إيضاح تردّدات الشرائع - ج ١

نجم الدين جعفر بن الزهدري الحلي

إيضاح تردّدات الشرائع - ج ١

المؤلف:

نجم الدين جعفر بن الزهدري الحلي


المحقق: السيد مهدي الرجائي
الموضوع : الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: مطبعة سيد الشهداء عليه السلام
الطبعة: ١
الصفحات: ٣٥١
الجزء ١ الجزء ٢

فائدة :

هل المراد بالركن ما هو ركن عندنا أو عندهم؟ الاقرب الاول ، لانه الظاهر عند الاطلاق بالنسبة إلينا.

قال رحمه‌الله : وهل الرجوع الى كفاية من صناعة أو مال أو حرفة شرط في وجوب الحج؟ قيل : نعم ، لرواية أبي الربيع ، وقيل : لا ، عملا بعموم الآية ، وهو الاولى.

اقول : القول الاول مذهب الشيخ في المبسوط (١) والنهاية (٢) والخلاف (٣).

واحتج عليه بالاجماع ، وبأصالة البراءة ، وبرواية أبي الربيع الشامي قال : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن قول الله عزوجل « وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً » (٤) فقال : ما يقول الناس فيه؟ قال فقيل له : الزاد والراحلة ، قال فقال أبو عبد الله عليه‌السلام : قد سئل أبو جعفر عليه‌السلام عن هذا ، فقال : هلك الناس اذن ، لئن كان من كان له زاد وراحلة قدر ما يقوت به عياله ويستغني عن الناس ينطلق إليهم فيسلبهم اياه لقد هلكوا اذن.

فقيل له : ما السبيل ، قال فقال : السعة في المال اذا كان يحج ببعض ويبقي بعض لقوت عياله ، أليس قد فرض الله الزكاة ، فلم يجعلها الا على من ملك مأتي درهم (٥).

والاصل تخالف للدليل ، وكيف يستدل بالاجماع مع وقوع هذا النزاع ،

__________________

(١) المبسوط ١ / ٢٩٦.

(٢) النهاية ص ٢٠٣.

(٣) الخلاف ١ / ٤١١ مسألة ٢.

(٤) سورة آل عمران : ٩٧.

(٥) تهذيب الاحكام ٥ / ٢ ـ ٣ ، ح ١.

١٤١

والرواية قاصرة عن افادة المطلوب ، بل انما تدل على اشتراط وجود ما يمونه ويمون عياله الى حين ايابه ، ونحن نقول به.

والثاني مذهب السيد المرتضى وابن أبي عقيل وابن الجنيد ، واختاره ابن ادريس ، حتى أنه ادعى الاجماع عليه ، ولعله أقرب ، لعموم قوله تعالى « وَلِلّهِ عَلَى النّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً » (١) وهذا يصدق عليه أنه مستطيع.

ويؤيده قول الصادق عليه‌السلام : من كان صحيحا في بدنه مخلا في سربه له زاد وراحلة ، فهو ممن يستطيع الحج (٢). وفي معناها رواية الحلبي عنه عليه‌السلام (٣) ورواية محمد بن مسلم عن الباقر عليه‌السلام (٤).

قال رحمه‌الله : يقضى الحج من أقرب الاماكن ، وقيل : يستأجر من بلد الميت وقيل : ان اتسع المال فمن بلده ، والا فمن حيث يمكن ، والاول أشبه.

اقول : اختلف الاصحاب في هذه المسألة ، فذهب الشيخ في المبسوط (٥) والخلاف (٦) الى الاول ، وان كان الافضل اخراجه من بلده ، والمراد بأقرب الاماكن هنا الميقات ، عملا باصالة البراءة ، ولان الواجب ليس الا الحج ، وليس قطع المسافة جزءا منه ، بدليل أنه لو اتفق حضور المكلف بعض المواقيت لا لقصد الحج أجزأه الحج من الميقات اجماعا ، ولو كان قطع المسافة جزءا منه لما صح هذا. واذا لم يكن القطع جزءا ، لم يجب الاستيجار من البلد.

__________________

(١) سورة آل عمران : ٩٧.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٣ ، ح ٢.

(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٣ ، ح ٣.

(٤) تهذيب الاحكام ٥ / ٣ ـ ٤ ، ح ٤.

(٥) المبسوط ١ / ٣٠٤.

(٦) الخلاف ١ / ٤١٦ مسألة ١٨.

١٤٢

والقول الثاني ذهب إليه ابن ادريس ، وظاهر كلام الشيخ في النهاية (١) ، وهو فتوى ابن البراج ، عملا بالاحتياط ، ولان المخرج (٢) عنه كان يجب عليه الحج من بلده ، ونفقة الطريق لازمة له ، فمع الموت تكون لازمة في ماله ، ونمنع وجوب الحج من بلده ، ويؤيده الفرض الذي قلناه.

والتفصيل الثالث منقول عن الشيخ رحمه‌الله جوابا في مسائل سئل عنها. ويمكن أن يحتج له بما احتج به ابن ادريس ، والجواب هو الجواب.

قال رحمه‌الله : ولو نذر الحج أو أفسد وهو معضوب ، قيل : يجب أن يستنيب. وهو حسن.

أقول : انما كان حسنا لشهادة الظاهر بأن فعل ذلك مع العلم بأن الافساد موجب للقضاء ، وأن النذر يوجب الوفاء ، يقتضي الالتزام باخراج ذلك من ماله وهذا القول ذكره الشيخ في المبسوط قال فيه : فان برئ فيما بعد تولاها بنفسه (٣).

قال رحمه‌الله : اذا نذر الحج ، فان نوى حجة الاسلام تداخلا ، وان نوى غيرها لم يتداخلا ، وان أطلق قيل : ان حج ونوى النذر أجزأ عن حجة الاسلام وان نوى حجة الاسلام لم يجز عن النذر. وقيل : لا يجزي احداهما عن الاخرى وهو الاشبه.

أقول : القول الاول ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله في النهاية (٤) والتهذيب (٥) اذا حج بنية النذر أجزأ عن حجة الاسلام ، ولم يتعرض للقسم الاخر.

مصيرا الى ما رواه رفاعة بن موسى النخاس عن الصادق عليه‌السلام قال : سألته عن

__________________

(١) النهاية ص ٢٠٣.

(٢) فى « س » : المحجوج.

(٣) المبسوط ١ / ٢٩٩.

(٤) النهاية ص ٢٠٥.

(٥) التهذيب ٥ / ١٣.

١٤٣

رجل نذر أن يمشي الى بيت الله الحرام ، فمشى هل يجزيه ذلك عن حجة الاسلام؟ قال : نعم. قلت : أرأيت لو حج عن غيره ولم يكن له مال وقد نذر أن يحج ماشيا أيجزي ذلك عن مشيه؟ قال : نعم (١).

والقول الثاني ذهب إليه ابن ادريس ، وهو القول الاخر للشيخ ، وهو الحق.

لنا ـ أن النذر لا بدّ له من متعلق ، وذلك المتعلق ليس الا حجة الاسلام ، اذ لو كان حجة الاسلام لزم تحصيل الحاصل ، والتالي باطل بالضرورة ، فالمقدم مثله.

وبيان الشرطية ظاهر ، اذ وجوب حجة الاسلام سابق على النذر ، واذا ثبت التغاير لم يجز احداهما عن الاخرى ، لان التداخل خلاف الاصل.

لا يقال : لو وجب أن يكون متعلق النذر مغايرا لحجة الاسلام ، لما صح نذرها والتالي باطل اجماعا ، فالمقدم مثله.

لانا نلتزم ذلك ، وأي اجماع دل عليه ، بل انما دل على اجزاء حجة الاسلام مع نذرها ، وذلك لا يدل على صحة النذر ، سلمنا لكن النذر له فائدتان : احداهما ايجاب ما لم يكن واجبا. الثانية ايجاب الكفارة مع ترك الملتزم ، وانما صح نذر حجة الاسلام للفائدة الثانية.

لا يقال : فلم لا تحمله عند الاطلاق على حجة الاسلام بعين ما ذكرتم ، عملا بأصالة البراءة.

لانا نقول : حمله على ما تحصل به الفائدتان أولى من حمله على ما تحصل فيه احداهما فقط ، ولما أمكن ذلك عند الاطلاق صرنا إليه بخلاف التقييد.

وبالجملة فهذا الاعتراض قوي ، والجواز ضعيف ، والرواية سالمة عن المعارض ، فيجب العمل بها.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ١٣ ، ح ٣٥.

١٤٤

فرع :

لو قلنا بعدم التداخل ، فقدم حجة النذر على حجة الاسلام ، فالاقوى أنه لا يجزئ عن احداهما ، أما عن حجة الاسلام فلعدم النية ، وأما عن المنذور فلعدم صلاحية الزمان ، لان وقته بعد حجة الاسلام اجماعا.

وكذا البحث لو نوى غير حجة الاسلام وقدم المنذورة ، ويجي‌ء على مذهب الشيخ قدس الله روحه انها تجزي عن حجة الاسلام ، وقد قواه في المبسوط (١) ، ولا أعرف وجهه ، وهو مذهب الشافعي.

قال رحمه‌الله : اذا نذر الحج ماشيا وجب ، ويقوم في مواضع العبور.

أقول : هل الوقوف في موضع العبور واجب أو مستحب؟ فيه وجهان :

الوجوب ، لما رواه السكوني عن جعفر عن أبيه عن آبائه أن عليا عليه‌السلام سئل عن رجل نذر أن يمشي الى بيت الله يمر بالمعبر ، قال : ليقم في المعبر حتى يجوز (٢) وظاهر الامر المطلق الوجوب ، كما بيناه في كتاب الاصول. ولان الماشي جامع في مشيه بين القيام والحركة ، ضرورة كون المشى ماهية مركبة منهما ، ونذر المركب يستلزم نذر جميع أجزائه. واذا ثبت كون القيام منذورا وجب الوفاء به اجماعا.

والثاني : الاستحباب ، لان نذر المشي انما ينصرف الى ما يصح المشي فيه ، فيكون موضع العبور مستثنى عادة ، ويعضده أصالة البراءة.

قال رحمه‌الله : فان ركب طريقه قضى ، وان ركب بعضا ، قيل : يقضي ويمشي مواضع ركوبه. وقيل : بل يقضي ماشيا ، لاخلاله بالصفة المشترطة. وهو أشبه.

__________________

(١) المبسوط ١ / ٣٠٣.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٧٨ ، ح ٣٣٩.

١٤٥

أقول : لا خلاف في وجوب القضاء مع ركوب جميع الطريق اختيارا ، سواء كان الوقت معينا أولا. وتجب الكفارة في المعين للخلف.

أما لو أكره على الركوب ، فان كان الوقت معينا لم تجب عليه القضاء ، لعدم تناول النذر له ، وانما أوجب القضاء مع الاختيار للتفريط ، وان لم يكن معينا فاشكال ، ينشأ : من قوله عليه‌السلام : رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه (١). ومن اقتضاء الحج ماشيا ولم يأت ، فيبقى في العهدة ، وهو أقوى. وكذا لو ركب البعض مكرها.

أما لو ركبه اختيارا ، قال الشيخ رحمه‌الله في كتبه : قضى بأن يركب ما مشيه ويمشي ما ركبه. وقال ابن ادريس : يجب عليه القضاء ماشيا في العام المقبل ، ولعله أقرب.

لنا ـ أنه علق الحج على شرط المسمى ولم يوجد ، وقد عرفت أن عدم الشرط يستلزم عدم المشروط ، فيبقى في عهده التكليف ، ولانه أحوط.

ويمكن أن يحتج للشيخ رحمه‌الله بأن مشي الطريق ليس جزءا من الحج ، واذا كان خارجا عنه لم يكن صفة له ، إذ المشي يتناول الطريق الموصل الى الحج فكأنه نذر أن يمشي تلك الطريق حاجا. واذا مشى في عامين حاجا ، فقد حصل الامتثال ، ولا يحمل النذر على أنه نذر ايقاع أفعال الحج ما شيا ، فان فرض كذلك لم يتحرج فتواه ، وهذا الوجه ذكره المصنف في نكت النهاية (٢).

قال رحمه‌الله : ولو عجز قيل : يركب ويسوق بدنة. وقيل : يركب ولا يسوق. وقيل : ان كان مطلقا توقع المكنة من الصفة ، وان كان معينا بوقت سقط فرضه لعجزه ، والمروي الاول ، والسياق ندب.

__________________

(١) سنن ابن ماجة ١ / ٦٥٩ ، برقم : ٢٠٤٣.

(٢) نكت النهاية ص ٦٠٩.

١٤٦

أقول : القول الاول ذكره الشيخ رحمه‌الله ، مصيرا الى الروايات المشهورة عن أهل البيت عليهم‌السلام.

والقول الثاني ذكره المفيد ، نظرا الى سقوط النذر مع تحقق العجز ، عملا بالاصل ، استنادا الى ظاهر رواية صفوان عن ابن أبي عمير عن رفاعة بن موسى قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام ـ الحديث (١).

وأما التفصيل ، فقد ذكره المتأخر ، وهو حسن في المطلق.

واما سقوط فرض الحج المعين مع العجز عن المشي ، فليس بجيد ، لان الحج المنذور ماشيا قد يضمن شيئين : أحدهما الحج ، الثاني الاتيان به ماشيا ، وسقوط أحدهما للعجز لا يستلزم سقوط الاخر ، لوجود القدرة عليه ، ويحمل السياق على الندب ، توفيقا بين الادلة.

قال رحمه‌الله : ولا تصح النيابة عن المسلم المخالف ، الا أن يكون أب النائب.

أقول : هذه المسألة ذكرها الشيخان قدس الله روحهما.

قال المصنف في المعتبر : وربما كان التفاتهم الى تكفير من خالف الحق ، ولا تصح النيابة عمن اتصف بذلك (٢).

ونحن نقول : ليس كل مخالف للحق لا تصح منه العبادة ، ونطالبهم بالدليل عليه ، ونقول : اتفقوا (٣) على أنه لا يعيد عباداته التي فعلها مع استقامته سوى الزكاة.

والاقرب أن يقال : لا تصح النيابة عن الناصب ، ونعني به من يظهر العداوة والشنان لاهل البيت عليهم‌السلام ، وينسبهم الى ما يقدح في العدالة ، كالخوارج ومن ماثلهم.

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٠٣.

(٢) المعتبر ٢ / ٧٦٦.

(٣) فى « م » : اتفق.

١٤٧

ودل على ما قلناه رواية وهب بن عبد ربه عن أبي عبد الله عليه‌السلام قلت : أيحج الرجل عن الناصب؟ قال : لا ، قلت : ان كان أبي؟ قال : ان كان أبوك فنعم (١).

واعلم أن ابن ادريس منع الاستثناء ، مدعيا الاجماع على المنع مطلقا.

قال الشيخ نجم الدين : ولست أدري الاجماع الذي ادعاه أين هو؟ والتعويل ليس الا على المنقول عن أهل البيت عليهم‌السلام ، وهو خبر واحد قد قبله الاصحاب ، وهو يتضمن الحكمين معا ، فقبول أحدهما ورد الاخر ودعوى الاجماع غلط ، قبله محكمات يرغب عنها.

وأقول : ما ذكره سديد.

قال رحمه‌الله : وهل تصح نيابة المميز؟ قيل : لا ، لاتصافه بما يوجب رفع القلم. وقيل : نعم ، لانه قادر على الاستقلال بالحج ندبا.

اقول : الانسب بالمذهب أنه لا تصح نيابته ، لان حجه انما هو تمرين ، والحكم بصحته انما هو بالنسبة الى ما يراد من تمرينه ، لا لانه تقع مؤثرا في استحقاق الثواب ، اذ شرط التكليف منتف بالنسبة إليه.

قال رحمه‌الله : ولا تصح نيابة من وجب عليه الحج واستقر ـ الى قوله : ـ ولو تطوع قيل : تقع عن حجة الاسلام ، وهو تحكم.

أقول : هذه المسألة ذكرها الشيخ رحمه‌الله في المبسوط (٢) ، وهو مذهب الشافعي ، والاستدلال لنا عليها يعرف من الاستدلال على الفرع المذكور في مسألة النذر.

ويمكن أن يحتج الشيخ رحمه‌الله بأن نية حجة التطوع يستلزم نية الحج المطلق ، ضرورة كون المطلق جزءا من المقيد ، واذا ثبت استلزامها لها ، وجب

__________________

(١) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٤ ، ح ٨٧.

(٢) المبسوط ١ / ٣٠٢.

١٤٨

صرف المطلق الى حجة الاسلام ، لثبوتها في الذمة والغاء الزيادة ، وهو غلط ، لان المطلق يستحيل وجوده الا في أخذ جزئياته وجزئياته متضادة.

واعلم أن الشيخ رحمه‌الله في الخلاف (١) جوز التطوع لمن عليه حج واجب وهو وهم ، وهو مذهب أبي حنيفة ومالك.

قال رحمه‌الله : ومن استوجر فمات في الطريق ـ الى آخره.

أقول : البحث في هذه المسألة كالبحث في مسألة الاصيل ، وقد تقدم.

قال رحمه‌الله : ويجب أن يأتي بما شرط عليه : من تمتع ، أو قران أو افراد وروي : اذا أمر أن يحج مفردا أو قارنا ، فحج متمتعا ، جاز لعدوله الى الافضل لا مع تعلق الغرض بالقران أو الافراد.

أقول : هذه المسألة ذكرها الشيخ رحمه‌الله في كتبه ، قال : لانه عدل الى الافضل.

قال رحمه‌الله : وكذا لو أمر أن يحج مفردا فقرن جاز أيضا ، لانه أتى بالافراد وزيادة ، تمسكا برواية أبي بصير عن أحدهما في رجل أعطى رجلا دراهم ليحج عنه حجة مفردة يجوز له أن يتمتع بالعمرة الى الحج؟ قال : نعم ، انما خالف الى الفضل والخير (٢).

ولنا ـ أن الاجارة تناولت نوعا معينا ، فلا يجوز العدول الى غيره ، لانها لم يتناوله ، فالاتيان به اتيان بغير ما وقع عليه عقد الاجارة ، فلا يكون مبرءا للذمة.

وتحمل الرواية على من استوجر للتطوع ، وعلم أن قصد المستأجر الاتيان بالافضل ، فيعرف الاذن من قصده إرادة الافضل ، فيجوز الاتيان به لما ذكرناه ويخرج عن العهدة.

__________________

(١) الخلاف ١ / ٤١٦ ، مسألة ١٩.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٦ ، ح ٩٢ ، وفيه : والخبر الّذي رواه الخ.

١٤٩

وحملها الشيخ رحمه‌الله في التهذيب (١) على من وجب عليه التمتع ، فلو أمر بالافراد عنه ، جاز له العدول عنه الى التمتع ، لانه فرض المحجوج عنه وان كان أمر بالافراد ، ومع هذا فهي معارضة برواية الحسن بن محبوب عن علي عليه‌السلام (٢).

قال رحمه‌الله : ولو شرط الحج على طريق معين ، لم يجز العدول ان تعلق بذلك غرض. وقيل : يجوز مطلقا.

أقول : القائل بالجواز مطلقا هو الشيخ رحمه‌الله ، تمسكا بالاصل ، ولان المقصود بالذات هو الحج وقد فعله ، فيكون مجزيا.

ونحن نقول : ان تعلق بالطريق المعين غرض صحيح لم يجز العدول عنه ، وان صح الحج ويرجع عليه بالتفاوت ، والا جاز.

أما الاول ، فلانه شرط سائغ ، فيجب الوفاء به. أما الاولى ففرضية ، وأما الثانية فاتفاقية. واذا ثبت وجوب الوفاء به ، حرم العدول عنه.

واما الرجوع عليه بالتفاوت ، فلان عقد الاجارة يقتضي تقسيط الاجرة على المسافة والافعال ، فاذا فعل بعض المسافة نقص من الاجرة بقدر ما نقص منها. وقال الشيخ : لا يرجع ، اذ لا دليل عليه وقد بيناه.

وأما صحة الحج مع العدول عن الطريق المعين ، فلاتيانه بالمعقود عليه ذاتا وعليه دلت رواية حريز بن عبد الله عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أعطى رجلا حجة يحج عنه من الكوفة ، فحج من البصرة ، قال : لا بأس (٣).

__________________

(١) التهذيب ٥ / ٤١٦.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٦ ، ح ٩٣.

(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٥ ، ح ٩١.

١٥٠

قال رحمه‌الله : ولو صد قبل الاحرام ودخول الحرم ، استعيد من الاجرة بنسبة المتخلف ، ولو ضمن الحج في المستقبل لم يجب اجابته ، وقيل : يلزم.

اقول : القول الاول ذكره الشيخ رحمه‌الله ، والثاني اختاره المصنف.

والتحقيق أن نقول : الاجارة اما أن يكون معينة أو مطلقة ، فان كانت معينة وصد قبل الاحرام ودخول الحرم ، انفسخت الاجارة واستعيد من الاجرة ما قابل المتخلف ، وعلى المستأجر استيجاره ، أو غيره ان كان عليه حج واجب ، والا فلا فان قصد الشيخ ذلك فصواب والا فلا. وان كانت مطلقة في الذمة ، لم ينفسخ الاجارة ، وعليه الاتيان بها مع المكنة ، لثبوتها في الذمة.

قال رحمه‌الله : ولو حمله حامل فطاف به ، أمكن أن يحتسب كل منهما طوافه عن نفسه.

أقول : ألحق ابن الجنيد قيدا ، فقال : ما لم يكن الحامل أجيرا ، ولا بأس به ، لان سعيه حينئذ مستحق للمستأجر ، فلا يجوز صرفه في الطواف عن نفسه ، والمطلق يقيد للدليل ، وقد بيناه.

قال رحمه‌الله : ولو أفسد حجه حج من قابل ، وهل يعاد بالاجرة عليه؟ يبنى على القولين.

أقول : المراد بالقولين ما ذكره الاصحاب في من حج عن نفسه حجة الاسلام فأفسدها ، فان الاصحاب مختلفون فيها ، فذهب بعضهم الى أن الاولى حجة الاسلام والثانية عقوبة ، وآخرون عكسوا.

فان قلنا بالاول ، فقد برأت ذمة المستأجر مع كمالها ، وعليه القضاء في القابل (١) عقوبة ، ولا ينفسخ الاجارة.

وان قلنا بالثاني ، كان الجميع لازما للنائب ، ولا يجزئ عن المنوب ، ويستعاد

__________________

(١) فى « س » : بالقابل.

١٥١

منه الاجرة ان كانت الاجارة معينة ، وان كانت مطلقة كان على الاجير الحج عن المستأجر بعد حجة القضاء ، لانها تجب على الفور.

قال في المعتبر : ويمكن أن يقال : الحجة الثانية مجزية عن المستأجر ، لانها قضاء عن الحجة الفاسدة ، كما يجزئ عن الحاج نفسه (١).

وهذا القول موجود في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام ، لاتيانه بالمعقود عليه ، وهو تحريج غير مستند الى رواية.

روى الحسين بن عثمان عن اسحاق بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل حج عن رجل ، فاجترح في حجه شيئا يلزمه فيه الحج من قابل والكفارة؟ قال : هي للاولى تامة ، وعلى هذا ما اجترح (٢).

ومن طريق صفوان بن يحيى عن اسحاق بن عمار قلت : ان ابتلي بشي‌ء ففسد عليه حجه حتى يصير عليه الحج من قابل ، أيجزئ عن الاول؟ قال : نعم قلت : ان الاجير ضامن للحج؟ قال : نعم (٣).

وينبغي أن يكون العمل على هذا ، وهو الاقوى عندي.

واعلم أن الشيخ في المبسوط قال : ان أفسد النائب الحج ، فاما أن يكون السنة معينة أو مطلقة ، فان كانت معينة انفسخت الاجارة ، وعليه استيجار من ينوب عنه ، وان كانت مطلقة وجب عليه أن يأتي بحجة النيابة بعد اكمال الحجة الفاسدة وقضاها (٤). وتبعه ابن ادريس. والمعتمد ما ذكرناه نحن.

قال رحمه‌الله : ولو احصر تحلل بالهدي ولا قضاء عليه.

__________________

(١) المعتبر ٢ / ٧٧٦.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٦١ ، ح ٢٥٢.

(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٤١٧ ـ ٤١٨ ، ح ٩٦.

(٤) المبسوط ١ / ٣٢٢.

١٥٢

اقول : البحث في المحصر كالبحث في المصدود ، وقد مر مستوفى.

قال رحمه‌الله : اذا أوصى أن يحج عنه ولم يعين الاجرة ، انصرف ذلك الى اجرة المثل ، وتخرج من الاصل اذا كانت واجبة ، ومن الثلث اذا كانت مندوبة (١) ، ويستحقها الاجير بالعقد ، فان خالف ما شرط قيل : كان له اجرة المثل والوجه أنه لا اجرة.

أقول : انما كان الوجه عدم استحقاق الاجرة ، لان العقد انما يتناول شيئا معينا ، فاذا لم يفعله وفعل غيره ، يكون قد فعل ما لم يتناوله العقد ، فلا يستحق اجرة لانه يكون متبرعا بفعل ذلك النوع ، ولم أقف لاحد من الاصحاب في هذه المسألة على فتوى قائلها.

قال رحمه‌الله : اذا عقد الاحرام عن المستأجر [ عنه ] ثم نقل النية الى نفسه لم يصح ، فاذا أكمل الحجة وقعت عن المستأجر عنه ، ويستحق الاجرة. ويظهر أنها لا تجزي عن أحدهما.

اقول : هذه المسألة ذكرها الشيخ رحمه‌الله في الخلاف (٢) ، واختارها المصنف في المعتبر (٣).

والحق أن هذه الحجة لا تجزئ عن حجة النيابة ، ولا عن الاجير نفسه ، سواء كانت الاجارة معينة أو مطلقة في الذمة.

أما عن المنوب ، فلان استحضار النية عنه عند كل فعل أو استدامتها شرط ولم يحصل ، واذا بطل الشرط بطل المشروط.

وأما عن النائب ، فلان الحجة اذا كانت معينة ، فالزمان مستحق للمستأجر

__________________

(١) فى « م » : ندبا.

(٢) الخلاف ١ / ٤٧٦ مسألة ٢٤١.

(٣) المعتبر ٢ / ٧٧٠.

١٥٣

فلا يجوز في غير ما وقع عليه عقد الاجارة ، فاذا صرفه عن نفسه يكون قد فعل فعلا منهيا عنه ، والنهي في العبادات يدل على الفساد ، كما بين في أماكنه.

وأما اذا كانت مطلقة ، فلانه قد مضى بعض أفعال الحج ولم ينوه لنفسه ، فلا يكون واقعا عنه ، اذ الاعمال بالنيات ، أي : واقعة بحسب النيات. واذا لم يكن واقعا عنه ، لم يصح حجه عن نفسه ، اذ الحج لا يتبعض ، لانه عبادة واحدة ولا عن المستأجر ، لما ذكرنا من الاخلال بالشرط ، وهو : اما الاستحضار ، أو الاستدامة.

احتج الشيخ رحمه‌الله بأن الاحرام انعقد عن المستأجر ، فلا يجوز العدول به الى نفسه ، واذا لم يجز العدول لم يصح النقل ، ولان أفعال الحج استحقت لغيره بالنية الاولى ، فلا يصح نقلها ، واذا لم يصح النقل ، فقد تمت الحجة لمن بدأ بالنية له.

والجواب : لا نزاع في أن النقل لا يصح ، ولا تأثير له في وقوع الحج عن الاجير ، ولكن لا يلزم من ذلك صحة الحجة عن المستأجر ، لانا انما أبطلناها لفوات شرطها ، وهو أما الاستحضار أو الاستدامة.

وانما طولنا الكلام في هذه المسألة لكونها من المهمات.

قال رحمه‌الله : من عليه حجة الاسلام ونذر اخرى ، ثم مات بعد الاستقرار أخرجت حجة الاسلام من الاصل ، والمنذورة من الثلث. ولو ضاق المال الا عن حجة الاسلام اقتصر عليها ، ويستحب أن يحج عنه النذر.

ومنهم من سوى بين المنذورة وحجة الاسلام في الاخراج من الاصل والقسمة مع قصور التركة ، وهو أشبه ، وفي الرواية اذا نذر أن يحج رجلا ومات وعليه حجة الاسلام ، أخرجت حجة الاسلام من الاصل وما نذره من الثلث. والوجه التسوية لانهما دين.

١٥٤

اقول : القول الاول ذهب إليه الشيخ رحمه‌الله في كتبه ، مصيرا الى الرواية المروية عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : سألته عن رجل عليه حجة الاسلام ونذر في شكر ليحجن رجلا ، فمات الذي نذر قبل أن يحج حجة الاسلام وقبل أن يفي بنذره ، فقال : اذا ترك مالا حج عنه حجة الاسلام من جميع ماله ويخرج من ثلثه ما يحج عنه النذر ، وان لم يترك مالا الا بقدر حجة الاسلام حج عنه حجة الاسلام مما ترك وحج عنه وليه النذر فانما هو دين (١).

قال في التهذيب : حج الولي على الاستحباب ، لرواية ابن أبي يعفور عن أبي عبد الله عليه‌السلام في رجل نذران عافا الله ابنه ليحجنه ، فعافى الله الابن ومات الأب قال : الحجة على الأب يؤديها عنه بعض ولده ، قلت : هي واجبة على الابن؟ قال : هي واجبة على الأب من ثلثه (٢).

والقول الثاني ذهب إليه ابن ادريس ، محتجا بالعمومات الدالة على وجوب اخراج الدين من الاصل ، وهذا دين ، والاقوى الاول ، والعام يخص للدليل.

واعلم أن قوله « والقسمة مع قصور التركة » أي : اذا كان يمكن اخراج الحجتين من المال من أقرب الاماكن قسط عليهما ، أما لو لم يتسع الا لواحدة فقط أخرجت حجة الاسلام اتفاقا منا.

قال رحمه‌الله تعالى : وهذا القسم فرض من كان بين منزله اثنا عشر ميلا فما زاد من كل جانب. وقيل : ثمانية وأربعون ميلا.

__________________

(١) تهذيب ٥ / ٤٠٦ ، ح ٥٩.

(٢) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٠٦ ، ح ٦٠.

١٥٥

اقول : القول الاول ذهب إليه الشيخ في المبسوط (١) والجمل (٢) والاقتصاد (٣) وتبعه أبو الصلاح وابن ادريس.

والقول الثاني ذهب إليه الشيخ المفيد والشيخ في النهاية (٤) والتهذيب ، تعويلا على رواية زرارة عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قلت لابي جعفر عليه‌السلام في قوله تعالى « ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ » (٥) قال عليه‌السلام : يعني : أهل مكة ليس لهم متعة ، فكل من كان أهله دون ثمانية وأربعين ميلا ذات عرق وعسفان وكل بدور حول مكة ، فهو ممن دخل في هذه الآية ، وكل من كان أهله وراء ذلك فعليه المتعة (٦).

وفي معناها رواية الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٧).

والشيخ رحمه‌الله كأنه قسم في المبسوط الثمانية والاربعين على الجوانب الاربعة ، فيكون كل جانب اثنا عشر ميلا ، وباقي الاصحاب عولوا على الاطلاق.

فرع :

لو كان على رأس اثنا عشر ميلا فقط من كل جانب ، أو ثمانية وأربعين على القول الاخر ، وجب التمتع قولا واحدا.

قال رحمه‌الله : ولا بدّ من وقوع التمتع في أشهر الحج ، وهي شوال وذو

__________________

(١) المبسوط ١ / ٣٠٦.

(٢) الجمل والعقود ص ٢٢٤.

(٣) الاقتصاد ص ٢٩٨.

(٤) النهاية ص ٢٠٦.

(٥) سورة البقرة : ١٩٦.

(٦) تهذيب الاحكام ٥ / ٣٣ ، ح ٢٧.

(٧) تهذيب الاحكام ٥ / ٣٣ ، ح ٢٨.

١٥٦

القعدة وذو الحجة ، وقيل : وعشر من ذي الحجة وقيل : والى طلوع الفجر من يوم النحر. وضابط وقت الانشاء ما يعلم أنه يدرك المناسك.

اقول : القول الاول ذهب إليه الشيخ في النهاية (١) ، واختاره ابن الجنيد ، لان باقي أفعال الحج يصح وقوعهما في طول ذي الحجة كالطواف والسعي وما شابههما لقوله تعالى « الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ » (٢) أتى بصيغة الجمع ، وأقل الجمع ثلاثة كما بين في علم العربية. ويؤيده رواية معاوية بن عمار عن أبي عبد الله عليه‌السلام (٣).

والقول الثاني مذهب ابن أبي عقيل والسيد المرتضى قدس الله روحهما ، وتبعهما سلار ، لادراك الحج مع الوقوف بالمشعر في ذلك اليوم ولو قبل الزوال وسيأتي تحقيقه.

والقول الثالث مذهب الشيخ في الجمل (٤) والاقتصاد (٥) ، وتبعه ابن البراج ، نظرا الى وقوع أعظم الاركان ، وهو الوقوف بعرفة فيه.

والقول الرابع مذهبه في أكثر كتبه ، وتبعه ابن حمزة ، نظرا الى أنه يصح إنشاء الاحرام بالحج فيه لمن عرف أنه يدرك المشعر اختيارا.

وقيل خامسا : شوال وذو القعدة وثمان من ذي الحجة ، نظرا الى ما ورد من الحث على الاحرام فيه.

واعلم أن هذا النزاع لفظي فقط ، والا فضابط وقت الانشاء ما يعلم ادراك

__________________

(١) النهاية ص ٢٠٧.

(٢) سورة البقرة : ١٩٧.

(٣) تهذيب الاحكام ٥ / ٤٤٥ ، ح ١٩٦.

(٤) الجمل والعقود ص ٢٢٤.

(٥) الاقتصاد ص ٢٩٨.

١٥٧

المناسك فيه في أوقاتها المحدودة لها ، وذلك يختلف بحسب اختلاف المكلفين في القوة والضعف والمكنة.

قال رحمه‌الله : ويجب على الحاج الاحرام من الميقات مع الاختيار ، ولو أحرم بحج التمتع من غير مكة لم يجزيه ، ولو دخل باحرامه مكة على الاشبه وجب استئنافه منها.

أقول : لا أعرف في وجوب الرجوع الى مكة مع المكنة واستئناف الاحرام منها خلافا بين الاصحاب فأنقله ، وانما الجمهور جوزوا الاحرام قبل الميقات ، واختلفوا في الافضل ، فقال الشافعي : الافضل الميقات ، لان النبي عليه‌السلام أحرم منه ولو كان مفضولا لما أحرم منه.

وقال أبو حنيفة : ما بعد الميقات أفضل ، وهو القول الاخر للشافعي ، لما روت أمّ سلمة عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال : من أحرم بحج أو عمرة من المسجد الاقصى وحل منها بمكة غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر (١).

واعلم أن في كلام الشيخ في المبسوط (٢) اجمالا ، وأظنه الذي أوجب هذا الاحتراز.

ولقد سمعت شيخنا كثيرا ما يقول : قد يشير المصنف تارة الى خلاف الجمهور وتارة الى ما يختاره من غير أن يكون مذهبا لاحد ، فيظن أن فيه خلافا ، فاعلم ذلك.

قال رحمه‌الله : ولو تعذر ذلك قيل : يجزيه ، والوجه أنه يستأنفه حيث أمكن ولو بعرفة ان لم يتعمد ذلك ، وهل يسقط الدم والحال هذه؟ فيه تردد.

أقول : قال في المبسوط : والمتمتع اذا أحرم بالحج من خارج مكة ، وجب عليه الرجوع إليها مع الامكان ، فان تعذر لم يلزمه شي‌ء وتم حجه ولا دم عليه ،

__________________

(١) سنن البيهقى ٥ / ٣٠.

(٢) المبسوط ١ / ٣١١.

١٥٨

سواء أحرم من الحل أو الحرم (١). وبمعناه قال في الخلاف (٢).

والحق ما قاله المصنف ، وهو اختياره في المعتبر (٣).

لنا ـ أن الاحرام عبادة شرعية موقتة بوقت شرعي ، فلا يجوز فعلها قبله ، كغيرها من العبادات ، وانما سوغنا الاحرام من أي موضع أمكن مع عدم التعمد للضرورة ، وليس لما قاله الشيخ وجه.

فرع :

لو خشي مع الرجوع فوت الحج أحرم من حيث لا يفوته. وأما سقوط الدم فشي‌ء ذهب إليه الشيخ في المبسوط والخلاف ، محتجا باصالة براءة الذمة.

وهل المراد بهذا الدم دم الهدي الواجب على المتمتع أو دم شاة؟ ظاهر كلام الشيخ في الخلاف الثاني.

وسمعت شيخنا يقول : المراد بالدم هنا دم هدي التمتع ، وذاك أن الفقهاء اختلفوا فيه ، فذهب الشافعي الى أنه وجب جبرا لما يصيب الحج من النقص ، وهو ايقاع الاحرام في غير الميقات ، ولهذا لو أحرم بالحج من الميقات سقط فرض الدم ، اذ لا نقص فلا جبران.

وذهب أبو حنيفة الى أنه نسك ، واختاره الشيخ في الخلاف (٤) ، واحتج بالاجماع ، وبقوله تعالى « وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْقانِعَ وَالْمُعْتَرَّ » (٥)

__________________

(١) المبسوط ١ / ٣١٢.

(٢) الخلاف ٢ / ٤٢٠ مسألة ٣١.

(٣) المعتبر ٢ / ٨٠٥.

(٤) الخلاف ١ / ٤٢٢ مسألة ٣٥.

(٥) سورة الحج : ٣٦.

١٥٩

أخبر الله تعالى أنه من الشعائر ، أي : من جملة العبادات التي تعبدنا بها. وقيل : معناه من معالم الله وأمر بالاكل منها.

ولو كان جبرانا لما ساغ الاكل ، واذا كان اجماعنا منعقدا على أن الهدي نسك ليس بجبران ، فلا معنى للتردد حينئذ.

وان أراد بالدم دم شاة ، فلا معنى للتردد فيه أيضا ، اذ لا وجه لوجوبه ، أما لو تعمد الاحرام من غير مكة ، وجب عليه الرجوع الى مكة مع المكنة وإنشاء الاحرام منها ، كما قدمناه. فلو تعذر الرجوع ، فلا حج له بناء على قاعدتنا.

وقال في المبسوط في باب المواقيت : من أخر الاحرام عن الميقات عامدا وجب الرجوع إليه ، فان لم يمكن فلا حج له ، وقد قيل : انه يجبره بدم وقد تم حجه (١).

فان قلنا بهذا القول هنا قلنا به أيضا في من تعمد الاحرام من غير مكة ، لكنه قول شاذ مناف للاصل ، فاذن العمل على الاول.

وبالجملة فلا وجه للتردد في اسقاط الدم على جميع التقادير.

وانما طولنا الكلام في هذه المسألة لكونها من المهمات ، ولوقوع الاشتباه فيها أيضا.

قال رحمه‌الله : والافراد والقران فرض أهل مكة ومن بينها وبينه دون اثنا عشر ميلا ، فان عدل هؤلاء الى التمتع اضطرارا جاز ، وهل يجوز اختيارا؟ قيل : نعم ، وقيل : لا ، وهو الاكثر ، ولو قيل بالجواز لم يلزمهم هدى.

أقول : لا خلاف بين علمائنا في تحريم العدول عن التمتع اختيارا ، وانما الخلاف في العدول إليه ، فذهب في النهاية (٢) الى أنه لا يجوز ، واختاره المتأخر

__________________

(١) المبسوط ١ / ٣١٢.

(٢) النهاية ص ٢٠٦.

١٦٠