كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

قلنا : أولا دعوى الغلبة ممنوعة ، لأن العلم بعدم الشي‌ء واقعا غالبا متعسر ، لابتنائه على الإحاطة بجميع أسباب وجوده الخفية والقطع بانتفائها أجمع ، سواء كان ذلك الشي‌ء فعل نفسه أو فعل غيره.

وثانيا : ان الغلبة المزبورة ليست بحيث يكون صورة عدم العلم بفعل النفس معها مسكوتا عنها في كلامهم ، كيف مع أنا لو لم نقل بأكثرية هذه الصورة بالنسبة إلى صورة العلم أو مساواتها لها فلا أقل من كثرتها في نفسها بحيث يبعد خروجها عن كلامهم ، فاما أن يقال انها داخلة تحت إطلاق قولهم باعتبار البت في اليمين ، أو يقال انها مهملة مسكوت عنها في كلامهم ، أو يقال ان حكمها حكم الدعوى المتعلقة بفعل الغير ، وكلها كما ترى.

وثالثا : ان موضوع المسألتين الخلافيتين وموضوع المسألة الاتفاقية واحد كما لا يخفى ، ولا ريب أنه لا يمكن أن يجعل مفروض كلامهم في المسألتين الخلافيتين كون المدعى عليه عالما بالواقع ، بأن يكون إنكاره متوجها الى الواقع ، لان يمين العالم لا بد أن تكون على نحو البت باعتراف الخصم وباتفاق الكل إذا كانت الدعوى غير متعلقة بفعل الغير ، فلا بد أن يجعل موضوع المسألة مطلق المدعى عليه ، سواء كان عالما بالواقع أو جاهلا.

وبالجملة من راجع كلماتهم في تقسيم اليمين على قسمين على أنهم حيثما يقولون باعتبار البت في اليمين لا يشترطون فيه علم المدعى عليه بالحال ، وعلم أيضا أن خلاف العامة مع الأصحاب وفيما بينهم ـ حيث ذهب بعضهم الى كون اليمين دائما على البت سواء تعلقت بفعل النفس أو بفعل الغير وبعضهم إلى أنها دائما على نفي العلم كذلك ـ ليس مقصورا بصورة علم المدعى عليه أو جهله بل مطلق شامل للصورتين.

وثمرته ما أشرنا من أن اليمين حيثما كانت على البت وتعذرت لجهل المدعى

٢٦١

عليه أو لعذر آخر قضى بالنكول أو بعد الرد ، مع أن إيقاف سماع الدعوى على البينة مما لم يلتزم به أحد. ولازم المكتفي باليمين على نفي العلم ذلك إذا كان المدعي معترفا بعدم علمه.

فان قلت : قد صرح بعضهم بأن الوارث ان علم بالحال فيما يتعلق بمورثه من الدعاوي حلف على البت ، والا فيكتفى منه باليمين على عدم العلم. وقضية المقابلة أن يكون الأمر فيما نحن فيه أيضا كذلك ، فقولهم « ان اليمين فيما يتعلق بفعل النفس لا بد أن تكون على البت » ينزل أيضا على صورة العلم بالحال ، نظير قولهم في فعل الغير.

قلت : المصرح قد اختلط عليه الحال بعض الاختلاط ، لأنا نقول : ان الوارث يكتفي منه الحلف على عدم العلم مطلقا سواء علم بالحال أم لا. والظاهر أنه رأي الكل أو الجل ، ومقتضى المقابلة أنه لا يكتفي في فعل النفس أيضا إلا بالبت. ولعل التصريح المزبور منشؤه الاشتباه في مسألتنا هذه.

[ اعتبار الحلف في المدعى عليه ]

وأما الاخبار فهي أيضا تدل على اعتبار الحلف في المدعى عليه وان كان في بعضها التقييد بالجحود والإنكار ، لأن المقام ليس مقام التقييد كما لا يخفى ، والخصم أيضا يساعدنا على ذلك وانما يدعي أن اليمين أعم من أن تكون على البت أو على نفي العلم.

وأنت خبير بأن اليمين المقابلة للبينة لا يراد بها سوى ما يتعلق منها بالواقع كالبينة ، فالمراد باليمين ليست الا ما كانت ناظرة إلى نفي الدعوى واقعا كالبينة المثبتة لها كذلك :

فمنها ما مر في ذيل حديث البصري « ولو كان المدعى عليه حيا لا لزم اليمين

٢٦٢

أو الحق أو يرد اليمين » (١) ، فإنه صريح الدلالة في أن المدعى عليه الحي لا مفر له من أحد هذه الأمور الثلاثة ، سواء قلنا ان الترديد قد لو حظ فيه حال الموارد جميعا أو حال كل مورد : فعلى الأول فهو ترديد توزيعي ، يعني ان المدعى عليه قد يكون ممن يلزم باليمين كالمنكر ، وقد يكون ممن يلزم بالحق كما لو أقر ، وقد يكون ممن يلزم بالرد كالساكت أو من يقول « لا أدري ». وعلى الثاني فهو تخيير شرعي يرجع الى كل مدعى عليه ، فيقول له الحاكم اما أن تحلف أو تعطي الحق أو ترد اليمين.

أما شموله للمقام بناء على الأول فواضح ، لأن الذي يلزم بالرد خاصة ليس الا الساكت ومن يقول « لا أدري » ، وأما شموله له بناء على الثاني فلان المجيب بلا أدري يمكن في حقه الترديد بين الأمور الثلاثة ، إذ لا مانع له من اليمين على البت في نظرنا ، لاحتمال علمه بالعدم ، ويعبر عنه بعدم العلم الذي هو أعم من العلم بالعدم ، فيقول له اما أن تحلف على البت ان كنت عالما بالعدم واما أن تعطي الحق أو ترد ولو فرضنا كونه جاهلا وان قوله « لا أدري » مبني على جهله بالحال لا على علمه بالعدم.

فمع أنه كلام خارج عن الفرض لان الفرض حكم الجواب بلا أدري مع قطع النظر عن علمنا بحاله نظير حكم الجواب بالإنكار ، وان كان شاكا أو كاذبا أو فرضنا تصريحه في الجواب بالجهل نقول حينئذ : انه يجب عليه ما يجب على المنكر بطريق البت إذا علمنا بجهله وكونه شاكا.

والحاصل ان حكم الجواب بلا أدري مسألة وحكم الشاك مسألة أخرى تجرى فيمن يجيب بلا أدري أو يجيب بالإنكار ، ومقتضى الدليل هو الالتزام بأحد

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٤ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٢٦٣

الأمور الثلاثة ، سواء أجاب بالإنكار أو بلا أدري أو سكت ، وسواء كان ظاهر قوله مطابقا لاعتقاده أم لا.

هذا كله مع أنا لو فرضنا أنه اختار الرد بدون إلزام الحاكم توجه اليمين الى المدعى قطعا بل يمكن تحصيل الإجماع عليه ، ويتم الكلام في صورة عدم الاختيار بالإجماع المركب ، لان الرد إذا قلنا به في الجملة قلنا به مطلقا ، لوضوح كون يمين المنكر حينئذ ميزانا للقضاء ، والقائل بعدم الرد لعله يدعي أن الميزان هو يمين المدعى عليه على نفي العلم.

ومما ذكرنا ظهر وجوه بقية الأقوال وضعفها أيضا حتى القول الثاني. نعم قد يستدل بل قد استدل عليه ـ مضافا الى ما تقدم من إطلاق قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » ببعض الأخبار الدالة على أن الرجل لا يحلف الا على علمه ، كخبر ابي بصير ومرسلة يونس « لا يستحلف الرجل الا على علمه » ولا تقع اليمين الا على العلم استحلف أو لم يستحلف (١).

وفيه : انها مسوقة لبيان وظيفة الحالف في مقام التكليف ، وان الشاك لا يحل له الحلف. وأين هذا من مسألتنا هذه التي نبحث فيها عن ميزان القضاء إذا كان المدعى عليه قول « لا أدري » أو كان شاكا في الواقع. والله العالم.

مسائل

( متعلقة بالقضاء على الغائب )

( أولها ) لا اشكال نصا وفتوى في القضاء على الغائب عن البلد إذا كان بعيدا ، وأما الغائب عن مجلس القضاء وهو الحاضر في البلد ، فان كان الحضور متعذرا له فلا اشكال ولا خلاف أيضا في القضاء عليه ، ودليله جميع أدلة القضاء مع

__________________

(١) الكافي ج ٧ ص ٤٤٥ باب لا يحلف الرجل الا على علمه.

٢٦٤

قاعدة نفي الضرر ، وأما مع عدم التعذر ففي القضاء عليه قولان ، والمشهور القضاء ، لكن الدليل عليه غير مساعد ، لعدم وفاء الإطلاقات بالدلالة على ذلك لإهمالها من هذه الجهة أو لانسباق الحاضر منها واختصاص ما ورد في خصوص القضاء على الغائب بالنائي بحكم التبادر.

مضافا الى ما يظهر من روايات عديدة ناطقة بعدم القضاء الا بعد السؤال عن المدعى عليه المعللة بأن ذلك أحوط وأبى في القضاء ، مثل رواية محمد ابن مسلم عن ابى عبد الله عليه‌السلام قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله : إذا تقاضى إليك رجلان فلا تقض للأول حتى تسمع من الأخر ، فإنك إذا فعلت ذلك تبين لك القضاء (١). ومثله غيره.

ودعوى اختصاصها بالمتخاصمين الحاضرين. لا تضر ، لان الظاهر منها إعطاء قاعدة القضاوة من غير مدخلية لحضور الخصم وغيبته ، فالسؤال عن المدعى عليه كسائر ما ورد في آداب القضاء أمر راجع الى شرائط القضاوة ، سواء تعلقت بالحاضر أو الغائب.

وأما ظهورها في الندب ، فغير قادح أيضا بعد كون الحكم في الحاضر على نحو الوجوب بالإجماع ، وتعليل الحكم الوجوبي بما يلوح منه الندب باب معروف في الروايات يراد إبداء المناسبة.

ونظيره ما ذكره المحقق القمي في استدلال الامام عليه‌السلام على طرح الشاذ النادر من الروايتين المتعارضتين بحديث التثليث الذي حمله على الاستحباب. فما عن عوائد المحقق النراقي من حمل الرواية على الاستحباب ليس بجيد.

لا يقال : ربما يكون في عدم الحكم على الحاضر في البلد الغائب عن

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٤ من أبواب آداب القاضي ح ٢ وهو عن أبى جعفر عليه‌السلام.

٢٦٥

مجلس القضاء ضرر على المدعي ، فيجب بقاعدة نفي الضرر التي هي المستند في القضاء على من يتعذر عليه الحضور.

لأنا نقول : قاعدة نفي الضرر لا يعمل بها إلا في مقام الاطمئنان لكثرة ما بها من التخصيص ، ولا اطمينان بها في القضاء وان نسب الى المشهور القول به.

فتأمل. مع أن الكلام في المقام مع قطع النظر عن لزوم الضرر وان القضاء هل يشترط بحضور المدعى عليه في غير الغائب عن البلد أم لا ، فلو قيل بالاشتراط لم يلزم منه عدم الفضاء مطلقا حتى ينفى الضرر.

وقد يتوهم دلالة النبوي « إذا حضر عنده خصمان فتواعد الموعد فوفى أحدهما ولم يف الأخر قضى للذي وفي » وأمثاله على المدعى. وهو سهو ، لان ذلك دليل على القضاء على الممتنع ، وهو خارج عن محل الكلام.

ثمَّ ان التعذر الذي يسوغ معه القضاء على غير الحاضر في المجلس ، أمر موكول الى العرف لأحد له شرعا ، فيختلف باختلاف الأحوال والازمان والأمكنة والمدعي والمدعى عليه ، ومن جملة العذر ما لو صبر المدعي الى زواله فات بعض حوائجه ، مثل مصاحبة رفقة السفر ، الى غير ذلك مما يظهر بالمراجعة إلى العرف.

ثمَّ الغائب عن البلد ان كان قريبا منه حكمه حكم البعيد الى حد المسافة لإطلاق أدلة الغائب ومعلومية صدقه على مطلق الخارج عن البلد ، ولكن ذلك أيضا موكول الى العرف ، ولا يبعد تحديد ذلك بحد الترخص الشرعي لأنه مما يساعد عليه العرف أيضا.

( فرع ) لو كان المدعى به متعلقا باثنين أحدهما حاضر والأخر غائب فأقام المدعي البينة وقضى فهل القضاء المزبور بالنسبة إلى الغائب الأخر حكمه حكم القضاء على الغائب أم لا؟ فيه وجوه.

مثاله دعوى الزوجية ، فلو ادعى أحد زوجية امرأة حاضرة وقضى له بالبينة ،

٢٦٦

فهل القضاء المزبور بالنسبة إلى آخر غائب يدعي زوجيته مثل القضاء على الغائب أم لا؟

قد يقال ذلك ، وفائدته الاستحلاف استظهارا على القول به في القضاء على الغائب لو كان هناك دعوى محتملة من ذلك الغائب ويكون هو على حجته إذا حضر.

وقد يقال ان القضاء ينفذ عليه منجزا من دون استحلاف ، إلحاقا له بالقضاء على الحاضر. وهو أضعف الوجوه.

وقد يقال عدم نفوذ القضاء عليه مطلقا ، بل يجب تجديد إقامة البينة إذا حضر.

وقد يقال ان المدعي حينئذ يكون منكرا بالقياس الى ذلك الأخر ، لقوة جانبه بإقامة البينة فله إذا حضر الدعوى عليه.

ثمَّ ان الحكم التسجيلي الذي ذكره في محكي القواعد ليس من باب القضاء على الغائب ، وهو أن يقيم ذو اليد على ملكية ما في يده تسجيلا على من يتوهم مخاصمته ومنازعته ، وهذا على تقدير صحته ليس من باب القضاء على الغائب. والله العالم.

( الثانية ) المدعي على الغائب اما أن يتعرض جحوده أو يتعرض لإقراره أو لا يتعرض شيئا منهما ، والأول هو القدر المتيقن من أدلة القضاء على الغائب ، وأما الثاني فقد صرح في محكي القواعد على عدم القضاء حينئذ لاشتراط الجحود ، والظاهر أنه شرط في مطلق الدعوى والمخاصمة ، لأن الدعوى وما يشتق منه من الصيغ ظاهر في المخاصمة والمشاجرة ، ومع التنزل فلا أقل من قصور أدلة القضاء على الحاضر والغائب عن التناول لذلك.

وحال الأخير يظهر مما ذكر ، فان شرطنا الجحود لم تسمع الدعوى والا

٢٦٧

سمعت ، لكن في محكي القواعد مع اشتراطه الجحود ان عدم التعرض للإقرار يكفي في سماع الدعوى.

هذا بالنسبة إلى الحكم والقضاء ، وأما بالنسبة إلى أخذ المال فقد صرح في محكي التحرير بأنها تسمع ولو مع التعرض للاعتراف مع تصريحه بعدم سماعها للحكم. ولا بعد فيه بناء على عموم حجية البينة مع اعمال قاعدة نفي الضرر حيثما تجري ، ولا ينافيه ما نقلنا من عدم حجية البينة فيما يتعلق بحقوق الناس الا بعد الحكم. ولا حكم في المقام ، لان ذلك مختص بصورة التشاجر والتنازع ولو محتملا ، ومع فرض اعتراف الغائب لا نزاع هنا ، فيكون إثبات المال كسائر الموضوعات مثل إثبات الهلال ونحوه.

الا أن يقال : ان قول المدعي لا يكفي في ثبوت إقرار الغائب ، فلو أثبت إقراره أيضا بالبينة أخذ المال ، فحيث لم يثبت إقراره بعد يكون المقام مقام الدعوى ولو احتمالا. والله العالم.

( الثالثة ) لو كان صاحب الحق غائبا فطالب الوكيل وادعى الغريم التسليم الى الموكل ولا بينة ، ففي الإلزام تردد بين الوقوف في الحكم لاحتمال الأداء وبين الحكم وإلغاء دعواه ، لان التوقف يؤدي الى تعذر طلب الحقوق بالوكلاء ، والأول أشبه.

هذه عبارة الشرائع ، وفهم منه المسالك أن المصنف اختار الإلزام والحكم.

وفي بعض حواشي المسالك ان ظاهر العبارة التوقف.

والأول أظهر احتمالا ومحتملا ، وذلك لان دعوى الغريم التسليم الى الموكل دعوى على الغائب بلا بينة ، ولا تسمع الدعوى على الغائب الا بالبينة.

ومنه يظهر أنه لا يمين هنا أيضا لأجل هذه الدعوى.

نعم لو ادعى على الوكيل العلم بالتسليم فله الإحلاف ، لأنه دعوى متعلقة

٢٦٨

بفعل الغير ، والدعوى المتعلقة بفعل الغير يترتب عليها يمين نفي العلم إذا تعرض المدعي للعلم.

ثمَّ انه لا وجه هنا للتكفيل الذي احتمله بعض ، تسوية بينه وبين الدعوى على الغائب الذي تقدم دلالة الأخبار عليه فيها ، لان هذه الدعوى بعد ما كانت ساقطة في الشرع لم يتزلزل شرعا الدفع ، وإذا لم يتزلزل الدفع لم يكن وجه للكفيل.

نعم لو كان المدعى عليه أيضا غائبا ـ بأن ادعى وكيل الغائب على وكيل الغائب أو عليه ـ توجه التكفيل ، لان المدعى عليه إذا كان غائبا قام هنا احتمال دعوى مسموعة ، غاية الأمر عدم تأثير هذا الاحتمال عاجلا في الاستحلاف نظرا إلى غيبة المدعي وعدم جواز حلف الوكيل عنه ولكنه لا يوجب عدم مراعاة ذلك الاحتمال رأسا ، إذ من المحتمل أنه إذا حضر وحضر خصمه احلف.

وقضية المراعاة التكفيل بناء على جوازه مطلقا أو في خصوص تسليم مال الغائب.

فظهر الفرق بينه وبين الأول ، لان المدعي للتكفيل في الأول حاضر ودعواه التسليم الى الموكل غير معتبرة ، فلا مقتضى للتحليف. بخلاف الثاني ، فإن مقتضى التحليف فيه موجود ، وهو احتمال دعوى الغائب إذا حضر. وانما لا يستحلف لأجل فقد الشرط وهو حضور الموكل.

ثمَّ التكفيل للدفع المتزلزل مرجعه الى ضمان ما لم يتبين وجود سببه مع احتماله في الواقع ، ومنه ضمان درك الثمن وضمان العين والتعهد بها ، وسماه في محكي القواعد بالاستيثاق وعدله موارد من الفقه :

( منها ) ضمان درك المهر ، والدئل عليه على وجه يكون قاعدة كلية مفقود ، لكن أصل شرعيته في الجملة ثابتة ، كما مر في دفع مال الغائب بكفلاء. ولعله

٢٦٩

يكفي في جواز اشتراطه في ضمن عقد من العقود كالبيع والصلح ، لأن الشي‌ء إذا ثبت شرعيته في الجملة أمكن الحكم باندراجه تحت عموم الأدلة ، وأما مع الشك في أصل شرعيته ففيه اشكال.

مثلا العدول من الجماعة إلى الفرادى لما ثبت شرعيته في الجملة ـ كما في صلاة الخوف ـ أمكن القول بجوازه في الجماعة لأدلة الجماعة ، وأما العدول من الانفراد إلى الجماعة لما لم يثبت أصلا لم يجز القول به الا من زعم ان أدلة الجماعة مطلقة لا مهملة.

وكيف كان فالظاهر أن التكفيل ليس تعبدا محضا بل لأجل الاستيثاق كما فهمه الشهيد ، فيسقط إذا كان الأخذ موثوقا به في الرد مع تحقق سببه ، وإلا لزم التسلسل ، لان الكفيل أيضا يحتاج الى كفيل آخر. والله العالم.

٢٧٠

القول في كيفية الاستحلاف

التقاط

[ عدم الإحلاف إلا بالله تعالى ]

ظاهر الأصحاب الاتفاق على أنه لا بد أن يكون الحلف المثبت لحق أو النافي له ـ وبالجملة في مقام الدعوى ـ بالله تعالى ، فلو حلف بغيره لغي الحلف.

هذا في المسلم ، وأما اليهودي والنصراني والمجوسي والدهري والوثني وما أشبههم ، فقد ذكر في محكي المبسوط والشرائع أنه يجوز إحلافهم بغيره تعالى ، مع تقييده في الشرائع بما إذا كان الحلف به أردع. لكن النصوص عاما وخاصا متفقة على عدم الإحلاف إلا بالله تعالى ، منها ما سمعت في السابق « اقض بينهم بالبينة وأضفه إلى اسمي » (١).

وأما في غير مقام الدعوى فالكلام فيه تارة من حيث الحكم الوضعي كوجوب الكفارة وحصول فصل الخصومة به وأخرى من حيث الحكم التكليفي : أما الأول فالظاهر عدم الخلاف في أنه لا يترتب عليه الأثران ، وأما الثاني فقد اختلف فيه.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب كيفية الحكم ح ١ و٢ و٣.

٢٧١

والاخبار الناهية كثيرة ، لكنها معارضة بالسيرة المستمرة وبما علم من أفعال المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين ، فإنهم كثيرا يحلفون بآبائهم وبالجملة بغير الله تعالى. وقد جمع غير واحد بحمل الأخبار الناهية على الكراهة ، وهو أيضا مشكل ، لأن الكراهة أيضا منافية لأفعالهم.

ودعوى أن الافعال منزلة على بيان عدم الحرمة ، شطط من القول. نعم يمكن حمل الافعال على بعض المصالح الخفية.

مع أن الاخبار الناهية شاملة لمقام الدعوى أيضا ، وحملها على الكراهة ينافي القول بعدم ترتب الأثر على الحلف ، بل وكذلك حملها على الحرمة ، لأن الحرمة لا تنافي ثبوت الحكم الوضعي ، فلو حملت على الكراهة فلا بد من حملها على غير مقام الدعوى. ولا بأس به ، لان عدم ترتب الأثر على الحلف بغيره تعالى في مقام الدعوى أدلته كثيرة : منها ما أشرنا إليه حيث قال جل اسمه « وأضفه إلى اسمي ».

مضافا الى الاقتصار فيما خالف الأصل على القدر المتيقن ، وهو الحلف به تعالى. فيدفع ما يقتضي الاكتفاء بالحلف بغيره تعالى في مقام الدعوى ، إذ ليس هو إطلاق مثل قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر ». وهو كما ترى ، لأنا لو لم نقل بأن المنساق من اليمين هو اليمين بالله تعالى فلا أقل من عدم إطلاقها. فافهم والله العالم.

التقاط

[ كيفية إحلاف المجوس ]

ذهب الشيخ في محكي المبسوط إلى أنه لا يقتصر في حلف المجوس على لفظ الجلالة ، بل يضيف الى هذه اللفظة الشريفة ما يزيل احتمال ارادة غير الذات

٢٧٢

المقدسة كخالق الظلمة والنور ، لان المجوسي سمى النور إلها ، فاذا أتى بلفظ الخالق نص في الذات المقدسة.

ومال اليه بل قال به بعض من تأخر ، نظرا الى لزوم إحراز وقوع الحلف بالجلالة ، ومع احتمال ارادته غيرها لم يكن الحلف به تعالى محرزا ، فلا يتحقق ميزان القضاء.

وقد يناقش فيه : بأن احتمال ارادة الخلاف غير قادح في مقابل الظهور اللفظي ، ولذا لا يعتنى باحتمال التورية أو احتمال شي‌ء آخر ينافي ظاهر اللفظ ، والا انسد باب الفصل بالإيمان ، لأن الإحاطة بالأمر القلبي والعلم به أمر غير ميسور.

ويدفع ذلك بأن احتمال ارادة غير الذات المقدسة هنا ليس في مقابل ظهور لفظي ، لأن المتكلم إذا كان له اصطلاح أو اعتقاد مغاير لاعتقاد السامع في لفظ من الألفاظ لم يجز حمله على مقصود السامع لعدم الظهور.

نعم ما ذكر من عدم الاجتزاء باحتمال التورية حق لما ذكر ، لكن الأظهر أيضا الاقتصار ، لإطلاق الاخبار بل ونصها في خصوص المجوسي واليهودي والنصراني ، ولان عدم الاعتقاد بوجود الذات المقدسة ـ العياذ بالله ـ لا ينافي وقوع الحلف بها ، لان المقصود إحلاف المدعى عليه بالذات المقدسة التي وجودها حق ثابت اعتقده الحالف أم لا.

ومن المشايخ من بالغ في ذلك فقال بالاقتصار حتى مع العلم بأنه أراد باللفظة المباركة غير الذات المقدسة أخذا بإطلاق الاخبار. وهو كما ترى جمود بارد ، لأنا إذا علمنا ارادة غير الذات المقدسة فقد علمنا بعدم وقوع الحلف بها ، ومجرد ذكر لفظ الجلالة لا يجدي بعد ما لم يكن المقصود من اللفظ المعنى.

٢٧٣

التقاط

[ التغليظ في الإحلاف ]

يكفي في الحلف الذي هو ميزان القضاء أن يقول الحالف « والله ماله قبلي حق » ، والظاهر الاكتفاء بغير لفظ الجلالة أيضا من أسماء الله الخاصة الصريحة في الذات المقدسة ، لا طلاق بعض الاخبار وعدم صلاحية ما فيه خصوص لفظ الجلالة للتقييد ، ولذا لم يشترطه الأصحاب فيما عثرناه.

نعم يستحب للحاكم التغليظ في الحلف في الحقوق كلها ، سوى المال الذي لا يبلغ نصاب القطع على المشهور بين الأصحاب ، لكن في المسالك انه غير واضح المستند.

أقول : يمكن استفادته من إحلاف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله بعض اليهود على نحو التغليظ وان كان في غير مقام المرافعة ، ومن حلف الأخرس الذي روي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام فإنه على نحو التغليظ (١) ، وما روي عنه عليه‌السلام أيضا في حلف الظالم بالبراءة من حول الله وقوته معللا بأنه يعجل في المؤاخذة (٢) ، وغير ذلك مما لا يخفى على المتتبع. مضافا الى كون التغليظ أردع ، فناسب مراعاته استظهارا.

لكن لا يستحب للحالف الإجابة ، بل ربما يكره ، لأن الخفة في الحلف مرغوب إليها ، خلافا لبعض العامة فأوجب التغليظ عليه ، وللآخر فأنكر الاستحباب للحاكم أيضا.

ثمَّ التغليظ بالمكان يحصل بالاستحباب في الأمكنة المشرفة ، وبالزمان في

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٢٩ من أبواب كيفية الحكم ح ١ و٢.

(٢) الوسائل ج ١٦ ب ٣٣ من أبواب كيفية الحكم ح ١ و٢ و٣.

٢٧٤

الأوقات المباركة ، وبالقول بإضافة سائر أسماء الله تعالى الى لفظ الجلالة.

وهل يعتبر فيه اختيار أسماء الجلال كالقاهر والمهلك والمدرك ونحوها ، أو يجعل بأسماء الجمال والرحمة أيضا كالرحمن والرحيم. قد يقال بالأول لأن فائدة التغليظ التخويف وذكر أسماء الرحمة ينافيه ، وقد يقال بالثاني لأن ذكر الأوصاف يعطي تعظيما للمحلوف به فيعظم الحلف لأجل ذلك ، وهو المعهود من فعل الأكابر حيث كان حلفهم المغلظ هكذا « والذي نفسي بيده » ، و « الذي خلق النور والظلم وبرئ النسم » ، « والذي بعثك بالحق » مخاطبا للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأمثال ذلك الى ما شاء الله.

وفي الاخبار الواردة في الباب أيضا ما هو مشتمل على التغليظ بغير أسماء الجمال كما لا يخفى. والله العالم.

التقاط

[ لو حلف على عدم الإجابة إلى التغليظ ]

إذا حلف أحد أن لا يجيبه الى التغليظ فالتمسه خصمه ، ففي الشرائع لم تنحل بيمينه ، وعن الدروس فيه نظر من اشتمالها على ترك المستحب ومن توهم اختصاصه بالحاكم.

واعلم أن ما ذكره في الدروس يشير الى اعتبار الرجحان في متعلق الحلف ، وعلى ذلك تبنى المسألة على استحباب التغليظ للحالف أو وجوبه. فان قيل بعدم الاعتبار أو قيل بعدم استحباب التغليظ أو وجوبه فمقتضى القاعدة عدم الانحلال ، لكن ورد أنه « إذا وجدت خيرا منه ـ أي مما حلفت عليه ـ فافعله » (١) ، ومقتضى ذلك الانحلال ، لان الإجابة مستحبة ولو تعلقت بمكروه. ومنه ما روي

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ب ٣٨ من كتاب الايمان ح ١.

٢٧٥

عن الامام عليه‌السلام من الحلف على ضرب بعض غلمانه ثمَّ العفو عنه (١) ، لان الضرب وان كان في نفسه راجحا في نظره عليه‌السلام لكن العفو كان أرجح.

وان قيل بوجوبه لم تنحل ، لان اليمين والنذر والعهد ونحوها من العناوين الثانوية يعتبر في متعلقها الجواز الشرعي إجمالا ، لأن موضوع هذه العناوين متأخر عن موضوع الأحكام الأولية ، فلا بد من عروضها لواجب أو حرام أو مباح أو مستحب أو مكروه ، وحيث لا سبيل الى الحرام تعين أحد الأربعة. ومنه يظهر أن المراد بالجواز باقي الاحكام الأربعة.

[ الكلام في العناوين الثانوية ]

وحيث انجر الكلام الى ذكر العناوين الثانوية ناسب نقل بعض الكلام فيما يتعلق بها ، فنقول وبالله الاستعانة وعليه التكلان والاعتصام :

ان الحكم الشرعي ان لم يتعلق في موضوعه حكم آخر وجودا أو عدما سمي ذلك الموضوع بالعنوان الاولي ، فالعنوان الاولي ما كان الحكم ثابتا لذاته قبل ثبوت حكم آخر أو انتفائه عنه كشرب الخمر وأكل السكر ، فإن الحرمة والحلية ثابتتان لذاتهما.

ولا يجوز أن يقال ان شرب الخمر المباح ذاتا أو الواجب كذلك حرام ، لان المفروض ثبوت الحرمة له قبل اتصافه بحكم آخر نفيا أو إثباتا ، فهو خلاف الفرض ، وللزوم التسلسل ، لأنه ينقل الكلام الى ذلك الحكم الذي قيد بوجوده أو عدمه شرب الخمر ، فلا بد من الانتهاء الى حكم ثابت لذاته قبل ملاحظة حكم آخر له ، وان لوحظ حكم آخر وجودا أو عدما سمي بالعنوان الثانوي ، لأنه عنوان للفعل بعد أن كان في نفسه متصفا بحكم شرعي.

__________________

(١) الوسائل ج ١٦ ب ١٨ من أبواب كتاب الايمان ح ١ و٢ و٣ و٤.

٢٧٦

وهذا مثل اطاعة الوالدين واجابة المؤمن وإدخال السرور في قبله وإنفاذ الوصية والوكالة والوفاء بالنذر والعهد والشرط والصلح وفعل مقدمات الواجب وما أشبهها ، لأنها عناوين تعلق بها الحكم الشرعي بعد اتصاف مصاديقها بأحد الأحكام الشرعية قبل عروض تلك العناوين.

وبعبارة أخرى : هذه العناوين مصاديقها الخارجية أمور موصوفة بأحد الأحكام قبل اتصافها بتلك العناوين ، فالفعل الذي يتعلق به النذر قبل أن يتعلق به ويجعله مصداقا للمنذور لا بد أن يتصف بأحد الاحكام ، وهكذا سائر العناوين المزبورة.

وحينئذ ننقل الكلام الى ذلك الحكم ونقول : انه لا بد أن تكون غير الحرمة ، لأن الحرام ليس قابلا لان يتعلق به الوجوب ، بخلاف سائر الاحكام فان تعلقها بموضوع لا يمنع من تعلق حكم آخر به ماثله أو غايره ، لان مرجع المماثلة إلى تأكد المصلحة. ومن هنا لم يجز تحليل حرام بصيغة النذر ولا بصيغة الصلح ولا بالوكالة ولا من جهة المقدمية لواجب ولا من جهة كونه اجابة للمؤمن ولا غيرها من العناوين الثانوية إجماعا وقولا واحدا.

[ الدليل على أن العنوان الثانوي مختص بما عدا الحرام ]

نعم لا بد من التأمل في أن اختصاصها بما عدا الحرام هل يستفاد من أدلتها أو لا بد فيه من الاستناد الى دليل آخر؟

قد يقال بالأول ، لأنا لو قطعنا النظر عما دل على اختصاص النذر والعهد بالراجح الحاكم على أدلة النذر والعهد واليمين وعن قوله عليه‌السلام « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » الحاكمة على أدلة اطاعة الوالدين والزوج والسيد والوصي والملتمس وأدلة إدخال السرور ، وعن قوله « كل شرط جائز إلا ما

٢٧٧

أحل حراما أو حرم حلالا (١) » الحاكم على أدلة جواز الشرط والصلح بل النذر والعهد ونحوها مما يندرج تحت الشرط اللغوي الذي هو مطلق الالتزام والبناء على شي‌ء ، أو عن غيرها مما يستند اليه قبل الإجماع في إرجاع العناوين المزبور الى غير الحرام.

جاز أن يقال : ان النسبة بينها وبين ما دل على الحكم الاولي الثابت لذات ذلك الفعل عموم من وجه ، سواء كان ذلك الحكم هي الحرمة أو الإباحة ، لأن الأحكام الخمسة كلها متضادة ، فكما لا يجتمع وجوب الوفاء بالنذر مع الحرمة الفعلية كذلك لا يجتمع مع الإباحة الفعلية.

ويؤيده أن ظاهر الأدلة الخاصة الحاكمة المشار إليها هو عموم أدلة تلك العناوين وعدم اختصاصها بنفسها بالمباحات ، والا لم تكن تلك الأدلة حاكمة ، مع أن قوله عليه‌السلام « لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق » منطوقه يحكم على أدلة الإطاعة ويتناول بعمومها لولده ، فكما يمكن أن يقال ان المنذور يجب فعله إلا إذا كان شرب خمر كذلك يمكن أن يقال شرب الخمر حرام الا إذا كان منذورا به. ولذا ترى بعض ما يشاركها في ثانوية العنوان ـ كمحافظة النص واجابة الملهوف واغاثته ـ مقدما على كل حرام أو واجب ، وليس هذا إلا لعدم مجي‌ء الدليل الحاكم فيه مع ثبوت ترجيحه شرعا على أدلة الاحكام.

وقد يقال بالثاني ، لأن الظاهر من سياق أدلة هذه العناوين اشتمالها على مقتضى الحكم ـ أي الوجوب مثلا ـ بخلاف أدلة الأحكام الأولية ، فإن ظاهرها اشتمال موضوعاتها للعلة التامة. ومن الواضح أن المقتضي لا يؤثر في نفسه ، بل لا بد فيه من عدم المانع ، وأي مانع من اشتمال الفعل على علة الحرام.

بخلاف العلة التامة ، فإن تأثيرها لا يتوقف على شي‌ء. مثلا قوله « الخمر

__________________

(١) الوسائل ج ٦ كتاب التجارة ب ٦ من أبواب الخيار ح ٥.

٢٧٨

حرام » يستفاد منه أن الخمر مشتملة على العلة التامة للحرمة ، وقوله « يجب الوفاء بالنذر » يستفاد منه أن النذر فيه ما يقتضي الوجوب ، فاذا تعلق بشرب الخمر لم يؤثر لمكان المانع.

فان قلت : إذا كان الأمر كذلك فلا بد من عدم تعلقه بالمباح أيضا فضلا عن الواجب والمكروه أو المستحب ، لان ظاهر قوله « السكر مباح » مثلا أن السكر مشتمل على العلة التامة للإباحة ، وعلة الإباحة أيضا لا يؤثر معها مقتضي الوجوب.

قلت : فرق بين علة الإباحة وعلة التحريم ، لأن علة الإباحة مركبة من أمر عدمي ـ وهو عدم وجوب ما يقتضي الإلزام بالفعل أو الترك ـ بخلاف علة التحريم فإنها مركبة من الأمور الوجودية المقتضية للإلزام بالترك ، ولا ريب أن عدم المقتضي للإلزام لا ينافي عروضه بسبب أمر خارج.

نعم لو كان علة الإباحة أيضا راجعة إلى أمر وجودي محض ـ كما في بعض الموارد مثل اباحة النكاح على ما يظهر من استدلال الامام عليه‌السلام على بطلان اشتراط عدم التزويج في عقد النكاح بقوله تعالى « فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ » (١) ـ اتجه القول بعدم قبوله الالتزام بالترك بسبب الشرط ، لكنه أمر خارج عما يقتضيه حقيقة الإباحة ثابت في بعض الموارد الخاصة لخصوصيات موجودة فيه.

ثمَّ ان مثل الحرام ترك الواجب المعين ، لأن علة الإلزام مانع عن تأثير مقتضى الترك ، وأما الواجب المخير فهو كالإباحة فعلا وتركا ، إذ ليس في شي‌ء من فعله وتركه علة الإلزام ، وكذا المستحب والمكروه بل فعل الواجب المعين ، لأن علة الإلزام بالفعل لا يمنع عن تأثير المقتضي الإلزام به ، لأن تأثيره حينئذ

__________________

(١) سورة النساء : ٣.

٢٧٩

تأكد المصلحة. فلا فرق حينئذ بين تعلق النذر مثلا بالمباح أو المستحب والمكروه وبين تعلقه بفعل الواجب.

[ عدم مزاحمة المستحبات للمحرمات ]

ومما ذكرنا ظهر عدم مزاحمة شي‌ء من المستحبات لشي‌ء من المحرمات ، لأن أدلة الاستحباب تدل على اشتمال المستحب لمصلحة غير ملزمة للترك مع رجحان في الفعل ، ومرجعه الى عدم مقتضي الإلزام ، وهذا لا يخرجه عن قابلية عروض علة الإلزام بالترك.

فان قلت : سلمنا أن علة لإباحة يمكن اجتماعها مع مقتضى الإلزام ، لكنا نقول ان إطلاق قوله « السكر مباح » أو عمومه يدل على سلامة جميع أفراد السكر عن عروض ما يقتضي الإلزام. مثلا إذا قال المولى « أكرم جيراني » فهذا يدل على كونهم أصدقاء وليس فيهم عدو وإلا لزم التخصيص في ذلك العموم لعدم صلاحية العدو للإكرام.

قلت : لما علم من الخارج أن موضوع المباح مما يصلح أن يعرفه موضوع الوجوب أو الحرمة فلا جرم يكون قوله « السكر مباح » في قوة قوله ما ليس فيه جهة الإلزام فعلا أو تركا من أفراد السكر فهو مباح ، فموضوع الإباحة وان كان في ظاهر الدليل هو ذات السكر لكنه في الحقيقة ليس تلك الذات المطلقة بل الذات المعلقة بعدم عروض ما يقتضي الإلزام.

ولا ريب انه متى شك حينئذ في فرد من أفراد السكر من حيث اشتماله على مقتضى الإلزام وعدمه فهو شك في موضوع الدليل ، كما إذا شك في موضوع العالم المأمور بالإكرام فلا مسرح للتمسك بالعموم حينئذ ، بل ينزل العموم أو

٢٨٠