كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

٢١

٢٢

كتاب القضاء

٢٣
٢٤

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين ، ولعنة الله على أعدائهم أجمعين إلى يوم الدين.

( كتاب القضاء )

ومقاصده ثلاثة :

الأول : في القاضي وصفاته.

الثاني : في كيفية القضاء.

الثالث : في أحكام الدعاوي.

٢٥

المقصد الأول

( في القضاء )

القضاء في اللغة لمعان كثيرة ، منها ما هو المراد به في المقام ، أعني الحكم والإلزام.

وفي عرف الفقهاء عبارة عن ولاية الحكم شرعا لمن له أهلية الفتوى.

ويدل على شرعيته في الجملة الأدلة الأربعة ، من الكتاب آيات كثيرة ، أوضحها دلالة قوله تعالى في سورة ص « يا داوُدُ إِنّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ » (١) دلت صريحا على شرعية الحكم بين الناس ، بمعنى فصل الخصومات الواقعة فيما بينهم وقطع المنازعات ، لان الحكم بين الناس لا معنى له سوى الحكومة بالمعنى المبحوث عنه ، أعني فصل الخصومات ، وبه امتاز عن سائر آيات الحكم في الذكر ، لأنها انما تدل على الحكم بما أنزل الله ، وهو غير صريح بالمعنى

__________________

(١) سورة ص : ٢٥.

٢٦

المقصود ، أعني الإلزام ، لأن الحكم بما أنزل الله عبارة عن الاخبار به ، وهو لا يستلزم شريعة الإلزام والحكومة التي هي من شعب الرئاسة. ولذا كان المرجع فيه عند الشك هو أصالة العدم ، بخلاف الحكم بمعنى الاخبار بما أنزل الله ، فإن الأصل فيه اما الوجوب فافهم أو الإباحة كما تأتي الإشارة الى ذلك.

[ وجوب الحكم بالحق وجوازه ]

ثمَّ مدلول الآية الشريفة يحتمل وجوب الحكم بالحق وجوازه ، على أن يكون رفعا للحظر المتوهم أو المحقق ، وعلى الأول يحتمل وجهين أيضا :

( الأول ) أن يكون الوجوب متعلقا بالمقيد خاصة ، أعني كون الحكم بالحق ، فالمعنى أن المتفرع على الخلافة والمتوقف عليها وجوب كون الحكم بالحق وعدم متابعة الجور ( الهوى ) ، فلا يدل حينئذ على وجوب أصل المقيد ـ أعني الحكم ـ بل يكون في المعنى نظير قوله تعالى « إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ » (١) فيكون حال أصل الحكم في حق الخليفة وغيره من حيث الجواز والوجوب والتحريم مسكوتا عنه.

نعم يدل على جواز أصل الحكم القدر المشترك بين الوجوب وغيره مهملة لا مطلقة ، لأن وجوب القيد يقتضي جواز المقيد في الجملة.

فإن قلت : لا معنى لتفريع كون الحكم بالحق على الخلافة ، لأن الحكم بخلاف الحق لا يجوز لأحد ، فوجوب كون حكم الحاكم إذا حكم على نهج الحق ليس من خواص كون الحاكم خليفة ، لأن وجوبه عقلي ناش من قبح الجور والافتراء.

قلت : نعم لكن لما كان وجوبه في حق الخليفة آكد منه في حق غيره جعل

__________________

(١) سورة النساء آية ٥٧.

٢٧

الاية من متفرعات الخلافة ، وهذا مثل قول القائل لإمام الجماعة : أنت إمام الناس فاخضع في صلاتك ، فان الخضوع والخشوع في الصلاة أمر مرغوب إليه في حق كل مصل الا أنه مؤكد في حق الامام ، بل في حق المقربين مطلقا على حسب مقدار قربهم.

( الثاني ) أن يكون المتفرع على الخلافة أصل وجوب الحكم المقيد ، فيدل حينئذ على عدم وجوبه لغير الخليفة ، وأما عدم الجواز فلا.

وعلى الثاني ـ أعني كون مدلول الآية جواز الحكم بعد الخلافة نظرا الى ورود الأمر به ـ مقام رفع الحظر يدل على عدم الجواز لغير من يكون خليفة من جانب الله ، فالاية حينئذ دليل لفظي على عدم شرعية القضاء لغير الخلفاء زيادة على الأصل المشار اليه. فاحفظ ذلك تنتفع به ، والله العالم.

التقاط

[ ما يعتبر في القاضي ]

يعتبر في القاضي أمور اتفاقية وأمور خلافية :

ومن الأولى العدالة

التي هي أخص من الايمان الذي هو أخص من الإسلام.

قال في الشرائع : ويدخل فيها الامانة وفعل الواجبات.

وفي هذه العبارة شائبة إجمال ، لأنه إن أراد بالأمانة ضد الخيانة فحسن ، لكن يشبه بإيضاح الواضحات لمن عرف من مفهوم العدالة شيئا مع أن تخصيصه بالذكر بين سائر الكبائر مع كونها من الافراد الواضحة الجلية يخلو عن الفائدة.

وان أراد بها أمرا زائدا عن مفهوم العدالة في سائر المقامات مثل ترك استعمال

٢٨

الحيل الشرعية الذي لا يوجب فسقا في غير المقام ، ففي اعتباره هنا في القاضي تأمل أو منع.

والظاهر أنه نوع تعريض على من جمع بين العدالة والامانة ، وان ذكر العدالة يغني عن ذكرها بناء على ارادة قصد الخيانة ، كما يشعر به ذكره بعد الفراغ عن ذكر ما يعتبر في العدالة.

ويمكن أن يقال أيضا بأن وجه التخصيص هو كونها أمرا وجوديا بعد الايمان من بين ما يعتبر في ماهية العدالة ، بخلاف غيرها فإنها أمور عدمية ، ولهذا أردفه بفعل الواجبات ، لأنه أيضا مثله في الوجودية ـ فافهم.

ومن الأمور الاتفاقية الاستقلال بالفتوى

يعني كون الحاكم صاحب ملكة الاجتهاد وقوة استنباط الاحكام كلا أو بعضا ، على الخلاف في مسألة التجزي.

وقد صرح بالاتفاق على اعتبارهما مثل صاحب المسالك ممن يعتبر منه نقل الإجماع لكمال خبرته واطلاعه.

واستدلوا عليه بما دل على اعتبار العلم في القاضي وان التقليد ليس بعلم كما لا يخفى ، لكن بعض أساطين متأخري المتأخرين ـ كالمحقق القمي على ما نقل عنه في جواب سؤاله ، وبعض من عاصرناه من مشايخنا اكتفى في العلم بمجرد التقليد ، فصرح بجواز قضاء المقلد.

وقبل تنقيح المسألة لا بد من تأسيس الأصل وتحرير محل النزاع ، فنقول :

أما الأصل فقد أشرنا إلى أنه يقتضي المنع ، لأن سلطنة الشخص على إلزام شخص آخر ـ ولو فيما يقتضيه تكليف ذلك الشخص فضلا عما لا يقتضيه تكليفه ـ أمر وضعي مختص بمن له السلطنة المطلقة ذاتا ، أعني المولى الحقيقي

٢٩

جل اسمه ، أو بمن جعله سلطانا من طرفه وخليفة عن جانبه كالنبي والوصي ، فحيث شككنا في ثبوتها فالأصل المحكم فيه هو العدم كسائر الأحكام الوضعية.

ومن هنا يعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على وجه يباح به معه مقاتلة فاعل المنكر مثلا أمر على خلاف الأصل الاولي ، ولو قيل بأنه من المستقلات العقلية ، لأن استقلال العقل بذلك لا ينافي الشك في ثبوته لآحاد الناس ، والرجوع الى الأصل في مورد الشك.

ودعوى عدم تعقل الشك في الأحكام العقلية ، مدفوعة بأن الغير المتعقل انما هو الشك في موضوع حكم العقل لا في تشخيص مصاديقه ، فان حكم العقل بقبح تناول المضر لا ينافي الشك في قبح شي‌ء باعتبار الشك في كونه مضرا ، فحكم العقل بوجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بمعنى لابدية قيام شخص بذلك لا ينافي الشك وعدم العلم بخصوص من يقوم به.

لكن الإنصاف أن الأمر بالمعروف ـ على تقدير حسنه العقلي لزوما أو رجحانا ـ ثابت في حق كل مكلف. نعم إلزام الشخص فيما لا تقتضيه تكليفه الذي ستعرف أنه المراد من القضاء المصطلح من المستقلات التي لم تثبت إلا في الجملة ، بمعنى استقلال العقل بوجود فاصل للخصومات والمنازعات حفظا للنوع عن الاختلال والحرج والضياع والفتنة والفساد. وأما أن الفاصل من هو وكم هو فليس للعقل اليه سبيل كما لا يخفى ، فيكون الجهل بخصوص القائم بالفصل مع الاستقلال بأصل وجوده كالجهل بقبح الشي‌ء للشك في كونه مضرا.

وأما محل النزاع فقد ظهر مما ذكرنا في تأسيس الأصل ، وحاصله : ان الإلزام قد يكون فيما يقتضيه تكليف الملزم عليه وقد يكون في غير ما يقتضيه تكليفه :

أما الأول فهو خارج عن مسألة القضاء المبحوث عنها ، بل هو يرجع الى

٣٠

الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، بناء على اختصاصه بما هو معروف ومنكر في نظر الفاعل لا في نظر الأمر حتى يندرج فيه مسألة إرشاد الجاهل ، على ما صرح به بعض أجلاء المتأخرين ، وإلا فيكون دائرة الأمر بالمعروف أوسع من الإلزام فيما يقتضيه التكليف وأما هو فأخص مطلقا كما لا يخفى.

فظهر أن المقصود بالبحث فيما نحن فيه هو إلزام الشخص في غير ما يقتضيه تكليفه ، مثل أن يكون الشخص معتقدا لبطلان مقالة الشخص فيحكم عليه بخلاف المعتقد وخلاف ما يقتضيه تكليفه ، لان القضاء المبحوث عنه ليس الا ذلك.

وأكثر موارد القضاء من هذا القبيل ، حتى الحكم بالبينة التي يجب على جميع المكلفين ترتيب آثارها مدعيا ومنكرا وغيرهما ، لان العمل بها انما يجب في صورة الشك والجهل ، فإلزام المنكر المعتقد بكذب البينة مثلا إلزام بغير ما يقتضيه تكليفه.

نعم قد يقال : ان الحكم في صورة الشك ـ أي شك من قام عليه البينة مثلا ـ إلزام بحسب التكليف ، لكن يمكن منع كون ذلك من باب القضاء بل من باب الأمر بالمعروف ، نظرا الى أن مجرد قيام البينة في حق الشاك يوجب العمل بمقتضاها من غير ضم حكم الحاكم ، فحكم الحاكم يشبه الأمر بالمعروف.

الا أن يقال : ان الإلزام على وجه الأمر بالمعروف لا يستتبع على ما يترتب على القضاء من الأحكام ، فإرجاع القضاء هنا الى ذلك لا وجه له ، بل الوجه أن القضاء كما يكون بما لا يقتضيه تكليف الملزم عليه كذلك يكون بما يقتضيه تكليفه وأما انه لا بد أن يكون من قبيل الأول فلا.

وهذا يكفي في الفرق بينه وبين الأمر بالمعروف ، فإنه لا يكون إلا في الثاني ، فالقضاء أعم من وجه موردا ، ومرجعه في صورة الاجتماع اجراء حكم الله الكلي في حق المحكوم عليه وإلزام جزئيته عليه. والله العالم. وان كان مرجع

٣١

الأمر بالمعروف في تلك الصورة أيضا ذلك ، الا أن هذا الإلزام إذا صدر من الحاكم على وجه الحكومة تأكد به وجوب الالتزام على المحكوم عليه.

وتوضيح ذلك وحقيقة الفرق بين الأمر بالمعروف والقضاء هو أن الإلزام على وجه الأمر بالمعروف لا يزيد في تكليف الملزم عليه شيئا على ما يقتضيه أدلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من الالتزام بخلاف الإلزام على وجه القضاء ، فإنه سبب لوجوب الالتزام بما الزم ، سواء طابق تكليفه أم خالف. وبعبارة أخرى سواء كان الملزم به لازما في حق الملزم عليه مع قطع النظر عن الإلزام أم لا ، فالملزوم والالتزام سبب للإلزام على وجه الأمر بالمعروف ومسبب عن الإلزام على وجه القضاء ، ولازمه تأكد اللزوم إذا طابق التكليف كما قلنا.

فظهر مما ذكرنا مادة الافتراق ومادة الاجتماع ، فإن الإلزام بما لا يقتضيه التكليف مادة افتراقه عن الأمر بالمعروف ، والإلزام بما يقتضيه تكليف الملزم عليه دون الحاكم الملزم مادة افتراقه من القضاء والإلزام فيما يقتضيه التكليف مورد اجتماعهما الموردي.

ويمكن الفرق أيضا في هذه الصورة باختلاف الجهة ، فإن الحاكم إذا ألزم بعنوان الأمر بالمعروف الذي هو مشترك بين العامي المقلد وبينه ، فهذا لا يزيد في لزوم الحكم ووجوب التزامه ، وان الزم بعنوان القضاء فهو يوجب تأكد الوجوب ، حيث أن التمرد عن الحكم حينئذ معصية من جهة مخالفته لأدلة الحكم ومن جهة رده على الحاكم ـ فافهم.

[ في قضاء المقلد ]

إذا تحقق ذلك فاعلم أن مسألة قضاء المقلد تشتمل على مسائل ثلاث :

( الأولى ) قضاؤه مستقلا من غير نصب المجتهد له للقضاء أو توكيل له في

٣٢

ذلك. وغاية ما يتوهم دلالته على ذلك أمور :

الأول ـ إطلاق ما دل على وجوب الحكم بما أنزل الله من الايات والاخبار كقوله تعالى « وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ » (١) ، وقوله تعالى « وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ » (٢) ، وقول الصادق عليه‌السلام في تعداد القضاة « ورجل قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنة » وغيرها من الايات والاخبار.

ويرد : أولا بمنع الإطلاق لاهمالهما وورودهما في مقام بيان حكم آخر ، وهو كون الحكم لا بد أن يكون بما أنزل الله وعن علم وغير ذلك مما لا يخفى على من لاحظها مع سياقها ومصبها. وثانيا بعد تسليم الإطلاق القابل للاستدلال بأن المأمور بالحكم هو الذي كان عالما بالحق وبما أنزل الله تعالى في الشبهات الموضوعية التي هي محل استعمال القاضي للبينة والايمان ، مثل اختلاف المتخاصمين في دين أو بيع أو غصب أو نحوها من الشبهات الموضوعية لا تتوجه هذه الإطلاقات إلى المقلد الجاهل بالحال ، وبأن الحق فيما يقوله المدعي أو المدعى عليه ، كما لا يتوجه الى المجتهد الجاهل بالموضوع أيضا ، مع قطع النظر عن قوله عليه‌السلام « استخراج الحقوق بأربعة » ونحوها مما يعطي ميزانا للقضاء عند الجهل بالموضوع.

فان قلت : بعد ملاحظة أدلة البينة واليمين ونحوها من الموازين المقررة نقول : ان المقلد في الشبهات الموضوعية ليس بجاهل للحق ، وهو مؤدى البينة مثلا ، فيجب عليه الحكم به لكونه حكما بما أنزل الله تعالى.

قلت : هذا مبني على مجي‌ء أدلة البينة وسائر الموازين في حق المقلد أيضا ،

__________________

(١) سورة المائدة : ٤٤.

(٢) سورة النساء : ٥٨.

٣٣

وستعرف عدم المجي‌ء ، لمنع إطلاقها على وجه يشمل المقلد أيضا.

هذا في الشبهة الموضوعية ، وأما الشبهة الحكمية ـ بأن كان اختلاف المتخاصمين باعتبار اختلافهما في حكم المسألة مثل مسألة المنجزات ومثل مسألة تحريم عشر رضعات ونحوهما من المسائل الخلافية ـ فهي على قسمين : أحدهما ما كان رأي الحاكم عن تقليد موافقا لرأي المحكوم عليه في الحكم الشرعي ، بأن ترافعا الى مقلد يوافق المدعى عليه في الحكم الشرعي. والثاني ما كان رأيهما مختلفين.

ولا ريب أن إطلاق الأمر بالحكم بمعنى الإلزام بالحق وبما أنزل الله على فرض تسليمه قاصر عن شمول الصورة الأخيرة : اما لان منصرف الإطلاقات غير ذلك ، وهو ما كان الحكم الواقعي فيه متحدا عند الحاكم والمحكوم عليه ، فلو اختلفا كان الحكم بما يراه الحاكم وهو غير مشمول لتلك الإطلاقات. أولان مجرد الإلزام بالحكم الواقعي مع قطع النظر عن سلطنة الملزم ونصبه رئيسا غير معقول مع اختلاف المحكوم عليه للحاكم في الحكم الواقعي ، لأن الإلزام إنما يتصور على المتمردين عن الحكم الواقعي. ومن يعتقد تقليدا أو اجتهادا أن الحكم الواقعي غير ما يقوله الحاكم وان حكمه حكم الجاهلية فليس بمتمرد عن الحكم الواقعي على تقدير عدم قبوله لحكم الحاكم الذي اعتقد كونه حكم الجاهلية بل يجب عليه التجافي عن ذلك ، لأنه مأمور بأن يكفر بما ليس بحكم الله تعالى وبحكم الجاهلية.

توضيح هذا المقال : ان الحكم الذي أمر الناس بإلزامه على المتمردين اما أن يكون هو حكم الله الواقعي من غير تقييد له باعتقاد الملزم ـ أعني الحاكم ـ أو يكون مقيدا بما اعتقده الحاكم ، على معنى وجوب إلزام الحكم الذي اعتقده الحاكم أنه حكم الله تعالى.

٣٤

وبعبارة أخرى : اعتقاد الملزم يؤخذ تارة طريقا الى الحكم الواقعي الذي يجب إلزامه وأخرى موضوعا وقيدا للملزم به ، وعلى الأول فالملزوم عليه لا يخلو عن أحوال ثلاث : الاولى أن يكون جاهلا بالحكم الواقعي ، والثانية أن يكون عالما به تقليدا أو اجتهادا بالعلم المطابق لعلم الحاكم ، والثالثة أن يكون عالما بالعلم المخالف. وفي الحالتين الأوليين يعقل إلزام الحاكم بالحكم الواقعي كما لا يخفى ، وفي الحالة الثالثة فالإلزام به غير معقول ، إذ المفروض أن الملزم به ليس الا الحكم الواقعي باعتقاد الملزم الذي فرض طريقا اليه ، والحكم الواقعي باعتقاد المحكوم عليه غير الذي اعتقده لحاكم. وإذا أراد الحاكم إلزامه بمعتقده فله الامتناع عن ذلك قائلا بأنك إنما أمرت بإلزام الواقع وهذا الذي تلزمني به ليس هو الواقع بل هو حكم الجاهلية الذي أمرت أنا بكفرانه.

وعلى الثاني ـ يعني على تقدير كون الملزم به هو الحكم الذي اعتقده الحاكم الملزم بأن يكون الملزم به الحكم الفعلي للحاكم ـ فالإلزام بالواقع بهذا النحو معقول في الحالات الثلاث ، لكنه تقييد في آيات الحكم أو تجوز بين ، لان الحكم المأمور به انما هو الحكم الواقعي الذي تختلف فعليته بالقياس الى الحاكم والمحكوم عليه وتقييده باعتقاد الحاكم ، وارادة الحكم الفعلي الخاص منه لا بد له من التماس دليل آخر ، كأدلة النصب والنيابة التي تعرف قصورها عن شمول المقلد.

ودعوى أن الحكم الذي أمر الناس بإلزامه لا يعقل أن يكون طريقة غير اعتقاد الملزم لا تنفع ، لان اعتبار اعتقاده طريقا غير اعتباره موضوعا وقيدا للحكم الواقعي كما لا يخفى على المتدرب.

هذه حال الصورة الأخيرة ، وأما الصورة الاولى ـ وهي صورة الموافقة في الطريق ـ فوجوب الإلزام حينئذ مسلم ، بمعنى أنه يجب على كل أحد إلزام المتمرد عن الحق والحكم الواقعي إذا كان موافقا مع الملزم في الحكم الفعلي

٣٥

لكنه لا ينفع لان مرجعه حينئذ الى الأمر بالمعروف الذي لا ينكره أحد بشرائطه فلا يؤثر إلزامه حينئذ في تكليف الملزم عليه زيادة على ما يقتضيه تكليفه ، وقد عرفت أن الكلام في الإلزام الذي هو سبب لوجوب الالتزام لا مسبب عنه.

فان قلت : بعد تسليم إطلاق الأدلة بالنسبة إلى المقلد يثبت أن إلزامه حيثما يعقل ـ كما في صورة الموافقة ـ سبب لإلزام الملزم عليه زيادة عن الالتزام الذي كان يقتضيه تكليفه ، فيحرم عليه مخالفته من جهتين : من جهة نفس أدلة الملزم به الذي يتبعها الإلزام على وجه الأمر بالمعروف ، ومن جهة إلزام الملزم المدلول عليه بآيات الحكم الذي يرجع الى القضاء ، فاذا ثبت قضاء المقلد في هذه الصورة ثبت في صورة المخالفة لعدم القول بالفصل.

قلت : نمنع عدم القول بالفصل فيما ذكر ، لان الفصل المنفي انما هو ثبوت أحكام القضاء لا إلزام المقلد في بعض دون بعض ، فلو ثبت أن إلزام المقلد وحكمه يترتب عليه أحكام القضاء في صورة الموافقة ثبت أيضا ذلك في صورة المخالفة لا أنه إذا ثبت إلزام المقلد المعرى عن جميع الاحكام في الصورة الأولى ثبت أيضا في الصورة الثانية. كيف وقد عرفت أن الإلزام في صورة المخالفة لا يساعده دليل الخصم من أدلة الحكم.

فان قلت : إذا ثبت في صورة الموافقة أن إلزام المقلد مؤثر زيادة على ما يقتضيه الأمر بالمعروف ثبت أيضا ترتب أحكام القضاء عليه ، لأن القائل بعدم الترتب النماء يقول ان إلزام المقلد لا يرجع الا الى الأمر بالمعروف ، لا أنه إلزام موجب لتكليف زائد ومع ذلك لا تترتب عليه أحكام القضاء.

قلت : نمنع تأثير إلزام المقلد في التكليف زيادة على ما يقتضيه الأمر بالمعروف وما ذكرنا من تسليم الإطلاق لا يفيد ذلك.

نعم لو ثبت الإلزام في الصورة المخالفة أيضا لم يكن له معنى سوى اقتضائه

٣٦

في نفسه تكليف الملزم عليه بما الزم ، وأما إذا لم يثبت ذلك أو ثبت عدم اندراج هذه الصورة تحت الإطلاقات فالإلزام الذي دلت عليه الإطلاقات لا يقصد به حينئذ سوى معنى الأمر بالمعروف. فغرضنا من تسليم الإطلاق ومنع شموله لصورة المخالفة بيان أن مفاد الإطلاقات شي‌ء وراء القضاء المصطلح الذي يؤثر في تكليف المقضي عليه.

وحاصل الكلام : ان إطلاق الحكم لو شمل صورة المخالفة (١) لم يكن له معنى سوى الإلزام القضائي ، لان الإلزام القدر المشترك بين هذه الصورة وغيرها من صور المخالفة لا يعقل سوى ذلك ، وأما إذا قلنا بعدم الشمول والحصر في مجاري الأمر بالمعروف لم يزد في المقتضي على ما يقتضيه الأمر بالمعروف شيئا ، فيكون من جملة أدلته ـ فافهم.

وثالثا ـ أي بعد تسليم الإطلاق مطلقا ـ بأن الإطلاق مقيد بما دل على اشتراط اذن الامام من الإجماع والاخبار ولم يقم دليل على أن المقلد مأذون في القضاء كالمجتهد.

فان قلت : الكلام في المقام بعد الفراغ عن اذن الامام لأنه شرط إجماعا ، لأن القائل بجواز قضاء المقلد يريد نفي شرطية الاجتهاد لا نفي شرطية الاذن ، فالاجتهاد عنده مثل الحرية المختلف فيها ، فكما أن القول بعدم اعتبار الحرية ليس نفيا لاعتبار اذن الامام فكذلك نفي اعتبار الاجتهاد ليس نفيا للاذن. والدليل على ذلك أن العملاء ذكروا شرط الاذن مستقلا مدعيا للإجماع فيه وشرط الاجتهاد أيضا مستقلا ، فرد إطلاق الأدلة بأنها مقيدة بما دل على للاذن ليس في محله.

قلنا : ان ثبت عند هذا القائل اذن الامام للمقلد فهو يكفي ، لأن إذنه دليل على عدم شرطيته ، لأن الإمام لا يأذن في غير المشروط ، وان لم يثبت عنده الاذن

__________________

(١) « الموافقة » خ ل.

٣٧

فأي فائدة له في هذه الإطلاقات.

فإن قلت : فائدته إثبات اذن الامام بذلك فإنهما متلازمان ، إذ بعد ما ثبت أن الحكم بين الناس حكم من الأحكام الواقعية الإلهية نظير سائر التكاليف التعبدية بإطلاق الاية الرافع لتوهم كونه من خصائص الامام ومنصوبيه ، فيثبت أيضا اذن الامام لأن كلا من الحكم الشرعي والاذن كاشف عن الأخر عندنا معاشر الإمامية القائلين بالعصمة والوحي دون الخطأ والاجتهاد.

قلت : ان كان الحكم بين الناس من الأحكام الشرعية كحرمة الخمر ووجوب الصلاة واباحة المسكر ونحو ذلك فلا معنى لاشتراطه بإذن الإمام ، لأن الأحكام تعم الناس الامام والمأموم على حد سواء ، فلا معنى لقوله باشتراط الاذن ، ولا معنى لإجماع العلماء على ذلك. واشتراط وجوب صلاة الميت بإذن الولي يرجع الى كونه شرطا للواجب دون الوجوب ـ فتأمل.

وان كان أمرا من الأمور المقررة لأهل المنصب والرئاسة فما ذكرنا من التقييد وارد عليه ، فان الإطلاق مع ثبوت شرطية اذن الامام بالأدلة اللفظية بل الإجماع لا يجدي في مطلوب الخصم ، فانا نقول حينئذ : ان الحكم بين الناس بمعنى القضاء في نفسه قابل للثبوت في حق المجتهد والمقلد ، لكنه يحتاج إلى إذن الرئيس الواقعي ونصبه ، والقدر الثابت منه في حال الغيبة انما هو الاذن للمجتهد لا المقلد.

ودعوى عموم الاذن لهما بإطلاق أدلة النصب. يعرف ضعفها إنشاء الله تعالى.

( الدليل الثاني ) مشهورة ابي خديجة عن الصادق عليه‌السلام : إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا الى أهل الجور ، ولكن انظروا الى رجل منك يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه قاضيا بينكم فإني قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه (١).

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب صفات القاضي ج ٥.

٣٨

وجه الاستدلال : ان المراد بالعلم ما يشمل الظن الذي دل الدليل على حجيته بعلاقة المشابهة ، وهي وجوب العمل ، للإجماع على عدم اختصاص القضاوة بالعالم المستيقن ونفوذ قضاء المجتهد.

لا يقال : يبقى العلم على ظاهره وتحكم عليه الأدلة الظنية بعد قيام القاطع على اعتبارها ، فلا حاجة الى صرف اللفظ عن ظاهره بإرادة عموم المجاز.

لأنا نقول : العلم أخذ موضوعا للقضاء لا طريقا إليه ، وتحكيم الدليل الدال على الظن على ما يعتبر فيه العلم انما يتصور في العلم الطريقي لا في العلم الموضوعي ، فان التحكيم حينئذ لا بد فيه من التماس دليل آخر سوى أدلة الظنون كما تقرر في محله. مع أن ذلك لا يضر المستدل ، لأن أدلة التقليد حينئذ حاكمة على الرواية كما لا يخفى. فاذا ثبت أن المراد بالعلم ما يشمل الظن الواجب العمل دخل فيه ظن المقلد أيضا.

فإن قلت : المقلد ليس بظان بل هو متعبد بقول المجتهد.

قلت : المراد بالظن كل أمارة يجب العمل بها ولو تعبدا كما لا يخفى.

والجواب عنها :

أولا ـ ان إطلاق العلم على ما يشمل الظن ـ وان ذكره بعض في تعريف الفقه ـ لكنه ليس بمعهود في لغة العرب ، لان المجازات وان كانت نوعية الا أن علاقة المشابهة التي هي من أنواعها لا بد أن تكون في الصفات الظاهرة والجامع القريب لا كل جامع يمكن أن يفرض. ولا ريب أن وجوب العمل ليس من هذا الباب ، خصوصا على طريقة غير أهل الانسداد ممن يقول باعتبار الظنون الخاصة ، فإن مرجع ذلك في الحقيقة إلى التعبد الصرف ، نظرا الى كون الظنون الخاصة ظنونا نوعية غير مشروط بإفادتها الظن في مجاريها ، فليس في مقام العمل بها ظن حتى يشبه بالعلم لمشابهة وجوب العمل ، الا أن يلاحظ المشابهة حينئذ

٣٩

بين الاحتمال الصرف أو بين ذات الأمارة النوعية وبين العلم.

وثانيا ـ ان إحراز صفة العلم بالحكم الواقعي في الحاكم لا بد أن يكون منوطا بنظر المحكوم عليه ، كإحراز صفة الرجولية ، لأن إحراز قيود الموضوع يستحيل أن يكون منوطا بنظر غير المخاطب الا بدليل آخر. فإذا أحرز الشخص عند نفسه شخصا جامعا بين الصفتين ـ أعني الرجولية والعلم بالحكم الواقعي ـ فعليه التحاكم إليه. ومن الواضح أن الجاهل بالحكم لا يعقل في حقه إحراز العلم به في شخص أو الظن به ، لان ما في وسعه إحراز شخص ظن بأن حكم الخمر الحرمة مثلا ، وهو غير إحراز ظنه بحكم الخمر ، والعلم بأن زيدا ظن بكون حكم الخمر هو الحرمة والعلم بأنه ظن حكم الخمر الواقعي ، بينهما فرق واضح بين.

ولعل المحقق القمي تفطن الى هذه الدقة حيث طابق الاستدلال بالرواية في محكي جواب سؤال على صورة علم المترافعين أو ظنهما بالحكم تقليدا فترافعا الى من يوافقهما في التقليد ، فان الحاكم حينئذ واجد لصفة الظن بالحكم في نظر هما جدا.

لكن نقول في الجواب حينئذ ما مر في صورة الموافقة من القول بالموجب وعدم بهوضه بالمقصود ، لان الحكم والإلزام بما يقتضيه تكليف المحكوم عليه لا يكون يقتضي أزيد مما هو قضية الأمر بالمعرف ـ الى آخر ما ذكرنا ثمة.

فان قلت : على ما ذكرت يسقط الاستدلال بالرواية على نفوذ القضاء مطلقا حتى في حق المجتهد ، مع أنها من أعظم ما استدلوا به على نفوذ حكم المجتهد في زمن الغيبة.

قلت : الاستدلال بها انما هو لأجل إثبات شرعية القضاء في الجملة ، وان ما ورد من نواهي الحكومة كقوله عليه‌السلام (١) « اتقوا الحكومة فإنما هي للإمام

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب صفات القاضي.

٤٠