معالم الدين في فقه آل ياسين - ج ١

شمس الدين محمد بن شجاع القطان الحلّي

معالم الدين في فقه آل ياسين - ج ١

المؤلف:

شمس الدين محمد بن شجاع القطان الحلّي


المحقق: الشيخ ابراهيم البهادري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
المطبعة: مؤسسة الإمام الصادق عليه السلام
الطبعة: ١
ISBN: 964-357-049-5
الصفحات: ٦٢٤
الجزء ١ الجزء ٢

١
٢

٣
٤

مقدّمة بقلم سماحة آية الله جعفر السبحاني

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المسائل الخلافيّة

و

دورها في الاستنباط

الحمد لله الّذي هدانا لهذا وما كنّا لنهتدي لو لا أن هدانا الله ، والصلاة والسلام على أفضل خليقته وأشرف بريّته أبي القاسم محمد وعلى خلفائه المبشّرين المعصومين ، الموصوفين بكل جميل ، ما تعاقب جيل بعد جيل.

أمّا بعد ؛ فإنّ عدم محاباة العلماء بعضهم لبعض من أعظم مزايا هذه الأمّة الّتي أعظم الله بها عليهم النعمة ، حيث حفظهم عن وصمة محاباة أهل الكتابين ، المؤدّية إلى تحريف ما فيهما ، واندراس تينك الملّتين ، فلم يتركوا لقائل قولا فيه أدنى دخل إلّا بيّنوه ، ولفاعل فعلا فيه تحريف إلّا قوّموه ، حتّى اتّضحت الآراء وانعدمت الأهواء ، ودامت الشريعة الواضحة البيضاء على امتلاء الآفاق

٥

بأضوائها ، وشفاء القلوب بها من أدوائها ، مأمونة من التحريف ، مصونة عن التصحيف. (١)

إنّ القرآن الكريم يشيد بالوحدة ، واتّفاق الكلمة والاعتصام بالعروة الوثقى ، ورفض التشتّت والتفرّق ، ويندّد بالاختلاف والفرقة ، يقول سبحانه : ( وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا ) (٢).

فهذا المقطع من الآية الكريمة بإيجازها يتكفّل بيان أمرين :

١ ـ يأمر بتوحيد الكلمة والاعتصام بحبل الله.

٢ ـ يزجر عن التفرّق والتشتّت.

وهذان الأمران من الوضوح بمرتبة لا يختلف فيهما اثنان.

ومع الاعتراف بذلك كلّه فاختلاف الكلمة إنّما يضرّ إذا كان صادرا عن ميول وأهواء ، فهذا هو الّذي نزل الكتاب بذمّه في غير واحدة من آياته ، يقول سبحانه : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ‌ءٍ ) (٣) ، ويقول : ( وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ ) (٤) ، فهؤلاء اختلفوا بعد ما تمّت عليهم الحجة وبانت لهم الحقيقة ، فهذا النوع من الاختلاف آية الأنانية أمام الخضوع للحقائق الراهنة.

وأمّا إذا كان الاختلاف موضوعيا نابعا عن حب تحرّي الحقيقة وكشف

__________________

(١) إبانة المختار لشيخ الشريعة الاصبهاني ، نقله عن بعض الأعاظم : ١٠.

(٢) آل عمران : ١٠٣.

(٣) الأنعام : ١٥٩.

(٤) آل عمران : ١٠٥.

٦

الواقع ، فهذا أمر ممدوح ، وأساس للوصول إلى الحقائق المستورة ، وإرساء لقواعد العلم ودعائمه.

إنّ الاختلاف بين الفقهاء أشبه بالخلاف الّذي وقع بين نبيّين كريمين : داود وسليمان ـ على نبينا وآله وعليهما‌السلام ـ في واقعة واحدة حكاها سبحانه في كتابه العزيز وقال : ( وَداوُدَ وَسُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ* فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً ) (١).

وكما آتى سبحانه لكلّ منهما حكما وعلما ، فقد آتى لكلّ فقيه ربّاني فهما وعلما ، يدفعه روح البحث العلمي إلى إجراء المزيد من الدقّة والفحص في الأدلّة المتوفّرة بين يديه ، بغية الوصول إلى الواقع ، وهذا العمل بطبيعته يورث الاختلاف وتعدّد الآراء.

ولأجل ذلك نجم الاختلاف في الشريعة بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واتّسعت شقّته في القرن الثاني والثالث.

وقد اهتمّ كثير من العلماء منذ وقت مبكّر بالمسائل الخلافية وصنّفوا فيها كتبا متوفّرة ، جمعوا فيها آراء الفقهاء في مسائل خلافية إلى أن عادت معرفة العلم بالخلافيات علما برأسه وأساسا لصحّة الاجتهاد ، حتّى قيل : إنّ معرفة الأقوال في المسألة نصف الاستنباط. وإليك فيما يلي أسماء بعض الكتب الّتي ألّفت في الخلافيات ، فمن السنّة :

١ ـ « الموطّأ » للإمام مالك ( المتوفّى ١٧٩ ه‍ ) يذكر فيه أقوال الفقهاء السابقين في مختلف أبوابه.

__________________

(١) الأنبياء : ٧٨ ـ ٧٩.

٧

٢ ـ كتاب « الأمّ » الّذي جمع فيه البويطي ثم الربيع المرادي أقوال الإمام الشافعي ، وقد ضمّ فصولا عديدة في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، واختلاف أبي حنيفة والأوزاعي ، واختلاف الشافعي مع محمد بن الحسن.

٣ ـ « مسائل إسحاق الكوسج » قد تضمنت اختلاف الإمام أحمد مع معاصريه كابن راهويه وغيره.

٤ ـ « اختلاف الفقهاء » تأليف الإمام أبي عبد الله محمد بن نصر المروزي ( ٢٠٢ ـ ٢٩٤ ه‍ ) المطبوع بتحقيق الدكتور محمد طاهر حكيم ، ط عام ١٤٢٠ ه‍.

٥ ـ « اختلاف الفقهاء » تأليف الإمام أبي بكر محمد بن المنذر النيسابوري الشافعي ( المتوفّى ٣٠٩ ه‍ ).

٦ ـ « اختلاف الفقهاء » تأليف الإمام محمد بن جرير الطبري ( المتوفّى ٣١٠ ه‍ )

ذكر في كتابه اختلاف مالك والأوزاعي والثوري والشافعي وأبي حنيفة مع أبي يوسف ومحمد بن الحسن ثم أبي ثور ، وذكر بعض فقهاء الصحابة والتابعين وأتباعهم إلى المائة الثالثة ، ولم يذكر فيه أحمد بن حنبل ، وحكي انّه سئل عن سبب ذلك؟ فقال : لم يكن أحمد فقيها وانّما كان محدثا.

وقد لعب بالكتاب طوارق الحدثان ولم يبق منه إلّا القليل يبتدأ بكتاب المدبّر فالبيوع والصرف والسلم والمزارعة والمساقاة والغصب والضمان ، والمطبوع من الكتاب مجلد واحد يشتمل عليها.

٧ ـ « اختلاف العلماء » تأليف الإمام أبي جعفر أحمد بن محمد الطحاوي الحنفي ( المتوفّى ٣٢١ ه‍ ) واختصره الإمام أبو بكر أحمد بن علي

٨

الجصّاص الحنفي ( المتوفّى ٣٧٠ ه‍ ) ونشره الدكتور محمد صغير حسن.

٨ ـ «اختلاف الفقهاء»تأليف محمدبن محمدالباهلي الشافعي (المتوفّى ٣٢١ ه‍ ).

٩ ـ « الخلافيات » للإمام أبي بكر أحمد بن الحسين البيهقي ( ٣٨٤ ـ ٤٥٨ ه‍ ) ناقش فيه أدلّة الحنفية وانتصر لمذهب الشافعية. وطبعت بتحقيق مشهور بن حسن آل سلمان.

١٠ ـ « اختلاف العلماء » تأليف أبي المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة الحنبلي الوزير ( المتوفّى ٥٥٥ ه‍ ).

هذه عشرة كاملة ذكرناها لإيقاف القارئ على أهمية معرفة الخلافيات وعناية الفقهاء بها. هذا ما لدى السنّة وأمّا الشيعة فهي بدورها قد اهتمّت بهذا العلم أيضا منذ عصر مبكّر وألّفت فيه كتبا ، نذكر منها ما يلي :

١ ـ كتاب « الاختلاف » لأبي عبد الله محمد بن عمر الواقدي ( ١٣٠ ـ ٢٠٧ ه‍ ) ذكر ابن النديم : انه كان يتشيّع ، حسن المذهب ، يلزم التقية ، وقال : وكتاب « الاختلاف » يحتوي على اختلاف أهل المدينة والكوفة في الشفعة والصدقة والعمرى والرقبى والوديعة والعارية والبضاعة والمضاربة والغصب والسرقة والحدود والشهادات ، وعلى نسق كتب الفقه ما يبقى.

٢ ـ « اختلاف الفقهاء » للقاضي أبي حنيفة نعمان بن أحمد المصري المغربي ( المتوفّى ٣٦٣ ه‍ ) نقله ابن خلّكان عن ابن زولاق في كتابه « أخبار مصر » ، قال : إنّه ينتصر فيه لأهل البيت عليهم‌السلام وعبّر عنه في « كشف الظنون » باختلاف أصول المذاهب.

٩

٣ ـ « مسائل الخلاف في الفقه » للشريف المرتضى ( ٣٥٥ ـ ٤٣٦ ه‍ ) ذكره الشيخ الطوسي في « الفهرست ». وقد أحال المصنّف إليها في كتاب « الناصريات ».

٤ ـ « مسائل الناصريات » ألّفه الشريف المرتضى وفاء لجده الناصر على الرغم من اختلاف المذهب بينهما ، ويتجلّى فيه روح التفاهم والتسالم بين عالمين إماميّ وزيديّ ، وهو لا يقتصر على المسائل الخلافية بين الإمامية والزيدية ، بل يحوي جلّ الخلافات الفقهية على مستوى المذاهب.

٥ ـ « الخلاف في الأحكام » لشيخ الطائفة أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي ( المتوفّى ٤٦٠ ه‍ ) ويقال له « مسائل الخلاف » وهو مرتّب على ترتيب كتب الفقه ، وقد صرح فيه بأنّه ألّفه بعد كتاب « التهذيب » و « الاستبصار » وناظر فيه المخالفين جميعا ، وقد طبع مرارا.

٦ ـ « المؤتلف من المختلف بين أئمة السلف » تأليف أمين الإسلام فضل بن الحسن الطبرسي ( ٤٧١ ـ ٥٤٨ ه‍ ) وقد لخّص به كتاب « الخلاف » للشيخ الطوسي ونشر في ثلاثة أجزاء ، وأثبت هو في ذلك الكتاب انّ الخلاف بين الشيعة والسنّة في المسائل الفقهية ليس على نحو التباين ، بل كثيرا ما يوافق الشيعة مذهبا ويخالف مذهبا آخر ، وهذا هو الأمر السائد في معظم المسائل الفقهية.

٧ ـ « خلاف المذاهب الخمسة في الفقه » للشيخ تقي الدين الحسن بن علي بن داود الحلّي ( ٦٤٧ ـ ٧٠٧ ه‍ ) صاحب كتاب الرجال المشهور برجال ابن داود.

١٠

٨ ـ « تذكرة الفقهاء » للعلّامة حسن بن المطهر ( ٦٤٨ ـ ٧٢٦ ه‍ ) والكتاب مشحون بنقل أدلّة الفقهاء على اختلاف مذاهبهم ، وقد طبع قديما ويطبع حاليا طبعة جديدة محقّقة من قبل مؤسسة آل البيت عليهم‌السلام حيث صدر منه أكثر من ١٢ جزءا.

٩ ـ « منتهى المطلب في تحقيق المذهب » للعلّامة الحلي وهو أفضل ما ألّف في الفقه المقارن نقلا وتحقيقا ، يذكر آراء العلماء برحابة صدر ويناقش فيها ، والكتاب من حسنات الدهر. وقد طبع قديما وحديثا.

١٠ ـ « مختلف الشيعة » له أيضا وهو يختص ببيان اختلافات الشيعة في المسائل الفقهية ، وقد طبع طبعات عديدة محقّقة. (١)

هذا بعض ما يمكن أن يذكر في المقام ، ولعلّك تلمس بما ذكرناه اهتمام العلماء بالخلافيات ، وجدير بالذكر انّ الخلاف بين العلماء كان مرافقا في الغالب برعاية أدب الخلاف وصحيح الحوار.

* * *

هذا البحث الموجز أوقفك على وجود الاختلاف في المسائل الفقهية في عصر الصحابة والتابعين والفقهاء إلى يومنا هذا ، إلّا أنّ الكلام في أسباب الاختلاف ودوافعه ، فهناك أمران :

الأوّل : ما هو الحافز لاختلاف فقهاء السنّة أنفسهم بينهم حتّى أفردت

__________________

(١) لاحظ في الوقوف على أسماء هذه الكتب وميزاتها كشف الظنون : ١ / ٦٤ ، مادة اختلاف ؛ الذريعة : ١ / ٣٦٠ ، مادة اختلاف و ٧ / ٢٣٦ ، مادة خلاف ؛ مقدّمة كتاب اختلاف الفقهاء للمروزي والخلافيات للإمام البيهقي واختلاف الفقهاء لأبي جعفر الطبري وغيرها.

١١

كتب كثيرة ـ كما مرّت ـ لبيان اختلاف أئمة المذاهب السائدة أو البائدة؟!

الثاني : ما هو سبب الاختلاف بين الفقهين : الإماميّ والسنّيّ؟

أمّا الأوّل فلا نحوم حوله ونتركه عسى ان نستوفي حقّه في مجال آخر ، وانّما المهم في المقام بيان سبب الاختلاف بين الفقه السنّيّ والفقه الشيعيّ ، مع أنّهما صنوان من أصل واحد يصدران عن الكتاب والسنّة ، ومع ذلك نرى بين الفقهين اختلافا واضحا.

إنّ هناك أسبابا للاختلاف في الفتاوى والآراء لا يمكن استقصاؤها في هذا التقديم ، وانّما نذكر في المقام ، العناصر الّتي تركت تأثيرا كبيرا على اتّساع الهوّة بين الفقهين :

١ ـ الاختلاف في ثبوت السنّة :

اتّفقت الأمّة الإسلامية على حجّية السنّة وانّها مصدر ثان للتشريع بعد الذكر الحكيم ، لكن الكلام في شرائط ثبوت السّنة النبوية.

فالشيعة الإمامية اعتبروا وثاقة الراوي في عامّة سلسلة السند من دون فرق بين الصحابي والتابعي ومن تلاهم. فلا يأخذون بحديث إلّا إذا أحرزت وثاقة الرواة جميعهم بلا استثناء.

وأمّا السنّة فقد اعتبروا إحراز الوثاقة في سلسلة السند إلّا في الصحابة ، لبنائهم على عدالة كل صحابي ، سواء عرف أم لم يعرف ، وثّق أم لم يوثّق ، صدر منه ما يخالف الكتاب والسنّة أم لم يصدر ، فالكلّ عدول مطهّرون وفي غنى عن التوثيق والتعديل ، فعند ذلك يظهر الاختلاف في ثبوت السنّة.

١٢

فتكون النسبة بين النظرين عموما وخصوصا مطلقا ، فالسنّة الثابتة عند الشيعيّ ثابتة أيضا عند السنّيّ دون العكس.

٢ ـ الاختلاف في حجية العقل :

إنّ العقل أحد الحجج الأربع الّذي اتفق فقهاء الشيعة على حجيته في موارد خاصة ، والاستدلال بالعقل يتم بأحد طرق ثلاثة :

أ ـ الاستقراء.

ب ـ التمثيل.

ج ـ القياس المنطقي.

فالاستقراء التام ، أعني : تتبّع عامّة الموارد ، غير المورد الّذي يريد إقامة الدليل عليه ، حجة عند أكثر فقهاء السنّة أو جميعهم ، وأمّا الناقص فلم يعتبروه إلّا القليل منهم.

وأمّا التمثيل الّذي هو عبارة عن القياس الأصولي ، فأصحاب المذاهب الأربعة مجمعون على حجيّته خلافا للشيعة والظاهرية حيث حرّموا العمل بالقياس.

إنّما الكلام في القياس المنطقي وهو الاحتجاج بحكم العقل في الحقل الّذي للعقل فيه إدراك وحكم ، فهو حجة عند الشيعة الإمامية القائلين بالحسن والقبح العقليين دون الأشاعرة ـ نفاة التحسين والتقبيح العقليّين ـ وتنحصر حجية القول في مجال الاستنباط في مجالين :

الأوّل : إذا استقلّ العقل بحسن شي‌ء أو قبحه مع قطع النظر عن كل

١٣

شي‌ء يترتّب عليه من المصالح والمفاسد ، فالشيعة على أنّه حجّة في كشف حكم الشارع عليه بالوجوب والحرمة ، وهذا ما يعبّر عنه بالمستقلّات العقلية.

الثاني : إذا كانت إحدى المقدّمتين عقلية ، والأخرى شرعية كما في باب الملازمات العقلية ، فإنّ العقل يحكم بثبوت التلازم بين وجوب الشي‌ء ووجوب مقدّمته ، وانّ طالب الشي‌ء طالب لمقدّماته أيضا ، أو يحكم بثبوت التلازم بين الأمر بالشي‌ء وحرمة أضداده ، ويكشف عن أنّ حكم الشرع في كلا الموردين أيضا كذلك.

ومن الواضح انّه لا يمكن التوصّل بهذا الحكم الكلّي ، أي وجوب الوضوء إلّا بعد تنصيص الشارع بوجوب الصلاة وتوقّفها عليه ، فيقال ـ إذا أريد ترتيب القياس وأخذ النتيجة ـ : الوضوء ممّا يتوقّف عليه الواجب ( الصلاة ) ، وهذه مقدّمة شرعية ، وكلّ ما يتوقّف عليه الواجب فهو واجب عقلا ، وهذه مقدّمة عقلية ، فينتج : الوضوء واجب عقلا. وهذا ما يعبّر عنه بغير المستقلّات العقلية.نعم يعلم وجوب الوضوء شرعا بالملازمة بين حكمي العقل والشرع.

ومن عجيب الأمر انّ الفقه السنّي يعمل بالاستقراء والقياس وكلاهما دليلان ظنّيان ولا يأخذ بالقياس المنطقي ـ الّذي هو دليل قطعي ـ إلّا في فترات يسيرة.

٣ ـ أحاديث العترة الطاهرة :

إن العترة الطاهرة ـ بتنصيص النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ قرناء الكتاب وأعداله حيث قال : « إنّي تارك فيكم الثقلين : كتاب الله وعترتي ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا ». والحديث متواتر أو متضافر رواه الفريقان. أخرجه مسلم في صحيحه والترمذي

١٤

في سننه وأحمد في مسنده إلى غير ذلك من المصادر المتوفّرة. (١)

فعلى ذلك قولهم حجة قاطعة مصون من الخطأ كالكتاب العزيز بحكم انّهما عدلان وصنوان.

والحديث يركّز على أنّ المرجع العلمي بعد رحيل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم هو الكتاب والعترة ، وانّ قول العترة قول الرسول وكلامه ، وبقولهم تحفظ السنّة عبر القرون ، غير أنّ أصحاب المذاهب الأربعة وغيرهم تلقّوا روايات أهل البيت فتاوى خاصة لهم ، فلم يعتبروها حجّة شرعية على الجميع ، وهذا النوع من التفسير لأحاديثهم مخالف لحديث الثقلين أوّلا وكلامهم ثانيا ، فإنّهم يعتبرون كل ما يروون ، سنّة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يرويه كابر عن كابر إلى أن يصل إلى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

هذا هو النجاشي ينقل في ترجمة محمد بن عذافر الصيرفي عن أبيه قال : كنت مع الحكم بن عتيبة عند أبي جعفر عليه‌السلام ، فجعل يسأله ، وكان أبو جعفر عليه‌السلام له مكرما ، فاختلفا في شي‌ء ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « يا بني قم فأخرج كتاب عليّ عليه‌السلام » فأخرج كتابا مدروجا عظيما ، ففتحه وجعل ينظر حتّى أخرج المسألة ، فقال أبو جعفر عليه‌السلام : « هذا خط عليّ عليه‌السلام وإملاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » وأقبل على الحكم ، وقال : « يا أبا محمد اذهب أنت وسلمة بن كهيل وأبو المقدام حيث شئتم يمينا وشمالا ، فو الله لا تجدون العلم أوثق منه عند قوم كان ينزل عليهم جبرئيل عليه‌السلام ». (٢)

فإذا كانت هذه مكانة أقوال أئمة أهل البيت فلا حجّة للسنّيّ في الإعراض

__________________

(١) لاحظ صحيح مسلم : ٧ / ١٢٢ و ١٢٣ ، باب فضائل علي ؛ سنن الترمذي : ٢ / ٣٠٨ ؛ مستدرك الصحيحين : ٣ / ١٠٩ و ١٤٨ ؛ مسند أحمد : ٣ / ١٧ و ٢٦ و ٤ / ٣٧١ و ٥ / ١٨١ ؛ الطبقات الكبرى لابن سعد : ٢ / ٢ ؛ حلية الأولياء : ١ / ٣٥٥ و ٩ / ٦٤ ؛ كنز العمال : ١ / ٤٧ و ٩٦.

(٢) رجال النجاشي : ١ / ٢٦٢ ، الترجمة ٩٦٧.

١٥

عن أحاديثهم والالتجاء إلى قواعد ، كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع وفتحها وقول الصحابي إلى غير ذلك من القواعد الّتي ألجأهم إلى تأسيسها وإرسائها قلّة النصوص النبويّة في الشريعة والأحكام الفرعية.

ولكنّهم لو رجعوا فيما لم يرد فيه نصّ في الكتاب والسنّة النبويّة إلى أحاديث أئمة أهل البيت عليهم‌السلام ، لاستغنوا عن إرساء هذه القواعد والعمل بالظنون الّتي لا تغني من الحق شيئا.

ففي هذه النقطة بالذات تتّسع الشقّة بين الفقهين ، فقهاء الشيعة يعملون بكلا الثقلين ، ولكن فقهاء السنّة يعملون بالكتاب دون الثقل الآخر ويعتبرون مكانه قواعد ظنيّة اخترعت لأجل إعواز النصوص ، وقد كان لقلّة النصوص بعد رحيل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم دور في توسيع الشقّة بين الصحابة ، حتّى أنّ بعض المتورّعين من الصحابة ينهون عن السؤال عمّا ليس في الكتاب والسنّة.

روى الدارمي في سننه عن ابن عمر وقد جاءه رجل فسأله عن شي‌ء ، فقال له : ولا تسأل عمّا لم يكن.

وقال القاسم : إنّكم تسألون عن أشياء ما كنّا نسأل عنها ، وتنقرون عن أشياء ما كنّا ننقر عنها ، تسألون عن أشياء ما أدري ما هي؟! ولو علمناها ما حلّ لنا أن نكتمها.

وقال عبادة بن يسر الكندي : أدركت أقواما ما كانوا يشدّدون تشديدكم ، ولا يسألون مسائلكم. (١)

__________________

(١) سنن الدارمي : ١ / ٤٩ و ٥٠.

١٦

ولكن التورّع عن الإجابة كان لبعض الصحابة دون الأكثرية ، فجماهيرهم إذا لم يجدوا جمعوا رؤساء الناس فاستشاروهم ، فإذا اجتمع رأيهم على شي‌ء قضي به ، وعلى ذلك جرى الخلفاء بعد الرسول. (١)

يقول عبد الله بن مسعود : من عرض له منكم قضاء فليقضينّ بما في كتاب الله ، فإن لم يكن في كتاب الله فليقضينّ بما قضى به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فليقض بما قضى به الصالحون ، فإن جاء أمر ليس في كتاب الله ولم يقض به نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يقض به الصالحون فليجتهد برأيه ، فإن لم يحسن فليقم ولا يستحي. (٢)

وفي الحقيقة انّ الفقه المبنيّ على هذه الموازين غير المستندة إلى الكتاب والسنّة أشبه بالفقه الوضعي ، لأنّه من نتائج الفكر وضرب الآراء بعضها على بعض.

وقد كان عمر بن الخطاب ـ ومن جاء بعده ـ واقفا على قيمة هذا النوع من الرأي ، فقد روي أنّ رجلا لقاه ، فقال عمر بن الخطاب له : ما صنعت؟

قال : قضى عليّ وزيد بكذا ، قال : لو كنت أنا لقضيت بكذا ، قال : فما يمنعك والأمر أليك؟ قال : لو كنت أردّك إلى كتاب الله أو إلى سنّة نبيّه لفعلت ، ولكنّي أردّك إلى رأي ، والرأي مشترك ، فلم ينقض ما قال عليّ وزيد. (٣)

__________________

(١) اعلام الموقعين : ١ / ٦٢.

(٢) اعلام الموقعين : ١ / ٦٢ ـ ٦٣.

(٣) اعلام الموقعين : ١ / ٦٥.

١٧

٤ ـ الاختلاف فيما هو المرجع عند عدم النصّ :

هذا هو السبب الرابع لوجود الاختلاف بين الفقهين ، فالمرجع عند عدم النصّ في الفقه الشيعي ، عبارة عن القواعد العامّة السارية في عامّة أبواب الفقه على نظام خاصّ.

١ ـ البراءة فيما إذا كان الشك في أصل التكليف ، كما إذا شك المجتهد في وجوب الدعاء عند رؤية الهلال أو حرمة شي‌ء من المأكولات والملبوسات ، فالمرجع بعد التفحّص في الكتاب والسنّة وعدم العثور على الدليل هو أصل البراءة من الوجوب والحرمة.

لقوله سبحانه : ( وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً ) (١) ، والرسول كناية عن البيان ، وبهذا المضمون آيات أخرى.

ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « رفع عن أمّتي تسعة أشياء : الخطأ ، والنسيان ، وما أكرهوا عليه ، وما لا يعلمون .... ». (٢)

٢ ـ الاحتياط والاشتغال فيما إذا كان الشك في المكلّف به مع العلم بالتكليف ، فيما إذا شك في أنّ الواجب هو القصر أو التمام ، فالواجب عندئذ هو الجمع بينهما أخذا بحكم العقل ، وهو انّ الاشتغال اليقيني بالواجب يقتضي البراءة اليقينية ، وهو لا يحصل إلّا بالجمع بين الصلاتين.

ونظير ذلك إذا شك في القبلة في الصحراء مع عدم الأمارة المورثة للاطمئنان فيصلّي إلى جهات أربع.

__________________

(١) الإسراء : ١٥.

(٢) الوسائل : ١١ ، الباب ٥٦ من أبواب جهاد النفس ، الحديث ١.

١٨

٣ ـ التخيير : ومجراه عبارة عمّا إذا دار حكم الموضوع بين الوجوب والحرمة ، فبما انّ الاحتياط غير ممكن فيحكم العقل بالتخيير.

هذا كلّه فيما إذا لم يكن للحكم أو الموضوع حالة سابقة وإلّا فتصل النوبة إلى الأصل الرابع ، أعني :

٤ ـ الاستصحاب : وهو الأخذ بالحالة السابقة موضوعا وحكما ، والدليل عليه قول الإمام الصادق عليه‌السلام : « لا تنقضوا اليقين بالشك » إلى غيره من الأحاديث.

نعم ربّما يتمسّك ببعض هذه الأصول فقهاء السنّة ، ولكنّهم لم يبيّنوا مجاريها وشروطها ومراتبها على النحو المقرر في الفقه الشيعي.

وأمّا المرجع فيما لا نص فيه عند أهل السنّة فهو القواعد الّتي أشرنا إليها في الأمر الثالث ، فهم يعملون بالقواعد التالية على اختلاف بينهم في حجية البعض.

كالقياس والاستحسان والمصالح المرسلة وسد الذرائع أو فتح الذرائع وقول الصحابي ونظائرها ، غير أنّ إثبات حجّية هذه الأصول والقواعد دونه خرط القتاد ، فمعظم الفقه السنّي يستنبط من أمثال تلك القواعد ، فلو كان لها مثل هذا الشأن لورد النص عليها في الكتاب والسنّة ، مع أنّك لا ترى فيهما دليلا واضحا على حجّية هذه الأصول وانّما ألجأهم إلى تأسيسها إعواز النصوص ورفض العقل في المجالين الماضيين خصوصا الأوّل منهما ، والأدلّة الّتي زعموها قائمة على حجية هذه الأصول ليست إلّا انطباعات لهم من الكتاب والسنّة دون أن يكون الكتاب والسنّة مشيرين إليها.

١٩

هذه إلمامة عابرة لبيان ميزات الفقه الإمامي وأسباب الاختلاف مع نظيره السنّي.

ومع ذلك فإنّ وجود الشقّة بين الفقهين لم يكن مانعا عن موافقة المذهب الشيعيّ لأحد المذاهب الفقهيّة غالبا ، إلّا في نوادر الأمور وشواذّها ، كالعول والتعصيب والإيصاء بالوارث.

هذا وقد سمعت من الفقيه المعاصر الدكتور وهبة الزحيلي عند ما حلّ ضيفا علينا في مؤسسة الإمام الصادق عليه‌السلام ودار الحديث بين الفقهين ، فقال : إنّ الخلاف بين الفقهين ليس بأكثر من وجود الخلاف بين فقهاء السنّة أنفسهم ، بل الاختلاف في الأوّل أقلّ من الثاني. وهذا قول من ألّف دورة فقهيّة وألمّ بالأقوال والآراء.

٢٠