كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

النيابة بالتبرع بها غير معقول فضلا عن كونه تقييدا لما دل على الصحة بلا دليل مضافا الى أن التبرع مسكوت عنه في القسم الأول من طريق الإمضاء ، إذ ما دل على شرعية النيابة في مثل الصلاة والزيارة وأنها سبب لوصول الثواب المندوب فيه الى المنوب عنه مطلقة غير مقيدة بالتبرع.

نعم لا يبعد أن يقال : ان ما دل على استحباب النيابة فيها وأنه يكتب للنائب مثل ما يصل الى المنوب عنه أو ضعفه ظاهر في التبرع ، فيكون الاستحباب مقيدا به بحيث ينافيه الأجرة كما أشرنا إليه أيضا ، مع أن ما ثبت في الحج من الاستنابة عند العجز والاستيجار للنيابة فيه نقض على الاستدلال الأول.

وبالجملة جواز الإجارة في العبادات يتوقف على ثبوت شرعية النيابة فيها ولو تبرعا ، وإذا ثبت شرعيتها وأنها تصير سببا لسقوط الأمر عن المنوب عنه ووصول ثواب العمل بكليته اليه صح الاستيجار على النيابة حينئذ لعموم أدلة الإجارة.

ومن هنا قال الشهيد في محكي الذكرى : هذه المسألة ـ أعني الاستيجار على فعل الصلاة الواجبة ـ مبنية على مقدمتين : إحداهما جواز الصلاة للميت وهذه اجماعية والاخبار الصحيحة ناطقة بها كما تلوناها. والثانية أنه كلما جازت الصلاة عن الميت جاز الاستيجار عنه ، وهذه المقدمة داخلة في عموم الاستيجار على الأعمال المباحة التي يمكن أن تقع للمستأجر عنه ، ولا يخالف فيها أحد من الإمامية ولا غيرهم ، لان المخالف من العامة إنما منع لزعمه أنه لا يمكن وقوعها للمستأجر عنه ، أما من يقول بإمكان وقوعها له ـ وهم جميع الإمامية ـ فلا يمكنه القول بمنع الاستيجار الا أن يخرق الإجماع في إحدى المقدمتين ـ انتهى كلامه رفع مقامه وقد بلغ في المتانة وحسن الاستدلال أقصاه.

والظاهر أنه أراد بالعمل المستأجر عليه فيما نحن فيه النيابة دون الصلاة المنوب فيها ، كما يشعر به التمسك بعموم الاستيجار على الأعمال المباحة ـ فافهم وتأمل.

٨١

وهو عين ما فصلناه وحققناه كما هو الشأن في كثير من تحقيقاتنا في الأصول والفقه حيث أنها شرح وتوضيح وكشف قناع عن مراد الأساطين السابقين. بل وإليها يرجع أيضا ما عن ابن طاوس في البشرى من الاستدلال على صلاة النيابة بإجارة تبرعا أو بوصية نافذة بما ورد في قضاء الصلاة عن الميت من الاخبار ، فإن هذه الاخبار مع عدم نهوضها بالتصريح على الإجارة تكفي في المدعى بعد ملاحظة عمومات الإجارة كما عرفت في كلام الشهيد.

ومن جميع ما ذكرنا سقط ما ذكره بعض أهل النظر من محشي الروضة في مقام الرد على السيد وعلى الشهيد حيث قال في المقام الأول : انه ليس في الاخبار تصريح بجواز فعل الأجنبي والاستيجار بل وردت على وجه الإطلاق ، مع أن بعضها مقيد بالولي ، والموافق للأصول وجوب حمل المطلق منها لو أريد ما فاته الميت على المقيد وإيجابه على الولي.

وفيه : انه لا حاجة الى التصريح كما عرفت ، بل يكفي في صحة الاستيجار مجرد ثبوت شرعية القضاء عن الميت ، مع أن ما ادعاه من أن الموافق للأصول تقييد المطلق منها بالمقيد مخالف للأصول ، لأن الشيئين لا يحمل أحدهما على الأخر في الأحكام الوضعية التي منها المقام ، أعني صحة القضاء عن الميت ، مع أن قضية المطلقات جواز القضاء عن الميت وقضية المقيد وجوبه على الولي وفي مثله لا يحمل المطلق على المقيد أيضا.

وقال في المقام الثاني ما لا يخلو عن إجمال واشكال فلنذكره بعباراته ، قال بعد نقل كلام الشهيد المتقدم : ولا يخفى أن ما ذكره من الإجماع على جواز الصلاة عن الميت ان أراد به ما يفعل الولي فمسلم بل يجب عليه ان كان مما فاته وان أراد غيره فلا الا مع التبرع تطوعا ، وما قال بدخولها في عموم الاستيجار على الأعمال المباحة التي يمكن وقوعها للمستأجر عنه ، فامكانها ممنوع مع أن

٨٢

الإباحة في العبادات غير متصورة بل انها راجحة الفعل ، ولا سيما مع توجه التكليف بها في حياته وإلى الولي بعد وفاته ، ويكون حينئذ نيابة الحي ممتنعة كما صرحوا به. ومنه يعلم حال الإجماع ، بل المفهوم من الروايات التبرع على وجه التطوع ، وبعضهم جوز الإجارة فيه كالأجير في الذبح وهو في محل النظر أيضا. نعم كل راجح إذا خوطب به مع الاذن في الاستنابة يمكن الأجرة فيه إذا لم يجد المتبرع ، لكن المخاطب هنا ليس الميت حتى يجوز الاستنابة للعذر ، والتبرع عند التحقيق لا يرد على وجه الخطاب وانما هو كالإهداء إليه كما لا يخفى على من تأمل في تلك الروايات. فالقول بالاستيجار مطلقا لا يخلو عن ضعف ، والعمل بالوصية إنما يتصور في المشروع ، ومشروعية الاستيجار ممنوع كما عرفت ـ انتهى كلامه رفع الله مقامه.

ولا يخفى ما فيه من اشتباه المراد ، فإن أراد ما ذكرنا في تقرير الاستدلال الثاني من الفرق بين التبرع والاستيجار بحسب المستفاد من الأدلة ففيه ما عرفت وان أراد إنكار النيابة رأسا وان القدر الثابت من الروايات أنه يجب على الولي صلاة ما فات عن الميت وان الأجنبي له أن يتطوع الصلاة هدية للميت لا النيابة ـ كما لعله المظنون الظاهر من مجامع كلماته ـ ففيه أنه مكابرة واضحة. كيف وقضاء الولي لا معنى له الا نيابة عن الميت ، وكذا تبرع الأجنبي عبارة عن نيابته عنه تبرعا.

وأما ما ذكره من أنه لا معنى للإباحة في العبادة. فقد عرفت ما به يندفع ذلك في شرح مراد الشهيد حيث قلنا ان مراده من العمل المستأجر عليه هي النيابة دون الصلاة.

وأما تضعيف إطلاق القول بالاستيجار ، فالمراد به غير واضح. فإن أراد به صحة الاستيجار مع الاذن في الاستنابة. ففيه أنه غير محتاج اليه بل يكفي شرعية

٨٣

النيابة ، وبعد ثبوتها ثبت الاذن بعمومات الإجارة. وان أراد به الفرق بين استئجار الولي وغيره بالتزامه صحة الأول دون الثاني على أبعد الاحتمالين ، فهو تحكم والتأمل في سائر كلماته يقضي ببعض التشويش.

[ إهداء ثواب العبادات للأموات أو الإحياء ]

هذا تمام الكلام في مسألة النيابة ، بقي الكلام في مسألة أخرى قريبة منها في الثمرة وأدق منها في النظر ، أعني صلاة الهدية للأموات بل الإحياء أيضا ، على ما وردت به بعض الروايات ، فنقول :

ان هاهنا مطلبين : أحدهما إهداء ثواب العمل بعد وقوعه وبذله على الغير والثاني الاستيجار على صلاة الهدية ، ويندرج تحته الاستيجار على صلاة الوحشة ليلة دفن الميت.

( أما الأول ) فالظاهر المصرح به في الاخبار عدم الإشكال في جوازه وأنه بعد الإهداء يصل الى المهدى اليه ثواب ذلك العمل. نعم في المعاوضة عليه وجعله عوضا في مثل البيع والصلح وسائر العقود العوضية نوع تأمل ، لأن ثواب الله في الآخرة ـ وان كان أمرا مملوكا له مستحقا عليه ـ الا أنه لا سنخية له مع الأموال والأعمال الدنيوية ، ولم تجر عادة الشرع ولا العرف على احتسابه من الماليات والا لم يبق فقير في الدنيا ، لأنه يتمكن حينئذ أن يبيع أو يصالح شيئا من مثوباته الأخروية بشي‌ء من الأموال الدنيوية وربما يصير بذلك الشخص مستطيعا ، وهو غير مأنوس وغير معهود بين المتشرعة جدا.

وبالجملة ثواب الآخرة مملوك جدا على نحو آخر من المملوكية بين قابل للإهداء وممتنع لقبول المعاوضة عليه.

( وأما الثاني ) أعني الاستيجار على صلاة الهدية ـ ففيه غموض وإشكال ،

٨٤

لأنه ليس في المقام عنوان عملي غير نفس العبادة الخارجية حتى يجعل متعلق الإجارة ذلك العمل ويبقى قصد القربة في نفس العمل العبادي سليما عن المنافي بل عنوان الهدية بالنسبة إلى صلاة الهدية مثلا مثل عنوان الإعادة بالنسبة إلى الصلاة المعادة ، أمر اعتباري انتزاعي بعد الفعل بملاحظة بعض عوارضه كالإهداء فحالها حال المعادة في عدم قبول الاستيجار على التطويل الذي ارتكبناه في توضيح الحال.

اللهم الا أن يفرض هنا فعلان وعنوانان أيضا ، ويجعل متعلق الإجارة الفعل الغير العبادي كالنيابة ، بأن يقال إهداء الشي‌ء أمر مغاير لذلك الشي‌ء المهدى عرفا سواء كان المهدى عينا خارجيا كاهداء العبد والثوب أو عملا من الأعمال أيضا ، إذ الإهداء فعل واحد يعرفه أهل العرف ولا تتفاوت حقيقته باختلاف المهدي ، فكما الاستيجار على إهداء الثوب ليس معاوضة على نفس الثوب بل داخل في المعاوضة على الاعمال ، كذلك الاستيجار على إهداء الصلاة أمر لا يرجع الى المعاوضة والاستيجار على المهدى ـ أعني الصلاة.

لا يقال : الإهداء مأخوذ في حقيقته التبرع ، فاذا اشترط الأجرة على إهداء الثوب ـ فضلا عن إهداء الصلاة ـ خرج الفعل المستأجر عليه عن كونه إهداء.

لأنا نقول : انما نمنع الخروج والتوهم إنما ينشأ من ملاحظة المستأجر والمهدى اليه شخصا واحدا ، فليفرض مغايرتهما ، بأن وقع الإجارة على إهداء الثوب مثلا لأجنبي غير المستأجر فإنه بالنسبة الى ذلك الأجنبي المهدى اليه إهداء لأنه بالنسبة إليه تبرع ، إذ الأجرة انما أخذها المهدى بصيغة الفاعل من غير المهدى اليه ، وهذا يشهد بأن أخذ الأجرة على الإهداء لا يخرجه عن كونه إهداء.

وهذا مثل أخذ الأجرة على ضيافة العلماء مثلا ، فان عنوان الضيافة في نفسه خال عن الأجرة ، وأخذ الأجرة انما هو لهذا العمل الخالي عن الأجرة. ولو

٨٥

سلم خروجه عن حقيقة الهدية والتبرع فلا يقدح فيما نحن بصدد تصحيحه من الاستيجار على فعل الصلاة المتقرب بها هدية أو شبه هدية.

فان قلت : العبادة مشروطة بالتقرب ، والتقرب انما هو للمهدي ، وليس مثل مسألة النيابة ، حيث أن تقرب النائب يقوم مقام تقرب المنوب عنه باعتبار كون الممثل ـ أعني الأمر ـ أمر المنوب عنه ، ولا يعقل أن يتجاوز تقرب الشخص الى شخص آخر ، فكيف يعقل الإهداء في العبادات نفسها ، مع أن شرط الإهداء انتقال المهدي الى المهدى اليه.

قلت : العمل المتقرب به إذا وقع هدية رجع جميع آثاره الى المهدى اليه ، وهذا هو معنى إهداء الأعمال ، وإلا فنفس العمل ولو لم يكن عباديا يمتنع انتقاله من عامله الى غيره ، فمعنى إهداء العمل ـ كتمليك العمل بالإجارة ـ إدخال حاصله ومنفعته وأثره ، إلى كيس الأخر وهذا المعنى لا ينافي اختصاص التقرب في العبادات بالعامل ، لان المقصود بالإهداء إدخال أثر هذا العمل المتقرب به في كيس الأخر. وبالجملة العمدة تصوير عنوان عمل آخر غير عنوان العبادة وبعد ذلك فسائر الإشكالات هينة الاندفاع ، والمسألة غامضة لا بد فيها من التأمل الصائب. والله الهادي.

( الأمر الثالث ) من الأمور التي وجودها مانع من أخذ الأجرة وعدمها شرط لحليتها أن لا يكون العمل حقا لغير المستأجر أوله قبل الإجارة ، فإنه لو كان كذلك كانت الأجرة سحتا لكونه أكلا للمال بالباطل ، مثل البيع بلا ثمن والإجارة بلا منفعة في مقابل الأجرة.

ويتفرع عليه حرمة الأجرة المأخوذة كما في مقابل ما يتعلق بالموتى من الواجبات الكفائية حتى التوصليات منها كالكفن والدفن ، فان ظاهر أدلتها أنها من حقوق الميت الواجبة على الاحياء وانه مستحق له ، فأخذ الأجرة في مقابل

٨٦

شي‌ء منها كأخذ الأجرة في عمل مستحق لاخر ، مثل البناء المستحق عليه بنذر أو إجارة أو نحو هما ، فإنه لا يجوز أخذ الأجرة بإزائه ثانيا من آخر.

وقد ظهر مما ذكرنا أن بعض الواجبات مما يحرم أخذ الأجرة في مقابله لاختلال الشرطين الأخيرين ، مثل بعض العبادات التي فهمنا من دليله أنه حق لادمي ، ويمكن أن يكون من هذا القبيل الصلاة عن الميت. كما أنه قد ظهر أيضا أن الشرطين الأخيرين يمكن إرجاعهما إلى الشرط الأول ، فإن العمل إذا كان بحيث يشترط في ترتب أثره أمر ينافي أخذ الأجرة كالقربة أو كان حقا لا حد كان من موارد اختلال الشرط الأول أيضا ، وهو أن يكون له أثر ونفع يصل الى المستأجر.

[ الواجب الكفائي لا مانع من الاستيجار عليه ]

إذا تحقق الشروط الثلاثة فلنرجع إلى مسألة جواز أخذ الأجرة في الواجبات الكفائية ، والظاهر أن من جوز الإجارة عليها ادعى وجود الشرائط الثلاثة ومن منع ادعى اختلال أحدها. والظاهر أن كلمات المحققين من المانعين والمجوزين راجعة الى ما ذكرنا ، فمن سلك مسلكا آخر في تصحيح الإجارة عليها أو المنع فقد اشتبهت عليه المسألة كمال الاشتباه ، فنقول :

ان الواجب الكفائي لا مانع من الاستيجار عليه من حيث الشرطين الأولين :

أما الشرط الأول ـ وهو كون العمل مما يصل نفعه إلى المستأجر ، فلان فائدة فعل الواجب الكفائي سقوطه عن المستأجر ، وهذا من الفوائد التي يمكن بذل المال بإزائها ، مع أن الواجب الكفائي قد يكون فيه منفعة دنيوية وأصله إلى المستأجر كالصناعات ، فباعتبار مراعاة الشرط الأول لا يمكن المنع عن الاستيجار على الواجبات الكفائية مطلقا ، بل ينفى حينئذ التفصيل لو لم يكن سقوط التكليف من المنافع المصححة للإجارة.

٨٧

وأما الشرط الثاني ـ فلان الوجوب الكفائي قد لا يكون تعبديا ينافيه أخذ الأجرة كما هو الأكثر ، فيبقى اناطة الصحة والفساد على مراعاة الشرط الثالث ، والى ذلك ينظر كلام المحقق وغيره من المعتبرين من تعليل المنع بأنه ـ أي الأجير ـ يؤدي فرضا.

وتوضيحه : ان المانع يدعي أن العمل المستأجر عليه لا بد أن لا يكون مستحقا على الأجير بمقتضى الشرط الثالث ، لأنه إذا كان كذلك امتنع على الأجير تمليكه الغير ثانيا لأنه كتمليك مال الغير ، ومن الواضح أن فعل الواجب الكفائي مستحق على الأجير لله تعالى ، فيكون حقا لغير المستأجر.

ودعوى : ان متعلق حق الله انما هو كلي الفعل كالدفن الكلي مثلا ، والكلي لا يتعين في الخارج الا بتعين من هو في ذمته ، وتعينه انما يكون بالقصد كسائر الأعمال والأقوال المشتركة ـ بأن يوجد الفعل بقصد أنه واجب عليه كفاية ـ فلو فعل لا بهذا القصد بل بقصد أنه واجب على المستأجر أيضا أو مجردا عن القصد رأسا ، كان ذلك غير العمل المستحق عليه وكان تمليك مثل هذا العمل تمليكا لأمر غير مملوك.

مدفوعة : بأن القصد انما يحتاج إليه في التميز إذا كان العمل معنونا بعنوانين وكان متعلق الطلب أحدهما ، كاشتراك « بسم الله » بين الفاتحة وغيرها مثلا. وأما إذا كان متعلق التكليف هو كلي العمل والفعل وكان من التوصليات التي لا يفتقر في حصولها في الخارج الى قصد ، فما يوجد من العمل في الخارج ينطبق على ذلك الكلي الذي تعلق به التكليف ويكون عينه ، وبذلك يسقط التكليف.

ولذا ذكرنا في الأصول أنه إذا أمر بطبيعة تارة على وجه الوجوب وأخرى على وجه الندب اتصف الفرد الموجود منها في الخارج أولا بالوجوب ليس إلا وامتنع عروض الندب له ولو نوى ذلك ، غاية الأمر انه إذا كان عباديا يقع لاغيا

٨٨

فلا يحتسب من الواجب أيضا. على خلاف التدقيق الذي ادعينا في بعض تنبيهات مقدمة الواجب حيث رجحنا هناك الصحة واحتسابه من الواجب نظرا إلى كفاية رجحانه الذاتي في قصد القربة ، كالوضوء المستحبي في وقت الفريضة.

هذا ويمكن الجواب عن ذلك بأن العمل من حيث صدوره من شخص خاص غير مستحق عليه لله تعالى بل من حيث صدوره عن الجميع. ومتعلق الإجارة انما هو العمل من الحيثية الاولى لا الثانية ، مع أن كون العمل مستحقا لله غير كونه مستحقا للناس ، فان استحقاق الله تعالى على نحو آخر من الاستحقاق ، فلا نسلم بطلان تمليك المملوك مطلقا ، بل الباطل انما هو تمليك مملوك الناس.

والحاصل ان الوجوب الكفائي لم يثبت مانعيته عن الاستيجار. نعم في صورة التعيين والانحصار أمكن القول بالبطلان ، لما ذكرنا من انطباق ما يوجد من الكلي المأمور به أولا عليه ، فيكون أخذ الأجرة بإزائه أخذا لها بلا مقابل بل يدخل في ملك المستأجر.

[ الفرق بين ماله اجرة وما ليس له اجرة عرفا ]

هذا كله في مثل الكفن والدفن مما لا أجرة له عرفا ولا حاجة لهم اليه مع قطع النظر عن عروض الوجوب الكفائي. وأما مثل الصناعات مما كان له الأجرة قبل عروض الوجوب ، أي مع قطع النظر عنه باعتبار مساس حوائجهم إليه ـ فأخذ الأجرة فيه أظهر. بيان ذلك :

ان الواجبات الكفائية على قسمين :

« أحدهما » ـ ما لا قيمة له ولا أجرة عليه عرفا مع قطع النظر عن كونه واجبا كفائيا ، بحيث يكون تموله العرفي وتأهله للاستيجار عليه باعتبار عروض الواجب الكفائي له عليه ، وذلك كاستقبال الميت مثلا ، فإنه مع قطع النظر عن عروض الوجوب له ليس شيئا ذا أجرة في العرف لعدم مساس ذلك بحوائج الناس معادا ومعاشا.

٨٩

والظاهر أن وجوب التعليم في الأمور التي يجب تعلمها كذلك ـ خصوصا بعد ما ورد أن الله تعالى لم يكلف الجاهل بالتعلم الا بعد إيجابه التعليم على العالم (١) ـ فان تعليم العالم إذا كان في الرتبة قبل احتياج الناس اليه كما هو قضية المقدمية كان من الأمور الغير المرغوب إليه الذي لا تمول له عرفا في تلك المرتبة ، ونحوها الدفن والكفن الشرعيين.

« والثاني » ـ ما له أجرة عرفا مع قطع النظر عن الوجوب أيضا كالصناعات ، وما ذكرنا من الإشكال في جواز الأجرة انما يتجه في القسم الأول ، وأما القسم الثاني فيمكن القول فيه بأن الوجوب الكفائي لم يلحق أحدا إلا بالعمل على وجه الأجرة دون التبرع أو الأعم.

والفرق هو أن القسم الأول لما لم يكن قبل عروض الوجوب أمرا متقوما لم يكن محترما وامتنع اتصافه بالتبرع كالاتصاف بكونه في مقابل الأجرة ، لأن التبرع عدم أخذ العوض في مقابل ماله شأنية العوض لا كل ما لا يؤخذ عوضه ، وإذا امتنع ذلك الممتنع القول بعروض الوجوب من أول الأمر للعمل مع الأجرة ، نحو امتناع عروض الطلب للفعل المقرون بالقربة كما أومأنا اليه آنفا وقلنا ان القيود المتحصلة والمتصورة بعد فرض المحمول يستحيل اعتبارها في الموضوع.

بخلاف القسم الثاني ، فإنه لا مانع من القول بأن متعلق الوجوب في هذا القسم انما هو التكسب دون التبرع ، فيقال : ان الله تعالى أوجب التكسب بالخياطة مثلا لا نفسها ، ووجوب التكسب لا ينافي أخذ الأجرة بل تحققه كما لا ينافيه أيضا التبرع.

وان شئت قلت : أن الواجب انما هو بذل العمل المحترم ، والمقوم ، ووجوب بذل المال المحترم أو العمل المحترم لا يوجب سلب الاحترام حتى يمتنع

__________________

(١) الكافي ، الأصول ١ / ٤١.

٩٠

أخذ الأجرة. مثل الإنفاق في حال المخمصة ، فإن وجوبه لا يقتضي المجانية بل يجب عليه الإنفاق وعلى المنفق بذل العوض فان امتنع استقر في ذمته.

والدليل على ذلك : ان الدليل على وجوب الصناعات دليل عقلي ينشأ من استقلال العقل بوجوب محافظة النظام ، وهذا لا يقتضي التبرع بالعمل فيبقى احترام العمل بحاله. ويترتب عليه انه لو تعين الصنعة في شخص تعين العمل عليه وعلى المعمول له دفع الأجرة لذلك الدليل العقلي المشار إليه ، إذ لو وجب التبرع لزم اختلال النظام أيضا ، مثل ما يلزم على تقدير عدم الوجوب أو أشد كما لا يخفى.

وفائدة الوجوب تظهر فيما لو امتنع حتى مع الأجرة عند التعيين ، فلا يرد أن العمل مع الأجرة إيجابه سفه ، لأن الأجرة هي بنفسها داعية اليه ، فطلبه مع ذلك الداعي يشبه طلب الحاصل ، ومع عدم التعيين فلا يجب بذل الأجرة إلا مع الاشتراط ، فليس للصانع العمل وأخذ الأجرة قهرا.

ويترتب على ذلك أن الطبيب مثلا لو عالج قبل تضييق زمان العلاج لم يكن له شي‌ء في ذمة المريض ، ولو نوى الأجرة ان عالج في صورة الانحصار أو مع تضييق الأمر وعدم اقدام الغير وجب على المريض أجرة المثل حينئذ مع عدم التبرع ، ومع الامتناع يستقر في ذمته.

ومن هنا يظهر أنه لا فرق بين الواجب العيني والكفائي في هذا القسم ، وانما الفرق بينهما في القسم الأول.

وقد تلخص مما ذكرنا في أخذ الأجرة على الواجبات الكفائية أنه مع اجتماع الشرائط الثلاثة المتقدمة يجوز أخذ الأجرة سواء كان عينيا أو كفائيا ، وان الاشكال كله في تشخيص صغرى الشروط ومعرفة وجودها أو اختلالها ، فنقول

٩١

ان الواجب إذا لم يكن تعبديا فلينظر فان كان له أجرة في العادة مع قطع النظر عن الحكم الشرعي كالصناعات جاز أخذ الأجرة مطلقا سواء كان عينيا أو كفائيا ، لأن متعلق الوجوب في مثله انما هو العمل المحترم المقوم ، ووجوب مثله لا يقتضي المجانية وسلب الاحترام كما عرفت. وان لم يكن له أجرة كذلك فان كان كفائيا فالظاهر عدم المانع من أخذ الأجرة عليه ، أما من جهة الشرطين الأولين فواضح ، وأما من جهة الشرط الثالث فلما عرفت من أن متعلق حق الله انما هو العمل من حيث صدوره عن الجميع ، ومتعلق الإجارة هو العمل من حيث صدوره عن الشخص ، وفيه تأمل. وان كان عينيا أو كفائيا معينا فالظاهر بناء على مراعاة الشرط الثالث حرمة أخذ الأجرة.

هذا كله في الواجبات الكفائية ، وأما المستحبات الكفائية ـ مثل ما يتعلق بدفن الموتى وكفنهم وصلاتهم وغسلهم من الزيادة على المقدار الواجب على القول باستحباب الغسل أيضا بعد حصول الواجب ـ فالظاهر عدم الاشكال ، والخلاف في التوصليات منها دون التعبديات ، ذلا مانع من أخذ الأجرة عليها حتى من جهة مراعاة الشرط الثالث أيضا ، ضرورة عدم كونها مستحقة على الأجير.

والعجب ممن منع الاستيجار على الواجبات الكفائية من جهة قصد القربة ، مع أنه لا فرق من هذه الجهة بين الواجبات والمستحبات.

[ عود إلى أخذ الأجرة على القضاء ]

هذه خلاصة ما اقتضاه المجال في تحقيق الحال في مسألة جواز أخذ الأجرة على الواجبات ، فلنعد الى ما كنا فيه وذكرنا هذه المسألة لأجله ـ أعني أخذ الأجرة على القضاوة ـ فنقول :

لا بد أن ينظر أولا في أن القضاء هل هو من القسم الثاني ـ أعني ماله منفعة

٩٢

محترمة مع قطع النظر عن شرعيته كالصناعات ـ أو من الأول كما هو الأظهر :

فإن كان من الثاني جاز أخذ الأجرة عليه حتى مع التعيين ، وعدم الاحتياج الى أن يستظهر من أدلته وجوب التبرع به كوجوب التعليم ، حيث أن الظاهر من أدلته أيضا التبرع وعدم الأجرة خصوصا بعد ملاحظة حرمة الرشوة على القاضي ، فإنه لو لم تشمل مثل الجعل فلا أقل من تقويته لذلك الاستظهار ، وان كان من الأول فلا بد أيضا من النظر في انه كوجوب التعليم أو كأداء الشهادة ، بأن يكون القضاء حقا من حقوق المسلمين على القضاة. وعلى الثاني فقد عرفت عدم جواز أخذ الأجرة عليه بمقتضى الشرط الأول ، وأما على الأول فقضية ما ذكرنا الفرق بين صورتي الانحصار وعدمه ، لكن عرفت استظهار التبرعية من أدلة القضاوة مطلقاً

التقاط

[ ما يثبت به ولاية القاضي ]

تثبت ولاية القاضي بالبينة العادلة كما هو الأصل في الموضوعات كلها الا ما ثبت فيه الاحتياج إلى الأكثر أو الأقل ، وكذا تثبت بالاستفاضة على ما صرح به غير واحد من الأصحاب منهم المحقق والشهيدان ، وذكروا استطرادا أمورا أخر تثبت بها كالنسب والملك المطلق والموت والنكاح والوقف والعتق ، ولا بد أولا من بيان المراد بالاستفاضة في المقام :

اعلم أن « الاستفاضة » استفعال من « الفيض » وقد أطلق مجردا ومزيدا على معان متقاربة ، قوله تعالى « أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النّاسُ » (١) أي ادفعوا من حيث دفع الناس ، ومنه الإفاضة من العرفات ، أي الدفع بكثرة ، ويقال أفاض السيل فيضا إذا كثر وسال ، وفاض الإناء فيضا امتلأ.

__________________

(١) سورة البقرة : ١٩٩.

٩٣

وفي مجمع البحرين بعد ذكر جملة من إطلاقات فاض : وأفاض واستفاض الحديث شاع في الناس واشتهر ، فهو مستفيض اسم فاعل ، ومنه « أثر مستفيض » أي مشهور.

لكن الظاهر أن هذه الإطلاقات مع ما بها من التفاوت والمغايرة الضعيفة صادرة من مصدر واحد ، ومعنى جامع بين الكل ، لأنا ذكرنا أن دأب العرب التعدي من المعنى الأصلي الى ما يقاربه ويناسبه في الجملة بنحو من التوسع ، من غير استناد إلى القرائن ليكون تجوزا أو وضعا آخر ليكون مشتركا أو منقولا. ولعل الجامع هو التراكم والتكاثر ، فإنهما يمكن انطباقهما على جميع هذه الاستعمالات ولو بضرب من التوسع والتسامح كما لا يخفى على المتدرب.

وفي اصطلاح الأصوليين عبارة عن خبر جماعة تزيد على الثلاثة وتقصر عن حد التواتر.

وأما في اصطلاح الفقهاء فقد صرح في الروضة بأنه لا حد له ، الا أنه يعتبر أن يزيد عن عدد البينة العادلة ، ليحصل الفرق بين العدول وغيره.

وأيضا المستفيض في الأصول معدود من الاحاد التي لا تفيد العلم ، وأما عند الفقهاء ففيه إجمال واشتباه ، لان ظاهر المحقق على ما استظهره ثاني الشهيدين اعتبار حصول العلم بالاستفاضة ، ونقل عن بعض الاكتفاء بالظن المتقارب المتاخم وعن بعض الاكتفاء بمطلق الظن ، بل ظاهر بعض مشايخنا أن خبر جماعة من المسلمين بنفسه حجة في هذه الأمور ، بل في غيرها أيضا تعبدا محضا مجردا عن الظن مستظهرا بظاهر بعض الروايات.

وتحقيق المسألة : هو أن غرض الأصحاب بها ان كان هو الخبر المفيد للعلم فيرد عليهم أنه لا وجه للتخصيص بالاستفاضة ولا بهذه الأمور السبعة ، لأن العلم في مثل المقام متبع من أي شي‌ء حصل وفي أي مقام يفرض ، لان مفروض كلام

٩٤

الأصحاب مقام عمل الشخص نفسه كما هو صريح قولهم وتثبت ولاية القاضي ، والعلم في مقام العمل طريق محض بحكم العقل الذي لا يقبل التخصيص والتخصص كما تقرر في محله.

نعم في مقام حكم الحاكم أو في مقام الشهادة فالعلم بالموضوعات علم موضوعي ، فيمكن أن يكون للعلم الحاصل بالاستفاضة خصوصية من بين سائر أسباب العلم أوجبت اعتبار الشارع له في مقام الحكم ، بناء على عدم جواز حكم الحاكم بعلمه مطلقا أو في مقام الشهادة بمقتضى العلم مطلقا.

ولكن الذي يرى جواز الحكم بالعلم مطلقا أو جواز الشهادة كذلك ـ كأكثر من تعرض للمسألة ـ لا يحسن منه أيضا تخصيص الحكم بالاستفاضة ولا بهذه الأمور.

وكيف كان فإن أرادوا بالاستفاضة ما يفيد العلم عادة بنفسه أو بملاحظة القرائن على أبعد الاحتمالات فما ذكروه من الثبوت

جيد متين ، لكن يبقى الكلام في وجه التخصيص بالاستفاضة بهذه الأمور ، وان أرادوا بها ما يفيد الظن المتاخم الاطمئناني أو مطلقا فثبوت هذه الأمور خاصة بهادون غيرها يحتاج الى دليل يدل على حجية الاستفاضة على وجه لا يتناول ما عداه.

وأما ما قيل من أن الاستفاضة لا اختصاص لها بهذه الأمور وان ذكر الأصحاب لها بالخصوص انما هو لأجل كونها غالبا مجرى لها دون غيرها مما يغلب فيه جريان البينة. فليس في محله ، لبعده عن ظاهر التخصيص كما لا يخفى ، خصوصا مع ملاحظة تقييدهم الملك بالمطلق ، فان تقييد الموضوع بقيد يشاركه غيره في الحكم ، ركيك في الغاية إلا لنكتة كغلبة القيد في الوجود الخارجي ، مثل غلبة كون الربا في الحجر والملك المطلق ليس بأغلب من الملك المسبب عن مثل البيع.

٩٥

[ الأدلة على اعتبار الاستفاضة الظنية ]

ودعوى أن غلبة جريان الاستفاضة في المطلق أوجبت أيضا التقييد به.

فاسدة ، لأن غلبة ارتباط أحد متعلقات الحكم بشي‌ء لا يقتضي تقييد الحكم به مع عمومه لما سواه كما لا يخفى ، فلا بد حينئذ من اقامة الدليل على اعتبار الاستفاضة الظنية على وجه يختص بهذه الأمور. ويمكن أن يستدل عليه بوجوه :

( الأول ) السيرة القطعية الجارية بين المسلمين ، فان طريقة السلف والخلف مستقرة على المراجعة الى من اشتهر ولايته وقضاوته بين الناس بحيث يكشف عن إمضاء المعصوم ، وهكذا على ترتب آثار النسب والملك المطلق الى آخر السبعة بمجرد الشياع والاشتهار وان كان بعضها كالموت دون بعض في ذلك.

( الثاني ) عسر إقامة البينة كما لا يخفى على من عاشر أهل الابتلاء بهذه الأمور ، لان توقيف أمور الناس في حوائجهم إلى القضاة والولاة حتى يثبت عندهم بالبينة العادلة الجامعة للشرائط التي لا يعرفها الا العلماء ، ولاية القاضي عسر بين بل حرج واضح.

وكذا التوقف في ترتب آثار النسب ، خصوصا فيما يتعلق بالبطون السابقة حتى يشهد عدلان على النسب من غير أن يكون مستند الشهود أيضا هو الاستفاضة والا فالظاهر مساواة مقام الشهادة لمقام العمل ، بل الثاني أولى كما لا يخفى.

هذا ، ولكن دليل العسر إنما ينفي التوقف على البينة ويثبت حجية شي‌ء آخر ، وأما كونه الاستفاضة فموكول إلى قرينة الإجماع. توضيحه : ان عسر إقامة البينة قد يوجب سقوطها رأسا كما في موارد قبول قول المدعي بمجرد دعواه مثل ما لا يعلم الا من قبله ، وقد يوجب سقوط بعض شرائطه مثل ما لا يستطيع الرجال على الاطلاع به ، فان جميع شرائط البينة لا بد من إحرازها فيه إلا ما

٩٦

يستلزم منه العسر وهو الذكورية. وبالجملة عسر إقامة البينة يوجب سقوط شرائطها كلا أو بعضا.

وأما الاكتفاء بقول المدعي أو بخبر واحد أو بإخبار جماعة بالغ حد الاستفاضة لا بد في تعيينها من التماس دليل ، فكان العسر قرينة صارفة لا تغني عن القرينة المعينة ، فلا بد في الحكم بالاستفاضة من التمسك بالإجماع بعد فرض عدم اشتراط البينة.

( الثالث ) بعض الروايات ، كمرسلة يونس عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : سألته عن البينة إذا أقيمت على الحق أيحق للقاضي أن يقضي بقول البينة من غير مسألة إذا لم يعرفهم؟ قال : فقال عليه‌السلام : خمسة يجب على الناس الأخذ فيها بظاهر الحكم الولايات والمناكح والذبائح والشهادة والمواريث ، فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته لا يسأل عن باطنه (١).

وعن الفقيه « الأنصاب » مكان « المواريث » كما أن عن بعض نسخ التهذيب « ظاهر الحال » مكان « ظاهر الحكم ».

استدل به في محكي كشف اللثام. تقريب الاستدلال : أن المراد بالحكم هو الحكم اللغوي ، أعني مضمون القضية ، وظاهره يراد به ما يظهر منها بين الناس ويشيع فيما بينهم ، فالمراد ما كان من هذه الأمور معروفا شائعا يجب الأخذ به ولا يسأل عن باطنها. وهكذا التقريب لو كان « ظاهر الحال » مكان « ظاهر الحكم » بل التقريب حينئذ أظهر.

والتحقيق عدم دلالتها على شي‌ء من المقصود ، لان الظاهر اما أن يراد به ما يقابل الواقع أو يراد به الواضح. وعلى الأول فلا دخل له بالمقام ، لان الظاهر المقابل للواقع عبارة عما يستفاد من الامارات المفيدة للظن نوعا ، مثل سوق المسلمين ويد

__________________

(١) الوسائل ١٨ ب ٢٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٩٧

المسلم وفعل المسلم والفراش وحسن الظاهر ونحوها ، لان الظاهر يقول مطلق من غير التقييد يكون عند جماعة أو عند الكل المقابل للواقع يتبادر منه ذلك ، كما لا يخفى على ذي وجدان سليم. وعلى الثاني فهو أبعد من الأول بالنسبة إلى المقصود ، لان الواضح بقول مطلق يعني من دون إضافته إلى شخص دون شخص لا ينطبق الا على البديهيات ، وهذا مع بعده عن ظاهر الرواية أو صريحها مخالف للإجماع مناف للغرض.

وكان المستدل حمل الظاهر على المعنى الأخير ، مقيدا بكونه عند جماعة ، حتى يكون المفاد أنه يجب الأخذ بهذه الخمسة لوضوح الحكم والحال عند جماعة ، وهو كما ترى.

ومما يؤيد المعنى الأول بل يدل عليه تصريح الامام عليه‌السلام بقوله « فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا » الى آخره ، لأن الأخذ بالظاهر المأمون جزئي من جزئيات اعتبار ظاهر الأمارات الظنية وفرع من فروعه لأمن جزئيات اشتهار المطلب وشيوعه بين الناس كما رام المستدل.

فان قلت : على المعنى الأول يندرج فيه الخبر المستفيض أيضا ، لأنه من الظواهر والأمارات المفيدة للظن مثل اليد والسوق ونحو هما فينهض بإثبات المقصود.

قلت : الاستفاضة ليست من الامارات المفيدة للظن نوعا بل شخصا ، إذ ليس لها حد سوى كونها مقرونة بإفادة الظن ، ومثل هذه لا تعد من الظواهر بقول مطلق التي هي عبارة أخرى عن الامارات النوعية. والحاصل ان من تأمل في الرواية أدنى تأمل يجدها بالدلالة على إمضاء الأمارات الشرعية في هذه الأمور أولى من الدلالة على اعتبار الاستفاضة.

ومما استدل به من الروايات أيضا رواية حريز الواردة في إسماعيل بن

٩٨

ابن عبد الله الطويلة ، وموضع الاستشهاد منها قوله عليه‌السلام : إذا شهد عندك المؤمنون فصدقهم (١). حيث تدل على وجوب تصديق المؤمنين ، فيجب قبول اخبار جماعة بالغ حد الاستفاضة.

وفيه ما لا يخفى ، إذا المراد بالمؤمنين في الرواية هو الجنس ، لأنه المتعين بعد تعذر الاستغراق ، وتصديق جنس المؤمن المأمور به في الروايات والممدوح في الكتاب المعني بقوله تعالى « يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ » ، يراد به معنى غير قبول الشهادة ، ضرورة قيام الضرورة على عدم فبول شهادة بعض المؤمنين من غير اعتبار شي‌ء من الصفات ، وهو التصديق مع عدم ترتيب الاثار الذي هو مفاد قوله تعالى « قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ » (٢).

مضافا الى كون الأمر بالتصديق في هذه الرواية أمرا إرشاديا ، لمعلومية عدم حرمة استيداع الفاسق شرعا. ومن الواضح أن مجرد الاتهام يكفي في الأمر الإرشادي ولا حاجة الى كون قول المؤمنين حجة شرعية حتى يتفرع عليه ثبوت فسق الرجال شرعا ، بل لو جعلنا الأمر بالتصديق شرعيا لوجب إخراج المورد كما لا يخفى.

والحاصل ان اخبار المؤمنين عن فسق شخص موجب للنهي الإرشادي عن استيمانه ، من غير أن يكون حجة شرعية ، فلعل نظر الإمام في الأمر بتصديقهم المراد به ترك عدم الاعتناء المبالاة بقولهم الى كون قولهم منشأ للتهمة المانعة عن الاستيمان لا الى كون قولهم حجة شرعية.

نعم في صحيحة أبي يعفور (٣) الواردة في العدالة دلالة على ثبوتها بالاشتهار ، وكذا

__________________

(١) الوسائل ب ٦ من كتاب الوديعة وأحكامها.

(٢) سورة التوبة : ٦٠.

(٣) الوسائل ج ١٨ ب ٤١ من أبواب الشهادات.

٩٩

في النبوي : كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إذا تخاصما اليه رجلان قال للمدعي ألك حجة ، فان أقام بينة يرضى بها ويعرفها نفذ الحكم على المدعى عليه ـ الى أن قال ـ وان جاء بشهود لا يعرفهم بخير ولا شر بعث رجلين من خيار أصحابه يسأل كل منهما من حيث لا يشعر الأخر عن حال الشهود في قبائلهم ومحالهم ، فاذا أثنوا عليه قضى على المدعي عليه وإذا رجعا بخبر شي‌ء قبيح لم يفضحهم ـ الحديث (١). لكنهما منزلان على الغالب ، وهو حصول العلم من الفحص في قبائل الشهود ، ومع ذلك فموردهما خصوص العدالة.

ومثلهما ما ورد في تنازع الزوجين في متاع البيت من أنه لو سألت من بين لابتيها ـ أي جبلي منى ـ لأخبروك أن الجهاز والمتاع يهدى علانية من بيت المرأة إلى بيت الزوج فتعطى التي جاءت به (٢). فان ظاهر الاعتداد بقول من بين اللابيتين لكنه منزل أيضا على الغالب في إفادة العلم ، ومع ذلك فلا دخل له بهذه الأمور السبعة.

والحاصل ان مثل هذه الروايات وان وردت في بعض آحاد المسائل لكنها لا تنهض للفقيه دليلا على اعتبار الاستفاضة مطلقا ولا في مجاريها أيضا كما عرفت.

( الرابع ) الدليل الانسدادى ، فان باب العلم في هذه الأمور غالبا منسد ، والرجوع الى الأصل يوجب الوقوع في خلاف الواقع كثيرا ، فلا بد من الاعتماد على الظن.

وهذا جيد ، لكنه يفيد العمل بكل ظن ، فيبطل تخصيص الحكم بالاستفاضة وبالأمور السبعة ، بل كل أمر من الموضوعات يكون حاله كذلك يتبع فيه الظن

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٦ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ٨ من أبواب ميراث الأزواج ح ١.

١٠٠