كلِّ شيء له آيةٌ

تدلّ على أنَّه واحد

استخدام العضو :

إن الحصول على الأدوات والآلات أمر . . . وكيفية استخدام تلك الآلات أمر آخر ، فمكبرة الصوت عبارة عن جهاز لتوزيع الصوت وإيصاله إلى أبعد ما يمكن ، ولكن إستخدام هذا الجهاز والاستفادة منه يحتاج إلى علم وإطلاع بشؤونه . فمن الممكن أن توجد قاعة ما أجهزة فخمة لتكبير الصوت ولكن لا يوجد عامل فني واحد ، يعرف كيفية إستعمالها . وهكذا ، فوجود وسائل الفحص بالأشعة السينية وأدوات الجراحة في المستشفى يختلف عن كيفية إستخدامها . فإنه لا بد من طبيب ممارس كي يعرف كيفية التصوير بدقة ، وتشخيص حصى الكلية مثلاً ، ثم كيفية شق بطن المريض بالمباضع والسكاكين وإستخراج الحصىٰ ، وإعادة خياطة موضع الجرح بدقة . . . وفي النهاية برء المريض وخلاصه من الآلام .

ولهذا نجد أن الدليل الثاني الذي يقدمه موسى لفرعون على وجود الله تعالى هو أنه بعد الفراغ من تزويد الله تلك الموجودات بالوسائل والأدوات اللازمة ، علمها كيفية إستخدام تلك الأعضاء وطريقة الإِستفادة من تلك الآلات والأجهزة كلا على حدة . إن بعوضة ضعيفة تعرف كيف وأين تدخل مضخة الدم أي خرطومها الذي هو بمثابة المحقنة الطبية لتمص الدم بذلك ، وتحفظ حياتها بالتغذي عليه .

هذا النظام الدقيق ، وهذه الأساليب المتقنة لا يمكن أن تصدر من ناحية

١٤٥

الطبيعة العمياء ، وعلى نحو الصدفة التي لا تعي ولا تشعر . إن الذات التي تتمثل فيها القدرة الكاملة والعلم المحيط والإِرادة التامة التي أوجدت هذا الكون بحسب نظام دقيق منحصرة في الله تعالى .

التكامل البشري :

يتقدم الإِنسان دوماً نحو الرقي والتكامل . . . كثير من الحقائق كان يجهلها الناس أمس الأول وكُشف الحجاب عنها أمس ، وقسم من الحقائق كانت مجهولة أمس ، وإذا بالعلم يكشف عن أسرارها اليوم . . . وهكذا فإن هناك كثيراً من الحقائق يجهلها العالم اليوم ، ولكنها ستنكشف لعالم الغد . وعلى مرّ الأيام كلما إنكشفت زاوية مجهولة في هذا الكون الفسيح ورفع النقاب عن سر مكنون . . . إطلع العالم على النظام الحكيم الذي أودعه الله ، فيقف إجلالاً ويركع خضوعاً وخشوعاً حيال عظمته وحكمته .

وحين كان موسى يتكلم مع فرعون حول توحيد الله . . . وحين نزل حديث موسى بن عمران بصورة آية من القرآن على نبينا العظيم ، كانت معلومات البشر عن نظام الخلقة ، وأسرارها العجيبة محدودة وضئيلة جداً ولم يكن الناس ليتوصلوا إلا إلى ما تراه عيونهم المجردة القاصرة غافلين كل الغفلة عن أن الحقائق التي لا تدرك بالعين المجردة ، والأمواج التي لا تسمع بالأذن العادية أكثر بكثير من المبصرات والمسموعات العادية للبشر . لكن أئمة الإِسلام الهداة ، والقادة المعصومين الذين كانوا ينظرون بنور الوحي والإِلهام وبعين الحقيقة والواقع التي لا تحجبها الأستار المادية ، كانوا على علم بجميع تلك الحقائق .

يذكر الإِمام علي عليه‌السلام هذه الحقيقة في خطبة من خطبه ، ضمن حمد الله والثناء عليه قائلاً : « وما الذي نرى من خلقك ، ونعجب له من قدرتك ، ونَصِفه من عظيم سلطانك ؟ وما يغيب عنا منه وقصرت أبصارنا عنه ، وانتهت عقولنا دونه ، وحالت سواتر الغيوب بيننا وبينه . . . أعظم » (١) .

____________________

(١) شرح نهج البلاغة لملا فتح الله ص ٢٧٦ .

١٤٦

الموجودات المجهرية :

لم يكن ليعرف الإِنسان قبل أربعة عشر قرناً شيئاً عن العالم المحير والعجيب للموجوادات المجهرية ، ولم يكن بالإِمكان للعلماء في عصر نزول القرآن أن يؤمنوا أن في القطرة الواحدة من نطفة الرجل تسبح ملايين الموجودات الحية . . . ولكننا نجد في ذلك العصر حينما يسأل ( الفتح بن يزيد الجرجاني ) من الإِمام الرضا عليه‌السلام عن سبب تسمية الله باللطيف يقول الإِمام في جوابه : « للخلق اللطيف ، ولعلمه بالشيء اللطيف . . . ومن الخلق اللطيف ، ومن الحيوان الصغار ومن البعوض والجرجس وما هو أصغر منها ، ما لا يكاد تستبينه العيون بل لا يكاد يستبان ـ لصغره ـ الذكر من الأُنثى ، والحدث المولود من القديم » (١) .

هذا الحديث يرينا أن الإِمام الرضا عليه‌السلام كان مطلعاً في ذلك الزمان على وجود الحيوانات المجهرية ، ولذلك فهو يذكر السبب في تسمية الله باللطيف ، خلقه تعالى للأشياء الدقيقة الصغيرة بنظام متقن وإبداع عجيب ، حيث أنها لصغرها لا يمكن أن ترى بالعين المجردة .

المستقبل الوضاء :

وفي تلك الأيام التي كانت معلومات علماء البشر محدودة وكانوا لا يعرفون الكثير من الحقائق المكتشفة اليوم لعدم حصولهم على الوسائل والآلات العليمة . . . وفي تلك الأيام بالذات ظهر القرآن الكريم ببشارة سعيدة للبشرية ، وبعث في نفوس البشر الأمل الوطيد في وصولهم إلى حقائق خفية وأسرار مكنونة فقال : ( سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ ) (٢) .

فتنطلق هذه البشارة باعثة الأمل في نفوس الباحثين ليعلموا أن المستقبل

____________________

(١) الكافي للكليني ج ١ ص ١١٩ .

(٢) سورة السجدة ؛ الآية : ٥٣ .

١٤٧

سيظهر لهم الكثير من آيات الله في الآفاق الكونية ، وفي بناء البشر أنفسهم . . . ليصلوا إلى النتيجة المطلوبة وهي أن الله هو الحق والموجود .

. . . وكأن الله تعالى يقول للبشر في عصر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ـ بالرغم من أنني أظهرت كثيراً من الآيات والحقائق للبشر ، ولكن الحقائق التي يمكن إكتشافها لهم هي أكثر بكثير من الحقائق المكتشفة لحد الآن . وفي المستقبل القريب ، سأظهر لهم من الآيات الجديدة والحقائق الكثيرة ما يكفل لهم إتضاح الحق والقدرة الإِلهية أكثر .

وكأن الأئمة عليهم‌السلام كانوا يتنبأون بالتقدم العلمي للبشر ، والتعمق الذي سيبذلونه في بحوثهم في العصور التالية ، ولذلك فكانوا يذكرون ذلك في الأوقات المناسبة . . .

« سئل علي بن الحسين عليه‌السلام عن التوحيد ، فقال : الله عز وجل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون ، فأنزل الله : ( قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ ) والآيات من « سورة الحديد » . . . » (١) .

إن مما لا شك فيه هو أن البشر اليوم قد إكتشفوا ـ بفضل التقدم العلمي ـ كثيراً من الحقائق والأسرار في الآفاق الكونية والنفس الإِنسانية مما لم يكن يحدث به أصحاب القرون السابقة ، فمثلاً كان السابقون يستفيدون من قوله تعالى : « ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » بمقدار ما كان يعرف البشر من أسرار العالم حينذاك ، فكانوا يعرفون مثلاً أن النحلة تملك الأدوات اللازمة لها في صنع غذائها وكذلك تعرف بفضل الهداية الفطرية كيفية إستخدامها . أو أن الحمامة تعرف ـ بالهداية الفطرية ـ كيف وأين تضع عشها ، وكيف تحافظ على فروخها .

أما العلماء اليوم فأنهم عبروا المراحل التي تدرك بالعين المجردة . وشاهدوا الموجودات الحية التي ليست قابلة للرؤية ، بواسطة العين المسلحة

____________________

(١) تفسير البرهان ص ١٢٢٨ .

١٤٨

( بسلاح المجهر ) ، وتمكنوا أن يراقبوا نشاط الخلية التي تعتبر الوحدة الأولى لجميع الأحياء في العالم . إن ما لا شك فيه هو أن هذه الاكتشافات العلمية قد كشفت الستار عن كثير من آيات الله الخفية وأرتنا قدرة الله العظيم في الهداية الفطرية التي أودعها في هذه الموجودات لمزاولة نشاطها بصورة أوسع مما مضىٰ .

عالم الخلية :

لقد قام الدكتور ( الكسيس كاريل ) (١) بتجارب دقيقة حول حياة الخلايا خارج محيط البدن وتوصل إلى كشف رموز دقيقة في إختباراته العلمية ، ومن خلال قراءة بعض الفقرات من عباراته يتضح لنا أن الخلية الصغيرة الدقيقة لم تحرم أيضاً من فيض الهداية الفطرية التي أودعها الله تعالى في هذا الكون ، إنه يقول :

« ولقد عرف علماء التشريح والفسيولوجيا الصفات المميزة للأنسجة والأعضاء أي جمعيات الخلايا ، منذ أمد بعيد ولكنهم نجحوا حديثاً فقط في تحليل صفات الخلايا نفسها ولقد أمكن دراسة الخلايا الحية في قنينة بسهولة كما يمكن دراسة النمل في الخلية . وذلك يسبب الطرق الحديثة المستخدمة في توزيع الأنسجة . ولقد كشفت هذه الخلايا عن نفسها وعما وُهبته من قوى لا يرقى إليها الشك ذات صفات مذهلة . . . ومع أن هذه الصفات تقديرية في أحوال الحياة الطبيعية ، فأنها تصبح حقيقة تحت تأثير المرض حينما يتعرض الوسط العضوي إلى تغييرات ( طبيعية ـ كيماوية ) معينة » (٢) .

____________________

(١) من العلماء المعروفين في علم الأجنة ، ومعرفة الأنسجة في العالم ، لقد كتب أحدهم عن شخصيته : « وأعظم هذه الاكتشافات هو معرفة الأجنة ( جمع جنين ) التي توصل إليها ألكسيس كارل . لقد تمكن من أن يعتني بتربية الأنسجة بصورة دقيقة ، حتى توصل إلى الإِحتفاظ بقطعة من قلب دجاجة لمدة ثلاثين سنة في معهد ( روكفلر ) بنيويورك » ! .

(٢) الإِنسان ذلك المجهول ص ٦٥ .

١٤٩

« والخلايا ، كالحيوانات ، تنتمي إلى أجناس مختلفة ، وهذه الأجناس أو الأنواع تعيَّن بصفات تكوينها ووظائفها المميزة لها » (١) .

« وحينما تربى مختلف هذه الأنواع من الخلايا في قنينة فإن صفاتها المميزة تصبح من الوضوح مثل الصفات المميزة لمختلف الجراثيم . فلكل نوع صفاته الفطرية الملازمة له والتي تظل محدودة حتى بعد أن تنقضي بضعة أعوام على انفصاله من الجسم . . . » (٢) .

« ويبدو أن الخلايا تتذكر وحدتها الأصلية حتى حينما تصبح عناصر مجهرة لا عدد لها . . . إنها تعرف ، من تلقاء ذاتها ، الوظائف المطلوب منها تأديتها في الجسم كوحدة . فلو أننا زرعنا خلايا أبثيلية عدة أشهر ، وهي بعيدة عن الحيوان الذي تنتسب إليه ، فأنها تنظم نفسها تنظيماً يشبه الفسيفساء كما لو كانت ستحمي سطحاً تاماً ومع ذلك فإن هذا السطح يكون غير موجود ، كذلك فأن كرات الدم البيضاء التي تعيش في قنينة تبذل قصارى جهدها للفتك بالجراثيم والكرات الحمراء على الرغم من عدم وجود جسم تتولى حمايته من غزو هذه الأعداء . وذلك لأن إلمامها الفطري بالدور الذي يجب عليها أن تلعبه في الجسم إن هو إلا وسيلة للبقاء تلتزمها جميع عناصر الجسم » .

« وتختص الخلايا المعزولة بقوة إعادة إنشاء التكوين الذي يتميز به كل عضو من غير إرشاد أو من غير غرض معين ، فلو أن عدة كرات حمراء إنسالت بفعل الجاذبية ، من قطرة من الدم وضعت في وسائل البلازما وكونت مجرى دقيقاً ، فأنها سرعان ما تنشىء له شاطئين ولن يلبث هذان الشاطئان أن يغطيا نفسهما بخويطات من

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٦٧ .

(٢) المصدر نفسه ص ٦٨ .

١٥٠

الليفين ويصبح المجرى أنبوية تنسال فيها الكرات الحمراء مثلما تنسال في وعاء دموي ، وتحيط نفسها بغشائها المتماوج . وفي هذه الأثناء يتخذ مجرى الدم مظهر وعاء شعري مغلف بطبقة من الخلايا القابضة وهكذا فإن كرات الدم الحمراء والبيضاء المعزولة تستطيع أن تنشىء قطاعاً صغيراً من جهاز الدورة الدموية على الرغم من عدم وجود قلب أو دورة دموية أو أنسجة لترويها » (١) .

القيام بالواجب في الخلية :

إن ما كان يعرفه علماء البشر بالأمس عن الهداية الفطرية للموجودات الحية كان مقتصراً مثلاً على أن القطة التي هي من الأحياء قد جهزت بالوسائل والأدوات اللازمة لإِدامة الحياة ، وجهزت بجهاز خاص لتربية صغارها لغرض بقاء النسل . . . أولاً ، وأنها تعرف كيف تستعمل تلك الأدوات والوسائل في حياتها والإِستفادة منها ، وكيف تحمل وتضع وبأي صورة تربي صغارها . . . ثانياً .

أما علماء اليوم فقد توصلوا إلى أن القطة تعني آلاف الملايين من الخلايا الحية التي تمتاز بخصائص معينة ، اجتمعت كل مجموعة منها لصنع عضو خاص والمهم أن كل واحدة من هذه الخلايا الحية التي لا ترى بالعين المجردة قد جهزت بلوازم إدامة الحياة وكل منها تعرف ـ بفضل الهداية الفطرية ـ الطريق إلى تكاملها والوصول إلى غايتها . وكما شرح لنا العالم الاختصاصي بمعرفة الخلايا فإن هذه الخلايا لا تنسى واجبها حتى في خارج بدن الموجود الحي ( أي في المختبرات العلمية ) بل تستمر في أداء وظيفتها بأحسن وجه قرره لها الله تعالى بقلم قضائه .

الجنين المختبري :

قبل سنتين نشرت الجرائد والصحف المحلية خبراً حول توصل البروفسور

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٩٠ .

١٥١

الإِيطالي ( دانيل يتروجي ) إلى إيجاد طفل في المختبر من نطفة الرجل والمرأة . . .

« باريس / ١٤ كانون الثاني / وكالة الأنباء الفرنسية ، لقد أعلن اليوم أن البروفسور دانيل أحد علماء ـ الأحياء ـ الإِيطاليين إستطاع أن يلقح نطفة الرجل والمرأة في خارج رحم الأم وأن يوجد جنيناً يقوم بتربيته بصورة صناعية » (١) .

« لقد أكد العالم الإِيطالي أن الفيلم الذي صوره يوضح كيفية دخول ( الحيمن المنوي ) في ( البويضة ) داخل أنبوبة الاختبار . والنطفة التي إنعقدت بهذه الصورة استمرت في النمو لمدة ٢٩ يوماً » (٢) .

 « إن المحافل الكاثوليكية ومجلس الفاتيكان يرون أن هذه الإِختبارات تفسد روح البشرية وأخلاقها ويعتقدون بأن علماء العالم يجب أن يجتنبوا عن مثل هذه التجارب التي تؤدي إلى وجود موجود حي ثم قتله » (٣) .

الهداية الالهية في عالم الخلية :

إننا لا نريد أن نبحث عن أساس هذا العمل وحكم قتل هكذا طفل من الوجهة الشرعية ، ولكننا نقول : إنه من الجانب العلمي نجد أن هذا العمل مقتبس من أحد القوانين الكونية ، وهذا هو دليل الهداية الفطرية الإِلهية في عالم الخلية . إن ( الحيمن المنوي ) هو أحد مصاديق ( كل شيء ) الذي تحدث عنه موسى بن عمران بقوله « الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى » .

هذا الموجود المجهري مجهز بلوازم الحياة ، ومضافاً إلى ذلك فأن الله قد منحه جميع الهدايات اللازمة له ، والتي منها : العشق إلى بويضة المرأة .

____________________

(١) جريدة ( إطلاعات ) الإِيرانية ـ العدد / ١٠٤١٠ .

(٢) جريدة ( إطلاعات ) الإِيرانية ـ العدد / ١٠٤٢٩ .

(٣) المصدر نفسه ـ العدد / ١٠٤١١ .

١٥٢

إن الوضع الاعتيادي للبويضة هو في عنق الرحم ، والحيامن مأمورة ـ بحكم الهداية الإِلهية الفطرية ـ أن توصل أنفسها إلى البويضة ، وتظهر جميع النشاطات في سبيل الوصول إليها . . . وتكون النتيجة أن أحد تلك الحيامن يلقح البويضة ويصير سبباً لظهور الإِنسان .

وكما أشرنا سابقاً فأن تجارب العلماء قد أثبتت أن الخلايا تستمر في عملها حتى خارج البدن ، ولا تنسى واجبها ، ولهذا فإذا استطاع البروفسور الإِيطالي من أن يضع بويضة المرأة في أنبوبة الاختبار بدلاً من عنق الرحم وهيأ الظروف اللازمة لذلك . فإن الحيامن لاتقف عن أداء وظيفتها التي خلقت لأجلها ، بل تلقح البويضة هناك وتوجد طفلاً .

وهكذا فأن لكل مجموعة من الخلايا وظيفة معينة ، تؤديها في محيطها الإِعتيادي ، ولا تكف عن إتيانها في الظروف غير الاعتيادية أيضاً ، وهذا السر العظيم للخلقة دقيق إلى درجة أن العلماء لم يتوصلوا بعد إلى كثير من رموزه .

« تتميز أنواع الخلايا بطريقتها في الحركة ، وفي اتحاد إحداها مع الأُخرى وشكل مجموعاتها ، ودرجة نموها واستجابتها لمختلف الكيميائيات ، والمواد التي تفرزها والطعام الذي تحتاجه ، كما تتميز بشكلها وبنيانها . . إن قوانين تنظيم كل مجموعة خلايا ـ أي كل عضو ـ مستمدة من هذه الخصائص العنصرية . وإذا كانت خلايا النسيج تملك فقط الصفات التي ينسبها علم التشريح لها ، لما كان في استطاعتها أن تنشىء جسماً حياً . . إنها تملك قوى أُخرى ، تكون مخبأة عادة ولكنها تصبح فعالة حينما تستجيب لتغييرات معينة في الوسيط ، وهكذا تتاح لها فرصة علاج الحوادث غير المتوقعة أبان الحياة العادية أو في أثناء المرض . . . وتتحد الخلايا في جماهير كثيفة هي الأنسجة والأعضاء التي يتوقفها تنظيمها الهندسي على الإِحتياجات التكوينية والوظيفية للجسم في « مجموعته » (١) .

____________________

(١) الإِنسان ذلك المجهول ص ٦٨ .

١٥٣

« وجميع الخلايا الحية تعتمد كل الإِعتماد وبصفة خاصة على الوسيط الذي غاصت فيه وهي تعدل هذا الوسيط من غير توقف ، وتتعدل هي به من غير توقف أيضاً . بل الحقيقة أنها غير قابلة لإِنفصال عنه مثلما لا ينفصل جسمها عن نواته . وبنيانها يتبعان الأحول المادية (الطبيعية ـ الكيميائية) والكيميائية للسائل المحيط بها ... » (١).

وتملك الخلايا نشاطات مختلفة في الحالات الاعتيادية وغير الإِعتيادية وإن الظروف البيئية تؤثر فيها . وفي حالة المرض حيث يكون وضع البدن غير اعتيادي تقوم الخلايا بنشاطات خاصة دقيقة وغير واضحة تماماً لصالح البدن ولدفع المرض . وكذلك أيام الحمل تكوّن وضعاً لا اعتيادياً بالنسبة إلى المرأة . وبالرغم من أن الخلية التناسلية الأولى تنتج من تلقيح البويضة بالحمين ، ـ ولا يختلف محيط الرحم مع محيط المختبر من هذه الجهة ـ لكن ما لا شك فيه هو أن خلايا بدن الأم تقع تحت تأثير العوامل البيئية للحمل طيلة التسعة أشهر حيث يتم خلالها نمو الطفل في الرحم وتؤثر تلك التأثيرات في البناء الطبيعي للطفل بلا ريب ، ولهذا السبب فأن البروفسور الإِيطالي قد قطع التجربة في اليوم التاسع والعشرين بالنسبة إلى إيجاد الطفل في المختبر .

إن الجنين أخذ شكله اللازم له طيلة ( ٢٥ يوماً ) ، وتوقفت التجربة في اليوم (٢٩) عمداً . لقد أعلن العالم الإِيطالي أنه أوقف التجربة عمداً ، لأنه كان من المحتمل أن ينشأ من نمو هذا الجنين عملاق ضخم ، ويكون النمو التالي للجنين غير طبيعي » .

« هذا الأمر يدلنا على أن العلماء لم يستطيعوا بعد ، من إيجاد الظروف اللازمة لتربية النطفة وتحويلها إلى طفل جديد خارج بدن الإِنسان . ويبدو أن هناك أسراراً دقيقة حول تغيير أشكال الأنسجة ، ونفوذ الهورمونات بين نطفتين إنسانيتين لم تكشف لحد الآن » (٢) .

____________________

(١) المصدر نفسه ص ٦٥ .

(٢) جريدة إطلاعات الإِيرانية ـ العدد / ١٠٤١١ ، تاريخ ٢٦ / ١٠ / ١٣٣٩ هجرية شمسية .

١٥٤

إن بعض الجهال والمنحرفين الذين يستغلون الفرص المناسبة لإِسداء الضربة القاضية إلى التعاليم الدينية ، قد استغلوا هذه المناسبة فراحوا يقولون إن البشر استطاع أن يخلق بشراً مثله ، وبهذا لا داعي لموافقة المتألهين حول حصر نسبة الخالقية إلى الله . ولتوضح الموضوع والرد على هذه الشبهة لا بد من تمهيد بعض المقدمات .

جهاز التفقيس :

إن الطريقة الطبيعية في تربية فروخ الدجاج هي أن يستقر البيض تحت جناحي الدجاجة وريشها ، ويفقس البيض بعد ثلاثة أسابيع . . . ولقد فكر البعض فيما مضى في إيجاد حرارة مشابهة لحرارة جسد الدجاجة في الدرجة في جهاز خاص وذلك لغرض التفقيس بلا دجاجة . ولقد تم هذا العمل فعلاً ، واليوم يفقس عدد كثير من البيض عن كتاكيت بواسطة الحاضنات الأوتوماتيكية . . . ولكن لم يظهر لحد الآن من يتمكن من صنع البيضة ـ التي هي بمنزلة خلية كبيرة لنطفة الكتكوت ـ وسوف لن يستطع من ذلك في المستقبل ، بل يجب عليه أن يحصل على البيض من نفس الطريق الذي قرره خالق الكون . أي عن طريق الدجاجة (١) .

واليوم نجد أن البروفسور الإِيطالي قد أخذ نطفة الرجل والمرأة ـ التي هي بمنزلة البيضة ـ من مجراها الطبيعي ، ولقحها في المختبر ـ الذي هو بمنزلة مكائن التفقيس ـ مع فارق واحد هو أن جهاز التفقيس يؤدي عملاً واحداً هو تنظيم درجة الحرارة وتقليب البيضات ظهراً لبطن يومياً لمنع الترسب . . . بينما يجب على البروفسور الإِيطالي أن يقوم بمائة عمل أو مئات الأفعال لتهيئة

____________________

(١) وهنا نضيف إلى عبارة الأستاذ الفلسفي نكتة مهمة . وهي أنهم على فرض صنعهم للبيضة أيضاً بطريقة ميكانيكية ، فلا يسمى عملهم ذلك خلقاً ، بل هو اقتباس لخلق الله . . . إذ لا يتم ذلك على فرض الإِمكان إلا بعد فحصهم لمكونات البيضة وعناصرها وتحليلها ومعرفة ظروف تركيبها من حرارة وضوء ورطوبة . . . الخ ، كي يتمكنوا من صنع بيضة مثلها ، وحينذاك لا يسمى عملهم هذا خلقاً بل هو تقليد لخلق الله .

١٥٥

الظروف المتنوعة من الحرارة والرطوبة والمحيط المساعد ، والمواد الغذائية الصالحة ، وتغذية الجنين . . . وغيرها من العوامل . نعم ! لا شك في أنه قام بعمل مهم من الناحية العلمية ، ولكنه لم يصنع الحيمن والبويضة ، بل إنه حصل على أساس الخلقة البشرية وخليته الأولى بواسطة الرجل والمرأة ، ومن بين أحضان الطبيعة والمجرى الطبيعي للقضاء والقدر الإِلهيين ، ولكنه قام بتلقيحهما وتربيتهما وتغذيتهما في داخل المختبر . وإذا أمكن القول بأن جهاز التفقيس أو المتصدي لتنظيم درجة حرارة الجهاز أو واضع الزيت فيه هو خالق الكتكوت ( الفرخ ) الذي يخرج منه ، أمكن القول هنا أيضاً بأن البروفسور والمختبر قد خلقا الجنين ! ! ! .

سر الحياة المجهول :

إن العالم لم يتوصل بعد إلى كشف رمز الحياة ، وحل سر الوجود على وجه الكرة الأرضية . فكيف بقدرته على صنع خلية حية تكون منشأ ظهور البشر أو الحيوان . إن علماء الحياة بعد القيام بجهود عظيمة في هذا الميدان يبعثون الأمل في نفوس الناس بإمكان معرفة كيفية ظهور الموجود الحي بعد ألف سنة . . .

 « وبعد ألف سنة ، يتوصل الإِنسان إلى كشف سر الحياة ولكن لا يدل هذا على أن باستطاعة البشر أن يوجد ذبابة أو حشرة أُخرى أو حتى خلية حية . لقد أعلن هذا الموضوع في مؤتمر إنعقد باسم ( داروين ) . وقد أعلن ( البروفسور هانز ) العالم الأمريكي أن العلماء سيبحثون عن سر الحياة خلال الألف سنة القادمة » (١) .

أما بالنسبة إلى تلقيح البيضة بالحيمن في المختبر . والتجربة الناقصة التي قام بها البروفسور الإِيطالي ، فلو فرض أن العلماء توصلوا إلى جميع الخصائص الخلوية المجهولة في بدن الأم ، وتفاعلاتها الكيميائية في أيام الحمل ، وإستطاعوا من إيجادها في محيط المختبر ، وأوجدوا طفلاً كاملاً

____________________

(١) جريدة إطلاعات الإِيرانية العدد / ١٠١٦٠ ، التاريخ ١٩ / ١٢ / ١٣٣٨ هجرية شمسية .

١٥٦

وسالماً . . . فليس هذا العمل غير مناف لأساس التوحيد فحسب ، بل يبقى سنداً قوياً على النظام الدقيق الذي يسود الكون ، ودليلاً بارزاً على وجود الخالق الحكيم العالم الذي أوجد حتى الذرات غير المرئية في هذا العالم حسب نظام دقيق وتقدير مطابق . وهنا يتبين قوله تعالى : ( إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ) . إذ أنه لا شك في أن الطبيعة الجاهلة والصدفة العمياء لا يمكن أن يصدر منها هذا النظام العجيب .

نستنتج مما سبق أن الحيوانات والحشرات وحتى الخلايا تملك قسطاً وافراً من الهداية الفطرية الإِلهية ، ولا تحتاج في الوصول إلى كمالها اللائق بها إلى التعليم والتربية ، إن النحل والعناكب تعرف منهجها التكاملي على نحو الغريزة الفطرية ، وكذلك الحيامن والكريات البيض تعرف وظائفها عن طريق الهداية الإِلهية .

إن بعض النشاطات التي تظهر من الحيوانات والحشرات بإرشاد من هدايتها الغريزية دقيقة ومهمة إلى درجة أنها تبعث الإِنسان على التعجب والحيرة ! .

حشرة الآموفيل :

« إن حشرة الآموفيل لا تأكل الديدان ، بل هي تتغذى على الأعشاب ، لكن صغارها تحتاج إلى الديدان في تغذيتها في أولى أدوار حياتها ، ولهذا فأن هذه الحشرة تلسع الديدان وتخدرها بالسم المخصوص الذي تفرزه ولكن لا تقتلها . . . وذلك لكي تولد صغارها فتستطيع التغذي على هذه الديدان . إن حشرة الآموفيل تعلم أن الديدان لو قتلت قبل ولادة صغارها فأنها تتعفن ولا تصلح غذاء لها . إن هذه الحشرة قد اكتشفت أنه لو لم تخدر الديدان بالدرجة الكافية فأنها تستعيد نشاطها وتأخذ بالفرار . . . فتموت صغارها جوعاً ، لذلك فأنها تلسع الدودة بصورة غير قاتلة

١٥٧

بل مخدرة فقط » (١) .

إن الحيوانات والحشرات تسير بأحسن ما يكون من الانتظام في طريق حياتها وتكاملها ـ في كنف الهداية الفطرية ـ ولا تحتاج في ذلك إلى التربية والتعليم .

الخصائص المشتركة بين الانسان والحيوان :

أما البشر فإن جانباً من مناهجه الحياتية وقوانينه التكاملية تدار بواسطة الهداية الفطرية من قبل الله تعالى ، وفي ذلك يشبه الحيوانات والحشرات في أنه لا يحتاج إلى مرشد ومعلم . فالمعدة في هضمها للطعام ، والكبد في تصفية الغذاء وتحويله إلى دم ، يعرفان واجباتهما على أكمل وجه ولا يحتاجان في ذلك إلى من يرشدهما ويهديهما . وكذا مبيض المرأة فأنه يعمل بصورة تلقائية على صنع بيضة واحدة في كل شهر . وكذلك الرحم في صنع الجنين ، وغدد الثديين في صنع الحليب للطفل . فكل هذه الأعضاء قد تلقت دروسها في مدرسة الخلقة والإِبداع .

والإِنسان لا يحتاج في إحساسه بالجوع والعطش والتعب والرغبة في النوم وإدراك البلوغ والرغبة الجنسية إلى دراسة ومدرسة ، إذ أنه يدرك هذه الحقائق بصورة فطرية . لكن الأطفال يحتاجون إلى المربي والمعلم في موردين : الأول في صفات مشتركة بين الإِنسان والحيوان والثاني من خواص الإِنسان . وسنضرب لكل منهما بعض الأمثلة الموجزة .

أما الموارد التي يشترك فيها الإِنسان مع سائر الحيوانات ، فهي أن الحيوانات تعرف أعداءها وتهرب منها بلا حاجة إلى دراسة وتلقين ، ولكن الإِنسان يعرف أعداءه عن طريق التعلم والتجربة . الحيوانات تعرف مقدار حاجتها إلى الطعام من ناحية الكم والكيف ، وتعرف كيفية تربية أطفالها وتغذيتهم أيضاً بلا حاجة إلى معلم ، ولكن الإِنسان عرف إحتياجاته الغذائية

____________________

(١) آخرين تحول ص ٧٤ .

١٥٨

ونسب المواد الغذائية التي يجب أن يتناولها بعد تجارب عديدة ومحاولات طويلة ، أما تغذية الأطفال بالصورة الصحيحة فيخضع لنظر الطبيب .

إن صغار القط تدرك الفواصل تماماً وتعرف مقدرتها أيضاً ، فلا تقفز إلى الأماكن التي تكون الفاصلة نحوها بعيدة ولا تستطيع القفز نحوها ولكن الأطفال لا يفهمون هذه الأمور فما أكثر ما رأيناهم يسقطون من السطوح العالية ويموتون . وهكذا المهُر فأنه يفهم خطر الغرق في الماء ولا يرمي بنفسه ولم يسمع لحد الآن أن مهرة قد إختنقت في نهر القرية أو بركتها جهلاً ، لكن أطفال البشر هم الذين يسقطون في أحواض البيوت والمسابح فيغرقون ! .

والحيوانات لا تحتاج في الأمور الصحية وحفظ سلامتها وسلامة صغارها إلى التعليم والتربية ، ولكن البشر نراه ماداً يد الحاجة دائماً إلى العلم والعالم لحفظ سلامته وسلامة أطفاله على ضوء إرشاداته . هذه هي بعض الأمثلة البسيطة على المقارنة بين الصفات المشتركة بين الإِنسان وسائر الحيوانات .

خواص الانسان :

أما فيما يتعلق بالجانب الثاني . فإن في باطن الإِنسان قابليات ومواهب خاصة لا توجد في الحيوانات أصلاً . هذه المواهب والقابليات هي التي تبلغ بالإِنسان إلى أعلىٰ درجات الكمال الإِنساني في المدارج الإِيمانية والمراحل الأخلاقية مسيطراً على عالم طبيعة في المجال العلمي وإدراك نواحي الخلقة ، وبذلك تخضع له جميع القوى والطاقات الأرضية ، ثم تفسح له المجال للسيطرة على الأجرام السماوية وتسخيرها أيضاً .لكن هذه الثروة العظيمة التي ينحصر بها الإِنسان تكمن في الباطن بصورة استعدادت وقابليات ولا تظهر لوحدها أصلاً ، وفي ظل التربية والتعليم فقط يمكن إخراج تلك الذخائر العظيمة من القوة إلى الفعل ، ومن الإِستعداد إلى حيز التنفيذ والاستغلال .

إن أصوات الحيوانات التي تكون كل منها بمنزلة علامة خاصة ، لا تحتاج إلى تمرين وتربية ، ولكن التكلم الذي لا يعدو كونه أبسط الظواهر الإِنسانية لا يتم من دون مرشد ومربٍ ، إذ لو ترك الطفل من أول يوم ولادته

١٥٩

وحيداً لا يُتكلّم معه ، فلا شكّ في أن قابلية على التكلم تموت ولا تصل إلى عالم الفعلية ، وهكذا سائر الاستعدادات الفطرية في الإِنسان فأنها تظهر عن طريق التربية والتعليم فقط .

قيمة التربية :

لقد تبين ـ بما ذكر ـ ضرورة التربية وأهميتها في إظهار الكمالات الباطنية للبشر ، وإخراج الإِستعدادت الفطرية إلى حيز الفعلية . إن الإِنسان لا يصل إلى الكمال اللائق به بدون التعليم والتربية ، ولا يتمكن أن يسير بدونهما في الطريق الذي ينبغي أن يسير فيه .

*  *  *

بعد أن اتضحت لدينا المقدمات السابقة ، لنرجع إلى بيان الأساسين اللذين ذكرناهما في مطلع الحديث . . . لقد كان الأساس الأول هو أن يتنبه المربي القدير إلى جميع الاستعدادات الكامنة في الطفل ، ويعمل على تنميتها مع مراعاة الموازنة بين ميوله والتوفيق بينها ، وإخراجها إلى حيز الفعلية . . . وهذا يتفرع على معرفة الإِنسان ومواهبه وملكاته الكامنة والبارزة . وبعبارة أوضح ، فإن التربية الصحيحة هي التي تكون مطابقة للفطرة الواقعية للإِنسان ، ولا يوفق المربي إلى ذلك إلا عندما يدرك جميع الميول والغرائز الطبيعية في الإِنسان أولاً والعمل على تنمية تلك الميول وإرضائها في مقام التربية ثانياً .

معرفة النفس :

إن الروايات الواردة عن أئمة الإِسلام عليه‌السلام في لزوم معرفة النفس كثيرة ، وهي ـ وإن اختلفت في ألفاظها وأساليبها ـ ترمي إلى اعتبارها أساس السعادة الإِنسانية . وهنا لا بأس بسرد بعض تلك الروايات :

١ ـ يقول الإِمام علي عليه‌السلام : « أفضل المعرفة ، معرفة الإِنسان نفسه » (١) .

____________________

(١) غرر الحكم ودرر الكلم ص ٨٧ طبعة دار الثقافة ـ النجف الأشرف ـ .

١٦٠