كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

فليس فيه دلالة على مذهبهم ، لان مدلول اللام إذا كان بحكم الانصراف الناشئ من غلبة الاستعمال مثلا أو بحكم الوضع هو الملك المستقر ، فلا جرم إذا وقع في حيز النفي توجه النفي إلى الاستقرار لا الملك المطلق.

وقد يقال : انه على الأول أيضا كذلك ، لان اللام لم يقع في حيز النفي في القضية السلبية في الاخبار بل وقع محكوما به في تلك القضية ، فقوله « ليس للوارث شي‌ء » لم يتوجه فيه النهي إلى مدلول اللام فقط حتى يفيد سلب مطلق الاختصاص المنافي للملكية رأسا ، بل الى المدلوله في حال عدم تقييده التي تفيد الاختصاص المطلق ، فيفيد سلب الاختصاص المطلق لا سلب مطلق الاختصاص.

وتوضيحه : ان اللفظ « إذا » في حال عدم تقييده ينصرف الى بعض أفراده لأجل عدم التقييد ، فلا يتفاوت فيه بين أن يثبت لشي‌ء أو ينفي عنه ، ففي الصورتين يتوجه كيف القضية من الإيجاب أو السلب الى ذلك الفرد المستفاد من عدم القيد ، فاذا قلنا هذا مختص بهذا دل على الاختصاص المطلق ، لان الاختصاص إذا لم يقيد بقيد ينصرف الى الفرد الكامل منه ، أعني الاختصاص من كل وجه ، وإذا وضعنا مكان الإيجاب السلب وقلنا هذا ليس مختصا بهذا دل أيضا على سلب الاختصاص المطلق الذي هو الفرد الكامل من الاختصاص لا على سلب مطلق الاختصاص.

ولذا لا ينافي مدلول هذه القضية السلبية ثبوت بعض مراتب الاختصاص ، وانما يتوجه النهي إلى حاق مدلول اللفظ إذا وقع محكوما عليه ، مثل لا رجل ولا شي‌ء ولا اختصاص ونحوها ، فيدل على نفي مدلول اللفظ مطلقا في ضمن أي فرد كان ، وحينئذ أمكن منع دلالة ما ورد في الاخبار من أنه ليس للورثة شي‌ء مع الدين على مذهب القدماء ، وهو سلب مطلق الملكية على الوجهين ، سواء قلنا بأن الملكية التامة يستفاد من عدم تقييد الاختصاص المستفاد من اللام أو من حاق اللام باعتبار رفعه أو انصرافه لغلبة الاستعمال إلى الملكية التامة المستقرة.

٣٤١

هذا ، ويرد على الرد أن اللام ان كان لإفادة الاستقرار فلا بد من الحمل عليه في المطلقات أيضا ، إذ حملها في المطلقات على افادة مطلق الملك ، وفي الاية المقيدة على الاستقرار لا وجه له سوى البناء على ترجيح التصرف في المقيد على التصرف في المطلق. وهو بديهي البطلان في محله ، فاذا حملت في الموضعين على الاستقرار خرجت المطلقات عن الدلالة على الملكية أيضا ، لدلالتها حينئذ على استقرارها المقيد بحكم الآية المقيدة بما بعد الدين.

والحاصل ان اللام ان كانت ظاهرة في أصل الملكية فمقتضى الآية المقيدة تقييد أصل الملكية المستفادة من المطلقات ، وان كانت ظاهرة في استقرار الملك فمقتضاها تقييد استقرار الملك ، ففي صورة وجود الدين لا يجري مدلول المطلقات أعني الاستقرار ، وأما ثبوت أصل الملك فلا بد له من التماس دليل آخر.

وعلى التقديرين فالمطلقات تخرج عن الدلالة على مذهب المتأخرين ، وانما لا تخرج لو حملت اللام في المطلقات على الملك وفي المقيد على الاستقرار.

وهو كما ترى خارج عن مقتضى القواعد ، لان اللام ان كانت لإفادة أصل الملكية فلا بد من الحمل على ظاهرها في المقيد أيضا ، لأن التصرف في المطلق بالتقييد أولى من التزام خلاف ظاهر في المقيد ، فلا يحمل أمر « أعتق رقبة مؤمنة » على الاستحباب جمعا بينه وبين « أعتق رقبة ».

هذا إذا لم يؤخذ بمفهوم قيد بعد الوصية والدين ، والا فالاية المقيدة دليل على مذهب القدماء على التقدير الأول ـ أعني حمل اللام في الموضعين على الملك المطلق ـ دون الثاني.

ومن هنا يظهر أن هذه الآية ليست دليلا على مذهب القدماء مطلقا ولا على تقدير اعتبار المفهوم وحمل اللام في الموضعين على الملك.

هذا ، ثمَّ ان في تركيب الآية المقيدة نوع غموض ، لان الظرف ـ أعني

٣٤٢

قوله تعالى « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ » ـ يحتمل أن يكون متعلقا بمتعلق خبر المبتدإ المقدم ، أعني قوله « لكم » ، والمعنى نصف ما ترك الا بعدهما ، ولا ريب أن المملوك بعد إخراجهما هو نصف الباقي لا نصف ما ترك. ويحتمل أن يكون حالا للموصول ، فالمعنى ان ما ترك حال كونه بعد الوصية والدين مملوك لكم ، وهذا مثل قول القائل « العشرة بعد إخراج الثلاثة منها علي ».

ويمكن التوجيه على تقدير تعلقه بمتعلق « لكم » بأن ذلك إشارة الى أن الوصية والدين مانعان من ملك مجموع ما ترك ، بحيث لو فرض انتفاؤهما رأسا أو بعد الموت ولو بتبرع متبرع أو بإبراء أو نحوهما كانت التركة للوارث.

ولأجل الإيهام الى هذا المعنى سمي ما ينتقل الى الزوج بعد الوصية والدين بنصف التركة ، يعني ان المقصود إعدامهما وإعدامهما لا يستلزم خروج شي‌ء عن ملك الوارث مطلقا حتى يكون المنتقل اليه نصف الباقي ولو استلزمه على بعض الوجوه كما إذا أخرجا من عين التركة.

[ المراد بالوصية والدين ]

ومن هنا يعلم أن المراد بالوصية والدين نفسهما لا إخراجهما أو أداؤهما أو وفاؤهما أو غير ذلك من الأمور التي يناقش في طردها وعكسها مع كون التقدير مخالفا للأصل ، فالمعنى أن نفس الوصية ـ أي العين الموصى بها ـ ونفس الدين مانعان عن الإرث مع وجود المقتضي ، فمع وجودهما لا ارث ومع عدمهما بأي نحو من أنحاء العدم يثبت الإرث ، ولذا لا يتفاوت فيه بين إخراجهما من أعيان التركة أو من غيرها ولا بين إيفاء الوارث أو إيفاء الغير تبرعا أو حصول البراءة قهرا ببعض أسبابها ، فليس المراد أن تمام التركة مثلا

٣٤٣

مملوك للوارث بعد إخراجهما منها فإنه غير معقول ، بل المراد أن تمامها مملوك للوارث بشرط عدم الدين المحيط مثلا.

وهذا معنى لا غبار عليه ، وذلك مثل ما يقال ان كفن الميت يخرج من التركة ، فليس المراد أن مقدار ما يساويه ليس من الإرث فلا بد من إقراره ، بل المراد أن حق الميت وحاجته مقدم على حق الوارث وحاجته ، فلو غرق الميت أو حرق زال المانع من ارث مقدار الكفن.

هذه حال الايات المقيدة للإطلاق بما بعد الوصية والدين ، وأما الاخبار النافية لكون التركة للوارث المثبتة إياها للغرماء فقد ظهر النظر في دلالتها أيضا على مذهب القدماء ، وان كان لها ظهور بدوي في ذلك.

وحاصل لما ذكرنا : ان نفي كون التركة للوارث لا يدل في دقيق النظر على سلب جميع أنحاء الملكية بل على سلب الملكية التامة التي من لوازمها الاستقلال في التصرف ، فالمراد أنه ليس للورثة التركة بمعنى التصرف فيها والاستقلال في أمرها مع بقاء الدين ، سواء كانت اللام موضوعة للاختصاص أو منصرفا اليه بحاقه وجوهرة أو كانت لمطلق الاختصاص واستفيد الكمال والتمام من عدم القيد كما مر.

وهذا ينطبق على مذهب المتأخرين ، لأن ملكية التركة للورثة مع الدين عندهم ملكية ناقصة ، بمعنى فقدانها لكمالها الذي يستتبع الاستقلال في التصرف لا الملكية التامة المنفية بحكم الاخبار ولا الملكية المتزلزلة كالملكية في زمان الخيار ، لأنها أنقص منها بمراتب ، إذ الخيار لا يمنع عن شي‌ء من التصرفات بخلاف الدين فإنه مانع عنها رأسا ، فما في بعض الكلمات من تعبير الملكية على مذهب المتأخرين بالملكية المتزلزلة مسامحة أو قصور في العبارة.

٣٤٤

[ جرح أدلة القدماء في المسألة ]

ومما ذكرنا ظهر أدلة مختار القدماء من الايات والاخبار وجوابها وانه ليس فيها دلالة عليه الا على تقدير حمل اللام على الملكية المطلقة ثمَّ إثبات المفهوم القيدي بعد الوصية والدين في الايات ، وكلاهما كما ترى.

وأما الدليل العقلي على مذهب المتأخرين فتقريره بعد بيان مقدمتين :

إحداهما ـ عدم قابلية الميت للتملك ، وهذا مضافا الى كونه إجماعيا ظاهرا ـ لان القدماء يقولون انه في حكم مال الميت لا أنه مال له حقيقة ـ مما يساعد البرهان والوجدان عليه ، لأن الجدة أحد الأعراض التي لم يعلم قابلية ثبوتها للمجردات ، حتى أن ثبوت الملكية بالمعنى الذي يثبت للإنسان لله تعالى أيضا ممنوع أو ممتنع ، لان هذه الإضافة الخاصة ـ أعني العلقة الخاصة الحاصلة بين الإنسان وبين أعيان الأموال ـ متقومة بطرفين أحدهما الإنسان والثاني العين ، وثبوت مثل هذه العلقة لغير الحيوان الناطق ضروري البطلان ، وثبوت غيرها مما يخطر في ذهن المكابر المتعسف لا يمنع ثبوتها لغيره حتى الجمادات والحيوانات. والحاصل ان علاقة الملكية هذه العلاقة المعهودة المعدودة من الاعراض التسعة لا يتعقل ثبوتها لغير الإنسان ـ أي الحيوان الناطق.

وثانيتهما ـ ان الملك بلا مالك أو المال بلا صاحب أيضا من المستحيلات الأولية ، ضرورة امتناع قيام النسبة إلا بالمنتسبين ، والمراد بالمالية ما يساوق الملكية في الافتقار الى مالك وصاحب لمجرد ما يصلح لبذل المال في مقابله ، فإن المالية بهذا المعنى ثابتة للمباحات الأصلية أيضا. والحاصل ان الملكية والمالية كما لا يتعقل ثبوتها بدون المال والمملوك كذلك لا يتعقل بدون المالك وصاحب المال.

٣٤٥

إذا تحققتا فنقول : بالموت تخرج التركة عن ملك الميت بحكم المقدمة الاولى ، فلا بد له من مالك تقوم به الملكية بحكم المقدمة الثانية ، وليس هو إلا الوارث ، للإجماع ظاهرا على عدم دخوله في ملك الغرماء ، لان القدماء يزعمون بقاءها في حكم مال الميت.

فان قلت : لم لا يجوز أن تخرج التركة عن الملكية والمالية بموت صاحبها فلا تكون ملكا لأحد ، بل قضية خروجها عن ملك الميت بحكم البرهان ، مضافا الى أصالة عدم دخولها في ملك أحد ذلك.

قلت : هذا الاحتمال مدفوع بظواهر جميع ما في باب الميراث من الايات والاخبار وكلمات الأخيار ، لتطابقها على انتقال المال الى الوارث ، بل هو قضية لفظ الإرث ومشتقاته ، لأن الإرث بمعنى الانتقال ، وحقيقته تستدعي بقاء صفة الملكية مع تبدل المالك.

وبهذا الاعتبار بعد البيع والصلح مثلا من النواقل ، لأنه سبب لتبدل مالك بمالك مع بقاء الملك على صفة الملكية في الحالتين. وعلى تقدير خروج التركة بالموت عن الملكية لا معنى لانتقالها من الميت الى الوارث ، لان تملكهم لها بعد الدين يكون تملكا جديدا كتملك المباحات الأصلية. وهو بديهي البطلان ، إذ لم يظن أحد أن التركة قبل أداء الدين مثل المباحات التي ليست ملكا لا حد وان تملك الوارث لها باعتبار حق الأولوية ، كتملك صاحب الخمر المستحيل الى الخل.

والحاصل ان أعيان مال الميت ليست مثل دية الجناية الواقعية على الميت في دخولها في ملك الوارث ابتداء ، أي من غير انتقالها من الميت إليهم ، بل مثل سائر ما ينتقل من مالك الى آخر بسبب شرعي كالبيع ، فالموت في الشريعة أحد أسباب الانتقال لا انه سبب زوال الملكية ، وإطلاق الإرث على تملك الوارث

٣٤٦

لما يحصل في شبكة المورث أو لما باعه المورث مع الخيار باعمال حق الخيار بالفسخ أو نحو ذلك مما يدخل في ملك الوارث اعتبارا باعتبار إرثهم لحق من الحقوق المستتبعة للمال ، مبني على نحو من التجوز أو المسامحة باعتبار ملاحظة انتقال أصل السبب وهو الحق ، فسمي تملكهم للنتيجة باسم تملكهم للمقدمة كما في الأول ، أو باعتبار تنزيل الملك الحاصل بالفسخ الذي هو عبارة عن ازالة العقد من حينه منزلة الإرث الحقيقي.

فالفسخ وان لم يكن كاشفا عن فساد العقد بل ناقلا بعد صحته لكنه ابطال لأثره ، فيدخل في ملك صاحب الخيار من حين فسخ المبيع من زمان البيع ، فكأنه من جملة أعيان ما تركه المورث حكما وان لم يكن كذلك حقيقة.

وربما يقال بصدق الإرث على الملك الحاصل بالفسخ حقيقة ، لأن الوارث تلقاه من المورث حقيقة باعتبار تلقيهم سبب هذا الملك اعترض الخيار. وليس بشي‌ء ، لأن الوارث قد تلقى من المورث محض الحق ، وهو أمر وراء الملك الحاصل بسبب الفسخ ، ولذا ليس لغرماء الميت إلزام الورثة على الفسخ بل الوارث له الامتناع عن ذلك ، لعدم تلقيه من المورث شيئا سوى الحق.

نعم لو قيل بصدق الإرث الحقيقي على ملك ما في شبكة المورث ، نظرا الى دخوله في ملك الوارث قهرا من غير مدخلية لفظ الوارث. لم يكن بذلك البعيد.

وأما صدق الوارث على من أسلم بعد موت المورث وقبل القسمة ، فهو ليس أيضا على حقيقته ، بل عدم الصدق هنا أوضح ، ضرورة عدم انتقال شي‌ء من التركة إليه حتى على قول المتأخرين ، فإنه حال موت المورث كان ممنوعا من التملك بالإرث. فكيف يقال انه ورث أباه مثلا حقيقة بعد ما عرفت من كون الإرث عبارة عن الانتقال الذي هو عبارة عن تبدل مالك بمالك وعن تلقي الملك من الوارث.

٣٤٧

ومن هنا لم يجز إثبات الإرث له بأدلة الميراث ، بل لا بد له من دليل آخر لولاه لكان محروما بمقتضى الأدلة المخصصة لها بغير الكافر.

نعم يكفي أدلة الميراث في الأمثلة المتقدمة ، فلا يحتاج في إرث الوارث لما في شبكة مورثه أو للخمر التي استحالت الى الخل بعد الموت أو للمبيع الذي باع المورث مع الخيار بعد الفسخ إلى أدلة أخرى ، بل يكفي أدلة الميراث. فظاهر أن موارد عدم صدق الإرث الحقيقي على أطوار مختلفة :

فمنها ما يستدل عليه بنفس أدلة الميراث وان لم يصدق عليه الإرث الحقيقي ، لأن صدق الإرث حقيقة على انتقال الحق الذي هو سبب لحصول ملك جديد للوارث يكفي في إثبات ذلك الملك له ، ومنها ما يحتاج إلى أدلة أخرى.

فإن قلت : صدق الإرث على ملك الورثة للتركة انما هو باعتبار مكان سبب الانتقال الذي هو الموت أو النسب حين الموت لا باعتبار انتقال الفعلي ، وهذا وان قلنا انه خلاف الظاهر من لفظ « الإرث » لكنه غير بعيد بعد ملاحظة تقييد الإرث بما بعد الوصية والدين ، فنزل وجود سبب الانتقال حين الموت بمنزلة الانتقال الفعلي ، فأطلق الوارث على الورثة.

قلنا : ليس في أدلة الميراث تقييد لفظ الإرث بما بعد الدين ، بل الأدلة المقيدة كلها مشتملة على كلمة اللام الدالة على الملكية ، فيدور الأمر بين صرف اليد عن ظاهر لفظ الإرث في الكتاب والسنة بحمله على الانتقال الثاني المستند الى وجود السبب وإبقاء اللام في المقيدات على ظاهرها وهو الملكية وبين الأخذ بظاهر لفظ الإرث ومشتقاته الظاهرة في الانتقال الفعلي الحقيقي والتصرف في كلمة اللام بحملها على الاستقرار كما فعله الأصحاب.

وهذا التصرف وان كان خلاف مقتضى القاعدة ـ لأنها تقتضي إبقاء المقيد على حاله وتقييد المطلق كما قلنا ـ لكنها قد يصار عنها الى التصرف في القيد

٣٤٨

ويبقى المطلق على إطلاقه إذا كان ذلك التصرف أقرب ، كما هو الشأن في جميع موارد تعارض الأحوال ، لأن التخصيص مثلا وان كان أرجح من المجاز مثلا نوعا الا أن بعض المجازات لقربه يقدم عليه ، فليس كل تقييد أولى من كل تصرف في المقيد كما في المقام ، فإن إطلاق الأدلة المشتملة على لفظ الإرث يقتضي الانتقال الفعلي مطلقا مع الدين وعدمه ، لكن ورد في مقابلها أدلة مشتملة على لفظة اللام مقيدة بما بعد الدين ، ومقتضي قاعدة التقييد حمل المطلق على غير المقيد ، فلا ملكية في مورده أصلا.

لكن هذا الحمل يستلزم التصرف في لفظ الإرث ومشتقاته بحملها على الانتقال الشأني ، وهو تصرف مرجوح يمكن الاستراحة عنه بحمل اللام في الأدلة المقيدة على استقرار الملك ، ولو قلنا بأنها موضوعة لأصل الملكية لا لاستقرارها ، فضلا عما لو قلنا بانصرافها من حيث الإطلاق أو من حيث غلبة الاستعمال أو من حيث الوضع الى الاستقرار كما هو الأظهر ، فنحملها على الاستقرار فرارا عن حمل الإرث على الانتقال الشأني.

نعم لو كانت الأدلة المقيدة أيضا مشتملة على لفظ الإرث مكان اللام أمكن جعله قرينة على ارادة الانتقال الشأني من لفظه في المطلقات على الانتقال بما بعد الدين أو في حمله على الانتقال الشأني في المطلقات والفعلي في المقيدات.

وعلى التقديرين لا يكون مع الدين انتقال فعلي من غير تفاوت ، فلا وجه لترجيح أحدهما على الأخر ، وان أمكن ترجيح التقييد أيضا إبقاء للفظ الإرث في الموضعين على ظاهره الذي هو الانتقال الفعلي.

فإن قلت : قد ورد في رواية سليمان بن خالد « ان الوارث يرث الدية بعد الدين (١) » ، فيقيد به إطلاق ما اشتمل على لفظ الإرث من أدلة الميراث.

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ب ١٠ من أبواب موانع الإرث ح ١.

٣٤٩

قلنا : لفظ الإرث إذا نسب الى المال فمعناه الأخذ ، أي يأخذ الدية ، وما قلناه من تفسيره بالانتقال انما هو إذا نسب الى المورث ، فمعنى « ورث زيد أباه » أنه انتقل المال اليه ، ومعنى « ورث زيد الدار » إذا أخذها إرثا ـ فافهم وتأمل.

هذا ما أدى اليه النظر في الأدلة من العقل والنقل.

[ استدلال المحقق القمي على مسألة الإرث المقيد ]

ثمَّ ان المحقق القمي سلك في الاستدلال على مذهب القدماء مسلكا آخر أشار إليه في القوانين في الاجتهاد والتقليد وفصل القول فيه في بعض جواب سؤاله ، وهو أن الأدلة المقيدة المشتملة على التقييد بما بعد الدين والوصية تدل على أن الإرث انما يتحقق بعد أداء الدين ، فقبل الأداء فالتركة غير منتقلة إلى الورثة. وحاصله حمل كلمة « بعد » على بعد الزماني وعلى أن مطلق الدين يمنع من الإرث ولو لم يكن بالنسبة إلى الفاضل في غير المستوعب.

وذكر في طي وجوه الرد على المتأخرين أن الايات المقيدة مجملة من حيث دورانها بين تقييد الملك أو الاستقرار ، فيسقط عمومات الإرث عن الاستدلال ، لكنها من العام المخصص بالمجمل.

وفيه : ان حمل « بعد » على البعد الزماني مبني أولا على تقدير في المقام ، وقد عرفت أن معنى الآية تام من غير الالتزام بالتقدير ، لان قوله « من بعد وصية أو دين » سواء كان قيدا للظرف المتقدم ـ أعني لكم ومرجعه الى تعلقه بمتعلقه أو قيدا أي حالا لما ترك أو للسهام كما في كشف اللثام ، فمعناه افادة مانعية الدين من غير حاجة الى تقدير أداء أو وفاء أو نحوهما.

وأما ما ذكره من كون العمومات مخصصة بالمجمل. ففيه ما لا يخفى ، لأن

٣٥٠

إجمال المخصص انما يقدح في الاستدلال بالعام إذا كان على وجه يوجب التخصيص على جميع الاحتمالات ، وأما إذا كان الاجمال باعتبار دورانه بين احتمال يكون مخصصا ـ كما إذا كان اللام في المسألة للملكية وبين احتمال لا يكون مخصصا كما لو حملت على الاستقرار ـ فالعام لا يسقط عن الحجية ، بل ربما يجعل عموم العام رافعا لا جمال ذلك المخصص كما تقرر في محله.

وربما يستدل على كل من القولين ببعض الفروع المجمع عليها ، لان بعضها يناسب القول الأول وبعضها يناسب القول الثاني ، لكن الكل ساقط عن صلاحية الاحتجاج ، لعدم استلزامها شرعا أو عقلا لشي‌ء من القولين. نعم لو تمَّ الحجة لكان في بعضها تأييدا ، مثلا قيام الإجماع على سلطنة الوارث على البيع ونحوه ولو بقبول الدين في الذمة أو بأدائه من ماله.

وبالجملة أحقية الورثة بأعيان التركة آية كونه مالكا ولو كان محجورا في بعض جهات التصرف ، لان الملك لا ينافي الحجر ، بخلاف السلطنة على عين فإنه ينافي عدم الملكية رأسا ، ومرجعه الى أن السلطنة ينكشف كشفا إنيا عن الملكية بمقتضى عموم سلطنة الناس على أموالهم ، والا فأحقية الورثة بأعيانها أو سلطنته على بعض التصرفات بنفسها ليس مما يستلزم كونه مالكا الا باعتبار ملاحظة ما أثبت الملازمة بين المال والسلطنة ، مثل قوله « الناس مسلطون على أموالهم ».

ومع ذلك ففي المناقشة فيه مجال واسع واضح يظهر للمتأمل ، لكنه لا يخلو عن تأييد للقول الثاني.

ومثله الإجماع على أن الحالف مع الشاهد في دعوى مال للمورث هو الوارث ، وغير المالك لا يحلف ، لان الحلف لا يثبت مال الغير ، فان مرجعه الى ما دل على عدم إثبات الحلف مالا للغير ، فإنه يدل على الملكية في موارد

٣٥١

صحة الحلف بالإن ، والا فلا شهادة في صحة الحلف على إثبات مال للمورث على كون الحالف مالكا للتركة.

إلى غيرهما من الفروع التي لا ينافي عدم الملكية في نفسها إلا بملاحظة أدلتها التي أثبتت الملازمة بينها وبين الملكية.

[ عدم جواز تصرفات الوارث في الإرث المقيد ]

ثمَّ انه بناء على القول الأول ـ أعني عدم انتقال المال إلى الورثة ـ لا ينبغي الإشكال في عدم جواز تصرفاته تكليفا ووضعا ، فلا يصح بيعه لشي‌ء من أعيان التركة أو إتلاف بعضها أو نحوهما من التصرفات الاتلافية. وأما على القول الثاني ـ أعني الانتقال ـ ففي جواز التصرف وعدمه اشكال معبر بأن تعلق الدين بالتركة هل هو كتعلق الدين بالمرهون أو كتعلق أرش الجناية برقبة العبد.

والتحقيق أن الوراث لا يجوز له شي‌ء من التصرفات المتلفة لجهة المالية ، والدليل عليه ما ورد في الدية من أن الميت أحق بها من الوراث (١) ، فان فحواها يشتمل لسائر التركة ، إذ الدية لم تكن داخلة في ملك الميت أصلا بخلاف التركة.

وجه الدلالة واضح ، فإن الأحقية ظاهرها الملكية ، ولذا يستدل بمثل قوله « من سبق الى مباح فهو أحق به » (٢) على كون الحيازة من أسباب حصول الملك.

ومع التنزيل عن الملكية فلا أقل من الحق المانع عن تصرفات الوارث وهجره عن الانتفاعات المالية قبل حصول براءة ذمة الميت.

وما ورد أيضا في عبد مأذون اختلف فيه وفيما في يده بين غرماء مالكه الميت والورثة ، من أنه لا سبيل للورثة الى ذلك العبد وما في يده قبل الدين. وهو

__________________

(١) الوسائل ج ١٧ ب ١٤ من أبواب موانع الميراث.

(٢) الكافي ٤ / ٥٤٦ ، ح ٣٣.

٣٥٢

أوضح دلالة من سابقة ، لان نفي السبيل آكد في تغليظ مراتب الحجر بعد صرفه عن ظاهره الذي هو عدم الملكية ، جمعا بينه وبين ما دل على أصل الانتقال على رأي المتأخرين.

وما ورد في الإنفاق على عيال الميت من أنه إذا كان عليه دين محيط بجميع المال فلا ينفق عليهم والا ينفق من أوسط المال.

وغيرها مما يدل على حجر الوارث بعد التنزل عن دلالتها على عدم الانتقال.

وانما قيدنا التصرف المنهي بكونه مفوتا لجهة المالية إذ لا مانع من التصرف الغير المتلف لها ، مثل معاوضة عين من أعيان التركة بعين آخر يساويه في القيمة والمالية ، فإن مثل هذا التصرف لا يمنع منه ، لان حق الديان انما تعلق بمالية التركة لا بأعيانها من حيث ذواتها.

وهذا مثل حق الورثة بالنسبة إلى الزائد عن الثلث على القول بكون المنجزات منه لا من الأصل ، فإن التنجيز المفوت للمالية ممنوع لا مطلقا ، فلو باع جميع التركة بثمن المثل مثلا نفذ البيع من غير اجازة الورثة. وكذا الوصية بما يزيد عن الثلث ، فلو أوصى بجميع التركة في مقابل ما يساويها في القيمة نفذت الوصية ظاهرا.

وبالجملة حق الديان ليس متعلقا بذوات أعيان التركة من حيث هي بل من حيث المالية ، فمتى كانت المالية محفوظة نفذ تصرف الوارث ، مثل المثال المشار اليه. ولا ينفع ضمان الوراث للدين من عنده ، فإن مصلحة الغرماء عدمه ، فكل تصرف لم يكن فيه مصلحة الغرماء من حيث وصول الدين لم ينفذ من الورثة.

وربما قيل بجوازه مع قدرة الغرماء على الفسخ ، جمعا بين الأدلة المانعة وبين « الناس مسلطون على أموالهم ».

٣٥٣

وفيه : ان ما قلنا أقرب الجموع في الأدلة بعد صرف الأدلة النافية عن ظاهرها الاولي ـ أعني نفي الملكية رأسا.

[ الرهن يمنع من التصرفات مطلقا ]

ومما ذكرنا ظهر أن هذا التعلق ليس على حد تعلق الرهن مطلقا ، لأن الرهانة تمنع التصرف مطلقا حتى ما لا يرجع الى تلف المالية ، وقد عرفت أن حق الغرماء ليس كذلك بل على وجه لا يمنع من بعض التصرفات الذي ليس فيه تفويت لمالية التركة ، ولو بمثل البيع لأنه تفويت لمالية الجميع الى حصول ملك جديد ـ أعني الثمن ـ فلا تجوز.

ودخول الثمن في حكم التركة لا معنى له بعد فرض بيع الوارث لنفسه ، فالبيع بمنزلة الإتلاف في عدم الجواز.

نعم يجوز تبديل عين من الأعيان بعين مساوقة لها في المالية ، لعدم فوات شي‌ء من جهات المالية ، سواء كانت المبادلة بطريق البيع أم لا.

فصار الحاصل : انه لا يجوز للورثة احداث تصرف يكون ضررا على الغرماء ، فلو باع قاصدا لا كل الثمن كان ممنوعا لكونه خيانة في حق الغرماء ، ولو باع لا بهذا القصد بل قاصدا لكون الثمن من جملة ما يتعلق به حق الغرماء كان جائزا.

ومن هنا أمكن الفرق بين المبيع بعين خارجي تقوم مقام المبيع في المالية وبين البيع الكلي في الذمة ، فيجوز الأول دون الثاني ، إذ تبديل المال الخارجي بما في الذمة ليس مصلحة الغرماء.

[ لا يجوز للوصي التصرف المفوت للمالية ]

ومن هنا أمكن القول بأن تصرف الوصي في الثلث أيضا كذلك ، فلا يجوز

٣٥٤

له التصرف الذي يكون تفويت للمالية ، وأما التصرف الغير المفوت ـ مثل تبديل عين الثلث بشي‌ء آخر مساو له في المالية مثل تبديل الحنطة بالدرهم ـ فيجوز إذا كان التصرف أمرا لا يتفاوت الحال فيه بين الحنطة وقيمتها ، كالاستيجار لقضاء الصوم والصلاة ، من غير فرق بين تصريح الوصي بالإذن في التبديل أو عدم الإذن رأسا ، خلافا للمحكي عن المحقق التستري الشيخ أسد الله.

فان قلت : ظاهر كلمات الأصحاب يأبى عما تقول ، لان حق الديان ان كان مثل حق الرهن فقد صرحوا بعدم جواز البيع والعتق ونحوهما من التصرفات حينئذ مطلقا كالتصرف في الرهن ، وان كان مثل أرش الجناية فيجوز مطلقا وينتقل الحق إلى ذمة الوارث ، كحق الأرش بعد بيع العبد الجاني ، وان كان حقا ثالثا فقد صرحوا أيضا بجواز البيع وسائر التصرفات ، فالقول بجواز البيع إذا لم يترتب عليه ضرر على الغرماء مما يأباه كلامهم في الفروع.

قلت : ما ذكرنا هو مقتضى التأمل في الأدلة ، لأنا نعلم أن تعليق الإرث بما بعد الدين في الايات والاخبار ليس إلا لأجل وصول حق الغرماء ، ومن الواضح ان مراعاة الوصول لا يقتضي أزيد من منع الوارث عن التصرفات الضررية على الغرماء ، وأما التصرفات الغير الضررية ـ مثل ما يكون فيه مصلحة للغرماء أو للورثة من غير تفاوت فيه لحال الغرماء ـ فلا يستفاد من الأدلة.

وإباء كلمات الأصحاب عنه أيضا ممنوع ، بل الظاهر أن البيع في كلامهم مثال عن كل تصرف ضرري لا مطلق البيع ، خصوصا بملاحظة اقترانه بالعتق الذي ليس فيه مصلحة الغرماء.

فان قلت : الاحتمالات الثلاثة كيف تتصور حينئذ؟

قلنا : تصويرها واضح ، وهو أن التصرفات الضررية التي تصدر من الوارث

٣٥٥

باطلة ، يعني متوقفة على إمضاء الغرماء على تقدير كونه كحق الرهانة وصحيحة على التقديرين الآخرين.

ولا يذهب عليك أن ما اخترنا يشبه القول بأن النزاع في القيمة دون أعيان التركة ، فإن الوارث أحق بها من جميع الناس على القول بالانتقال ، وحق الغرماء انما تعلق بمالية التركة ، فالتصرف الذاهب بالمالية يجي‌ء فيه الاحتمالات الثلاثة.

ثمَّ اعلم أنه لا فرق فيما ذكرنا بين القول الأول ـ أعني عدم الانتقال ـ والقول الثاني ، فنقول : على القول الأول يجوز للوارث أيضا التصرف في التركة ما لم يكن المقصود إضرار الغرماء أو يترتب عليه الإضرار وان لم يكن مقصودا ، ولا منافاة بين عدم ملك الورثة للتركة وبين نفوذ تصرفاتهم بالتصرف الغير الضرري بنص آية « أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ » ، فإن أولويتهم بالتركة ـ أي بأعيانها ـ تقتضي كمال أحقيتهم بها من غيرهم ، خرج بحكم أدلة الدين بعض مراتب الأحقية وهي الملكية. وأما الولاية في التقليب والتقلب بها على وجه لا ينافي المنساق من أدلة الدين ومصبها ـ كالتقليب الغير الضار على الغرماء الغير المنافي لعلة عدم الملكية ، أعني وصول حق الغرماء ـ فلم يقم دليل على خلافها.

[ الكلام في الدين غير المحيط بالإرث ]

هذه حال الدين المحيط ، وأما غير المحيط فالكلام فيه : تارة في مقدار مقابل للدين من التركة ، وأخرى في الباقي. وفي كل منهما : تارة نتكلم أيضا في ملكية الوارث ، وأخرى في تصرفاته.

أما ما عدا المقابل فالظاهر عدم الاشكال والخلاف في كونه ملكا للورثة

٣٥٦

إلا ما سبق من المحقق القمي. وربما يتوهم أن ظاهر عبارة العلامة عدم الملكية هنا دون القسم الأول ـ أعني ما كان الدين فيه محيطا بالتركة ـ وهو مع يعد صدوره عن العلامة بعدا لا يعارضه صريح الكلام فلا بد من تأويله فضلا عن ظاهره فإنه ليس في العبارة دلالة عليه.

قال في ميراث القواعد : من مات وعليه دين مستوعب للتركة فالأقرب عندي أن التركة للورثة لكن يمنعون منها كالرهن حتى يقضى الدين ، وقيل يبقى على حكم مال الميت ولا ينتقل الى الوارث ، وتظهر الفائدة في النماء.

ولو لم يكن مستوعبا انتقل إلى الورثة ما فضل عن الدين وان ما قابله على حكم مال الميت وتكون التركة بأجمعها كالرهن ـ انتهى.

وفيه : ان معنى قوله « على حكم مال الميت » في العبارة الأخيرة أنه يبنى على حكم ماله ، فيجري فيه الخلاف المتقدم من حيث الانتقال إلى الورثة أو عدم الانتقال ، وليس المراد به ما هو المراد به في العبارة المتقدمة ، أعني عدم الانتقال إلى الورثة. ومنشأ الاشتباه تقدير متعلق « على » في العبارة الثانية نحو يبنى لا يبقى ، والقرينة على ذلك سبق الإشارة إلى الخلاف في المسألة ، لأن ذلك يبين كون المتعلق في هذه العبارة يبني لا يبقى.

ولقد أصاب في محكي كشف اللثام بأصل المراد ، لكن بطريق آخر ، وهو تنزيل قوله « على حكم مال الميت » في الأخير على قول قبل السابق ذكره وكيف كان فالمراد واضح إذا جردنا النظر عن كون المتعلق يبقى.

وأما جواز التصرف للوارث ففيه وجهان بل قولان ، وقد عرفت قول العلامة في هذه العبارة بأن التركة تكون بأجمعها كالرهن. ولعله الأقرب والأشبه بالقواعد.

أما على القول بكون مقدار الدين في حكم مال الميت وأنه غير منتقل الى

٣٥٧

الورثة ، فلان مقدار الدين أمر كلي مساو في جميع أعيان التركة ، فكل ما يتصرف فيه الوارث من أعيان التركة فقد تعلق به حق الميت تعلق الكلي بالفرد لا تعلق الجزء بالكل ، كتعلق حق الشريك بالمشترك فإنه على نحو الإشاعة ، بخلاف تعلق الكلي بالعين فإنه ليس على هذا النحو ، ولذا لا يدخل عليه النقص إذا تلف شي‌ء من أعيان التركة كما لا يدخل النقص على مال المشتري صاعا من صبرة إذا تلف شي‌ء منها.

فان قلت : تعلق الكلي بالعين لا يمنع عن التصرف فيها مطلقا ، بل إذا انحصرت في مقدار ذلك الحق الكلي ، لأنه إذا كان في غير المتصرف فيه سعة للكلي كان الكلي محفوظا عن التصرف ، ولذا يجوز للبائع في المثال المشار اليه التصرف في الصبرة ما لم ينته الى الصاع فاذا انتهت اليه تعيين كونه للمشتري ، إذ لا مصداق للصاع الكلي من الصبرة حينئذ سواء ، فان تصرف فيه البائع فيرجع الى خيار التسليم أو تلف فيرجع الى مسألة تلف المبيع قبل القبض. وبالجملة إذا كانت عين أو أعيان تعلق بها حق كلي فمقتضى القاعدة جواز التصرف فيها ما دام في تلك الأعيان سعة لذلك الحق ، لأن التصرف حينئذ ليس فيه بل في غيره ، فلا وجه لعدم الجواز ، فاذا انحصر مصداق ذلك الحق في فرد تعين كونه ذلك الحق الكلي ، فلا يجوز التصرف لكونه تصرفا في حق الغير.

قلنا : فرق بين الكلي المتعلق بالصبرة وأشباهه وبين الكلي المتعلق بالتركة أعني الدين ، لان هذا الكلي ـ أعني الدين ـ وجوده مانع عن استقرار ملك الوارث للفاضل وان لم يكن مانعا عن أصل ملكه له ، وذلك لما عرفت في تفسير الاية أن المراد بما بعد الدين أن التركة لا تنتقل الى الوارث الا حال كونها مع عدم الدين ، فحال وجود الدين ولو كان غير مستوعب لا يصدق على شي‌ء من أعيان التركة عنوان ما ترك حال عدم الدين وان أمكن أن يتصف بهذا العنوان

٣٥٨

فيما بعد ، فإذا أراد الوارث التصرف في شي‌ء من التركة جاء احتمال كونه من التركة حال وجود الدين أبدا واحتمال طرو صدق كونه من التركة حال عدم الدين ، بأن يصير الدين بعده معدوما.

ولأجل مجي‌ء الاحتمالين ومراعاة الاحتمال الأول يمنع عن التصرف فيه ، فالتصرف في شي‌ء من التركة مع وجود الدين معرض للضرر على الغرماء وان لم يعلم كونه ضررا فعلا ، لا أنه ان أوفى الدين انكشف عن كون المتصرف فيه حقا طلقا للوارث ، لاتصافه بعد الأداء بكونه من التركة حال عدم الدين ، وان لم يوفه ولا حصل مبرئ آخر انكشف كون المتصرف فيه من التركة حال وجود الدين ، فينتقل الدين حينئذ إلى ذمة الوارث مع تلف الباقي بآفة سماوية.

وقد عرفت أن انتقال العين إلى الذمة ليس فيه مصلحة الغرماء ، فلا يجوز ، إذ لا فرق في التصرف المنهي عنه بين كونه ضررا أو معرضا له ، بمعنى دورانه بين احتمال انتقال الدين إلى الذمة فيكون ضررا وبين عدم الانتقال فلا يكون ضررا.

ولا يذهب عليك ان ما ذكرنا لا يرجع الى مختار القمي ، حيث قال بعدم انتقال الفاضل إلى الورثة مع وجود الدين كما تقدم.

لأنا نقول : ان الوارث يملك ما عدا الدين ملكا فعليا مع وجود الدين ، لكن ذلك أمر بحسب الواقع وأما بحسب الظاهر فهو محجور عن جميع التركة باعتبار عدم العلم بكون المتصرف فيه قبل الدين من مصاديق ما ترك حال وجود الدين.

ولا يخفى على من سدد النظر في فهم ما قلنا أن الصاع من الصبرة ليس كذلك ، لان بيع الصاع لا يوجب اختصاص ملك البائع بالصبرة حال عدم الصاع ، لأن قضية نقل الكلي من عين ليس أزيد من نقل ذلك الكلي على كلية إلى المشتري ،

٣٥٩

وأما كون وجود الصاع مانعا عن ملك البائع أو عن استقرار ملكه للصبرة فليس من مقتضياته.

فانكشف الفرق بين ما نحن فيه وبين مسألة بيع الصاع من الصبرة ، واتضح أيضا عدم الملازمة بين استحالة بيع الكلي كما قيل واستحالة سريان حق الديان الى تمام التركة كما توهم.

[ هل تجب فطرة العبد إذا مات السيد وعليه دين؟ ]

ومن الإحاطة بما قلنا يسهل الخطب في عبارة الشرائع في باب الزكاة ، حيث دلت على عدم وجوب فطرة العبد على الورثة إذا مات المورث بعد الهلال وعليه دين. ويتحقق المحاكمة فيما في تلك العبارة من اختلاف المشارب ، حيث أخذ المحقق القمي بإطلاقه فجعله ناظرا الى ما اختاره من عدم نقل التركة إلى الورثة مع الدين مطلقا في المستوعب وغيره ، ووافقه صاحب المسالك في الأخذ بالإطلاق ، فأورد عليه بأنه انما يتم على القول بعدم انتقال التركة إلى الورثة لا مطلقا ، وحمله صاحب المدارك على صورة الاستيعاب تأويلا للإطلاق.

وجه كون ما قلنا استراحة عن جميع هذه الخيالات : ان التركة ليست ملكا طلقا مستقرا للوارث مع الدين ولو الغير المستوعب كما عرفت ، والمناط في زكاة الفطرة هو الملك التام المستقر كما في زكاة المال.

والحاصل ان كل جزء من اجزاء التركة يحتمل لحوق صفة عدم الدين إليها ويحتمل عدم اللحوق ، والمفروض أن ملك الوارث على القول بعدم انتقال مقابل الدين الى الوارث كما هو مذهب المحقق انما هو التركة في حال عدم الدين ، فكل عين من أعيان التركة يحتمل دخوله تحت هذا العنوان فيما بعد فيكون ملكا للوارث ويحتمل عدم الدخول ، كما إذا بقي الدين مع تلف سائر

٣٦٠