كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

المجتهد.

فالمراد من كون الاجتهاد شرطا اختياريا أنه مع التعذر يجوز قضاؤه المقلد بنصب المجتهد ، بخلاف حال الاختيار فإنه لا يجوز مطلقا حتى مع النصب.

( الثاني ) انه لو قيل باستبداد أهل البلد وأنه لا مدخلية لنصب الحاكم في حال الاضطرار لا يجوز لهم الاستبداد أيضا. نظير مسائل التقليد ، فان القول بجواز تقليد المفضول مثلا لا ينفع بحال العامي المقلد ، إذ يجب عليه على كل حال الرجوع الى الأعلم.

فالجواز وعدم الجواز في هذه المسائل انما هو حكم المسألة التي يجري على طبقها المجتهد لا المقلد ، بل المقلد يجب عليه سلوك القدر المتيقن ، لأن الأخذ بغيره من المسائل النظرية يحتاج الى اجتهاد صحيح ليس المقلد من أهله ، والقدر المتيقن في كل مسألة شي‌ء كالرجوع إلى الأعلم في مسألة التقليد والاستنصاب من المجتهد فيما نحن فيه ، ثمَّ المجتهد يرى رأيه فيفتي بمقتضى رأيه. فالبحث في أمثال هذه المسائل إنما ينفع للمجتهد دون المقلد ، وهو واضح ومتضح في محله.

( الثالث ) إذا نصب المجتهد مقلدا للقضاء ، ففي جواز قضائه مطلقا أو في خصوص ما لو رفع الى المجتهد لكان حرجا. وجهان مبنيان على أن العسر والحرج المنفيين في الشرع هل هما منوطان بالحرج والعسر الغالبين أو الشخصيين.

وقد مضى في باب الغصب في إتقان قاعدة لا ضرر بعض الكلام في ذلك ، فعلى الأول يقضي مطلقا وعلى الثاني لا يقضي الا في الموارد العسرية والحرجية.

وفي غيرها ـ كما إذا لم يكن على المدعي والمنكر المسير الى المجتهد مع البينة والجارح والمعدل عسرا أصلا ، أو كان الفاصل لدعواهما هو اليمين خاصة مع

٦١

سهولة المسافرة إلى المجتهد في غاية السهولة ، يرجع الى المجتهد.

ويمكن أن يقال : انه لو قيل بأن المناط هو الحرج الشخصي لم يلاحظ فيما نحن فيه خصوصيات الموارد أيضا ، لأن تميز موارد الحرج عن غيرها ينجر الى الاحتياط في الموارد المشتبهة وهو بالرجوع الى المجتهد ، فيلزم الحرج والعسر أيضا. نظير ما قيل في نتيجة دليل الانسداد من بطلان الاحتياط ولو في مجاريه ، لان تميز موارد الاحتياط لعسره ينجر الى الاحتياط في كثير من الشبهات الذي هو عسر ، خصوصا في حق المقلد العامي الذي لا يتمكن من تميز موارده الجلية فضلا عن الخفية.

لكنه قياس مع الفارق ، لأن المسافرة إلى المجتهد ليست من الأمور التي لا يعرف سهولتها وصعوبتها كما لا يخفى.

( الرابع ) هل يجب على المقلد المنصوب القضاء بحسب ما يقتضيه تقليده في موازين القضاء أو يجب عليه الأخذ بالطريق الأرجح والأقوى ، كموافقة المشهور ان كان من أهل معرفة ذلك ، ونحوه من الأمور المقررة المترتبة للتقليد عند عدم المجتهد.

وبعبارة أخرى : حال القضاء بعد فرض نصب المجتهد كحال التقليد في الرجوع الى كتب الأصحاب والأخذ بالمشهور ثمَّ الأكثر قائلا وهكذا ، أو يجب على المنصوب القضاوة على حسب التقليد؟ وجهان أقواهما الثاني ، لأن ترجيحات المقلد لا عبرة بها في نظر الشارع ، والأخذ بأقوى الطريقين انما هو تكليف من كلف بالنظر ، وأما من منع عنه وأمر بأمر تعبدي كالتقليد فما يلوح له من الظنون الموافقة لذلك الأمر التعبدي أو المخالفة له مثل الحجر الموضوع في جنب الشجر ، فالتقليد والقضاء حيث يجوز يصدران من مصدر واحد.

ونظير هذا التوهم ما توهم في رد الاستدلال على وجوب تقليد الأعلم ،

٦٢

بأنه الأقرب الى الواقع ، من أن قول المفضول قد يكون هو الأقرب لموافقة الشهرة ونحوها. وفساده يظهر مما أشرنا إليه هنا وبسطناه في محله.

( الخامس ) هل يجب على المقلد القضاء بحسب تقليد مجتهده أو بحسب رأي المجتهد الناصب له أو يتخير ، والمقصود بيان تكليف المجتهد وأنه بأي شي‌ء يفتي لا تكليف المقلد ، فإنه يجب استظهار الحال من السؤال عن المجتهد الناصب على أي حال كما مر.

والظاهر أن المرجع فيه نظر الناصب أيضا ، ولو للقاعدة المشار إليها من الأخذ بالقدر المتيقن أو لأن الطرق المخالفة لرأيه غير فاصل للقضاء ، كما هو الشأن في جميع الأمور المختلفة.

( السادس ) يجب على الناصب نصب أعلم أهل البلد تقليدا وأورعهم ، إلى آخر ما يرجح به في المجتهدين من المرجحات ، وهو واضح لأنه القدر المتيقن.

( السابع ) يجب على أهل البلد في الصورة الأخيرة ـ يعني حال تعذر الاستنصاب أيضا ـ نصب أعلم أهل البلد للقضاء ، وميزان القاضي حينئذ هو ميزان التقليد عند تعذر المجتهد ، وهو مذكور في محله على نحو من الترتيب.

هذا إذا لم يكن المقلد القاضي ملتزما بتقليد ، والا فيقضي حسبما يقتضيه تقليده.

( الثامن ) قضاء المقلد في جميع الفروض المزبورة فائدته رفع الفتنة والفساد ومحافظة الحقوق خاصة ، وأما سائر ما يترتب على قضاء المجتهد من الأحكام ـ كحرمة النقض وعدم جواز تجديد المرافعة ـ فلا لان العقل انما يستقل بما ذكرنا ، وأما هذه الأحكام فهي أمور ثابتة من الأدلة الشرعية.

وما ذكرنا سابقا من عدم الاحتياج في إثبات حرمة النقض الى غير أدلة

٦٣

القضاء فإنما هو في الأدلة الشرعية ، فإن لفظ « القضاء » يستفاد منه حرمة النقض أيضا على ما مر إليه الإشارة ، ومن الواضح أن حكم العقل أمر لبي معرى عن جميع المفاهيم التي تستفاد من الأدلة اللفظية.

ثمَّ ان المحقق القمي قد سمعت أنه تعرض لبعض هذه الفروع في جواب سؤاله ، وعلى صاحب المجال المراجعة إليه لا بد. والله العالم بحقائق الأمور.

التقاط

[ عدم جواز الترافع الى حكام الجور ]

لا يجوز الترافع والتحاكم الى حكام الجور في حال الاختيار ، أي مع إمكان الرجوع الى حكامنا بالأدلة الأربعة :

( فمن الكتاب ) قوله تعالى « أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ » (١).

ورد على ما قيل في حق بعض المنافقين الذي وقع بينه وبين بعض اليهود منازعة حيث رضي اليهودي بحكم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وامتنع عن ذلك ورضي بحكم بعض اليهود.

ودلالته على حرمة المرافعة إلى الطاغوت المراد به حكام الجور واضحة من احدى الجهتين :

( إحداهما ) أن يقال : ان التعجب المدلول عليه بقوله « أَلَمْ تَرَ » متوجه ومتعلق بالجمع بين زعم الايمان وارادة التحاكم الى الطاغوت ، فيدل على أن زعم الايمان لا يجامع تلك الإرادة فضلا عن المزعوم به ـ أعني الايمان ـ والمراد ـ أعني التحاكم ـ فيكون الكلام في أعلى درجة البلاغة والمبالغة في

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

٦٤

بيان حرمة الترافع إليهم.

( وثانيتهما ) كما هو ظاهر ما يقتضيه قاعدة اللفظ أن يقال : ان محل التعجب ليس هذا الجمع بين الأمرين بل هو ارادة التحاكم الى الطاغوت مع كونهم مأمورين بكفرانه ، فيكون حينئذ أيضا دليلا صريحا على حرمته كما لا يخفى.

لكن الأول أبلغ وآكد في المطلوب كما قلنا ، لكن يكون العدول من الايمان الى الزعم حينئذ حيث لم يقل « الى الذين آمنوا » بل قال « يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا » لنكتتين : إحداهما التنبيه على نفاقهم وأنهم يزعمون أنهم مؤمنون وليسوا منهم واقعا ، والثانية التنبيه على أن ارادة التحاكم الى الطاغوت ناش من نفاقهم أعني الايمان الزعمي ، بناء على اشعار التعليق على الوصف بعليته.

( ومن السنة ) مقبولة عمر بن حنظلة وفيها : من تحاكم الى الطاغوت فحكم له فإنما يأخذه سحتا وان كان حقه ثابتا لأنه أخذ بحكم الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به (١).

وكلمة « سحتا » حال مفسرة للموصوف.

وقد استشكل صاحب الكفاية في كونه سحتا مع كونه حقا فيما إذا كان المتنازع فيه عينا. وفيه ان ظاهر لفظ « السحت » الدين ، لأنه عبارة عن مال الغير ، فلا ينطبق على ما إذا كان المأخوذ بحكم الطاغوت عينا إذا كان حقا ، بأن يكون المأخوذ ماله في الواقع.

ولعله توهم أن السحت مطلق المال الحرام ولو كان مال نفسه إذا حرم لعارض. وهو فاسد. بل السحت لغة معناه مال الغير المحرم. فلا دلالة في الحديث حينئذ على حرمة المأخوذ إذا كان عينا.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب صفات القاضي ح ٤.

٦٥

ولا إشكال ، لأن الدين لا يتشخص بدفع المدعى عليه كرها ناشئا من حكم الحاكم ، فيكون سحتا لكونه باقيا في ملك الدافع ، الا أن يتوصل الى حله بنحو آخر خارج عن مفروض الحديث كالمقاصة ونحوها ، وهو خارج عن مدلول الرواية ، ضرورة عدم سوق الحديث لا ثبات حرمة المأخوذ بحيث لا يقبل سببا محللا.

والحاصل ان مقتضى الإجبار الجوري على الدفع أنه لا يتشخص ما في ذمة الدافع في المدفوع ، ومعه لا شبهة في كونه سحتا حراما. وإمكان عروض سبب الحل بعد ذلك لمقاصة ونحوها لا ينافي الحكم بحرمته وبكونه سحتا قبل طرو السبب ـ فافهم.

هذا إذا كانت المقاصة جائزة مع وجود الحاكم وإمكان التوصل إلى الحق بحكمه ، والا فلا إشكال في الحديث أصلا ، لأن مفروض الحديث صورة إمكان الرجوع والترافع الى حكام العدل ، فيكون المأخوذ سحتا غير جار فيه التقاص أيضا.

هذا حكم حال الاختيار ، وأما حال الاضطرار ـ بمعنى عدم إمكان التوصل إلى الحق الا بالتحاكم الى حكام الجور ـ فالظاهر الجواز. وما يقال من أنه اعانة على الإثم فيحرم ، مدفوع :

أولا ـ بالمنع لاختلاف الحيثيتين ، فان التحاكم حينئذ توصل إلى الحق ، فمن هذه الحيثية لا يندرج تحت الإعانة ، فإن بعض الافعال يتنوع بحسب القصد كما لا يخفى. مع أنه لا اعانة فيه للحاكم المرجوع إليه أصلا.

وثانيا ـ ان أدلة نفي الضرر حاكم على ما دل على حرمة الإعانة ، نظير حكومتها على سائر التكاليف الشرعية. والله العالم.

٦٦

التقاط

[ لم يجبر واجد شرائط القضاء على القضاء مع وجود مثله ]

قال في الشرائع : لو وجد من هو بالشرائط فامتنع لم يجبر مع وجود مثله ، ولو ألزمه الإمام قال في الخلاف لم يكن له الامتناع ، لان ما يلزم به الامام واجب ، ونحن نمنع الإلزام ، إذ الإمام لم يلزم بما ليس لازما ـ انتهى كلامه رفع مقامه.

وما ذكره من عدم الجبر مشكل مع كون القضاء كفائيا ، لان الكفائية عند الأكثر تتضمن التعيين الحتمي وان كان فعل البعض مسقطا ، ومع فرض الوجوب التعييني اتجه الإجبار. الا أن يقال : انه بالامتناع يخرج عن القابلية لكونه فسقا.

وهو جيد ، لكن يلزمه عدم الإجبار في صورة الانحصار أيضا ، مع أنه صرح فيها بالإجبار ووجوب الإجابة.

ويمكن أن يقال : ان القضاء انما يكون كفائيا بعد اذن الامام ، وكلامهم في بيان الحال قبل حصول الاذن ، فهو قبل تحقق الاذن ليس بواجب على أحد ، حتى يكون كفائيا أو غيره.

ويدفعه : أولا ان لازم ذلك عدم الإجبار في صورة الانحصار أيضا. وثانيا ان القضاء واجب كفائي ، واذن الامام شرط الصحة نظير اذن الولي في صلاة الميت ـ فتأمل.

ثمَّ ان ما ذكره المحقق في رد الشيخ لا يخلو عن غموض واشكال ، وتوضيح المقام ان أمر الامام وإلزامه على أنحاء : منها ما يتعلق بالواجبات العينية ، ومنها ما يتعلق بالسياسات ، ومنها ما يتعلق بالأمور العادية الراجعة إلى حوائج الإمام عليه‌السلام كشراء اللحم وتزويج المرأة وما شابههما.

٦٧

لا إشكال في وجوب طاعة الإمام عليه‌السلام في الأول ، لأن أمره حينئذ أمر الله تعالى ، بلا تحقيق أن تسمية ذلك الطاعة للإمام مسامحة ، لأن الأمر بالواجبات المجهولة لا جهة له الا الكشف عن أمر الله تعالى وبالواجبات المعلومة لا جهة له سوى الأمر بالمعروف المساوي فيه كل الناس.

وكذا لا إشكال في وجوب إطاعته في القسم الثاني الراجع الى السياسات المدنية ، لأن التدبير المدني في الرعية أمر مأمور به من قبل الله تعالى ، فهو راجع الى القسم الأول حقيقة.

وأما الثالث الذي هو مصداق اطاعة الامام عليه‌السلام ليس الا ، فوجوبها أيضا ثابتة بالأدلة الأربعة ، قال الله تعالى « أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ » (١) دل على استقلال الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في الإطاعة ، وهو لا يكون إلا في الأوامر الراجع مصالحها اليه « ص ».

إذا تحقق ذلك فالأمر بالواجبات الكفائية إذا فرض كونه على وجه الحتم والإلزام لا بد أن يرجع الى أحد القسمين الأخيرين ، فاما أن يكون تعيين الملزم عليه له خصوصية راجعة إلى السياسات أو إلى الامام عليه‌السلام. وعلى التقديرين اتجه ما في الخلاف ولا يظهر وجه لما ذكره المحقق.

ولعل مراد المحقق أن الأمر بالواجبات الكفائية من حيث أنه واجب كفائي لا يجب إجابته ، لأن هذه الحيثية غير ملزمة ، والأمر بها لا يزيد عن هذه الحيثية ، فلو وجدنا إلزامه « ع » لواجب كفائي حملناه على الإلزام من الحيثية المشار إليها ، فلا يجب الإجابة لا أنه إذا علمنا الإلزام زائدا على ما يقتضيه الكفائية لم يجب الإجابة أيضا ، وهو واضح. والله أعلم.

__________________

(١) سورة النساء : ٥٩.

٦٨

التقاط

[ حكم ما يعود إلى القاضي من الأموال ]

فوائد القضاوة وما يصل الى القضاوة من جهة القضاوة على أقسام بين حلال وحرام :

( منها ) ارتزاق القاضي من بيت المال ، وهو البيت المجتمع فيه مال المسلمين ، أعني ما أعد لمصالحهم ، كسهم سبيل الله من الزكاة والأجور المحصلة من الأراضي الخراجية والأوقاف العامة لكل المسلمين ، فان هذه الأموال فالمسلمون فيها شرع سواء. وليس المراد به مطلق الزكاة أو ما يرجع الى الفقراء ، فيجوز لوالي البلد أن يرزق القاضي من بيت المال إذا امتنع من مباشرة القضاوة إلا به.

أما على القول بجواز أخذ الأجرة في الواجبات الكفائية فواضح ، فيدل على جواز الارتزاق حينئذ فحوى ما دل على جواز أخذ الأجرة ، لأن الارتزاق ليس بأجرة حقيقة وان كان يرجع إليها بحسب المعنى.

وأما على القول بعدم جواز أخذ الأجرة فلان الارتزاق لا يصدق عليه الأجرة حقيقة كما عرفت فلا مانع منه. نعم مع وجود المتبرع بالقضاوة ففي جواز الرزق للوالي وجهان : من كون نصب القاضي من المصالح العامة ، ومن أن مصلحة المسلمين مع وجود المتبرع نصبه لا نصب المرتزق ، الا أن يكون في نصبه مزية راجعة إلى المسلمين.

ولا فرق فيما ذكرنا بين صورة الانحصار وعدمه ولا بين احتياج المنصوب وعدمه ، لكن في الشرائع الفرق بين الصور ، فاشترط في جواز الارتزاق أحد الأمرين اما الحاجة أو عدم الانحصار ، فلو لم ينحصر جاز مطلقا ومع كون الأفضل عدم الارتزاق عند عدم الحاجة ، وان كان محتاجا جاز مطلقا أيضا.

ولعل الوجه في ذلك صدق الرشوة المنهي عنها للقاضي عليه. ولا بعد فيه ،

٦٩

الا أن قضية ذلك عدم الفرق أيضا بين الصور ، كما أن قضية ما ذكرنا أيضا عدم الفرق.

فظهر أن الحق الارتزاق مطلقا ، للإجماع ظاهرا على جوازه في الجملة ، فلو كان رشوة حرم جدا ، كما أنه لو كان أجرة كان حاله حال أخذ الأجرة في سائر الواجبات الكفائية ، مع أن جواز الارتزاق في الجملة لا اشكال فيه ولا خلاف ، وهذا يدل على مغايرة حقيقته لحقيقتهما.

( ومنها ) أخذ الأجرة.

وجوازه مبني على أخذها في الواجبات الكفائية ، وقد بسط الأستاد دامت إفاداته المقال في هذا المجال في المتاجر مع زيادة توضيح وتحقيق.

وجملة القول فيه : ان مقتضى القاعدة أن ما دل على صحة الإجارة وما في حكمها لا مانع من العمل به في الواجبات حتى العينية فضلا عن الكفائية من حيث أنها واجبات ، بل المانع من العمل به أحد أمور إذا وجد أحدها حرمت الأجرة مطلقا واجبا كان المتعلق أو غيره :

أحدها ـ أن يكون المتعلق مما لا ينتفع به المستأجر ، فالأدلة الدالة على الإجارة غير شاملة لمثل ذلك ، بل الدليل على فسادها حينئذ موجود ، لكونه أكلا للمال بالباطل ، لان العمل إذا لم يكن يصل نفعه إلى المستأجر لم يصلح للعوضية ، فيكون شبيه البيع بلا ثمن.

ويتفرع على هذا الشرط فساد استيجار الشخص لما يجب عليه من العمل كصلاة الظهر مثلا ، فإن عبادة كل شخص لا تنفع إلا بحاله ، وفرض بعض الفوائد على مثله ـ كتحصيل الثواب بتعويد الشخص على العبادة وما أشبهها ـ فوائد راجعة إلى الاستيجار والتعويد وليست راجعة إلى نفس العمل كما لا يخفى. مع أن فرض بعض الفوائد إذا لم يكن معهودا في نوع العمل المستأجر عليه لا عبرة

٧٠

به في أحكام العقود المعاوضية كما لا يخفى.

وقد يتوهم أن الواجب من حيث كونه واجبا ينافي أخذ الأجرة بإزائه ، وهو ممنوع الا أن يرجع الى الشرط الثالث.

وثانيها ـ أن لا يكون الأثر المتعلق مشروطا بأمر ينافيه إيقاعه للغير.

[ الكلام في الاستيجار على بعض العبادات ]

ويتفرع على ذلك عدم صحة الاستيجار على بعض العبادات الغير واجبة ، كالصلاة المعادة وكغسل الجمعة ، فإن أثر العبادة مشروط بقصد القربة ، وينافيها إيقاع العبادة وفاء للمستأجر.

وقد يتوهم أن الأمر بوفاء العقد يؤكد جهة التقرب فضلا عن أن يكون مانعا.

وهو سهو ، لأن الأمر بالوفاء انما يعقل امتثاله وترتب الثواب عليه بعد إمكان تسليم العمل الذي هو محقق عنوان الوفاء. والعمل الذي وقع عليه الإجارة انما هو التعبد بالصلاة لا نفسها ، والتعبد بها ـ مع كون الداعي والمحرك إليها هو تملك الأجرة ـ غير معقول.

فان قلت : يمكن أن يأتي بالصلاة لغير هذا الداعي ، بل لداعي الأمر بالوفاء بمقتضى الإجارة ، فإن هذا أمر ممكن ، فاذا تمكن من ذلك صحت الإجارة ووجب الإتيان لأجل هذا الداعي المحصل للتقرب مقدمة للوفاء المأمور به ، إذ الصلاة حينئذ عبادة لكونها مصداقا للوفاء المأمور به ، ولا يشترط في كون الشي‌ء عبادة إمكان التقرب بها من جميع الجهات والعناوين.

قلت : هذه التقرب انما حصل بقصد امتثال الأمر بالوفاء ومقدمة الوفاء التي يحتاج إليها هو التقرب الذي يتعلق به الأمر بالوفاء ، أعني التعبد بالصلاة والتقرب بها مع قطع النظر عن هذا الأمر ، إذ المفروض اعتبار التقرب فيما يتحقق به

٧١

الوفاء ، أعني ما يوفى به.

ومن الواضح عدم صلاحية التقرب الحاصل من امتثال الأمر أن يكون مجزيا عن التقرب المعتبر في المأمور به. نعم لو أمكن التقرب بالصلاة مثلا مع قطع النظر عن كونه وفاء مأمورا به أمكن حصول تقرب آخر فيه بملاحظة كون هذا المتقرب به امتثالا لأمر آخر وهو الأمر بالوفاء ـ فافهم.

فان قلت : يمكن التقرب بالصلاة باعتبار كونها راجحة في نفسها مع قطع النظر عن كونها متعلقا للإجارة ، فيصح الاستيجار لها حينئذ ويجب على المؤجر إتيانها بداعي رجحانها الذاتي.

قلت : رجحانها الذاتي إنما يعقل ان يكون منشأ للتقرب إذا كان هو الداعي ، وكون داعيا انما يعقل إذا كان لغير الإجارة ، والا فيؤول الأمر إلى كون الأجرة داعيا إلى الداعي الذي هو الرجحان ، وهو ينافي التقرب ، كما إذا كان الداعي هو نفس الأجرة ابتداء. فلا فرق بين أن يكون الداعي إلى الصلاة مثلا ابتداء غير رجحانها الذاتي أو يكون الداعي إليها منتهيا الى الغير.

فان قلت : قد ورد بعض العبادات لبعض الغايات كسعة الرزق وحصول الولد ، وهذا يبطل ما قلت ، فلا ينافي القربة المعتبرة في الصلاة كون الداعي إلى التقرب بها التوصل الى بعض المنافع المباحة.

قلت : فرق واضح بين كون المنفعة المباحة الداعية إلى التقرب ـ أعني فعل الصلاة مثلا ـ الله من الخالق وبين كونها من المخلوق ، فإن الثاني ينافي القربة دون الأول ـ فافهم.

هذا ، وربما يتوهم أن ما ذكرناه من منافاة قصد القربة للاستيجار فيما يعتبر فيه التقرب يستلزم القول بعدم صحة استيجار الولي للقضاء عن الميت وان صح التبرع بالقضاء عنه ، وكذا الاستيجار بسائر العبادات المشروع فيها التبرع بها عن الغير

٧٢

كتلاوة القرآن وزيارة الأئمة وصلاة الهدية وأمثالها ، نظرا الى عدم منافاة التبرع لقصد القربة فيها ، بخلاف قصد أخذ الأجرة.

وعلى ذلك يبنى قول جماعة بالمنع عن الاستيجار للصوم والصلاة عن الميت مع القول بصحة التبرع بهما عنه. وهو خطأ لأن الإجارة فيما ذكر انما يقع على النيابة لا على متعلقها ـ أعني نفس العبادة. والنيابة نفسها ليست من العبادات المتوقف صحتها على قصد القربة حتى ينافيه الاستيجار ، بل هي من المعاملات التي يؤثر أثرها بلا قربة ، سواء كان متعلقها من المعاملات أيضا أم من العبادات ، فالاجير النائب ينزل نفسه بمنزلة المستنيب ، تنزيلا جعليا وفاء لعقد الإجارة ، وبعد هذا التنزيل يكون بمنزلة المستنيب ، فيتوجه إليه الأمر المتوجه الى المستنيب ، فيكون فعله وتقربه تقربه. وهذا ـ أعني صيرورة فعله فعله ـ هو المراد بأثر النيابة.

[ حقيقة النيابة وآثارها ]

وتوضيح المقام يستدعي كشف القناع عن حقيقة النيابة وذكر بعض ما يترتب عليها من الاثار ، فنقول :

ان النيابة عبارة عن تنزيل الشخص نفسه بمنزلة شخص آخر فيما يكون له أولا وبالذات من الافعال ، ثمَّ إتيان المنوب فيه بقصد النيابة. وهو أمر من الأمور الواقعية الخارجية المتعارفة بين الناس ، ولا يقدح في كونها من الأمور الواقعية كونها أمرا اعتباريا كسائر الأمور الاعتبارية المتعارفة بين الناس ، مثل الذمة وتملك المعدوم ونحو هما من الأمور الاعتبارية ، بل التحقيق أن أكثر ما يجري بين الناس من المعاملات التي أمضاها الشارع لا حقيقة لها سوى الاعتبار ، كالوكالة والضمانة والكفالة والوصاية وأمثالها من المعاملات.

والفرق بينها وبين الوكالة أن الوكالة صفة قائمة بالوكيل حاصلة من التوكيل ،

٧٣

بخلاف النيابة فإنها عبارة عن فعل النائب وتنزيله نفسه منزلة المنوب عنه من غير حاجة الى الاستنابة. نعم ربما بتوقف ترتب أثرها التي يأتي ذكره عليها على الاستنابة بحيث لا يترتب شي‌ء على التبرع بها ، كما في النيابات المتعارفة في الأمور العادية ، فان النيابة في تلك الأمور لا تجدي شيئا إلا بعد تحقق الاستنابة ، فمن قبّل يد زيد نيابة عن عمرو مثلا فتقبيله لا يكون بمنزلة تقبيل عمرو الا بعد استنابة عمرو له في التقبيل. وكذلك في أكثر الشرعيات ، فان النيابة فيها أيضا غير مؤثرة إلا بعد الاستنابة.

نعم في بعض العبادات حصل من الشارع إمضاء الشارع النيابة التبرعية كالزيارة مثلا ، لكنه يقتصر فيه على مورد الإمضاء ، كما أنه يقتصر في تأثير النيابة مطلقا حتى مع الاستنابة على الإمضاء الشرعي والرخصة الشرعية ، فالوكالة نظير الوصاية صفة من الصفات.

والنيابة فعل نفساني يعرض الفعل الخارجي ، فيكون عنوانا له ، كالتواضع والإكرام العارضين للقيام ، كما أن الضمانة فعل يفعل بالجوارح.

والغرض ان النيابة حيثما تصح تجري مجرى البيع والصلح ونحوهما من المعاملات في كونها فعلا اختياريا سببا لبعض الاحكام على حد سببية المبيع مثلا للملكية ، وأما أثر النيابة وفائدة ذلك التنزيل التي تجري مجرى فائدة البيع ـ أعني الملك ـ فهو صيرورة النائب بمنزلة المنوب عنه وصيرورة فعله بمنزلة فعله ، كما أن فائدة الضمانة صيرورة الضامن كالمضمون عنه وصيرورة ما في ذمته من الدين في ذمة الضامن.

ويتفرع على ذلك أنه إذا كان المنوب فيه من العبادات توجه التكليف المتوجه الى المنوب عنه وجوبا أو ندبا إلى النائب كذلك بعد فرض صحة النيابة ، لأن النائب إذا صار بحكم العرف بعد إمضاء الشارع بمنزلة المنوب

٧٤

عنه فلا معنى للمنزلة حينئذ إلا ثبوت ما كان ثابتا في حق المنوب عنه من الأحكام الشرعية ولوازمها في حق النائب.

هذا ما يساعده بعض الانظار القاصرة التي منها نظري الفاتر.

وأما الذي تلقيناه من الأستاذ فهو أن النيابة عنوان يلحق للفعل المنوب فيه وبه يصير متعلقا للإجارة وهو كون الصلاة مثلا عن فلان ، فالصلاة من حيث ذاتها عبادة ومن حيث وصفها ـ أعني تقيدها بكونها عن الغير ـ معاملة محضة ، نظير الصلاة والصلاة في البيت ، فكما أن اعتبار القربة في الصلاة لا ينافي عدمها في وقوعها في البيت حتى أنه يجوز أخذ الأجرة على إيقاع الصلاة في البيت مثلا ، كذلك لا ينافي القربة في فعلها ذاتا عدم القربة في فعلها نيابة.

وقد انكشف مما حققنا أمور لا بأس بالإشارة إليها قبل التكلم في أصل المسألة استكثارا لتوضيح الحال :

( أحدها ) عدم الفرق بين النيابة في المعاملات كالتزويج والبيع والصلح وبينها في العبادات في كون كل منهما من قبيل المعاملات الغير المشروطة في تأثيراتها بقصد القربة ، وان الفرق انما هو بين الفعل المنوب فيه ، فكما أن النيابة في الفعل تؤثر أثرها المشار إليها ـ أعني صيرورة بيع النائب بمنزلة بيع المنوب عنه ـ من غير اشتراطها بقصد القربة كنفس المنوب فيه ـ أعني البيع ـ كذلك النيابة في الزيارة أو الصلاة مثلا تؤثر الأثر المذكور وتجعل زيارة النائب بمنزلة زيارة المنوب عنه من غير اشتراط نفسها بالقربة ، على خلاف المنوب فيه الذي هو الزيارة مثلا.

نعم يحتاج في صحة النيابة في الأول إلى استنابته من المنوب عنه سابقا أو لا حقا ، بخلاف صحتها في الثاني فإنها غير محتاجة إلى شي‌ء منها ، لا لإمضاء الشارع وحكمه بصحة التبرع بها في العبادات المعهودة كما أشرنا إليها آنفا.

٧٥

( وثانيها ) عدم توقف تأثير النيابة في الحكم الوضعي المشار اليه على استحبابها ، بل يؤثر ولو لم يكن مستحبا ، بل ولو كانت بلا حكم أصلا حتى الإباحة ، كما لو فرض غفلة النائب عن حكم النيابة التكليفي ، فإنها حينئذ لا حكم لها جدا ويقتضي ثبوت الحكم الوضعي قطعا ، نظير سائر المعاملات. فعلى القول بعدم اقتضاء النهي فيها للفساد يكون صحتها غير منافية لحرمتها أيضا.

وبالجملة أفرض النيابة كالبيع وقل فيها ما تقول فيه. ومنه يظهر أنه يجوز أن يكون حكم النيابة وحكم المنوب عنه فيه متخالفين ، فيجوز أن يكون المنوب فيه مستحبا أو واجبا على المنوب عنه عباديا أو غيره والنيابة جائزة أو مكروهة أو حراما ، لان متعلق النهي انما هي النيابة ، فلو عصى النائب وناب النيابة المنهي عنها كان كمن غصب المبيع وباع بالبيع المنهي عنه. فعلى القول بعدم فساد البيع حينئذ وحصول الملك به تكون النيابة المحرمة أيضا صحيحة ويترتب عليها ما يترتب على النيابة المباحة أو المستحبة.

ولكن هذا مجرد فرض لا واقعية له في الشرعيات ، لان النيابات المشروعة كلها مباحة أو مستحبة وليست منهيا عنها ، لان مشروعيتها ثبتت بدليل خاص لا بدليل عام ، كالأمر بوفاء العقد حتى يتعلق النهي ببعض أقسامها مع الحكم بصحتها نظرا الى ذلك الدليل العام ، وان تحريم السبب من حيث هو لا ينافي ترتب المسبب ـ فافهم.

لكن جواز كون النيابة حراما مع كون المنوب فيه عبادة مبني على التصوير الأول في معنى النيابة من كونها عبارة عن التنزيل النفساني ، فعلى التصوير الأخير لا بد أن لا يكون حراما. نظير الفرق بين الإباحة والحرمة في مسألة اجتماع الأمر والنهي ، فافهم كما أن أكثر ما نبهنا عليه من الأمور مبني أيضا على ذلك التصوير ـ فافهم.

٧٦

( وثالثها ) ان النائب في العبادات ينوي النيابة أولا ، وهو التنزيل الاقتراحي المتعارف الذي أمضاه الشارع من دون اشتراطه بقصد التقرب ، ثمَّ يأتي بالفعل العبادي متقربا الى الله ، بأن يقصد امتثال أمر المنوب عنه. فالنائب في الزيارة مثلا يتقرب بالزيارة الى الله تعالى نيابة عن المنوب عنه لا بالنيابة به ، ومعناه عند التحليل أن هناك فعلين متغايرين :

أحدهما ـ فعل قلبي معاملي مستتبع لأثر وضعي ، وذلك الفعل هو النيابة والأثر هو صيرورة النائب بمنزلة المنوب عنه. وهذا الفعل غير مشروط بقصد القربة ، بل عرفت أنه يمكن أن تكون محرمة فضلا عن أن تكون مستحبة أو مباحة.

والأخر ـ فعل ظاهري صادر من الجوارح ، عبادي مشروط صحته وترتب الأثر المقصود عليه بقصد القربة ، والتقرب بأحد الفعلين غير متوقف على التقرب بالآخر ، فيمكن أن يتقرب بالنيابة دون الفعل المنوب فيه ، كما إذا كان الفعل من المعاملات كالبيع مثلا وعرض للنيابة رجحان عرضي مثل عنوان الإجابة ونحوه ، فالنائب له أن يتقرب حينئذ بما يفعله نيابة ، لكن التقرب حينئذ انما هو بفعله القلبي أعني النيابة دون الفعل الظاهري أعني الإيجاب والقبول. ويمكن العكس أيضا ، بأن يكون المنوب فيه من العبادات الراجحة ، فان التقرب حينئذ يحصل بالفعل العبادي خاصة مع قطع النظر عن النيابة.

وأما النيابة فيمكن فرض التقرب بها أيضا إذا كان الداعي إليها رجحانها الشرعي على ما ينطق باستحبابها في بعض العبادات كالزيارة وتلاوة القرآن جملة من الاخبار. ويمكن وقوعها بلا قربة اما لغفلة النائب عن رجحانها الشرعي أو للجهل به ، كما في أكثر نيابات العوام عن إخوانهم المؤمنين في الزيارات وغيرها من العبادات ، فإنها في هذه الصورة لا يعقل التقرب بها ، بل التقرب حينئذ مختص

٧٧

بذلك الفعل العبادي المنوب فيه أو لعدم قصد القربة مع الالتفات الى حكمها التكليفي باعتبار كون الداعي إليها أمرا خارجا عن الرجحان الشرعي كأخذ الأجرة أو ملاحظة الصداقة أو نحو ذلك.

والحاصل ان وقوع القربة لا ينافي وقوع الفعل المنوب فيه متقربا به ، فينوي النائب في الصلاة مثلا أنه يصلي متقربا الى الله تعالى نيابة عن زيد مثلا.

لا يقال : ليس القربة إلا كون الداعي إلى الصلاة أمر الله تعالى ، وكون الداعي أمر الله كيف يجامع كون النيابة في فعل الصلاة لأخذ الأجرة أو ملاحظة الصداقة مثلا.

لأنا نقول : ان توهم المنافاة بينهما نشأ من الغفلة عما بينا من معنى النيابة ، لأنك إذا فرضت النيابة فعلا والمنوب فيه فعلا آخر اندفع التوهم جدا ، لان اختلاف الدواعي إنما يمتنع مع اتحاد الفعل لا مع تعدده. وكون الفعل الخارجي لا تعدد فيه ، قد عرفت أنه غير قادح ، لأن أحد الفعلين ـ وهو النيابة ـ فعل قلبي يعبر عنه بالتنزيل في النفس وليس بفعل خارجي ، وانما الخارجي المنوب فيه.

وبالجملة إذا حصلت النيابة صار النائب بمنزلة المنوب عنه ، فيتوجه إليه الأمر الذي كان متوجها الى المنوب عنه ، فان كان المنوب فيه من تكليفات المنوب عنه خاصة كالصلاة عن الميت فتوجه الأمر إلى النائب حينئذ واضح ، وأما إذا كان مشتركا بينه وبين النائب في المطلوبية ـ كالزيارة وتلاوة القرآن حيث أن النائب مأمور بالأمر الندبي بهما نحو مأمورية المندوب عنه ـ فاذا قصد النيابة توجه إليه أمر المنوب عنه أيضا.

فخاصية النيابة في العبادات إثبات أمر المنوب عنه في حق النائب ، وبعد ذلك يتقرب بذلك الأمر كأنه يتقرب به المنوب عنه ، ففعله فعله وتقربه تقربه ،

٧٨

كما أن أمره أمره ، وقضية ذلك أنه لا يصل اليه من ثواب العمل شي‌ء بل الى المنوب عنه خاصة. نعم إذا نوى القربة في أصل النيابة كان له ثواب امتثال الأمر الندبي المتعلق بالنيابة.

( ورابعها ) ان النيابة كسائر المعاملات أمر توقيفي لا بد من ثبوت شرعيتها شرعا ولو امضاء كما أشرنا اليه ، ولذا لا تصح النيابة في بعض العبادات كالطهارة والأغسال المندوبة لعدم ثبوتها فيها ، بخلاف البعض الأخر كالزيارة والصلاة والتلاوة وطريق الإمضاء بنحو القول بأن من ناب في عمل كذا عن آخر وصل اليه ثوابه ، وهو واضح.

ومن طريق الإمضاء الأمر بها والتصريح باستحبابها ، لان استحباب النيابة ليس الا لكونها صلة وإحسانا ، وكونها كذلك يتوقف على صحتها والألم تكن كذلك. وإذا دل دليل على استحبابها في شي‌ء دل دلالة عقلية التزامية على صحتها وترتب الأثر عليها ، وهو وصول ثواب العمل ان كان عبادة أو فائدته ان كان غيرها الى المنوب عنه ، بخلاف استحباب سائر المعاملات ، كاستحباب البيع مثلا ، فإنه لا يدل عقلا على صحته الا من جهة أخرى خارجة عما ذكرنا ، وهي دعوى أن الشارع لا يحكم بصحة معاملة فاسدة ـ فافهم.

( وخامسها ) ان التبرع شرط في استحباب النيابة للعبادات التي ثبت شرعيتها فيها ، لقصور الأدلة عن الدلالة على استحبابها مطلقا ولو مع أخذ الأجرة ، لو لم تكن صريحة أو ظاهرة على اشتراط التبرع وليس شرطا لصحة النيابة بل لا يعقل أن يكون شرطا لها ، لأن النيابة قبل اتصافها بالصحة لا تتصف بالتبرع ولا يصدق عليها جدا ، لأن النيابة المجردة عن ملاحظة صحتها وترتب أثرها ـ أعني إيصال النفع والثواب الى المنوب عنه ـ ليس عطاء لشي‌ء على الغير بل هو لغو صرف.

٧٩

والتبرع مأخوذ في حقيقة العطاء المجاني ، ويشبه الهبة المجانية والهدية ومعناه الفارسية پيش كش ، وإذا كان كذلك امتنع ثبوت الصحة للنيابة التبرعية بل لا بد من ثبوتها للنيابة من حيث هي.

وهذا أصل مطرد ، وهو أن القيد إذا كان متأخرا في الرتبة عن المحمول امتنع اعتباره في الموضوع ثمَّ إثبات المحمول على مجموع القيد والمقيد.

( وسادسها ) ان العبادة إذا شرع فيها النيابة جاز الاستيجار عليها وإذا لم يثبت لم يجز ، لان الاستيجار في الأول استئجار على غير العبادة حقيقة وفي الثاني عليها نفسها ، فيمتنع كما أوضحناه كمال الإيضاح.

[ جواز النيابة عن الأموات ]

إذا عرفت هذه الأمور اتضح لك مسألة جواز الاستيجار للصلاة ، وتحرير المسألة : أن جماعة منعوا الاستيجار على العبادات للغير وجوزوا التبرع بها عنه في المواضع المعهودة التي ثبت شرعية النيابة فيها ، كالصلاة عن الميت والزيارة ونحوهما ، استدلالا بأن الاستيجار ينافي قصد القربة المعتبرة في العبادات ، وبأن أدلة النيابة انما اقتضت شرعيتها في حق الولي أو المتبرع ، فالاستئجار عليها استيجار على ما لم يبلغ صحته.

وكلا هما قد ظهر فسادهما بما لا مزيد عليه :

فان الأول مردود بما مر من أن الأجرة انما هي في مقابل النيابة لا في مقابل العبادة حتى ينافي قصد القربة ، وقد عرفت أن عدم قصد التقرب في النيابة لا ينافي قصده في المنوب عنه وبالعكس ، والإلزام فساد النيابات الشرعية أيضا إذا كان المتبرع غافلا عن رجحان النيابة ناويا لغرض آخر كمحافظة الصداقة غير الرجحان.

وكذا الثاني مردود بما أشرنا إليه في الأمر الخامس من أن اشتراط صحة

٨٠