كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

عليه الحق ، فلا بد من تقييد إطلاقه بما دل على ثبوت الحق بعد نكول الوارث عن الحلف وإطلاق أدلة التقييد ، وهي التي تدل على عدم خلاص المنكر الا بالحلف مع عدم البينة الواقعية يقضي بثبوت الحق بالنكول عن الحلف مطلقا ، سواء كان مع دعوى العلم أولا ، ولا ريب ان إطلاق المقيد حاكم على إطلاق المطلق ، فلا يقال : ان قوله « لاحق » عام أو مطلق خرج عن تحته صورة نكول الوارث عن الحلف مع دعوى العلم ، وأما مع عدم دعواه فلا دليل على خروجها عنها ، بل قضية إطلاقه البناء على عدم ثبوت الحق ، وهو معنى اعتبار دعوى العلم.

ثمَّ الظاهر أن يمين نفي العلم بفعل الغير رخصة لا عزيمة ، فيجوز له الحلف البتي إذا كان عالما بالواقع ويجزيه ، وهل يجزيه الحلف على النفي الظاهري ، بأن يحلف على نفي فعل الغير بمقتضى الاستصحاب مثلا أم لا بد من الحلف على نفي الواقع جزما أو على نفي العلم وجهان ، من أن الحلف على عدم العلم بشي‌ء والحلف على عدمه الواقعي اتكالا على عدم العلم به ، مرجعهما واحد ، ومن الاقتصار في الخروج عن أصالة كون الحلف على نحو البت على القدر المتيقن ، وهو الحلف على نفي العلم ، والله العالم.

التقاط

[ الغريم مولى العبد عند الادعاء عليه ]

قال في الشرائع : إذا ادعي على العبد فالغريم مولاه ، ويستوي في ذلك دعوى المال والجناية ، والمراد بالغريم من يؤخذ بالحق ويطالب منه ، يعني ان المدعى عليه هو العبد فيعامل معه ما يعامل مع المدعى عليه الحر من حيث

٣٢١

السؤال والجواب والإقرار والإنكار والحلف والرد الى غير ذلك من وظائف الدعوى ولكن الغريم مولاه.

فان ثبت على العبد شي‌ء بمقتضى ميزان القضاء ، فان كان أثره يرجع الى العبد فيما بعد العتق كالإتلاف فالمالية ونحوها فلا شي‌ء على المولى ، وان كان أثره مما يرجع الى العبد عاجلا ـ على معنى أنه لو كان حرا كان عليه شي‌ء من الحقوق ـ فهذا يطالب به المولى ، بمعنى أن المولى حينئذ يقع طرفا للمنازعة والمخاصمة من حيث دفع الحق ، فإن كان ذلك الميزان الذي فصل به الدعوى على العبد حجة شرعية مثل البينة فعلى المولى دفع الحق ، والا فلا بد للمدعي من اقامة الحجة عليه وطرح النزاع معه.

وليس المراد أنه إذا ألزم العبد بكل ميزان شرعي لزم المولى الحق ، بل المراد أنه لا شي‌ء على العبد عاجلا ، وانما الحق الذي ادعى على العبد من المال أو الجناية على المولى ، وأما ان ذلك الحق يلزم المولى فعلا أو شأنا فهو موكول إلى مساعدة القواعد.

ومما ذكرنا في معنى العبارة يسقط جل ما في المسالك من الاشكال على العبارة أو كله.

التقاط

[ عدم سماع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ]

لا اشكال ولا خلاف في عدم سماع الدعوى في الحدود مجردة عن البينة ، لأنه كلما يتوجه الدعوى على الحلف وعكسه النقيض كلما لا يتوجه الحلف لا يتوجه الدعوى ، ولم يتقرر الحلف طريقا شرعيا الى ثبوت الحد إجماعا ، مضافا الى النص والاعتبار الجلي المستنبط من الاخبار.

٣٢٢

ولان حلف المنكر هنا لا طائل تحته ، لأن فائدة الحلف كما أشرنا إليه هو التشفي للمحلوف له وهو المدعى مثلا ، والمحلوف له هنا هو الله تعالى.

هذا في حق الله المحض ، وأما مورد تعلق الحقين فان كان حق الآدمي حق مالي كالسرقة فيعمل في كل حق بمقتضاه ، وان كان حقا غير مالي كالقذف ففي سماع الدعوى بلا بينة وجهان أو قولان ، وإطلاق أدلة القضاء يقتضي السماع. والله العالم.

التقاط

[ مواضع تسمع الدعوى فيها مجردة عن البينة ]

قد عرفت عدم سماع الدعوى مجردة عن البينة في غير حق الله وعدم خلاص المدعي الا بالبينة وعدم خلاص المنكر الا باليمين.

فاعلم أن موارد خرجت عن تحت القواعد الثلاث فقد تسمع مجردة عن البينة ، اما مع اليمين أو بدونها أيضا ، وقد يتخلص المنكر بلا يمين أيضا.

وهذه الموارد كثيرة قد ثبت الحكم في كل واحد واحد منها بالدليل من إجماع ونحوه ، واحصاؤها خارج عن حيز استطاعة القلم في باب واحد ، ولا ضابط أيضا لتلك الموارد غير أن ما سقط فيه مطالبة البينة عن المدعي بعضها مستند الى وجود المانع عن تكليف المدعي بالبينة كتضييع الحقوق وبعضها مستند الى وهن في الأصل الذي في جانب المنكر وقوة في جانب المدعي وبعضها مستند إلى الأمرين :

( فمن الأول ) يمكن أن يكون مدعي البلوغ بالإنبات ، فان اقامة البينة عليه غالبا متعذر أو متعسر ، فيلزم من إيقاف سماع دعواه عليها ضياع الحقوق غالبا.

ودعوى الودعي التلف ، لان تكليف الامناء بالبينة في دعوى التلف ينجر

٣٢٣

الى فتور رغبة الناس عن قبول الودائع ، فهو المانع من العمل بمقتضى الأصل الذي عليه بناء العقلاء من مطالبة الحجة من المدعي.

( ومن الثاني ) دعوى الدخول مع الخلوة والتيام الأخلاق وانتفاء الموانع ، فإن أصالة عدم الدخول التي صارت سببا لصدق المدعي على مدعيه موهونة بمعارضة الظاهر المستند إلى العادة ، فأشبه المنكر في قوة وسقط عنه كلفة البينة.

ومن الأخير تقديم قول مدعي الدم في اللوث بيمينه ، لأن القوة في جانب المدعي ، لمكان الامارة على صدقه مع كونه على وفق المصلحة ، حيث أن مطالبة البينة في دعوى الدم من المدعي مظنة ضياع الدم.

بل صرح بهذه المصلحة في حديث « ان الله حكم في دمائكم بخلاف ما حكم في أموالكم » (١) ، لأن الإمام عليه‌السلام قد علل فيه عدم الاكتفاء باليمين من المنكر بأنه يوجب ضياع الدماء ، لكن المصالح الموجودة في تلك الموارد ليست علة مطردة حتى ينفعنا في الفروع المشتبهة ، بل انما هو على وجه الحكمة التي لا تتعدى عن موردها ، فلا بد في سقوطه إقامة البينة من المدعي من قيام دليل مخصوص لعموم نحو « البينة على المدعي » ، فان ثبت عمل به من حيث سقوط البينة.

وأما العدول عنها الى اليمين فلا بد أيضا من قيام دليل آخر ، إذ المدعي بعد ما عرفنا سقوط وظيفته الشرعية ـ أعني البينة ـ فلا دليل على قيام اليمين التي هي وظيفة المنكر مقامه ، بل لا بد من تصديقه بلا يمين ، وهو مخالف للأصل من جهتين : إحداهما من جهة طرح ذلك الأصل الذي يدعي خلافه ، والثاني من حيث كونه خروجا عن قاعدة انحصار القضاء بالبينة أو الإيمان.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ٣.

٣٢٤

[ الاستدلال بقيام اليمين مقام البينة ]

هذا ، ويمكن الاستدلال بعد قيام الدليل على سقوط البينة عن المدعي على قيام اليمين مقامه ، وذلك لان مقتضى عموم نحو قوله عليه‌السلام « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » أن لا يكون قضاء إلا بأحدهما ، ومقتضى قوله عليه‌السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » أن تكون البينة وظيفة للمدعي مطلقا ، فاذا ثبت في مورد سقوط البينة عن المدعي فمقتضى عموم قوله عليه‌السلام « انما » استعمال الميزان الأخر ، وهي اليمين ، لأن إطلاق المطلق لا يهمل عند انتفاء المقيد.

مثلا إذا ثبت « أعتق رقبة » ثمَّ ورد « أعتق رقبة مؤمنة » ، فإن ثبت التكليف بالمؤمنة على حالة لم يكتف منه بعتق الكافرة ، أما إذا انتفى التكليف بالمؤمنة ـ كما إذا لم يتمكن المكلف بعتق المؤمنة على عتقها ـ أورد تخصيص على دليل وجوب عتق المؤمنة ، مثل أن يكون المأمور بعتقها نوع من الرجال كالتجار ، ثمَّ ورد تخصيص آخر دل على عدم وجوب عتقها على بعض المأمورين كان المتبع حينئذ إطلاق الأمر بالعتق ووجب عتق الكافرة حينئذ على ذلك البعض.

وما نحن فيه كذلك ، لان مقتضى ما دل على لا بدية أحد الميزانين في كل قضاء الاكتفاء بأحدهما في كل قضاء ، لكن الحديث المفصل ـ أعني قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » قضى بأن القضاء إذا كان للمدعي فلا بد أن يكون ميزانه البينة ، ومقتضى عموم مطالبة البينة من كل مدعى يقضى له ، فاذا ثبت في بعض المدعى أنه يقضى له بلا بينة لعسر أو حرج أو شي‌ء آخر ، رجعنا حينئذ إلى إطلاق الأدلة الاولى القاضية بلا بدية أحد الميزانين في القضاء ، فيتعين تصديق قوله حينئذ بيمينه.

٣٢٥

وهذا هو السر في أن الفقهاء إذا اقتضى قواعدهم مطالبة البينة من المدعى مثلا فيقولون ان القول قوله بيمينه لا مطلقا.

ويرشد إليه أيضا تعليل الإمام في حديث الدماء كما أشرنا إليه ، حيث علل عدم الاكتفاء باليمين من المنكر هنا بأنه يوجب ضياع الدم مع أن عدم الاكتفاء منه باليمين لا يستلزم كون وظيفته البينة ، فيظهر أنه حيثما ينتفي أحد الميزانين يقوم الميزان الأخر مقامه.

لكن هذا أيضا غير مطرد ، فربما تسقط البينة من المدعي بلا يمين ، وكذا تسقط اليمين عن المنكر بلا بينة ، فمن الأول دعوى صاحب المال دفع الزكاة إلى المستحق فإنها مقبولة بلا يمين ، ومن الثاني إبدال النصاب في أثناء الحلول ، فإنه منكر مع عدم مطالبة البينة منه ، وجعله صاحب المسالك من موارد تقديم قول المدعي.

وفيه نظر ، لان مدعي الابدال يدعي براءة ذمته عن الزكاة أو سلامة عين ماله من تعلقها به ، فهو موافق للأصل ، بخلاف العامل أو الجابي أو الفقير المطالبين للزكاة ، فإنهم يدعون خلاف الأصل المزبور.

ودعوى أن الشك في تعلق الزكاة مسبب عن الشك في الابدال ، والأصل عدمه لأنه حادث ، فيكون مدعيه مخالفا للأصل. مدفوعة بأن أصالة عدم الابدال لا تثبت كون المال الموجود محلا لتعلق الزكاة إلا بناء على اعتبار الأصل المثبت كما لا يخفى ، فيكون قول مدعي الزكاة غير مطابق للأصل نافع بخلاف المالك.

لكن الاعتذار عن هذه المواضع ونحوها مما ذكره صاحب المسالك وغيره بأنها ليست من مجاري القضاء بين الناس حقيقة وان كان متعلق الدعوى فيها من حقوق الناس لأنها أشبه بحقوق الله أو الموضوعات التي لا يجري فيها القضاء كالطهارة والنجاسة والهلال وان تضمنت أحيانا بعض حقوق الناس.

٣٢٦

ويمكن استظهار ذلك في خصوص الزكاة من وصايا أمير المؤمنين عليه‌السلام كما في الزكاة في حديث طويل منقول في محكي الوسائل المشتمل على كمال الرفق ولين العريكة مع صاحب الزكاة ، فإن فيها بعض الآداب الذي يظهر منه أن الزكاة لا تحل الا بدفع صاحب المال وانها ليست من موارد القضاء ومجاري الخصومة. ولعل المراجع الى الحديث الشريف يستفيد بعض ما خفي علينا من المطالب (١).

فان قلت : قضية قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » حصر حجة المدعي في البينة وعدم كون اليمين حجة له لأنه قضية الحصر ، فاذا ثبت في مقام سقوط البينة عن المدعي لزم تصديق قوله بلا بينة لا الحكم بقيام اليمين مقام البينة بالأدلة الدالة على لابدية أحد الميزانين في القضاء ، إذ بعد معلومية عدم كون اليمين حجة للمدعي وان حجته منحصرة في البينة لا يبقى لتلك الأدلة دلالة على قيام اليمين مقام البينة.

وقياسه بمثال « أعتق رقبة » و « أعتق رقبة مؤمنة » قياس مع الفارق ، لان مفاد « أعتق رقبة مؤمنة » ليس سوى وجوب المؤمنة ، واما مع عدم كفاية عتق الكافرة فيستفاد من عدم الدليل لا دلالة الدليل على عدمه ، وقوله « البينة على المدعي » يدل زيادة على إلزام المدعي بالبينة على عدم كون اليمين حجة له بمقتضى الحصر المستفاد من تعريف المسند والمسند اليه.

قلت : قوله « البينة على المدعي » يدل على أمرين : أحدهما كون البينة حجة ، للمدعي والثاني كونها متعينة عليه ـ بمعنى عدم كفاية اليمين له. والحصر المستفاد من القضية يرجع الى الثاني ، وما ذكرت مبني على رجوعه إلى الأول ، إذ

__________________

(١) الوسائل ج ٦ ب ١٤ من أبواب زكاة الأنعام ح ١.

٣٢٧

انحصار الكفاية في البينة انما يقتضي عدم كفاية اليمين لا عدم كونها حجة له شرعا.

وانما قلنا برجوع الحصر الى الثاني لأنا استفدنا من مقابلة الفقرتين أن الفقرة الأولى مسوقة لبيان التكليف الأثقل كما أن الفقرة الثانية لبيان رفع الأثقل وكفاية الأسهل ـ أعني اليمين ـ ومقتضى ذلك أن يرجع الحصر الى الثاني ، لأن مفاد قوله « البينة على المدعي » بعد الاستفادة المزبورة أن البينة متعينة على المدعي ، فالحصر يرجع الى المتعين الذي هو بمنزلة محمول القضية حقيقة.

ومن هنا يسقط توهم بعض المنافاة بين ما ذكرنا هنا وما قدمنا في الالتقاطات السابقة ، حيث قلنا : ان قضية تعريف المسند والمسند اليه ان كل بينة على المدعي وكل مدعى عليه عليه اليمين ، فيتوهم أن قضية الكلية الثانية عدم حجية اليمين للمدعي أصلا ، ولذا قلنا ان موارد تصديق المدعى بيمينه قد خرج بالدليل.

وجه السقوط : ان قضية الكلية الثانية في نفي الاكتفاء باليمين من المدعي ، وهذا يكفي في كون موارد تصديق قوله بيمينه خارجا بالدليل ، وليس قضية الكلية عدم كون اليمين حجة للمدعي.

والحاصل ان العمل بما دل على لابدية الميزان من اليمين أو البينة في القضاء متعين إذا ثبت سقوط البينة من المدعى ، فيقدم قوله بيمينه. نعم لو كان دليل السقوط على وجه يستفاد منه عدم الحاجة الى شي‌ء آخر فحينئذ لا بد من النظر في أن المراد هو القضاء بلا ميزان أو مجرد التصديق ، فان التصديق لا بد من أن يكون على وجه القضاء ، وان أمكن أن يكون كذلك مثل القضاء بالنكول على القول به ، بناء على كونه من مقامات تصديق قول المدعي ، فإنه لا بينة هنا ولا يمين ، فقد يكون مفاد الدليل سقوط البينة من المدعي ، وحينئذ فلا بد في القضاء من اليمين أيضا عملا بالأدلة العامة كما عرفت.

٣٢٨

وقد يكون مفاد الدليل سقوط الأمرين ، فحينئذ لا بد من النظر والتأمل ، فإن دل على شرعية القضاء حينئذ عمل به والا فيصدق قول المدعي بلا بينة ولا يمين من غير قضاء ، كمدعي الابدال والدفع في مسألة الزكاة.

ويحتمل أن يكون من هذا الباب تصديق الامناء حيث لا يمين الا من باب القضاء ، لان ما دل على لابدية الميزان في القضاء لا يصار عنها بمجرد دلالة الدليل على التصديق بلا ميزان ، لان التصديق أعم من القضاء.

هذا كله في المدعي ، وأما المنكر فالظاهر أنه ان دل دليل على سقوط اليمين في حقه قضي له ، لان المنكر يكفيه اليمين في القضاء له مطلقا ، فاذا سقطت سقط البينة بطريق أولى ، إلا إذا كان المقام لا يجري فيه الأولوية ، كمنكر الدم فان سقوط البينة فيه لا يستلزمه سقوط اليمين نظرا إلى زيادة الاهتمام بالدماء.

نعم لو لم يعلم من الدليل الدال على سقوط اليمين سقوطه في مقام القضاء بل احتمل أن يكون المراد مجرد التصديق صدق قوله وخلي سبيله باليمين من غير قضاء ، مثل مدعي الابدال بناء على كونه منكرا كما هو الأظهر لعموم الأدلة ، فالأولوية إنما تجري بعد معلومية أن المراد بالتصديق بغير يمين هو القضاء لا مجرد تخلية السبيل. والله العالم.

التقاط

( في الصلح عن الدعوى باليمين حيث لا سبيل إليها شرعاً )

اعلم أن الدعوى قد ينحصر فصلها في البينة ، بمعنى عدم سماعها الا بها ، كالدعوى مع التهمة على القول بسماعها والدعوى على الميت مع عدم دعوى العلم على الورثة ، فان المدعي في هذه وأمثالها ان لم يكن له البينة فليس له الدعوى والإحلاف ، فهل له الصلح عن الدعوى بالحلف أم لا.

٣٢٩

وليس في الكتب المعروفة عنوان لهذه المسألة ، ويندرج تحتها صلح المتنازعين عند عدم وجود الحاكم. وبالجملة كل مقام ليس للمدعي سلطنة على إحلاف غير المدعى عليه ، اما لكون الدعوى مما لا تسمع إلا بالبينة أو لفقد شرط من شروط القضاء كالاجتهاد.

وانما خصصنا الكلام بما إذا كان للمدعي سلطنة على الإحلاف مع عدم الفرق بينه وبين ما كان شرائط الإحلاف فيه موجودة ـ بأن يصالح المدعي عن دعواه الصحيحة بحلف المدعى عليه من غير مرافعة إلى الحكام ـ لأن فائدة المسألة انما تظهر فيه ، إذ مع سلطنته على الإحلاف.

وكيف كان فالصلح تارة يقع على المدعى به وأخرى على الدعوى ، وثمرة الصلح على الدعوى إسقاط كل ما كان للمدعي من الاثار الوضعية والتكليفية ، مثل إسقاط يمين المنكر لجميع آثار الدعوى لا المدعى به.

وأما الصلح عن المدعى به ـ بأن يقول المدعي « صالحتك عما ادعي من العين أو الدين بأن تحلف بالله على براءة ذمتك » مثلا ـ فهو على قسمين : أحد هما أن يكون المصالح به أعني الحلف هو الحلف على براءة الذمة بعد الصلح ، والثاني الحلف على براءتها قبل الصلح.

لا إشكال في فساد الصلح على الوجه الأول ، لأن الصلح لو كان صحيحا برئت ذمة المدعى عليه بعد الصلح جدا ، فيكون الحلف على البراءة بعده لغوا لا يترتب عليه غرض العقلاء ، إذ فائدته للمدعي التشفي ، وهو انما يتصور مع تجويز كذب الحالف ، وأما مع العلم بالصدق فلا فائدة فيه أصلا ، فيلزم من صحة الصلح فساده.

وأما على الوجه الثاني فالحلف حينئذ ليس هو الحلف الذي شرع ميزانا لطي الدعاوي ، لأن الحلف هذا مورده ما لو أقر المدعى عليه لألزم ، وهذا ليس

٣٣٠

كذلك ، لان المدعى عليه على تقدير صحة الصلح لو أقر باشتغال ذمته قبل الصلح لم ينفع للمدعي كما هو واضح ، وليس أيضا مسقطا للمدعي به لسقوطه بنفس الصلح ، فالكلام في صحة هذا الصلح مثل الكلام في صحة ما لو صالح على اليمين في غير مقام الدعوى ، مثل أن يقول « صالحتك عن كذا على أن تحلف بالله على كذا » ، وحينئذ فلا بد من إحراز شرائط العوض ، مثل كونه مباحا وكونه متعلقا به غرض عقلائي ، إذ مع انتفائهما أو انتفاء أحدهما لا وجه لصحة الصلح ، وحينئذ نقول :

ان أحوال المدعي ثلاثة : فاما أن يعلم بأن المدعى عليه يحلف صادقا باعتقاده أو كاذبا أو لا يعلم شيئا منهما ، والحلف في الصورة الأولى لغو كما مر ، لعدم حصول التشفي بحلف الصادق باعتقاده. وفي الثانية حرام للمدعي عليه بذله ، وشرط عوض الصلح أن يكون مقدور التسليم شرعا وعقلا ، بل لا يجوز للمدعي أيضا استيفاؤه ، لأنه اعانة على الإثم ، والاذن في المعصية معصية عقلا وشرعا. وفي الصورة الثالثة مردد بين اللغو وممتنع التسليم ، وعلى أي حال فلا يصلح أن يكون عوضا في الصلح ، لان شرط العوض أن يكون من الأمور التي يترتب عليها غرض العقلاء وان يكون لكل من المتصالحين أمرا جائزا والا فلا يمكن تسليمه ولا تسلمه.

فان قلت : إذا كان الاذن في الحلف الكاذب معصية فكيف يتوقف حلف المنكر على رخصة المدعي إذا كان عالما بكذبه في اعتقاده.

قلنا : فرق بين المقامين ، لان مرجع شرطية إذن المدعي في حلف المنكر الى عدم رفع اليد عن المخاصمة ، ولا يحتاج إلى أزيد من ذلك ، ولا يجب على المدعي رفع اليد عن المخاصمة محافظة للمنكر عن الحلف الفاجر. بخلاف الصلح على اليمين الفاجرة ، فإنه اعانة على الإثم واقدام على القبيح.

٣٣١

توضيح الفرق بين المقامين : ان التسبيب الى القبيح قبيح ، وأما رفع اليد عن عمل يحصل بذلك الرفع ترك القبيح ليس بواجب ، فلو كان الشخص مشتغلا بشغل مباح بالذات وكان تركه سببا لعدم صدور المعصية عن شخص فلا يجب الترك حينئذ ، وأما التسبيب إلى المعصية والإعانة عليها فهو غير جائز.

فالمدعي لما كان رفع يده عن المخاصمة سببا لعدم صدور الحلف الكاذب عن المنكر فهو ليس بواجب عليه ، وأما الصلح على اليمين الفاجرة ومطالبتها بعد الصلح فلما كان تسبيبا إلى المعصية فهو غير جائز.

وانما قلنا ان مرجع إذن المدعي في حلف المنكر الى رفع اليد عن المخاصمة لا الى الرضا باليمين الفاجرة ، لأن يمين المنكر انما شرعت لخلاص المنكر من يد المدعي ، وليس حجة متوجهة من قبل المدعي الى المنكر فيما لم يرفع المدعي يده عن المنكر ، فلا سبيل له الى التخلص الا باليمين ، وهو أمر بيد المنكر لا بيد المدعي ، إذ لا معنى لكون خلاص المنكر بيد المدعي بل للمدعي إبقاء يده على المخاصمة وللمنكر خلاص نفسه من يده ، فاذا لم يكن بينة فلا بد من السؤال عن المدعي واستكشاف حاله من حيث ترك المخاصمة حتى يتخلص المنكر بدون اليمين أو عدم تركها حتى يتخلص المنكر بيمينه.

ومن أجل ذلك كان اذن المدعي في الحلف في معنى عدم رفع يده عن المخاصمة.

ومن هنا قد يقال : بأن المدعي يجب عليه أيضا إظهار عدم الرضا باليمين إذا علم بكذب الحالف في اعتقاده مع الاذن وبدونه ، إذ لا منافاة بين الاذن بالمعنى المذكور وبين عدم الرضا وإظهار الكراهة ، وانما المنافاة بين عدم الرضا والاذن بمعنى الطلب لا بمعنى عدم رفع اليد عن المخاصمة.

ودعوى قبح كل عمل يتوقف على ترك صدور القبيح عن شخص مثل التسبيب لكون كل منهما مصداقا للإعانة. واضحة المنع ، لان ترك العمل المذكور

٣٣٢

داخل في عنوان إيجاد المانع عن وقوع المعصية ، والإعانة ترجع إلى إيجاد مقدمات المعصية ، ولا دليل على وجوب الأول بعد فرض استناد جميع مقدمات المعصية وأسبابها إلى فعل مريدها ، بخلاف الثاني فإنه واجب تركا للإعانة التي مرجعها إلى إيجاد بعض المقدمات.

هذا هو تمام الكلام في الصلح عن المدعى به ، وأما الصلح عن الدعوى فيعلم الكلام فيه بما ذكرنا ، لان عدم اشتمال الحلف على شرائط العوضية لا يتفاوت فيه بين المقامين. والله العالم.

وقد وافقنا في هذه المسألة ما نقل عن المحقق القمي في بعض جواب سؤاله.

التقاط

( في تورية الحالف )

تعرضها في القواعد ، ومحصل الكلام فيه : ان الحالف ان كان مبطلا ظالما فالبحث في توريته في الحلف : تارة من حيث الحكم التكليفي ، وأخرى من حيث الحكم الوضعي.

أما الحكم التكليفي فالظاهر أنه لا إشكال في حرمته أيضا ، وان قلنا بأن التورية لا تندرج في اسم الكذب.

وأما في حكمه الذي هو القبح العقلي والشرعي ، فلو حلف المنكر على براءة ذمته كاذبا فلا ينفعه في التفصي عن الإثم والعقاب أن يوري في حلفه بالقلب أو باللسان على وجه لا يسمعه القاضي أو المدعي.

والدليل على ذلك هو العقل المستقل ، لأنه وان كان حلفا صادقا الا أن مناط قبح الحلف الكاذب الذي دل عليه العقل والنقل ـ مضافا الى قبح الكذب ـ

٣٣٣

موجود في ذلك الحلف الصادق الذي جعله عرضة لا بطال حق الناس ، لان قبح الحلف الكاذب انما هو لأجل كونه هتكا لاحترام اسم الله تعالى. ولا ريب أن كونه هتكا ليس متوقفا على كونه كذبا ، لان الهتك انما يحصل باستحقاره بالله تعالى من حيث أن قضية التعظيم عدم جعل الحلف به وسيلة إلى المقاصد الحقة فضلا عن التوصل الى المقاصد الباطلة.

والحاصل ان استعظام المولى له مراتب : منها ما هو متصف بالحسن الغير الملزم ، كترك الحلف به للتوصل الى المقاصد المباحة ، فإنه راجح عقلا وشرعا لما فيه من التعظيم الواضح. ومنها ما هو متصف بالحسن الملزم ، كعدم الحلف به للتوصل الى المقاصد المحرمة ، سواء كان بطريق الكذب أو بطريق الصدق الذي هو التورية.

ولعل حرمة التورية في الحلف الكاذب ومساواته مع الكذب هو المشهور بين العلماء كما ادعاه الشيخ دام ظله.

ومن هنا يظهر أنه من الكبائر ، لأن قبحه مثل قبح الحلف الكاذب الذي لا إشكال في كونه كبيرة.

وأما الحكم الوضعي فالظاهر أيضا عدم ترتبه ، فلا يحصل به فصل الدعوى ويظهر الثمرة فيما إذا حصل العلم للقاضي أو غيره بالتورية ، والا فظاهر الحلف عدم التورية.

[ تورية المظلوم في الحلف جائزة ]

هذا إذا كان الحالف ظالما ، وأما إذا كان مظلوما فيجوز له التورية بل قد يجب كالودعي الذي ادعى عليه جورا ، فان التورية في الحلف الذي يتوجه إليه في الدعوى الجورية واجبة له.

٣٣٤

نعم الظاهر جواز الكذب له أيضا ، فيحلف كاذبا تخلصا عن جور المدعي وإيصالا للوديعة إلى صاحبها ، للأخبار الدالة على جواز الحلف الكاذب للتخلص من الظالم ، حتى ورد أنه أحلى من العسل.

لكن قد يقال : ان مصب تلك الاخبار ما إذا حصل الاضطرار والإلجاء إلى الكذب ، ومع إمكان التورية لا يتصور الإلجاء ، لأن النية أمر قلبي لا يعقل الإكراه عليه ، فيشكل الأمر بين الأخذ بظاهر الاخبار فلا يجب التورية وبين طرحها لمراعاة الاضطرار التي دل عليها العقل والنقل فلا يجوز الكذب مطلقا.

ويمكن التفصي بحمل الاخبار على ما هو الغالب المتعارف بين الناس من عدم التفات الملجأ والمضطر حين الاضطرار إلى التورية ، فإن المضطر على طلاق امرأته أو بيع ماله غالبا لا يوري في طلاقه وبيعه ، بل إذا طلق كان مع قصد المعنى.

وبذلك يجمع أيضا بين ما دلت عليه الاخبار وقام عليه الإجماع من عدم صحة طلاق المكره مثلا مع عدم قبول حقيقة الطلاق الذي هو الإنشاء القلبي المقرون بالكاشف للإكراه ، لإمكان إرادة معنى آخر من لفظة « طالق » غير إنشاء الطلاق كذاهب مثلا.

وجه الجمع : ان الإكراه على حقيقة الطلاق كثيرا ما أمر يقع في الخارج مثل صورة غفلة المكره عن التورية فحينئذ يقع غير مؤثر.

وبذلك يندفع ما أورده المحقق الثاني في محكي وديعة جامع المقاصد على العلامة حيث قال بجواز حلف الودعي كاذبا تخلصا من الظالم بأن الكذب مع إمكان التورية لا ضرورة إليه.

٣٣٥

تذنيب

[ هل تثبت الشفعة عند إلزام القاضي بالحلف عليها ]

قال في القواعد بعد مسألة التورية في الحلف : ولو كان القاضي يعتقد ثبوت الشفعة مع الكثرة لم يكن لمعتقد نفيها الحلف على نفي اللزوم بتأويل اعتقاد نفسه ، بل إذا ألزمه القاضي صار لازما ظاهرا وعليه أن يحلف ، وهل يلزمه باطنا؟ اشكال أقربه اللزوم ان كان مقلدا لا مجتهدا.

توضيح المسألة : ان الخصومة إذا كان منشأها الاختلاف في الحكم الشرعي كثبوت الشفعة مع الكثرة فإن حررت الدعوى عن وجه عرف القاضي بأن الاختلاف لأجل الاشتباه في الحكم الشرعي فالفاصل حينئذ هو رأي القاضي ولا سبيل الى الحلف حينئذ ، وليس كلامه ناظرا الى مثل ذلك قطعا ، وان حررت الدعوى على وجه يرجع الى النزاع الموضوعي ـ كما لو قال مدعي الثبوت لخصمه « يجب عليك رد المبيع لثبوت حق الشفعة » وقال صاحبه « الرد ليس بلازم على » توجه الحلف الى منكر اللزوم على نفي اللزوم الواقعي ، وهذا معنى قوله « يلزمه ظاهرا ».

ثمَّ في لزومه باطنا أيضا ـ بمعنى عدم جواز التورية في الحلف بتأويل اعتقاد نفسه باطنا ـ اشكال كما ذكره ، أقر به اللزوم إذا كان مقلدا لا مجتهدا ، وليس المراد باللزوم الباطني هو اللزوم بعد اليمين المردودة كما تو همه بعض.

ووجه الإشكال في اللزوم الباطني : هو التأمل في منع أدلة القضاء عن التورية في الحلف على نفي اللزوم الواقعي ، اما لان أدلة القضاء انما تدل على نفوذ إلزامات القاضي وحكمه بوجوب الحلف على نفي اللزوم الواقعي ليس فيه جهة إلزام بل انما هو محض بيان الحكم الشرعي وبيان وظيفة المنكر في

٣٣٦

تخلصه عن الخصومة ، أو لأن معنى إلزام القاضي على تقدير شموله لمثل المقام ، لا يمنع التورية ، لان التورية تمحل شرعي للفرار عن الإلزام لا مخالفة للإلزام الصادر.

وبعبارة أخرى : مقتضى أدلة القضاء أن القاضي إذا ألزم بشي‌ء لزم ، وهذا انما يتم فيما إذا لم يكن الملزم به قابلا للتورية ، والا فبالتورية يخرج عن كونه ملزما به. وكلا الوجهين منفيان :

( أما الأول ) فلأن الحاكم وظيفته في جميع المرافعات بيان وظيفة المتخاصمين والإلزام بمقتضاها حتى المرافعات الموضوعية ، ومعنى نفوذ إلزام الحاكم أنه إذا ألزم بمقتضى بعض الوظائف لزم العمل به ، فإذا ألزم المحكوم عليه هنا بالحلف على عدم اللزوم الواقعي لم يجز له مخالفته بالتورية.

( وأما الثاني ) فلأن التورية أيضا فيما الزم الحاكم به مخالفة لإلزام الحاكم ، لان الحاكم يلزمه على نفي اللزوم الواقعي ، فمتى لم يحلف عليه ولو بالتورية فقد خالف الإلزام كما لا يخفى.

ودعوى أن التورية هنا كالتورية فيما إذا كان الحالف مظلوما. مدفوعة بأن المحلف هنا ليس بظالم في اعتقاده. نعم إذا كان مذهب القاضي مخالفا لمذهب المتخاصمين أمكن صدق الظلم حينئذ ، ويتفرع عليه جواز التورية.

ومما ذكرنا ظهر وجه القول بعدم جواز التورية مطلقا في المقلد والمجتهد كما عن ظاهر الدروس ، كما ظهر أيضا وجه القول بجواز التورية مطلقا كما عن المبسوط.

وأما وجه التفصيل بين المقلد والمجتهد الذي استقر به في القواعد ومال إليه في محكي الإيضاح فهو : ان المجتهد إذا رأى فساد دليل القاضي على ثبوت الشفعة مثلا وأن ما أدى اليه ظنه من نفي الشفعة هو الحق ، فإطلاق ما دل على

٣٣٧

النفي وما دل على اعتباره يقتضي جواز العمل به مطلقا حكم القاضي بخلافه أم لا ، بخلاف المقلد فإنه لا دليل له على فساد حكم القاضي ، بل نسبة حكم القاضي وحكم مجتهده الذي قلده في نفي الشفعة اليه على حد سواء ، فحاله كحال سائر مقلدي القاضي في نفوذ حكمه عليه.

والتحقيق في المسألة هو النظر في أدلة القضاء وأنها تدل على حرمة الرد خاصة أو على وجوب ترتيب آثار الحكم واقعا زيادة على الرد ، فان كان الأول جاز التورية للمجتهد والمقلد على حد سواء ، وان كان الثاني لم يجز كذلك :

أما في المقلد فالأمر واضح ، وأما في المجتهد فلأن هذه الأدلة حاكمة على دليل اعتبار الامارة القائمة على نفي الشفعة مثلا ، فتكون حجية تلك الأمارة القائمة في غير صورة المعارضة لحكم القاضي. ولا يبعد رجحان الثاني على الأول ، فيتجه إطلاق ما عن الشهيد في الدروس. والله العالم.

التقاط

[ هل تنتقل التركة إلى الوارث ]

[ لو كان على الميت دين محيط بها ]

لو مات شخص وعليه دين محيط بالتركة ففي انتقالها الى الوارث انتقالا متزلزلا مراعى بأداء الدين أو عدم الانتقال وبقاؤها على حكم مال الميت.

قولان مشهوران بين الأصحاب ، فذهب أكثر القدماء الى الثاني وأكثر المتأخرين إلى الأول.

والمراد بكونها في حكم مال الميت كونها في حكم مال الحي ، إذ الميت ليس له مال حقيقي حتى تكون التركة مع الدين في حكم ما له الحقيقي ، ففي

٣٣٨

العبارة نوع قصور أو مسامحة في إفادة المراد ، ولعل المراد أن التركة مال حكمي للميت لا أنها في حكم ماله الحقيقي.

والأصل في المسألة عدم الانتقال إلى الورثة وعدم جريان حكم مال الميت عليها أيضا ، فكل منهما مخالف له.

وما يتوهم أن بقاءها في حكم مال الميت قضية الاستصحاب أو استصحاب عدم الانتقال أو استصحاب بقاء العلقة والربط الموجودين بين الميت وبين التركة. فليس بشي‌ء ، لأن العلقة كانت قائمة بالحي وهو الإنسان ، ولا حياة حتى يتصور بقاء العلقة القائمة بها ، فإن الباقي أمران : الجسم العنصري الذي صار جمادا ، والروح المجرد. وشي‌ء منهما لا يصلح أن يكون مالكا : أما الجسم فلانه جماد والجمادات لا يعقل تملكها ، وأما الروح فلا أن صلاحيته لإضافة طرف الملكية أمر غير معلوم أو معلوم العدم ، لوضوح كون المالكية من خصائص الإنسان المركب من الروح والجسم ، فلا تثبت لمجرد الروح.

وأما استصحاب بقاء الاحكام والاثار الموجودة في حال الحياة. ففيه أنه لم يكن في حال الحياة أثر متعلق بأعيان التركة حتى يستصحب ، بل مقتضى الأصل عدم تعلق حق الديان بأعيانها ، ضرورة كونها في حال الحياة متعلقة بذمة مالكها لا بأعيانها.

فظهر أن القولين متساويان في الحاجة الى الدليل ، والدليل على القول الأول ـ وهو الانتقال ـ أمران عقلي ونقلي ، أما النقلي فاطلاقات آيات الإرث وأخبارها ، فان نحو قوله تعالى « لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَالْأَقْرَبُونَ » (١) مطلق غير مقيد بما إذا لم يكن هناك دين ، غاية الأمر انه ثبت من الأدلة أن الديان حقهم متعلق بالتركة كتعلق

__________________

(١) سورة النساء آية : ٨.

٣٣٩

حق المرتهن بالرهن مثلا ، وهذا يوجب تزلزلا في ملكية الأقربين لا نفي الملكية رأسا.

ويجاب عنها : بأن إطلاقها مقيد بالاية المبتدئة للإرث فيما بعد الوصية والدين « وَلَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ » إلى قوله « مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ » (١) ، ووجه التقييد واضح.

وأجيب : بحمل اللام في المقيد على افادة الاستقرار ، أي استقرار ملكية النصف انما هو بعد الأمرين.

ورد : بأن اللام لإفادة أصل الملكية لا لإفادة استقرارها.

ويدفعه : أن استقرار الملك ليس أمرا خارجا عن أصل الملكية ، بل هو عبارة عن الملكية التامة. وهذا هو عين معنى اللام ، لأنها انما تدل على الملكية التامة : إما لأنها تدل على مطلق الاختصاص الغير المقيد بحال دون حال ، ويستفاد من عدم القيد الملك المستقر ، لان الملك الغير المستقر ليس فيه اختصاص مطلق ، بل المقيد بما إذا حصل موجب الاستقرار. أو لأن اللام منصرف الى الاختصاص المطلق ، ولازمه هذا الفرد من الملكية ، أعني التام المستقر.

[ إذا كان على الميت دين فليس للورثة شي‌ء ]

والثمرة بين الوجهين تظهر فيما ورد في الاخبار من أنه إذا كان على الميت دين فليس للورثة شي‌ء ، فان قلنا ان التمام والاستقرار يستفادان من إطلاق الاختصاص الذي تدل عليه اللام فالحديث دليل على مذهب القدماء ، لأن النفي حينئذ متوجه إلى حقيقة الاختصاص وجنسه لا الى فرده الكامل أعني المستقر ، ضرورة عدم اعتباره في مدلول اللام واستفادته من مقام الإطلاق. وان قلنا بالثاني

__________________

(١) سورة النساء آية : ١٣.

٣٤٠