كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

الإطلاق على وروده في مقام بيان حكم آخر ، وهو حكم ذات السكر في نفسها مع قطع النظر عن العوارض.

نعم لو كان موضوع الدليل عاما وعلم من الخارج أن هناك مخصصا ـ كما في مثال « أكرم جيراني » ـ استكشف من العموم سلامة أفراده الموجودة الخارجة عن عنوان ذلك التخصيص.

وحاصل الفرق بينه وبين ما نحن فيه : ان عدم عروض مقتضى الإلزام جزء من موضوع المباح وقيد من قيوده ، بخلاف الصداقة فإنها ليست شرطا حتى يجب إحرازها عند الشك ، بل غاية الأمر أن العداوة مانعة ، فان شك في وجوده استكشف عن العموم سلامة الافراد عنه ، فما نحن فيه من قبيل المخصص اللفظي والمثال من المخصص العقلي ، وقد حققنا في الأصول الفرق بين المثالين ، وان كان التمسك بكل منهما عند الشك تمسكا بالعام في الهيئة المصداقية. فافهم.

فان قلت : لا نجد فرقا بين قوله « الخمر حرام » و « الصلاة واجبة » ونحوهما مما سيق لبيان الحكم العنوان الاولي ، وبين قوله « النذر واجب الوفاء » و « الصلح جائز » وأمثالهما من العناوين الثانوية ، فإن كان ظاهر الأول اشتمال الفعل على علة الإلزام بالفعل أو الترك كان ظاهر الثاني أيضا ذلك ، فدعوى أن مفاد الأول اشتمال الفعل للعلية التامة ومفاد الثاني اشتماله على المقتضي. تحكم بارد وتعسف ساقط ، وإذا كان ظاهرهما الدلالة على اشتمال الفعل للعلة التامة أو المقتضي تعارضا في مادة الاجتماع.

قلت : ما ذكرت وان كان يقتضيه الجمود على ظاهر اللفظ لكن المنصف يعرض عنه ، لان الفرق بين العنوان الاولي الذي لا يعتبر في مفهومه فعل آخر كشرب الخمر وبين العنوان الثانوي الذي يعرض لذوات الافعال كالنذر الذي

٢٨١

يتعلق بفعل لا محالة. مما لا ينكر من حيث أن وزان الأول وزان « الظلم حرام » ووزان الثاني وزان « الصدق واجب ».

ومما يؤيده ويضعف ما زعمت أن العناوين الثانوية على ما نقول سالمة عن التخصيص وعلى ما تقول مخصصة بأدلة المحرمات إجماعا ، وعدم التخصيص أولى. فافهم والله العالم بحقيقة الحال.

[ الحلف على عدم التغليظ لا على عدم الإجابة ]

ثمَّ ان هنا مسألة أخرى غير مفروضة في عبارة الشرائع الماضية ، وهي الحلف على عدم التغليظ لا على عدم الإجابة. والفرق بينهما على تقدير وجوب الإجابة أنه لا ينعقد اليمين رأسا على الثاني ، وكذا لو قيل باستحبابها مع اشتراط الرجحان في متعلق اليمين ، بخلافه على الأول فإنها تنعقد وتنحل بحكم قوله عليه‌السلام « إذا وجدت خيرا منه فافعله » ونحوه. والله العالم.

التقاط

[ حلف الأخرس بالإشارة ]

مقتضى القاعدة أن يكون حلف الأخرس بالإشارة ، لان إشارته قائمة مقام فعله في جميع أبواب الفقه حتى العبادات ، حتى أن بعضهم حكم بأن إشارته في الصلاة بمنزلة كلامه فيبطلها تنزيلا لها منزلة الكلام. وان كان قد يناقش فيه بعدم صدق الكلام عليه عرفا وان شاركه في وجه المناسبة لمعناه اللغوي الذي هو « الكلم » أي الجرح ، لكنه لا يخلو عن قوة جدا.

وما ذكرنا هو المعمول به المشهور بين القدماء والمتأخرين ، فلا بد حينئذ من حمل الرواية الواردة في تحليفه المشتملة على كيفية من التغليط في اليمين

٢٨٢

والأمر بشربها على محامل لا تنافي الحكم المشهور. وليس علينا في أمثال المقام تعيين العيب الذي في الرواية ، بل الاعراض عنها متعين وان كان سندها صحيحا.

التقاط

[ المراد من الاستحلاف في مجلس القضاء ]

قال في الشرائع : لا يستحلف الحاكم أحدا إلا في مجلس القضاء الا مع العذر كالمرض المانع وشبهه ، وحينئذ فيستنيب الحاكم من يحلفه في منزله ، وكذا المرأة التي لا عادة لها بالبروز الى مجمع الرجال والممنوعة بأحد الاعذار.

واعلم أن المراد بالاستحلاف في العبارة وفي أحاديث الباب وكلمات الأصحاب هو الحلف عن طلب كالاستنباط ، لا مجرد طلب الحلف أو الاذن بناء على كون الاستفعال لمجرد طلب الفعل حصل أو لم يحصل ، لان الاستفعال أحد إطلاقاته ما ذكرناه من تحصيل الفعل عن طلب ، وأمثلته كثيرة ، وهو المراد ، لأن الاذن في الحلف الظاهر أنه لا يعتبر فيه المجلس ، فلو أذن في غيره وحلف فيه أجزأ على القول باعتبار المجلس.

ثمَّ المراد بمجلس القضاء اما المجلس النوعي وهو ما بني للقضاء فيه واما المجلس الشخصي وهو ما وقع فيه الخصومة والدعوى. والمتبادر من العبارة هو الأول ، وحينئذ فالمعتبر هو وقوع الحلف فيه حضر الحاكم أم لا ، وعلى الثاني فالمتبادر اشتراط الحضور.

وكيف كان ففي العبارة احتمالات : أحدها أن يكون المقصود وقوع الحلف في حضور الحاكم ، سواء كان الحاكم في مجلس القضاء النوعي أو الشخصي أو لم يكن فيه ، والثاني اعتبار كون الحلف في مجلس القضاء بأحد المعنيين حضر الحاكم أو لم يحضر. والثالث أن يكون الحلف في مجلس

٢٨٣

الحكم وحضور الحاكم وهذا أخص من الأولين ، والرابع الاحتراز عن الحلف في البيت لا في حضور الحاكم ولا في مجلس القضاء. وتعيين أحد الاحتمالات على وجه يتعين القول به احتمالا ومنحلا مشكل.

ثمَّ المسألة لا مستند لها في الأدلة ، وظاهر صاحب المسالك أنه على وجه الكراهة. وهو مشكل ، لان مثل هذه العبارة الواردة في شرائط القضاء وآدابه آب عن الحمل على الكراهة ، كيف وقد ذكر بعضهم كالشهيد « ره » في محكي الدروس هذا الحكم في باب شرائط اليمين التي كلها على وجه الاشتراط واللزوم.

وكيف كان فالقدر المتيقن من هذه العبارة وأمثالها هو عدم جواز حلف الحاكم إلا في بيته ، بمعنى عدم سقوط حلف المدعي بذلك بدون حضور الحاكم وبدون أن يكون في مجلس القضاء. وهذا يمكن الاستدلال عليه بتوقيفية القضاء وعدم ثبوت إطلاق أدلة اليمين باعتبار ورودها في مقام بيان أصل الميزان ، مضافا الى الطريقة المألوفة المعهودة بين المسلمين من عدم الاستحلاف إلا في مجلس الحكم والمرافعة.

ثمَّ ان هذا شرط في اليمين التي يستحقها المدعي وليس من وظائف القاضي ، فلا يؤثر الاستنابة في حال الاختيار. نعم لو كان من وظائفه أمكن القول بعدم اعتبار المباشرة مع احتماله للشك في قبوله الاستنابة كأصل القضاء. والله العالم.

التقاط

[ حكم الحلف باللغات غير العربية ]

قد عرفت أنه يكفي في الحلف أن يقول « والله ليس قبلي حق » ، وكذا يكفي الحلف بسائر أسماء الله تعالى الخاصة. وهل يعتبر العربية أو يكفي بالأسماء الفارسية ونحوها أيضا الظاهر الكفاية خصوصا عند التعذر.

٢٨٤

لكن الإشكال في وجود الاسم للذات المقدسة في الفارسي ، وإطلاق لفظ « خدا » على الذات المقدسة يقوي في النظر كونه كإطلاق لفظ « الرب » ، لان « خدا » في الفارسية بمعنى الصاحب. ومن المحتمل قويا ان إطلاقه عليه تعالى من قبيل إطلاق الكلي على أكمل الافراد.

وكيف كان فالظاهر الجواز ، لا طلاق بعض لأدلة وعدم صلاحية ما فيه خصوص الأسامي العربية للتقييد. والله العالم.

التقاط

[ البينة وظيفة المدعى واليمين وظيفة المنكر ]

بعد ما عرفت وثبت بالنص والإجماع أنه لا بد في طي الدعوى من ميزان للقاضي وأنه لا يكفي مطلق ما يكفي في مقام عمل نفس الشخص من الأصول والأمارات الشرعية وأنه منحصر في البينة والايمان. فاعلم أن مقتضى الأصل الاولي أن تكون البينة من وظائف المدعي واليمين وظيفة للمنكر ، فلو أغمضنا النظر عن المستفيض « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ودار الأمر بين مطالبة البينة عن المدعي واليمين عن المنكر أو العكس تعين الأول بمقتضى الأصل المشار اليه.

ونعني بالأصل الاولي ما هو القاعدة والقانون عند العقلاء المستقر عليه طريقتهم والمركوز في جبلتهم في مثل المقام ، فان بناءهم على مطالبة البينة من الذي يدعي خلاف الأصل وعلى تحميل الأثقل من الميزانين عليه والأخف على من يوافق قوله الأصل ، بل بناؤهم على عدم تحميل موافق الأصل شيئا والاقتصار في الفصل بين المتنازعين على وجود البينة وعدمها.

لكن الشارع تصرف في طريقتهم هذه في الجملة ، بأن نصب للفصل عند

٢٨٥

عدم البينة أيضا ميزانا وهي اليمين وأمضى ما عليه من مطالبتهم البينة من المدعي.

والحاصل انا إذا وجدنا قول الشارع « فاحكم بينهم بالبينة وأضفه إلى اسمي » أو قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (١) وعلمنا أن القضاء لا بد له من فاصل ولا يكفي في رفع الخصومة المشي على طبق كل أصل أو أمارة شرعية يكفي في غير مقام رفع الخصومة حكمنا بمقتضى القانون المقرر عند كافة العقلاء أنه لا بد أن يكون المطلوب بالبينة هو المدعي وباليمين هو المنكر ، لأن قوة جانبه وموافقة قوله للأصل يمنع من تحميله الأشق والأثقل كما يمنع عند العقلاء من تحميله اليمين.

فان قلت : لو لا قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » لم يعلم من قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » ولو بملاحظة طريقة العقلاء أنه لا بد أن يتوجه اليمين الى المنكر ، لاحتمال كون كل من البينة واليمين ميزانا مطلوبا من المدعي وكون المنكر مستريحا من كل تحميل ، لما معه من الأصل الذي هو حجة شرعية ، كما اعترفت أن العقلاء بناؤهم على ذلك وان لم يمضه الشارع.

هذا مضافا الى ما في إرجاع البينة الى المدعي من الموافقة والمطابقة لأدلة حجية البينة ، فإن الفصل بمقتضى البينة نحو استعمال لدليل حجيتها الوارد في مقام تحكيمها على الأصول. والحاصل ان المنكر له حجة داخلة ، فمطالبة الحجة منه ثانيا أمر بديع لا يساعده قانون العرف ولا قانون الشرع المشروع لحجية البينة ، فإنها شرعت في إثبات ما ليس عليه حجة شرعية لا لا ثبات ما عليه بعض الأمارات الشرعية ، وان كانت فيه أيضا معتبرة على تقدير قيامها.

فظهر مما ذكر أن مطالبة البينة من المنكر خروج عن مقتضى الأصل الأولي

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب كيفية الحكم ح ١ و٢.

٢٨٦

من جهتين : إحداهما تنظر الى بناء العقلاء ، والثانية تنظر الى نحو قوله « إنما أقضي بينكم بالبينات والايمان » فلا بد من إرجاع البينة الى المدعي. ويتعين بذلك رجوع الميزان الأخر ، وهو اليمين الى المنكر.

قلت : كلامنا بعد الفراغ عن أن القضاء سواء كان للمدعي أو للمنكر لا يكون عند الشارع الا بميزان من الميزانين المزبورين وان أحدهما وظيفة المدعي والأخر وظيفة المنكر ، ولكن لا تشخص وظيفة كل منهما من وظيفة الأخر ، فحينئذ نقول : ان البينة وظيفة المدعي واليمين وظيفة المنكر. وهذا معنى كلام المحقق وغيره. ومع فقدها ـ أي البينة ـ فالمنكر مستند إلى البراءة الأصلية ، وهو أولى باليمين.

وليس مرجع هذا الكلام الى الاستناد الى قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ». نعم ذكر قبل ذلك كلاما يرجع اليه حيث قال : البحث الثاني في يمين المنكر والمدعي ، اليمين يتوجه الى المنكر تعويلا على الخبر. فشكر الله سعيه حيث أتى في ضمن كلمتين بما فصلناه من الطريقتين من الأصل الاولي والثانوي المدلول عليه بالخبر.

ثمَّ انه قد خرج عن هذا الأصل موارد وجهت اليمين فيها الى المدعي ، كدعوى الدم مع اللوث ، أي قيام أمارة شخصية على صدق الدعوى ، ونحوها مما يقدم فيه قول المدعي في أبواب الفقه مراعاة لامارة نوعية قائمة على صدق الدعوى ، كدعوى الدخول مع الخلوة والتيام الخلقين والسلامة عن المرض أو دعوى الإنفاق ونحو هذه الموارد ، أو لا مارة شخصية اعتبرها الشارع كدعوى الدم مع اللوث ، أو لوجود مانع عن مطالبة اليمين من المنكر.

والسر في الخروج هو أن إرجاع اليمين الى المنكر انما كان لقوة جانبه ، وفي المواضع المشار إليها لا قوة في جانبه باعتبار قيام الظن النوعي أو الشخصي

٢٨٧

على خلافه ، بل القوة حينئذ في جانب المدعي. لكن ذلك أيضا ليس على وجه مطرد ، لان الاعتماد ليس على كل أمارة نوعية أو شخصية بل لا بد من قيام دليل على اعتبارها ، فيكون مرجع ما ذكرنا بعد مشاهدة الأصل إلى بيان السر والحكمة دون الدليل.

هذا في موارد وجود الامارة ، وأما في غيرها فمطالبة اليمين عن المدعي دون المنكر لا بد أن يكون لمانع ، مثل اختلال النظام وحصول الهرج والمرج والعسر والحرج وتخليد الحبس ونحوها. ومن موارد وجود الأمارة القوية لجانب المدعي ما لو أقام شاهدا واحدا ، فالشاهد واليمين أيضا من موارد توجه اليمين الى المدعي. والله العالم.

التقاط

[ لا بد من الجزم في اليمين ]

لا بد في اليمين أن تكون ناظرة إلى الواقع على وجه الجزم ، فلو كانت ناظرة إلى الظاهر لم يكف ، لان اليمين الواردة في الأدلة هي اليمين المطابقة للدعوى والدعوى متعلقة بالواقع. وأيضا حال اليمين والبينة واحد ، والبينة حاكية عن الواقع فكذا اليمين.

وكذا لا بد فيها من الجزم ، فلو كان الحالف شاكا معترفا بشكه لم يكف ، لعدم صدق الاخبار على القضية إذا كان المتكلم بها شاكا في مطابقتها للواقع ، فلا يشمله الأدلة الدالة على تصديق الحالف ، كعدم شمول أدلة تصديق العادل للأخبار المقرون بالشك في المطابقة إذا كان الحال واضحة. نعم مع عدم وضوح الحال فظاهر الأخبار القاضي بالجزم متبع.

والذي يدل على ما قلنا أن خروج معلوم الكذب عن تحت الأدلة الإمرة

٢٨٨

بالتصديق ليس على وجه التخصيص بل التخصص ، لان الخبر المعلوم الكذب ليس بمشمول لعنوان الخبر ، لان الخبر حقيقة في الصادق أو ما كان مطابقا لاعتقاد المخبر ، ولأن المأمور بالتصديق ليس الا خصوص ما كان حاكيا عن اعتقاد المخبر ، وهو الأجود.

[ اليمين المتكلة على الأمارات والأصول ]

إذا تحقق ذلك فاعلم ان مقتضى القاعدة أن اليمين على الواقع نفيا أو إثباتا اتكالا على الأمارات الشرعية أو الأصول التعبدية لا يترتب عليها الأثر ، لأن المحلوف عليه حينئذ اما الثبوت أو النفي الظاهريين أو الواقعيين ، والأول كأن يحلف المنكر على براءة ذمته أو على عدم كون العين المتنازع فيها للمدعي ظاهرا :

فان كان الحلف على الظاهري لم يطابق الدعوى ، لان الدعوى متعلقة باشتغال ذمتها واقعا ، وأما الاشتغال الظاهري المشروط بالعلم فربما لا يدعيه المدعي بل ربما يعترف بعدمه إذا علم بجهل المنكر بالحال ، فلا فائدة في الحلف على عدمه ، لعدم كونه المدعى به كما أشرنا اليه.

وان كان الحلف على الواقعي اتكالا على الامارة الشرعية فهو وان تطابق الدعوى لكنك عرفت اعتبار الجزم ولو بظاهر الحال في الاخبار الذي يحلف عليه. وهو مفقود في المقام بحكم الفرض ، لأن مجاري الأصول بل الأمارات الشرعية غالبا مشكوك ، مع أن الظاهر أيضا حكمة حكم الشك.

وان شئت قلت : ان العلم اعتبر في جواز الحلف موضوعا لا طريقا حتى يقوم مقامه الامارات والأصول. هذا بالنسبة إلى الحكم الوضعي ، وأما الحكم

٢٨٩

التكليفي فالظاهر الحرمة ، لأنه قول بما لا يعلم وكذب بين. نعم مع وضوح الحال يمكن منع قبحه ، لعدم ترتب شي‌ء عليه من الإغراء ونحوه.

ويدل على ما ذكر زيادة على كونه مقتضى القاعدة بعض الروايات أيضا ، مثل ما في علل فضل بن شاذان المروي في العيون (١) ، فإنه علل عدم مطالبة البينة من المنكر بأنه جاحد ولا يقدر على إقامة البينة ، فلو كان الاخبار بمقتضى الأصل عن الواقع جائزا لكان إقامة البينة على النفي ممكنا بمقتضى الأصل ، بل قد يظهر من الأصحاب أنه مفروغ عنه فيما بينهم ، لأنهم قسموا اليمين الى قسمين يمين البت ويمين نفي العلم ، وجعلوا محل الثاني ما إذا تعلقت بفعل الغير ، فلو لا عدم جواز اليمين على البت بمقتضى الأصول كانت اليمين مطلقا على البت ، لان متعلق الدعوى إذا كان فعل الغير يحلف على نفيه بتا بمقتضى الأصل.

هذا ما تقتضيه الأدلة ، لكن الالتزام به والبناء عليه مشكل ، مع قطع النظر عن خصوص ما ورد من جواز الاخبار بمقتضى بعض الأمارات ، لأن ذلك يستلزم سد باب الدعاوي والإنكار والشهادات والايمان في كثير من الإشهاد كالملكية والزوجية والنسب والعدالة والطهارة والنجاسة ونحوها مما لا يمكن إحرازها إلا باستعمال أصل من الأصول أو امارة من الامارات.

بل الاشكال جاز في جميع الأمور التي يترتب عليها الأحكام الشرعية ، فلا يتم الاخبار بالغصب أو الإتلاف أو القتل أو البيع أو الطلاق الى جميع الموضوعات الا مع الإغماض عن بعض الاحتمالات المنافية لتحقق المخبر به اتكالا على بعض الأصول اللفظية أو العملية أو الأمارات الشرعية كالفراش وأصالة الصحة ، لأنه إذا ادعى ملكية عين في يد شخص فلا بد من طرح احتمال دخولها في

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ٦.

٢٩٠

ملك ذي اليد بسبب خفي ولو في سابق الازمان بالنسبة إلى الأيادي السابقة التي تلفها المدعي من تلك الأيادي.

وكذا إذا ادعى دينا فلا بد من الإغماض عن بعض ما يحتمل ولو بعيدا من الأمور المانعة عن الاشتغال أو الموجبة للبراءة ، وأما دعوى الغصب والإتلاف فالإشكال يجري فيما يتعلقان به من المال ، وكذا القتل.

وبالجملة من تحلى بحلية الانصاف وجد من نفسه أن الاخبار بأحد هذه الأمور في مقام الدعوى أو في مقام الإنكار أو في مقام الشهادة أو في مقام الحلف أو في مقام المكاتبة والقصة لا يتم الا بعد استعمال بعض الأصول والأمارات التعبدية الشرعية أو العقلائية ، فلو بنى على عدم ترتب الأحكام الوضعية على الاخبار بها في شي‌ء من المقامات المشار إليها إلا بعد الإحاطة التامة بواقعيات هذه الأمور إحاطة علمية جزمية غير مستندة الى أصل من الأصول أو الامارات انسد باب الدعوى والإقرار والإنكار والشهادة واليمين. وفساده بمكان لا يحتاج الى النظر الخفي.

هذا مضافا الى ما عليه بناء العلماء وسيرة المسلمين وطريقة أهل العرف من جميع الأديان ، أما العلماء فان ديدنهم الاخبار بالأحكام الواقعية بصورة الجزم ، كالحكم بأن هذا حرام وهذا حلال ، مع أن مستندهم في تلك الإخبارات والفتاوى ليس إلا الأصول والأمارات الشرعية التي مجاريها مشكوكة.

ودعوى أن قول الفقيه « هذا حرام » اخبار بالحرمة الظاهرية. شطط من الكلام بعد كون الحلال والحرام من دون التقييد بالقيد الظاهري ظاهرين أو صريحين في الحلال والحرام الواقعيين.

وأما المسلمون وأهل العرف من الأديان فان اخبارهم بزوجية امرأة أو ملكية عين أو نسب شخص في مقام القصة أو في مقام الدعوى أو في مقامات

٢٩١

أخرى ، ليس مبنيا على العلم اليقيني بالموضوع الواقعي. أترى أنه لو تزوج أحد بالفارسي تقليدا أو اجتهادا فهل يتوقف الزوج أو غيره في إطلاق الزوجة على المعقود عليها ، وهكذا من تزوج امرأة ارتضع من أمهات عشر رضعات ، أو غير ذلك من الأمثلة التي لا تحصى كما وكيفا.

والحاصل ان بناء العرف من العوام والخواص على الاخبار بهذه الأمور إذا ساعد عليها أصل شرعي أو امارة شرعية إلى تنزيل مجاري الأصول والأمارات منزلة الواقع ادعاء ، نظرا الى مساواته لها في جميع الاثار والأحكام الشرعية برجوع القضية الظاهرة في التنجيز الى البناء والتقدير ، بأن يكون معنى قول الفقيه « هذا حرام » أنه حرام بناء على مطابقة الامارة القائمة عليه للواقع ، وهكذا معنى قولهم لزوجة زيدانها زوجته نظرا الى ما أفتى به المفتي. وعلى التقديرين فالاخبار متعلق بالواقع بصورة الجزم ولو تنزيلا أو تقديرا.

ومع ذلك كله كيف يمكن القول بعدم جواز الاخبار بالواقع بمقتضى الأصول والأمارات ، أم كيف يشترط في الدعوى أو الحلف أو الإنكار أو الشهادة الجزم بالواقع بحيث لا يكون هناك احتمال يحتاج في نفيه الى التعبد بسبب شرعي أو أصل أو امارة شرعيين. فهل يقول أحد انه لو ادعى زوجية امرأة عقد عليها تقليدا أو اجتهادا ظنيا ، فهذه دعوى ظنية أو مشكوكة.

فالمسهل للخطب والمهون للأمر والجامع بين الأدلة وكلمات العلماء هو أن يقال : ان مجاري الأصول والامارات والأسباب الشرعية شرعا وعرفا يجري عليها حكم الواقع ، فيجوز الادعاء بمقتضى الاستصحاب وكذا الإنكار وكذا الشهادة وكذا اليمين ويترتب عليها الاثار الشرعية كلها ، لكن يشترط عدم مصادمة الجهة المتكل فيها على الاستصحاب مثلا لدعوى مدعى في مقابلها.

وبذلك يجمع بين ما عرفت من بنائهم وبين ما أثبتوه في كتبهم من اشتراط

٢٩٢

البت في اليمين والجزم في الدعوى والعلم في الشهادة ، فنقول : إذا ادعى شخص عينا في يد آخر فهنا أمور لا بد للمدعي دفعها بالأصل ، مثل احتمالات كون العين المتنازع فيها للمدعي عليه بالأسباب الخفية سابقا أو لاحقا ويجوز له الاتكال على الاستصحاب في اليمين على الواقع بتا إذا ردت اليمين اليه ولو علم الحاكم أو المنكر بأن يمينه مستندة من بعض الوجوه الى الاستصحاب.

لكن إذا وقع قضية بعض هذه الأصول طرفا لدعوى المدعى عليه ـ بأن ادعى انتقال العين اليه من جده أو أبيه أو أمه أو نحو ذلك ـ سقط الأصل المزبور من الاعتبار ، فلو حلف والحال هذه اتكالا على الأصل ولم ينفع ، بل وجب عليه الحلف البتي إذا رد اليه مثلا.

ومن هنا جازت الشهادة بمقتضى الاستصحاب ولو علم الحاكم أو المدعى عليه بالحال ويقضي بالبينة المستندة إليها أيضا ، لاعتبار الاستصحاب وكفايته في إحراز الواقع للشاهد ولغيره. مع أن المنكر لو انقلب مدعيا وادعى المبرئ أو المسقط لم تنفع البينة الاستصحابية حينئذ ولم يجز للمدعي إذا رد الحلف عليه اليمين على البت اتكالا على ذلك الاستصحاب الذي يدعي المنكر خلافه.

[ لو كان الاخبار مستندا الى الأصل ]

والحاصل ان السير والتتبع في الفتاوى مع ملاحظة ما جرت عليه سيرة المسلمين يقضي بقيام مجاري الامارات والأصول مقام الواقع مطلقا حتى في مقام الدعوى ، إلا الأصل أو الأمارة التي يدعي المدعى عليه خلافه لا جميع الأصول ، وحينئذ فلو كان الاخبار مستندا من جميع الوجوه أو من بعضها الى الأصل فان لم يكن في مقابله دعوى ـ بأن كانت الدعوى ناظرة إلى جهة غير راجعة الى ما قام عليه الاستصحاب واعتمد عليه المدعي في دعواه الجزمية أو

٢٩٣

الشاهد في شهادته أو الحالف في حلفه البتي ـ ترتب عليه جميع الأحكام الشرعية وضعا وتكليفا ، فلو كان في مقام الدعوى حل له ذلك ، ولو كان في مقام الشهادة حل ونفذ ، وكذا لو كان في مقام الحلف فتنفصل به الخصومة ، وان كان يدعي المدعى عليه خلافه سقط الأصل في جميع المقامات المزبورة من الجزم من تلك الجهة دون سائر الجهات.

وقد يشكل ذلك بأن المنكر لا بد أن يستند في اخباره الى الأصل في بعض الوجوه ، خصوصا فيما إذا كانت الدعوى في دين كلي أو عين غير مستندة الى سبب خاص ، فكيف يحلف على البت مع كون جميع الأصول المتكل عليها في مقابلها دعوى المدعي.

والجواب ان الدعوى إذا كانت مطلقة غير مستندة الى سبب خاص معلوم احتملت أسبابا جديدة بعضها معلوم العدم عند المنكر وبعضها مشكوك لا بد له في نفيه من الاتكال بالأصل ، وحيث أن السبب المشكوك لم يعلم استناد دعوى المدعي إليه لاحتمال استنادها الى السبب الذي يعلم المنكر جزما بانتفائه صح له الحلف البتي. وهذا المقدار يكفي في اعتبار الاستصحاب ولا يجب على المتكل عليه الحراز عدم كونه معرضا للدعوى ، بل إذا لم يعلم بكونه كذلك جاز له الاعتماد عليه في الاخبار الجزمي.

ومما ذكرنا ظهر سر ما صرحوا به من عدم جواز الحلف بتا إذا كان متعلق الدعوى فعل الخير ، إلا إذا علم المدعى عليه علما جزميا بعدمه ، لأنه إذا لم يعلم ذلك فلا بد من الاستناد الى الأصل في الحلف البتي. وقد عرفت ان الاستصحاب إذا كان معرضا لدعوى المدعي لا يجوز الحلف بمقتضاه بتا ، ولو حلف لم يترتب عليه الأثر أيضا مع العلم بالحال.

وكذا ظهر أن من صرح باعتبار الجزم في صحة اليمين وأنها لا يجوز مع

٢٩٤

الشك كالشهيد في محكي الدروس وغيره ، فمراده الجزم الذي عليه بناء المتشرعة في مخاطباتهم ومكالماتهم في هذه المشار إليها ، وهو الجزم المبني على تنزيل مجاري الأصول والأمارات منزلة الواقع ادعاء كما عرفت ، لا الجزم المبني على الإحاطة التامة بالواقع ، فان مفاسد ذلك مما يضيق عن الإحاطة به نطاق البيان. وكذا ظهر أيضا ان كل ما يجوز الشهادة عليه جازت اليمين وبالعكس. والله العالم.

التقاط

[ يلزم الحلف على القطع لا نفي العلم ]

قال في الشرائع يلزم الحلف على القطع مطردا ، الا على نفي فعل الغير فإنها على نفي العلم. فلو ادعى عليه ابتياع أو قرض أو جناية فأنكر حلف على الجزم ، ولو ادعي على أبيه الميت لم يتوجه اليمين ما لم يدع عليه العلم فيكفيه الحلف أنه لا يعلم. وكذا لو قيل « قبض وكيلك » وأراد بالتقييد بالنفي أن الحلف على إثبات فعل الغير أيضا ، لا بد أن يكون على القطع والبت. فالأقسام أربعة : إثبات فعل النفس ، ونفيه ، وإثبات فعل الغير ، ونفيه. وفي الثلاثة الأولى يعتبر البت ، وفي الرابع يكفي الحلف على نفي العلم لكن بشرط أن يتعرض المدعي لعلم المنكر والا انحصر طريق الدعوى في البينة.

وقد توهم أنه إذا اشترط في الحلف على نفي العلم كان الحلف أيضا على البت والقطع ، لان المدعى به حينئذ هو علم المنكر كالوارث مثلا والإنكار متوجه اليه ، فاذا حلف على عدم العلم كان الحلف قطعيا ، فصرح بأن الحلف دائما على البت.

وليس بوجه ، لان التعرض لعلم الوارث شرط لتوجه اليمين في دعوى

٢٩٥

المال ، والا فأصل دعوى العلم ليس مما يوجب يمينا على نفي العلم ، ولذا ذكرنا سابقا أن الجواب بلا أدري لا يستتبع اليمين على نفي العلم ولو ادعاه المدعي بل يرد اليمين الى المدعي في هذه الحال أيضا ، أعني في حال دعوى المدعي العلم عليه.

والحاصل ان اليمين على نفي العلم إذا كانت في دعوى المال مع التعرض للعلم خرجت اليمين عن كونها قطعية جزمية وصح تقسيمها الى قسمين ، وانما لا يصح إذا كان يمين نفي العلم فيما إذا كان أصل المدعى به هو العلم لا المال مثلا مع اشتراط التعرض للعلم. وفرق بين كون يمين نفي العلم فاصلة لدعوى المال بشرط التعرض للعلم وبين كونها لفصل دعوى العلم ، فإنها في الأولى ليست بقطعية بخلافها في الثانية.

[ الدعوى على نتيجة الفعل ]

ثمَّ ان الدعاوي على أقسام ثلاثة : منها ما يتعلق بفعل النفس مثل الأمثلة المزبورة ، ومنها ما يتعلق بفعل الغير كامثلة المذكورة ، ومنها ما ليس من الافعال بل النتائج مع احتمال استناده الى فعل النفس أو فعل الغير.

لا إشكال في حكم الأولين ، وانما الإشكال في القسم الثالث ، مثل دعوى اشتغال الذمة أو ملكية العين أو نحوهما من النتائج ، فان اشتغال ذمة الشخص مثلا قد يحصل من فعله كالبيع والإتلاف ونحو هما ، وقد يحصل من فعل غيره اشتغال الذمة أو ملكية العين أو نحوهما من النتائج ، فان اشتغال ذمة الشخص مثلا قد يحصل من فعله كالبيع والإتلاف ونحوهما ، وقد يحصل من فعل غيره كدابته أو عبده أو مورثه أو نحو ذلك ، فله يلحق ذلك بفعل النفس أو بفعل الغير؟ ظاهر هم الأول ، فيحكمون في مثلها باليمين على نحو الجزم والقطع.

ويشكل ذلك بأن الدعوى في مثلها غير معلومة التعلق بفعل النفس ، لاحتمال تعلقها بفعل الغير كما ذكر.

ويمكن دفع الاشكال بالنظر الى ما حققناه في الالتقاط السابق حيث قلنا

٢٩٦

انه يكفي في اليمين البتية احتمال استناد دعوى المدعي الى ما يعلم المنكر بانتفائه لا الى ما اعتمد في نفيه بالاستصحاب ، فان مثل ذلك يجري في المقام أيضا ، لأنه إذا ادعى شيئا يحتمل استناده الى فعل المنكر ، والى فعل غيره فان كانت في الواقع مستندة الى فعل نفسه فالحلف القطعي في محله كما هو واضح ، وان كانت مستندة الى فعل غيره فالحلف البتي على نفي فعل الغير أيضا جائز أو مع العلم بانتفائه.

والاستصحاب النافي لاستناده إلى أفعال الغير قائم مقام العلم ، إذ قد عرفت أن الحلف البتي بمقتضى الاستصحاب جائز إذا لم يكن في طرف الدعوى أو واجب شك في ذلك.

والحاصل ان المنكر في هذه الأمثلة لما لم يكن عالما باستناد دعوى المدعى الى فعل غيره كان كمن يعلم بعدم الاستناد في جواز الحلف البتي ، نظرا الى كونه احتمالا في مقابل الاستصحاب ، لان عدم العلم باستناد الدعوى الى الاحتمال المخالف للاستصحاب يكفي في الحلف البتي على عدمه اتكالا على الاستصحاب.

فان قلت : قضية القاعدة ـ ولو بعد تسليم هذه القاعدة أعني جواز الحلف البتي بمقتضى الاستصحاب بشرط عدم مصادمته مع دعوى المدعي أيضا ـ عدم جواز الحلف البتي ، لأن الشك في الشرط لا يوجب الشك في المشروط ، فاذا احتمل المنكر كون أصالة عدم فعل الغير الذي أتكل عليه معرضا لدعوى المدعي لم يجز له الحلف البتي ، لاشتراط ذلك بعدم كونه معرضا لها.

قلت : إذا أنكر المنكر الاشتغال فظاهر اخباره الجزم بالعدم ، وهو أمر ممكن ولو بعيدا ، كما إذا صالحه المدعي عن المتنازع فيه وقبضه قبل الدعوى فإنه حينئذ جازم بعدم الاشتغال. فتأمل.

وظاهر الاخبار يوجب توجه الحلف البتي عليه ، ولو فرض الكلام فيما

٢٩٧

إذا علمنا أنه أتكل في بعض الاحتمالات الخفية بالأصل ، فنقول حينئذ : انه يكفي في مطالبة الحلف البتي من المنكر عدم إحرازه سبب الحلف الغير البتي ، أعني استناد الدعوى الى فعل الغير الذي لا يعلم بانتفائه علما وجدانيا ، اما لعمومات الحلف الظاهرة في الحلف البتي كما مر. فتأمل ، أو لأصالة عدم استناد الدعوى الى ذلك السبب المستلزمة لاستنادها الى سبب يقتضي الحلف البتي. فتأمل ، أولان الشرط الذي اعتبرناه في الحلف بمقتضى الاستصحاب ـ أعني عدم كونه معرضا للدعوى ـ أمر ثابت من كلمات العلماء على خلاف ما عليه طريقة المتشرعة قاطبة من الاعتماد على الأصول والأمارات في أخبارهم الجزمية ولم يثبت أزيد من ذلك ، فنقول :

قضية القاعدة الثابتة من بناء العوام والخواص جواز الحلف البتي بمقتضى الأصل ، مثلا خرج من تحتها صورة العلم التفصيلي بكون الأصل المعتمد عليه معرضا للدعوى ، وأما صورة الشك في ذلك فهي باقية تحت القاعدة. فتأمل ، أو لأن ظاهر الاخبار يقتضي كونه جازما بانتفاء جميع الأسباب ، سواء كان فعل نفسه أو فعل غيره وعلمنا إجمالا باتكاله في نفي بعض الأسباب على الاستصحاب مثلا لا يمنع عن الحكم بمقتضى ذلك الاخبار الجزمي ، وهو الإحلاف على نحو البت ، لان سلب جميع الأسباب يتضمن ما يتعلق بأفعاله من الأسباب أيضا ، وهو ـ أعني نفي ما يرجع الى فعله من الأسباب ـ يكفي في مطالبة الحلف البتي ، والمعلوم بالإجمال ـ أعنى الاستناد الى الاستصحاب في نفي بعض الأسباب ـ لا يعلم رجوعه الى ما يتعلق بفعل نفسه وعدم العلم بما يمنع من الحلف البتي كاف في مقابل ظاهر الاخبار المقتضي له.

وتوضيح المسألة : ان المنكر في الأمثلة المزبورة التي ظاهر اخباره هو العلم بعدم الأسباب رأسا ان لم يعلم استناده في نفي بعضها الى الاستصحاب

٢٩٨

كما يتفق كثيرا ما فلا إشكال في كون يمينه على نحو البت ، لان العالم يمينه على البت سواء كان في فعل نفسه أو في فعل غيره وان علمنا أنه أتكل في نفي البعض الى الاستصحاب ، فان علمنا أن ذلك البعض لا يرجع الى فعل نفسه وانه ما لم يعلم ما يرجع الى فعله من الأسباب كلا ، فلا إشكال أيضا في كون يمينه على نحو البت.

لا يقال : كيف لا اشكال فيه مع أنه يحتمل استناد المدعي الى فعل غيره الذي اعتمد المنكر في نفيه بالأصل ، وقضية تطابق الدعوى واليمين إحراز كون الدعوى راجعة إلى فعل نفسه حتى يقتصر في فصلها بالحلف القطعي ، والا فبمقتضى القاعدة اما إلزام المدعي في هذه الصور بذكر السبب أو الجمع بين حلفين : أحدهما القطعي لاحتمال استنادها الى فعل نفسه الذي فرض علم المنكر بعدمه ، وثانيهما الحلف على نفي العلم بوجود ما يرجع الى فعل غيره من الأسباب.

لأنا نقول : اما إلزام المدعي بالتفصيل فلا وجه له بعد عدم الدليل عليه وكون دعوى أصل التنمية دعوى صحيحة. وأما الجمع بين الحلفين ، ففيه : ان الحلف على نفي فعل الغير مشروط بادعائه المدعي بشرط الفرض للعلم أيضا ، وأصل الدعوى هنا غير معلوم فضلا عن الشرط المزبور. مع إمكان أن يقال : ان الحلف على عدم التنمية ينحل الى الحلف البتي على عدم الأسباب التي يعلم بانتفائها وعلى نفي العلم بالأسباب التي يحتمل وجودها.

هذا ان علمنا بأن السبب المنفي بالأصل يرجع الى غير فعل نفسه ، وان علمنا انه يرجع الى فعل نفسه ، فهاهنا نلتزم بأنه ليس مقام الحلف البتي وأنه لو حلف أيضا مع علمنا بالحال لا ينفع بل يرد اليمين الى المدعي بناء على ما سمعت في مسألة « لا أدري » على الخلاف المذكور سابقا.

٢٩٩

وان جهل الحال من هذه الجهة بعد العلم الإجمالي باستناد المنكر في بعض الأسباب المردد بين فعله وفعل غيره بالاستصحاب فنقول أيضا : وظيفته الحلف القطعي لما ذكرنا من الجري على مقتضى ظاهر الاخبار من العلم بانتفاء جميع الأسباب التي منها فعل نفسه مع عدم معلومية الصارف ، وهذا مثل ما قد يقال في اللفظ الواقع في مقابل ظاهر لفظ آخر المردد بين احتمال يكون على تقديره صارفا لفظ الآخر وبين احتمال لا يكون صارفا ولا مستتبعا بحكم من عدم صلاحيته للصرف حينئذ.

ومثله الكلام فيما نحن فيه ، فان معلومية استناد المنكر في نفي بعض الأسباب مع دورانه بين أن يرجع الى فعل نفسه فيمنع عن الحلف أو يرجع الى فعل غيره ويكون فعل نفسه معلوم العدم ، فلا يؤثر في شي‌ء لا يمنع عن العدول عما يقتضيه ظاهر الاخبار ، وهو عدم الاستناد في نفي فعل نفسه الى الاستصحاب.

[ وجوب إحراز مطابقة الجواب والحلف للدعوى ]

ثمَّ ان تمَّ ما ادعيناه من حجية ظاهر الاخبار في عدم استناد المنكر الى فعل نفسه الى الاستصحاب فهو والا ففي المسألة إشكال ، لوجوب إحراز مطابقة الجواب والحلف للدعوى ، ومع الشك في جزمه بما يتعلق بفعل نفسه كيف لا يحرز كون حلفه مطابقا لها.

والحاصل انه لا بد من إحراز كون الجواب والحلف جوابا وحلفا على كل تقدير ، ومن التقادير والاحتمالات كون الدعوى متعلقة بفعل المنكر وكون الإنكار الجزمي ناظرا إلى أسباب ترجع الى فعل غيره لا الى فعل نفسه ، فلا يمكن إحراز المطابقة حتى بالحلف البتي.

وأيضا كيف يلزمه الحاكم بالحلف البتي مع أن البت على نفي فعل الغير

٣٠٠