كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

القائم العالم » الحديث ، مختص بالمخالفين.

وأما الاستدلال بها على اشتراط الاجتهاد أو أن الحاكم هو المجتهد ، فلم نجد من معتمد ، لأن العمدة في هذا الباب هو مقبولة ابن حنظلة (١) مع أن بين المجتهد والمقلد فرقا واضحا ، لان المجتهد باعتبار اتصافه بالعلم ببعض الاحكام وقوة النظر والاجتهاد في الباقي يصدق عليه عرفا العالم دون المقلد. فلو أبقى الحديث على ظاهره العرفي من دون ارتكاب ذلك التجوز الركيك ثمَّ الاستدلال به على نفوذ قضاء المجتهد أيضا ـ وان كان لا بد من الاستدلال بالمشهور وما يقاربها من الروايات ـ فليستدل بأحسن الطرق ، وهو حمل القضايا على الأحكام الفعلية الأعم من الأحكام الواقعية والظاهرية ، فإن العمل بالأحكام الفعلية يعم المجتهد والمقلد على حد سواء كما لا يخفى.

لكن نجيب حينئذ : ان هذا الحمل خلاف ظاهر الحديث ، إذ لو كان المراد ما ذكر ينبغي أن يقال شيئا من قضاياهم لا شيئا من قضايانا ، فإضافة القضايا إليهم عليهم‌السلام ظاهرة أو صريحة في الأحكام الواقعية المختصة ـ فافهم.

وثالثا ـ بعد الإغماض عن جميع ذلك انها مخصصة بمقبولة عمر بن حنظلة الواردة في مقام تحديد القاضي الحاكم وتشخيصه ، فإنها ظاهرة في المجتهد. قال الراوي بعد حكم الامام عليه‌السلام بعدم التحاكم الى المخالفين وأن التوصل كل إلى الحق الثابت بحكمهم توصل الى السحت : فكيف يصنعان ـ يعني الرجلين المتخاصمين المذكورين في صدر الرواية؟ قال عليه‌السلام : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا فارضوا به حكما فإني قد جعلته عليكم حاكما ـ الحديث (٢).

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب صفات القاضي ج ٤.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب صفات القاضي ج ٤.

٤١

دلت كل واحدة من الفقرات الثلاث بملاحظة ورودها في مقام التحديد المطرد والمنعكس ـ كما هو الشأن في قيود الحدود ـ على اختصاص الحكم بالمجتهد ، لظهورهما فيه. لأن رواية الحديث سواء حملت على الرواية المصطلحة في ذلك الزمان أو على المعنى اللغوي ـ أعني تحمل قول المعصوم عليه‌السلام بمعنى فهم معناه الذي هو حكم الله الواقعي ـ بعيد الانطباق على المقلد ، لأنه ليس من أهل الرواية بأحد المعنيين كما لا يخفى.

ودعوى أن المجتهد أيضا ليس من أهلها فيختص مضمون الرواية في زمن الأئمة عليهم‌السلام بالرواية. مدفوعة بأن المجتهد أخص من الراوي ، فكل مجتهد رأو لا محالة.

وأما اختصاص النظر في الحلال والحرام بالمجتهد ، فهو أوضح ، إذ ليس المقلد من أهل النظر كما لا يخفى.

ودعوى أن المراد بالنظر في الاحكام عدم التجافي عنها ـ كما هو شأن المخالفين المتجافين عن أئمتنا وأحكامهم ـ فيعم المقلد الشيعي أيضا. مكابرة واضحة ، لظهوره في الرواية والتفكر المختصين بالمجتهد.

وأما معرفة الاحكام فهو أيضا واضح ، خصوصا على الأخذ بظاهر الجمع وان كان ركيكا في الغاية بل مقطوع العدم لظهوره في الاستغراق العرفي الحاصل بالعلم بجملة من الاحكام. والحاصل ان ظهورها في المجتهد ومنكره مكابر.

ودعوى عدم دلالتها على الحصر لعدم حجية مفهوم الوصف ، قد ظهر ضعفها مما أشرنا من ورودها في مقام التحديد الآبي إلا عن الحصر. والعجب كيف يتجرأ في مخالفة رؤساء الفقه المصرحين بالاتفاق على المنع ، مع عدم مصرح منهم بالجواز بمثل هذه الروايات التي خرجت ووصلت من أيديهم إلينا مع عدم ظهورها في المدعى.

٤٢

ثمَّ ان أول من استدل بها على الجواز المحقق القمي في جواب سؤاله على الوجه الذي قررناه في تقريب الاستدلال ، وقد ذكره في طي الاستدلال كلمات لا تخلو عن النظر ، خصوصا ما ذكره في رد الإجماعات تارة بحملها على قضاؤه المقلد على وجه الإطلاق الراجع إلى رئاسة عامة ، وأخرى بأنها إجماعات منقولة لا تكافؤ ظاهر الروايات ، وهو أعلم بما قال. والله العالم.

( الدليل الثالث ) الأدلة الدالة على اعتبار البينة وعمومها للمجتهد والمقلد ، وهي نوعان : أحدهما ما يدل على كونها ميزانا من موازنين القضاء وفصل الخصومة ويشاركها في الحكم اليمين وسائر الموازين. والثاني ما يدل على وجوب العمل بها.

« أما الأول » ـ فكقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (١) ، وقوله عليه‌السلام « استخراج الحقوق بأربعة » الحديث.

فيرد على الاستدلال بها : أنها وردت في بيان ميزان القضاء واستخراج الحقوق ، وأما تعيين القاضي والمستخرج فموكول الى دليل خارج ، فمصبها مصب الإهمال لا مصب الإطلاق حتى ينتفع عند الشك في صفات القاضي ، ولذا لم يستدل أحد بها على نفي ما شك من صفات القاضي.

وغاية ما يتوهم في وجه الاستدلال بها أنها دلت على أن الحكم على طبق البينة في الموضوعات المشتبهة حكم الله الواقعي ، فيندرج تحت « ما أنزل الله » الذي دل ما تقدم من أدلة الحكم على وجوب الحكم به عموما ، فكما أن المجتهد له أن يحكم بين التخاصمين بمقتضى البينة أو اليمين فكذلك المقلد ، لكون الحكم حكما بما أنزل الله تعالى.

وفيه : ان المعلوم من أدلتها كون الحكم على طبق البينة في الجملة من

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٤٣

الأحكام الواقعية ، فلعل ذلك مخصوص بالمجتهد ، بمعنى كون حكم غيره بمقتضى البينة حكما بغير ما أنزل الله تعالى.

وبعبارة أخرى : علم من الأدلة أن فصل الخصومة بمقتضى البينة حكم من الأحكام الإلهية دون الجاهلية ، لكن على وجه الإهمال القابل للاختصاص بحكم بعض دون بعض ، على أن يكون حكم غير المجتهد بمقتضاها غير ما جاء به النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فلا بد من ذكر دليل عام يفيد أن فصل الخصومة بها مطلقا من أحكام الله ، وهو مفقود ومع وجوده يستغنى عن التمسك بأدلة الحكم.

وأيضا الحكم بمقتضى البينة حكم أنزله الله وليس حكما بما أنزل الله ، وتلك الأدلة انما تدل على وجوب الحكم بما أنزل الله لا على الحكم الذي أنزله الله ، وبينهما بون بعيد ـ فافهم.

« وأما الثاني » فقد ظهر جوابه مما مر من أن الأدلة الدالة على وجوب العمل بالبينة كأدلة سائر الظنون والطرق الشرعية لا تنهض في الحجية على من يعتقد بكذبها ، فلا بد في إجراء أدلتها فرض صورة علم المحكوم عليه بصدقها وصدق المدعي ، وحينئذ فيلزم بالموجب ونقول : انه يجب عليه العمل بمقتضاها ويجب على سائر الناس أيضا إلزامه عليه مع التمرد ، فيرجع الى الإلزام بما يقتضيه تكليف المحكوم عليه الذي قد عرفت أنه حينئذ لا يزيد عن الأمر بالمعروف في شي‌ء. والله العالم.

تنبيه

( مشتمل على أمور )

( الأول ) ان ما تلونا من المقبولة من الفقرات الثلاث ظاهرة أو صريحة ولو

٤٤

بملاحظة ما بعدها في أن العبرة في القضاء والحكومة بالحكم الواقعي هو علم القاضي وطريقه اليه ، وان كان مقتضى القاعدة ـ على ما أشرنا إليه ـ في المشهورة اناطة معرفة موضوع الحكم في الكلام بنظر المخاطب ، لأن الحوالة على أهل النظر وأهل المعرفة مع كون النظر والمعرفة من الأمور المختلف فيها باختلاف الناظرين ، بنفسه يشعر بأن المناط في تشخيص الحكم الذي لا بد أن يتراضى المتخاصمان به هو نظر الناظر.

وإذا لاحظنا مع ذلك أن نزاع المترافعين ولو بسبب الاختلاف في الحكم لا يعقل الشارع إبقاؤه البتة على حاله وإلا لكان تعريضا للنظام على الفساد ، بل لا بد من دفعه وفصله بوجود فاصل بلغ الاشعار حد الدلالة على أن ما يفصل به لا بد أن لا يكون هو الحكم الواقعي من دون تقييد له بطريق الفاصل والا لزم المحذور الذي أشرنا إليه سابقا ، وهو استحالة نفوذ الفصل والقضاء مع الاختلاف في الطريق ، لان المحكوم عليه له أن يرد القاضي الحاكم بأنك أمرت بالقضاء على حسب الواقع النفس الأمري وهذا الذي تلزمني عليه حكم الجاهلية دون الواقع ، بل هو الحكم الواقعي الذي يراه الفاضل؟؟؟ ، وإذا ضممنا الى ذلك قوله عليه‌السلام « فارضوا به حكما » وقوله عليه‌السلام « فإني قد جعلته قاضيا » تأكدت الدلالة ، لأن الحكم والقاضي إذا تعقلنا معنا هما المطابقي تعقلنا متبوعيتها في النظر وعدم جواز معارضة المحكوم عليه له بنظره أو تقليده ، وإذا أضفنا الى ذلك تفريع الامام عليه‌السلام على قضاوته قوله « فاذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه » تأكدت الدلالة كما لا يخفى.

وإذا لاحظنا مع ذلك كله قول الراوي فإن كان كل واحد اختار رجلا من أصحابنا فرضينا أن يكونا ناظرين في حقهما واختلفا فيما حكما الى آخر المرجحات

٤٥

صارت الرواية نصا في المطلوب ، وهو القضاء المصطلح ـ أعني الإلزام في غير ما يقتضيه تكليف المحكوم عليه ـ بأن يكون ما يفصل به هو الواقع المقيد بالطريق القاضي إليه ، إذ لو كان المفصول به هو الحكم الواقعي الغير المقيد الغير المتصور في صورة اختلاف القاضي والمقضي عليه في الطريق لم يكن العدول من مرجحات الواقع الى ذكر مرجحات الحكمين وجه ، بل لا بد حينئذ من ذكر مرجحات الواقع بقول مطلق ، ولازمه عدم نفوذ أحد الحكمين المعينين إذا كان مرجوحا بالنسبة إلى الحكم الذي التزم به المحكوم عليه.

اللهم الا أن تنزل الرواية على صورة جهل المتخاصمين بالحكم وعدم ثبوت طريق لهما الى الواقع. ويدفعه إطلاق الرواية كما لا يخفى.

ولو حملنا المشهورة على ما استظهرناه من الاختصاص بالمجتهد بإرادة أهل العلم من قوله « يعلم شيئا » كانت في الدلالة على القضاء المصطلح ـ أعني اعتبار نظر القاضي ورأيه دون المحكوم عليه مثل المقبولة ـ كما لا يخفى على المتدرب. وان اختصت المقبولة ببعض الدلالة مثل ذكر المرجحات للحكمين ونحوها. والله العالم.

( الثاني ) ان الأدلة الدالة على القضاء المصطلح إذا قيست الى الظن الذي التزم به المحكوم عليه من تقليد أو اجتهاد وتكون مخصصة للدليل الدال على اعتباره ، فيجب على المقلد مثلا الالتزام بفتوى مجتهده ، إلا إذا عارضه حكم حاكم في مقام الخصومة فيجب عليه ترك الالتزام به في تلك الواقعة والالتزام بحكمه ، وهو واضح.

( الثالث ) انه لا حاجة الى قيام دليل آخر من الخارج على حرمة نقض الحكم

٤٦

لأنه إذا وجب الالتزام بفصل الفاصل وقضاء القاضي بحكم المقبولة والمشهورة ونحو هما من أخبار القضاء وأدلته لم يكن له معنى سوى الالتزام به أبدا والمضي عليه كذلك ، فلا حاجة الى قيام دليل آخر على حرمة نقض الحكم من المحكوم عليه أو من غيره ، لان انقضاء الأمر الذي يتفرع على القضاء يلزمه عقلا بطلان كل ما هو من لوازم البقاء.

وهذا نظير ما أفدنا في رد من زعم أن الأمر بالوفاء بالعقود لا يفيد سوى حكم تكليفي ، وأما الحكم الوضعي ـ وهو لزوم العقد ـ فيستفاد من نحو « البيعان بالخيار ما لم يفترقا » (١) حيث قلنا ان وجوب الوفاء بالعقد بنفسه يتضمن لزوم أثره ، وانه إذا وجب الوفاء بمقتضى العقد في جميع الحالات حتى بعد قول البائع والمشتري « فسخت » ، كان ذلك عين اللزوم ، لان هذا الأمر الوضعي لا يزيد في الأثر سوى وجوب الوفاء به في الحالات كلها كما لا يخفى.

( الرابع ) دلالة المقبولة على القضاء في الشبهات الحكمية واضحة ، واما دلالتها عليه في الشبهات الموضوعية فلا تخلو من اشكال ، لا لان موردها الشبهة في الحكم ، لأن العبرة بعموم لفظ الامام عليه‌السلام لا بخصوص المورد ، بل لان الحكم بمقتضى البينة ليس الحكم بحكمهم بل حكمهم ، وظاهر التفريع تخصيص المفرع عليه كما لا يخفى. فعموم قوله « انظروا » الى قوله « فارضوا به حكما » لا يجدي مع تفريع « فاذا حكم بحكمنا » عليه غيره ، فالمستند للقضاء في الشبهات الموضوعية غير المقبولة من الروايات. ويمكن أن يكون باء « بحكمنا » باء التقوية ، أي حكم حكمنا ، فيعم الشبهات الموضوعية أيضا.

__________________

(١) الوسائل ج ١٢ ب ١ من أبواب الخيار.

٤٧

[ نصب المجتهد المقلد للقضاء وتوكليه ]

هذا تمام الكلام في المسألة الاولى ، وأما المسألتان الأخيرتان ـ أعني نصب المجتهد المقلد للقضاء والنظر في المرافعات وتوكيله في إجراء صيغة الحكم ـ فالحق فيهما أيضا عدم الجواز ، للأصل السالم عن معارضة الدليل.

أما الاولى ـ أعني النصب ـ فلان إثبات جوازه يتوقف على أمرين أحدهما بمنزلة الصغرى والأخرى بمنزلة الكبرى : أحدهما أن يكون النصب جائزا في حق الامام عليه‌السلام ، والثاني أن يجوز للمجتهد كلما يجوز للإمام عليه‌السلام. وكلاهما ممنوعان :

( أما الأول ) فلان جواز نصبه « ع » موقوف على شرعية قضاء المقلد ، بمعنى عدم كون الاجتهاد من شرائط القضاوة عند الله تعالى ، إذ لو لا ذلك لم يجز للإمام عليه‌السلام نصبه للقضاء ، لأنه لا يأذن في غير المشروع ، ولذا يستدل بأذنه « ع » في شي‌ء على شرعيته وكونه من الأحكام الإلهية استدلال « ان » لا استدلال « لم » ، فلو لا اختصاص الاذن بالمشروع انسد الاستدلال.

ومن هنا يعلم أن القول بأن الامام علي عليه‌السلام له ان يطلق نساء المؤمنين مع القول بأن الطلاق بيد من أخذ بالساق وانه مشروط عند الله تعالى برضاء الزوج ، غلط فاحش وان كان النبي وخلفاؤه صلوات الله عليهم أجمعين أولى بالمؤمنين من أنفسهم في جميع الأمور بنص الآية الشريفة « وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ » (١) الاية.

وبالجملة إذا كان الاجتهاد ـ كالرجولية مثلا ـ معتبرا في القاضي كان نصب المقلد للقضاء كنصب المرأة أمرا غير مشروع ، فجواز نصب الامام له موقوف

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٣٥.

٤٨

على عدم كون الاجتهاد من الشرائط الإلهية ، ولذا ذكر الفقهاء شرائط القضاوة فردا فردا مضافا الى شرائط الإذن يريدون بيان الحكم الشرعي وأن القضاء المشروع في الشرع الذي هو للإمام أولا ثمَّ لمأذونه لمن هو متصف بالشرائط المزبورة.

فإذا توقف جواز نصبه « ع » على عدم اشتراط الاجتهاد كان لنا منع الجواز لوجهين :

أحدهما ـ الأصل الذي أشرنا إليه ، فإن مقتضى الأصل فيما هو من قبيل المعاملات بالمعنى الأعم الاشتراط عند عدم الإطلاق ، لأصالة عدم ترتب الأثر على فاقد الشرط. ودعوى إطلاق آيات الحكم والقضاء ، قد عرفت ما فيه ولا نعيد.

والثاني ـ الإجماع المستفيض ، حيث صرح غير واحد بالاتفاق على اعتبار الاجتهاد في القاضي ، كما لا يخفى على أهل التتبع والخبرة.

( وأما الثاني ) أعني ثبوت الولاية العامة للمجتهد بحيث يجوز له كل ما يجوز للإمام ، فمبني على النظر في أدلة ولاية الحاكم. وقد أورد الأستاد شيد الله أركان افادته في باب المتاجر على عموم تلك الأدلة بما لا محيص عنه ولا ذاب ، ومن أراد كمال الاطلاع فليرجع اليه.

ونقول هنا إجمالا : ان هذه الأدلة كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل » (١) وقول الحجة صلوات الله عليه في التوقيع « وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الى رواه أحاديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله » (٢) وقوله عليه‌السلام « مجاري الأمور بيد الحكام » ونحوها مما يدعى دلالته على عموم ولاية الفقيه العالم الجامع للشرائط لكل شي‌ء كان للنبي والوصي عليهما‌السلام وانه نائب منابهم في جميع الأمور إلا ما خرج ، لا يجدي عند الشك ،

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ / ٢٢ بلفظ « علماء أمتي أفضل من أنبياء بني إسرائيل ».

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ٩.

٤٩

لوجوه على سبيل منع الخلو :

( الأول ) ان الظاهر المستفاد من النظر في مجموع تلك الأدلة هو قيام الرواة والعلماء والفقهاء والحكام مقام النبي والوصي صلوات الله عليهما في الأمور الثابتة لهم «ع» من حيث النبوة والرسالة لا مطلق الأمور الثابتة لهم ولو من حيثية أخرى راجعة إلى خصائصهم.

توضيح ذلك : ان تعليق الحكم بالوصف يشعر ـ خصوصا في مثل المقام المحفوف بقرائن عقلية ونقلية شتى ـ بالعلية ، فتشبيه العالم بالنبي أو تشبيه الراوي بحجة الله لا يفيد الا التنزيل والتشبيه في خصوص جهة النبوة التي هي وساطة بين الله تعالى وعباده ، أو جهة الإمامة التي هي وساطة بين النبي والرعية ، فكل ما هو ثابت للنبي من حيث كونه واسطة بين الله وخلقه ـ وهي حيثية تبليغ الاحكام ـ فهو ثابت لمن ناب منابه وقام مقامه.

وأما الأمور الثابتة له من حيثية أخرى غير حيثية الرسالة ـ كخصائص النبي من الأمور الشرعية والعادية ـ فالتشبيه والتنزيل المزبورين لا يعطي المشاركة فيها أيضا. ولا ريب أن ما نحن فيه وأشباهه خارج عن الحيثية المشار إليها ، بل الداخل فيها ليس إلا جهة بيان الاحكام وتبليغ الحلال والحرام ، حتى أنه لو لا أدلة القضاء وحكم العقل بوجوب اقامته لكان إثبات شرعيته بتلك الأدلة ، دونه خرط القتاد ، فضلا عن إثبات نصب القاضي غيره.

( والثاني ) ان هذه الأدلة وردت في تشخيص من تكون بيده مجاري الأمور من المصالح العامة التي دل العقل أو النقل على وجوب إجرائها ، كمباشرة القضاء ومحافظة مال الصغار وحفظ بيضة الإسلام ونحوها مما ثبت وجوب إجرائها ما دامت الشرعية باقية لا في تشخيص الأمور الجارية ، فلو شك في أمر أنه مشروع جار في المسلمين أم لا ، فلا بد في إثباته من التماس دليل آخر.

٥٠

والتمسك بعموم المنزلة في بعض الروايات لا ثبات شرعية اجراء كل ما كان للحجة إجراؤه. يدفعه بعد عدم مجيئه فيما شك في شرعيته للحجة كما فيما نحن فيه ، ما عرفت من قصور التنزيل في الحجية والنبوة عن شمول ما هو خارج عن جهة النبوة والرسالة والحجية ، مضافا الى ما فيه افادة التنزيل والتشبيه للعموم إلا في الصفات الظاهرة الجلية التي هي في النبوة والحجية في تبليغ الاحكام.

فمفاد ما دل على قيام الفقيه مقام الإمام في مجاري الأمور ، إيكال النظر في الأمور العامة اليه ، على معنى وقوعها في الخارج على حسب ما يراه فيتبع نظره فيما يتعلق بتجهيز الموتى ومحافظة النفوس والأموال الضائعة ، ولا يجوز لا حد معارضته بل لا ينفذ لو عارضه ، لا أنه يباشر كل ما يباشره الامام.

( والثالث ) انها على تقدير تسليم عمومها لا بد من تنزيلها على أمور معهودة لكثرة ما يرد عليها من التخصيص التي تشمئز النفس من ارتكابها.

توضيح ذلك : ان كثرة التخصيص بعد ما بلغ حد الاستهجان يتعين معها حمل العام على المعهود ، ولذا حكموا في كلمة الناس في قوله تعالى « الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النّاسُ إِنَّ النّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ » (١) الاية : بأن المراد به في الأول نعيم بن مسعود وفي الثاني أبو سفيان وأصحابه على طريق العهد دون التخصيص ، حذرا من استهجان تخصيص الأكثر. نعم لو لم يبلغ كثرة التخصيص الى حد الاستهجان كان حينئذ سببا لوهن العام ، بحيث لا تطمئن النفس في العمل بعمومه الا بعد الاطمئنان بعدم كون المورد من الافراد الخارجية ، ولذا قلنا في « لا ضرر » وأشباهها كلا حرج وآيات القصاص أنه لا يعمل بعمومها لكثرة ما خرج عن تحتها ، الا بعد مشاهدة عمل جملة من الأساطين بها.

__________________

(١) سورة آل عمران : ١٧٣.

٥١

[ حكم التوكيل في القضاء ]

( وأما المسألة الثانية ) أعني مسألة التوكيل فالحق فيها أيضا عدم الجواز وفاقا للكل أو الجل ، لان التوكيل مشروط بعدم اشتراط المباشرة في تأثير الحكم والا لم يعقل فيه التوكيل ، واشتراطها هنا اما معلوم أو مشكوك ، والتمسك بأدلة الوكالة غير مجد في المقام.

وتوضيح المرام : ان الافعال التي يترتب عليها أثر وغرض شرعي على ثلاثة أقسام :

منها ـ ما يكون ذلك الغرض والأثر لازم ذات الفعل من غير مدخلية إضافته الى بعض دون بعض ، نظير الطهارة الخبثية التي هي أثر الغسل المطلق ، من غير اعتبار محل خاص في التأثير حتى لو صدر من الحيوانات لأثر أيضا أثره.

ومنها ـ ما يكون الأثر المقصود مترتبا على صدور الفعل من الشخص ولا يكون الأثر أثرا لذاته ، وهذا أيضا على قسمين :

أحد هما : ما كان مطلق الفعل الشامل لنوعي المباشرة والتسبيب كافيا في التأثير على أن يكون المعتبر في حصول ذلك الأثر ذلك الفعل مباشرة أو تسبيبا ، كالثواب المترتب على بناء المسجد ، فان ذلك غير مشروط بالمباشرة بل يترتب على البناء الحاصل من فعل الأجير أيضا.

وثانيهما : ما كان حصول الأثر فيه موقوفا على المباشرة ، بأن يكون ذلك الأثر ثابتا للفعل المتقوم بمحل خاص على وجه يكون للإضافة الى ذلك المحل مدخلية في التأثير ، كالعبادات التي لا يحصل منها الغرض المقصود إلا بالمباشرة.

ومن البديهيات أن التوكيل انما يتصور في أحد القسمين الأولين ، وأما القسم الثاني فالتوكيل فيه من المستحيلات. نعم يتصور التوكيل حينئذ في

٥٢

ذات الفعل مع قطع النظر عن كونه ذا أثر لا الفعل من حيث كونه مؤثرا ، فالفعل الذي يترتب عليه الأثر لا يتصور فيه التوكيل ، والذي يتصور فيه التوكيل لا يترتب عليه الأثر.

فلو أحرزنا كون الفعل من أحد القسمين الأولين فلا إشكال في حصوله أصالة ووكالة من غير فرق بينهما ، الا أن ترتب الأثر في القسم الأول لا يتوقف على التسبيب فضلا عن التوكيل والاستنابة أو قصد الوكيل النيابة عن الموكل ، بل يحصل ولو قصد الخلاف والاستقلال.

بخلاف القسم الثاني فإنه على أقسام :

منها : مالا يتوقف حصول الأثر فيه على الاستنابة والتوكيل بل يحصل بمجرد التسبيب ولو من غير استنابة وان حصل أيضا مع التوكيل والاستنابة.

ومن هذا القبيل بناء المسجد لتحصيل الثواب بالاستيجار وتوضي العاجز بفعل الغير بجعله آلة للوضوء فهو المتوضي حقيقة بجوارح الغير الراجع الى التسبيب الصرف. وفي هذا القسم لا يعتبر في محل الفعل شي‌ء من شرائط التكليف ، حتى لو فرض التسبيب الى فعل الحيوانات لأثر أيضا.

ومنها : ما يحتاج إلى الاستنابة والتوكيل ، إما مع عدم اعتبار قصد النائب النيابة أو مع اعتباره.

ومن قبيل الأول العقود والإيقاعات ، فإن الأثر المقصود منها يترتب على فعلها مباشرة وتسبيبا بالتوكيل لا بغيره ، من غير اعتبار قصد الوكيل النيابة.

ومن الثاني الاستنابة في الأعمال العبادية بالمعنى الأخص.

والغرض الإشارة الإجمالية إلى أقسام القسم الثاني لا إعطاء الضابط ، فان تميز الاقسام مطلوب من ملاحظة أدلة كل باب.

وان شك في كون الفعل من أحدهما أو من القسم الأخير كان ذلك شكا في

٥٣

صدق الوكالة لا في صحتها ، فان دل دليل عام أو خاص على كون الفعل من أحد الأولين لم يحتج في إثبات الوكالة حينئذ إلى دليل آخر ، كما أنه إذا دل دليل كذلك على جواز الوكالة في المشكوك كان ذلك دليلا على كونه منهما.

إذا تحقق ذلك فنقول : ان ما ورد في باب الوكالة من الأدلة لا يتكفل شي‌ء منها لبيان هذا المهم ، أعني قبول كل فعل من الأفعال الشرعية للنيابة إلا ما خرج بالدليل ، لان ما ورد فيها كلها مسوق لبيان أحكام الوكالة وشرائطها مثل ما ورد في استمرارها الى بلوغ العزل.

ولا ريب أن الدليل المسوق لبيان أحكام الشي‌ء كلا أو بعضا لا يدل على تعيين مجاري ذلك الشي‌ء ومصاديقه ، كما أن الدليل على جواز الوكالة عموما أو خصوصا لا يدل على حكمها وشرائطها ، فهنا مقامان : أحدهما إثبات قبول المشكوك للوكالة ، والثاني بيان حكم الوكالة من حيث كفاية الفعل وعدم اعتبار اللفظ ونحوها من الاحكام. والدليل المتكفل لبيان المقام الأول لا يجدي في المقام الثاني ، كما أن الدليل الوارد في المقام الثاني غير مجد في المقام الأول.

ومن هنا يظهر سقوط الاستدلال بعمومات العقد ، كقوله تعالى « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » (١) عند الشك في القابلية ، لأن الشك فيها شك في صدق الاسم ، كما إذا شك في أن الشي‌ء الفلاني من المملوكات القابلة للنقل أم لا ، أو أنه من الحقوق القابلة للصلح والتجاوز أم من الاحكام ، فمن تمسك ببعض ما ورد في باب الصلح على جوازه في كل شي‌ء مشكوك في قابليته باعتبار الشك في كونه من الأحكام أم من الحقوق أو بعموم « أَوْفُوا بِالْعُقُودِ » لا ثبات صحة الصلح حينئذ أو لصحة الوكالة فيما شك في قبوله النيابة ، فقد سهى سهوا بينا.

__________________

(١) سورة المائدة : ١.

٥٤

ولأجل ذلك ترى الأصحاب يصرحون في باب الوكالة بجميع ما يقبل الوكالة وما لا يقبل من أول الطهارة إلى آخر الديات ويذكرونها فردا فردا بعد الإشارة إلى شرعية أصل الوكالة.

فظهر أن الشك في قابلية الشي‌ء للوكالة لا رافع له الا بملاحظة أدلة ذلك الشي‌ء ، فان دلت على اعتبار المباشرة فيه فهو ، وكذا لو دلت على عدم اعتبارها وان كانت مجملة ، فالمرجع في كل باب الى الأصل المقرر في ذلك الباب. والله العالم.

تتمة

[ قضاء المقلد في حال الاضطرار ]

ما ذكرناه من عدم جواز قضاء المقلد كان مختصا بحال الاختيار ، وأما حال الاضطرار ـ يعني عدم وجود مجتهد في البلد وتعسر الترافع اليه أو تعذره ـ فيظهر الحال فيه بعد ذكر مقدمة أشرنا إليها إجمالا ، وهي :

ان وجوب القضاء وفصل الخصومات ورفع المنازعات من المستقلات العقلية التي يستقل بها العقل بعد حكمه بوجوب بقاء النظام ، ولذا احتملنا قويا في الآية الشريفة « يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ » (١) أن يكون المتفرع على الخلافة القيد ، أعني كون الحكم على نحو الحق ، بأن تكون شرعية أصل الحكم له معلومة بالعقل المستقل ويكون الغرض من التفريع آكدية الحكم بالحق في حق الخلفاء. لكن ذلك الحكم من العقل على وجه الإيجاب الجزئي ، بمعنى حكمه بوجوب وجود القاضي والفاصل في الجملة ، وأما حكمه بوجوب القضاوة على الجميع أو على البعض المعين فلا.

__________________

(١) سورة ص : ٢٥.

٥٥

ولا يرد عليه : أن الإجمال في حكم العقل غير معقول ، لأن الإجمال ليس في موضوع حكم العقل ولا في محموله بل في مصاديق الموضوع. نظير استقلاله بقبح تناول المضر ، فإنه لا ينافي شكه في قبح تناول شي‌ء باعتبار الشك في اندراجه تحت مفهوم المضر.

فالذي يقضي به العقل أن يكون شخص قاضيا بين الناس مع عدم ترتب المفسدة على قضاوته ، ولما لم يتشخص عنده هذا الشخص ولا يدرك مصاديقه فتعيينه موكول الى الشارع العالم بخفيات الأمور ، فتعيين الشرع شخصا للقضاء تشخيص لموضوع حكم العقل ، كما أن حكم الشرع بأصل القضاء تأكيد لحكم العقل ، فان تعين من قبل الشارع القاضي فهو المتبع ، وإلا فإن كان في المكلفين شخص متفق عليه وقدر متيقن وجب الاقتصار عليه ، لأن الضرورة تتقدر بقدرها ، والأوجب على المكلفين جميعا وجوبا عقليا كفائيا ، لاستحالة التعيين المستلزم للترجيح بلا مرجح.

وهذا أصل عقلي مطرد في جميع الأمور الحسبية القاضي بإقامتها العقل المستقل ، كاغاثة الملهوف ومحافظة النفوس والأموال الضائعة ونحوها من الأمور الحسبية ، فإن الضابط فيها ما ذكرنا من اتباع التعيين الشرعي للمقيم بها ، ومع عدم التعيين الشرعي فالاقتصار على الشخص المتفق عليه والقدر المتيقن ، ومع التساوي فالوجوب الكفائي.

إذا تحقق ذلك فاعلم : أن حكم النزاع في الموضوعات غير حكمه في الحكم الشرعي ، فهنا مسألتان :

( الأولى ) الشبهات الموضوعية

فالذي يقتضيه النظر أن في حال الاضطرار ـ بمعنى تعذر الرجوع والرفع الى المجتهد أو تعسره تعسر ألا يرضى الشارع بمثله ـ لا يشترط في القاضي الاجتهاد ،

٥٦

فيجوز للمقلد حينئذ بل يجب وجوبا عقليا ناشئا من استقلال العقل بمقدماته ولو بملاحظة حال الشارع :

« أحدها » وجوب حسم مادة النزاع والدعوى وعدم جواز الحكم ببقاء الدعاوي غير مفصولة في المنازعات التي هي مجاري البينات والايمان. وهو واضح والإلزام اختلال النظام وتضييع الحقوق والأموال المعلوم من الشرع وجوب حفظها كالنفوس حسبة ، بل ربما يؤدي الى ضياع النفوس المحترمة جدا.

« وثانيها » ـ عدم جواز الرجوع الى سلطان البلد وتبعته ، لكون الترافع إلى الجائرين رجوعا الى الجبت والطاغوت المحرم بنص الكتاب العزيز والسنة والإجماع المحقق.

فان قلت : حرمة المراجعة إليهم حال الاضطرار غير مسلمة ، لان الضرورات تبيح المحظورات ، وأي ضرورة أعظم من محافظة النظام والحقوق والنفوس ، فلا يزاحمه شي‌ء من المحرمات.

قلت : المقدمة المحرمة يجوز ارتكابها لبعض الواجبات المهملة إذا انحصرت المقدمات فيها ، وأما مع عدم الانحصار ـ كما فيما نحن فيه لا مكان وجوب الحفظ المشار اليه بالمرافعة الى غير الجبت والطاغوت ـ فهي باقية على حرمتها.

فان قلت : ليس في المقام مقدمة مسلمة غيره الا بعد معلومية شرعية قضاء غير المجتهد ، وهو أول الكلام.

قلنا : كونه أول الكلام لا يلحقه بالرجوع الى الجبت والطاغوت في التحريم لأن غاية ما ثبت من الأدلة عدم شرعية قضاء المقلد في حال الاختيار من جهة عدم الدليل لا من جهة حرمته ذاتا كالرجوع الى الجبت. ولو سلم حرمته الذاتية فالقدر المسلم منه حال الاختيار لا مطلقا ، وأما الرجوع الى الطاغوت فحرمته

٥٧

تعم الأحوال كلها جدا.

« وثالثها » ـ عدم وجوب الرجوع الى المجتهد الذي فرض كون الرجوع اليه لبعده عن بلد المخاصمة متعذرا أو متعسرا لا يرضى الشارع بمثله ، وهو أيضا واضح. ضرورة أن ما يقع في البلد في كل يوم أو شهر من الدعاوي لو قيل بأنه يجب فيها الرجوع الى المجتهد النائي. وأنه لا بد للمتخاصمين من شد الرحال إليه في قليل من الدعوى أو كثيرة ، كان أمرا مضحكا لا ينبغي نسبته الى عاقل فضلا عن حكيم. وبعد ملاحظة هذه المقدمات فالعقل يستقل بأنه يجب أن يكون في ذلك البلد رافعا للمخاصمات في الشبهات الموضوعية على وجه تأتي إليه الإشارة.

( المسألة الثانية ) ما إذا كان المتنازع فيه من المسائل الخلافية.

مثل منجزات المريض وثبوت الشفعة إذا كان الشركاء أزيد من ثلاثة وتحريم عشر رضعات وأمثالها.

والتحقيق عدم استقلال العقل فيها بوجوب رفع المخاصمات من مقلدي البلد ، لأنه لا يلزم من عدم فصله مخالفة قطعية أو احتمالية للواقع أزيد مما يلزم من الفصل. وليس فيه أيضا اختلال النظام. بل يجب عليهم الرفع الى المجتهد النأي. وليس فيه مشقة أصلا ، مثل ما كان في الشبهات الموضوعية ، إذ لا يحتاج الفصل فيها إلى إقامة بينة وجرحها وتعديلها ، لان الحكم في المسائل الخلافية انما يحصل بمجرد الفتوى ، فيجب على المدعي ترك الدعوى الى أن يستفتي حال المسألة عن المجتهد النائي. وهذا أمر سهل ، لا غاية ما في ذلك استدعاء الاستفتاء زمانا قليلا أو كثيرا ، وترك الدعوى في المسائل الخلافية برهة من الزمان ليس فيه من المحذور شي‌ء.

ومما ذكرنا ظهر الحال في صورة التداعي أيضا ، فإن تكليف المتداعيين

٥٨

ترك الخصومة الى أن يظهر الحال ، وعلى المؤمنين كفاية يجب منعهما عن الدعوى ، كمنع المدعي في صورة عدم التداعي.

كما ظهر أيضا أنه لا يرد علينا لزوم تعطيل المال في بعض المسائل الخلافية ، لأنه إنما يقبح لو كان مستداما ، وأما مع تمكن الاستفتاء من المجتهد ولو في عرض سنة أو سنتين فلا ضير فيه.

وأما القول بأن متاركة الدعوى أو ترك المدعي للدعوى وعدم فصلها يستلزم العلم بالمخالفة القطعية ، نظرا الى حصول العلم عادة بأن الدعاوي إذا كثرت ـ ولو في المسائل الخلافية ـ حصل العلم بحقية بعضها ، فيلزم من منع الكل مخالفة علمية.

ففيه بعد ما مر من أن الترك ليس مستداما بل في برهة من الزمان : المنع الواضح لان فصل الدعاوي إذا كان الحق في طرف المدعى عليه عند المجتهد الذي يقضي بينهما يتضمن هذا المحذور أيضا ، فإن كان في منع المدعي عن الدعوى في الدعاوي الكثيرة قبحا لاستلزامه المخالفة العلمية ـ كان قضاء مثل هذا الحاكم أيضا كذلك.

وبالجملة فرق وضاح بين الشبهات الموضوعية والحكمية ، فإنه لا علاج عقلا في الأول الا بمباشرة شخص من أهل البلد للخصومات ، لان تكليف المترافعين على شد الرحال الى المجتهد عسر منفي وأمرهما بترك الدعوى تضييع للحقوق وابقاءهما متعاركين ومتنازعين يستلزم الفساد والفتنة المستلزمين لاختلال النظام ، والرجوع الى حكام الجور ركون الى الجبت والطاغوت.

فيتعين أن يكون من المؤمنين من يقوم بموازين القضاء ، فان غرض الشارع متعلق بإقامتها جدا ، وتعيين المقيم كالنبي والوصي ومأذونهما غرض في غرض ، وحيث يتعذر أحد الغرضين لا يجوز إهمال الغرض الأخر. بخلاف الشبهة

٥٩

الحكمية ، فإنه لو أمر المتخاصمين بترك النزاع الى أن يظهر الحال من المجتهد فلا يلزم شي‌ء من المحذورات. وليس لك أن تقول كذلك في الأول ، لأن الاستفتاء لا ينفع.

هذا كله إذا أمكن الرفع الى المجتهد ، وان تعذر اما لعدم وجوده في العالم ـ العياذ بالله ـ أو مع وجوده وعدم إمكان الرجوع اليه فالحكم في الشبهات الحكمية كما ذكرنا ، فيتوقع زمان الاختيار بوجود مجتهد رافع وفاصل للدعاوي.

نعم في بعض المسائل الخلافية يلزم حينئذ تعطيل المال الأبدي ، وحينئذ لا بد من سلوك طريق سالم عن هذا المحذور ، الا أنه لو قيل بمتاركة الدعوى حينئذ وإبقاء المال في حكم مال مالك له ظاهرا ان كان المورد من التداعي والا في يد المدعى عليه لم يلزم أيضا محذور ولا يجوّزه العقل أزيد مما يلزم من حكم الحاكم وقضاء القاضي بمجرد الفتوى كما أشرنا.

وأما الشبهات الموضوعية فالحكم فيها أيضا كما ذكر من وجوب وجود رافع للخصومات من مقلدي البلد ، لكن بينه وبين إمكان الرجوع الى المجتهد مع التعسر في الاستيذان ، فرق يظهر في ضمن بعض التنبيهات.

[ ما يختص بأحكام المقلد المنصوب للقضاء ]

وينبغي التنبيه على أمور :

( الأول ) ان ما سمعت من سقوط شرط الاجتهاد حال التعسر ليس المراد به استبداد أهل البلد في نصب المقلد للقضاء ، بل يجب عليهم الاستنصاب من المجتهد ، فنصب المجتهد بعض أهل البلد للقضاوة ، وذلك للقاعدة المشار إليها من الاقتصار على القدر المتيقن ، لان احتمال مدخلية نصب المجتهد في تلك الحالة قائم ومعه لا يجوّز العقل ـ أي لا يستقل ـ باستبدادهم من دون نصب

٦٠