كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

ولو تقديرا. نعم إذا كان بين مقتضاهما تناف ـ بأن يكون مقتضى كونهما مثل البينة عدم ترتيب حكمه ومقتضى كونه بمنزلة الإقرار ترتيبه أو بالعكس ـ توقف ويرجع الى مقتضى القاعدة ، وبهذا تكون اليمين المردودة قسما ثالثا.

قلت : هذا القول ساقط بعد ما قررنا ، لأن أحكام ذات البينة من حيث أنها بينة لأمن حيث كونها حجة مثبتة قد عرفت عدم قابلية ثبوتها لليمين ، وكذلك أحكام ذات الإقرار وبقية أحكامها نلتزم بثبوتها فيها.

قولك : فتكون قسما ثالثا.

قلنا : ان أرادوا كونها مثل البينة أنها كذلك في جميع الاحكام ، وكذا من كونها مثل الإقرار فهذه قسم ثالث ، وان أرادوا المماثلة في كونها حجة مثبتة للحق في حق المتخاصمين خاصة فهو إلحاق لها بالبينة لا بالإقرار.

[ ثمرة كون اليمين مثل البينة ]

ثمَّ ان الثمرة بين كونها مثل البينة في حق المتخاصمين خاصة أو مثل الإقرار. كالمعدومة ، لأن الأحكام التعبدية الثابتة للإقرار قد عرفت ثبوتها لها من حيث كونها إقرارا ، فلا تنسحب الى اليمين لعدم مساعدة الدليل وكذا أحكام البينة ، فيبقى من الثمرة ما أشرنا إليه ناقلا له عن الشهيد من الإحلاف وعدمه في كثير من الصور.

لكنا نقول : بأنها مثل البينة في كونها حجة مثبتة بالنسبة إلى المتخاصمين ، ولا نرى لهذه الثمرة أيضا وقعا ومحلا ، وذلك لان المقام : قد يكون من مورد اليمين والبينة معا ، وهذا لا فرق بين كونه بينة أو إقرارا ، لأن فائدتها على التقديرين ثبوت الحق بالنسبة إلى المنكر ولا ينفذ على غيره. وقد يكون من موارد البينة دون الإقرار ، كالموارد التي لا يترتب على إقرار المنكر ثمرة ، مثل ما أشرنا

٢٢١

إليه من مسألة الإقرار بعد الإقرار على قول الشيخ القائل بعدم نفوذ إقراره الثاني لعدم قابلية المحل ، فنقول :

قولك : انها لو كانت مثل الإقرار خرجت المسألة عن مورد الإحلاف ، لان فائدته الرد ثمَّ حلف المدعي ، فإذا كان حلفه بمنزلة إقرار المدعى عليه وقع لاغيا ، لعدم نفوذ إقراره حينئذ.

قلنا : نحن نقول حينئذ أنها سواء كانت بمنزلة الإقرار أو بمنزلة البينة يحلف المدعى عليه هنا ، وفائدته الرد لعموم أدلة اليمين المردودة ، فلا يلزم من القول بكونه مثل الإقرار في كونه ملزما عدم الإحلاف هنا لفرض عموم الأدلة.

والحاصل ان شئت اجعلها مثل البينة أو الإقرار ، فمقتضى العموم هنا الإحلاف فلا ثمرة بين جعلها كالبينة أو كالإقرار ، فإنه ان أريد من جعلها كالإقرار سقط الإحلاف في مثل المقام فهو ممنوع للعموم.

[ الحلف من موارد الإقرار لا البينة ]

وقد تكون المسألة من موارد الإقرار دون البينة فحينئذ يثمر الخلاف ، فإنها لو كانت بمنزلة البينة لم ينفع العموم ، لان العموم انما ينفع إذا كان المقام صالحا لإقامة المدعي الحجة ، فإذا فرض عدم قبوله البينة التي هي أقوى الحجج المثبتة لم ينفع عموم ما دل على أن اليمين حجة مثبتة لحق المدعي ، فيتوقف الإحلاف حينئذ على القول بكونها مثل الإقرار.

لكنا نمنع وجود مثل هذه الصورة ، بأن ينفع فيها إقرار المدعى عليه ولا ينفع فيها حجة المدعي ، وما ذكروه مثالا لهذه الصورة محل مناقشة ، فإنهم جعلوا من هذا الباب ما لو ادعى البائع مرابحة زيادة الثمن عما أخبر به أولا وأنكر المشتري وادعى عليه البائع العلم ، فان بينة البائع على ما يدعيه من الثمن

٢٢٢

غير مسموعة ، لأن إخباره السابق مكذب لها ، بخلاف أخبار المشتري وتصديقه للبائع فإنه ينفع.

وفيه : انا نمنع عدم سماع بينة البائع حينئذ على وجه الإطلاق. وتوضيحه : ان البائع اما أن يقيم البينة على زيادة الثمن ، واما أن يقيمها على علم المشتري بها ، واما أن يقيمها على خطأ في الاخبار الأول. والاخبار السابق انما يكذب بينتها في الصورة الاولى ، وفي هذه الصورة يمكن منع سماع يمينه أيضا ، لأن حال اليمين وحال البينة في شرط عدم التكذيب سواء ، فلو حلف حلفا قد سبق منه تكذيبه أمكن القول بعدم اعتبار هذا الحلف شرعا حتى يكون مثل إقرار المدعي ، لان قيام الحلف منزلة الإقرار انما يكون في اليمين بعد اعتبارها ، ومن شرائط اعتبارها عدم تكذيب الحالف لها ، ولذا لو أقر المنكر بعد الحلف وكذب نفسه بطل أثر اليمين كما مر ، ولا فرق في التكذيب بين لا حقه وسابقة.

وأما الصورتان الأخيرتان فلا مانع من سماع البينة فيهما خصوصا الأخيرة ، إذ البينة على علم المشتري بالثمن لا يكذبها الاخبار السابق.

ولا ريب أن كون اليمين المردودة بمنزلة البينة أو بمنزلة الإقرار انما هو بالنسبة إلى متعلق الإقرار لا شي‌ء آخر ، فاليمين على القول بكونها بمنزلة الإقرار كالبينة بالنسبة إلى متعلق الإقرار على القول الأخر لا بالنسبة إلى شي‌ء آخر ، وعلى تقدير كونها بمنزلة الإقرار تكون في المسألة بمنزلة إقرار المشتري بالعلم بالزيادة وعلى تقدير كونها بمنزلة البينة تكون بمنزلتها بالنسبة إلى علمه أيضا لا بالنسبة إلى شي‌ء آخر. ومن الواضح أن البينة على علمه ليس يكذبها الاخبار السابق.

وبالجملة نمنع عدم نفع إقامة البينة في المسألة لو قلنا بنفع الإقرار ، وحينئذ نتمسك بعموم أدلة اليمين ونخرجه في مثل المقام أيضا. وبذلك تنعدم الثمرة رأسا.

وصار ملخص الكلام : انا نعمل بعموم أدلة اليمين ونحلف المدعى عليه

٢٢٣

مطلقا ونجري عليها حكم الحجة المثبتة للحق بالنسبة إلى خصوص المتخاصمين لا مطلقا كما هو خيرة العلامة ، سواء كان في هذا اختيار كونها قسما ثالثا أو إلحاقها بالبينة من حيث كونها حجة مثبتة.

تذنيب

[ نكول المدعى عن اليمين المردودة ]

[ ونكول المدعى عليه على القضاء بالنكول ]

نظير هذا النزاع يتصور في نكول المدعي عن اليمين المردودة ونكول المدعى عليه على القول بالقضاء بالنكول ، فيقال في الأول هل هو بمنزلة إقرار المدعى أو بمنزلة يمين المنكر ، وفي الثاني هل هو بمنزلة إقرار المدعى عليه أو بمنزلة يمين المدعي المردودة.

ولعله يتفرع عليه بعض الثمرات التي توهم ترتبها على النزاع في اليمين المردودة ، والأصحاب لم يتعرضوا في النكولين لما قلنا.

والكلام النافع فيهما أن يقال : بأن القدر الثابت من الأدلة في الموضعين سقوط الدعوى في مجلس الدعوى ، وقوله عليه‌السلام « فلا حق له » في نكول المدعي أو نكول المنكر على القول به وان كان يتراءى في بادئ الرأي دلالته على عدم سماع البينة بعده ، فيكون مثل إقرار الناكل مثلا.

لكنه ليس كذلك ، لما أشرنا إليه فيما سبق من أن نفي الحق في مقام المخاصمة لا يزيد مؤداه على سقوط الدعوى في ذلك اليمين ، وأما سقوطها على وجه لا ينفع بعده إقامة البينة فلا بد فيه من التماس دليل آخر ، كاستصحاب ورواية كما في يمين المنكر.

٢٢٤

هذا ، وتأمل بعد ذلك في الاخبار وكلمات الأخيار. والله الهادي إلى الصواب.

التقاط

[ نكول المدعى عن اليمين والرد معا ]

إذا رد المنكر اليمين الى المدعي وحلف فقد عرفت الكلام فيه ، وان نكل عن اليمين والرد ففي عدم القضاء بالنكول الا بعد رد الحاكم اليمين الى المدعي أو القضاء بالنكول؟ قولان مشهور أن أشهر هما الأول ، وهو قضية الأصل في المسألة من وجوه ، لأصالة عدم جواز القضاء وعدم صحته ، بمعنى ترتب أثر المقصود من القضاء.

وربما تمسك بأصالة براءة ذمة المنكر عن الحق بدون حلف المدعي ، وأما معه فهو المتفق عليه ، أو عن الحلف ، وليس بوجه.

أما الأول : فلان اشتغال ذمة المنكر واقعا لا يختلف بسبب اليمين المردودة وعدمها كما لا يخفى ، واشتغال ذمتها ظاهرا ـ بمعنى وجوب دفع الحق ـ فهو تابع لشرعية القضاء بالنكول وصحته ، وقد عرفت أن قضية الأصل عدمها.

وأما الثاني : فلان وجوب الحلف عليه ليس وجوبا تكليفيا يدفع بالأصل كما لا يخفى.

( حجة القول الأول ) بعد الأصول عموم الأدلة الدالة على انحصار موازين القضاء في البينة بالمعنى الأعم والايمان ، منها الرواية المتقدمة القاضية بانحصار استخراج الحقوق في الأربعة التي ليس منها نكول المنكر عن اليمين والرد معا.

وهذه أظهرها دلالة ، لإباء سياقها عن التخصيص رأسا ، حتى لو ثبت شي‌ء غيرها فلا بد من ارتكاب تمحل غير التخصيص ، اما بإدراجه تحت شي‌ء من الأربعة

٢٢٥

ولو بضرب من التوسع والتسامح أو بحملها على الغالب المتعارف الشائع.

توضيحه : ان سياق الرواية آب عن التخصيص ، وأما التخصص فلا ، فاذا ثبت شرعية استخراج حق المدعي بشي‌ء غير داخل تحت الأربعة مثل اليمين في الموارد التي ثبت فيها بأصل الشرع لا بالرد مثل مظان قبول قوله بيمينه ، فلا بد فيه من تمحل يرجع الى التخصص لا التخصيص ، كأن يقال المراد بالحقوق أمور معهودة أو الحقوق مخصصة بغير تلك الحقوق التي تستخرج بيمين المدعي الغير المردودة ، فإن تخصيص الحقوق غير تخصيص الرواية ، لأن تخصيص الرواية تصرف في المحصور فيه ، وهو الذي يأبى عنه سياقها ، وأما تخصيص الحقوق في سلامة المحصور فيه.

أو يقال : ان المراد بالاستخراج الغالبي لا مطلقا ، فيكون كارتكاب التخصيص في الحقوق في سلامة المحصور فيه.

أو يقال : ان ذلك شي‌ء دخل تحت أحد الأربعة ، ويجعل ذلك الدليل القاضي بكونه من موازين القضاء دليلا على ذلك حفظا للمحصور فيه عن التخصيص ، لأن الإلحاق الموضوعي لا ينافي بقاء المعموم بحاله.

فإن قلت : من جملة الأربعة اليمين المردودة التي يردها المنكر دون الحاكم وهو أمر خامس ، ومن يقول بالقضاء بالنكول يجعله أيضا خامس الموازين ، فالرواية غير واردة عليه. بيانه : ان القاضي بالنكول لا يجعله سادس الموازين بل خامسها ، ومقتضى الرواية أيضا كون الموازين خمسة ، لان الميزان الرابع فيها اليمين المردودة من المنكر ، فإذا أضيف إليها المردودة من قبل الحاكم صارت الموازين خمسة ، فالرواية لا بد من الخروج عن ظاهرها بالتزام ميزان آخر يكون خامس الموازين ، وذلك الميزان الخامس عند القاضي بالنكول هو النكول وعند غيره هي اليمين المردودة.

٢٢٦

قلت : لا نسلم أن الرواية غير باقية على ظاهرها ، لان الميزان الرابع فيها ليس سوى اليمين المردودة ، وكونها مردودة من الحاكم لأمن المنكر لا يجعلها قسما آخر حتى يزيد الميزان على الأربعة ، لأن يمين المدعي هي يمين المنكر ، سواء جاء من قبل المنكر أو من قبل الحاكم.

ولو سلم فتنزيل المردودة من المنكر منزلة المردودة من قبل الحاكم إبقاء لظاهر الحصر بحاله ، لما عرفت من أن التنزيل والإلحاق الموضوعي غير مناف لبقاء الحصر على ظاهره ، خصوصا مثل هذا التنزيل الذي هو بمكان من القرب الى الاعتبار.

والحاصل ان الالتزام بكون النكول ميزانا للقضاء لا يجامعه الحصر المستفاد من الرواية كما لا يخفى ، بخلاف التزام كون اليمين المردودة التي يردها الحاكم ، فان ذلك غير مضر بالحصر تحقيقا أو تنزيلا ـ فافهم.

ومنها ـ حديث « انما أقضي بينكم بالبينات والايمان » (١). ودلالته واضحة ، لأن نكول المدعي خارج عنهما معا بخلاف اليمين التي يردها الحاكم لأنها داخلة في الثاني.

ودعوى أن المراد بالايمان هي يمين المنكر لا المدعي. ممنوعة بدليل قبول قول المدعي في بعض الموارد بيمينه.

ودعوى خروجها بالدليل. ليس بأولى من حمل الايمان على ما يعم يمين المدعي ، مضافا الى أنا ندعي أن اليمين المردودة هي يمين المنكر ، سواء كان الراد هو المنكر أو الحاكم.

ومنها ـ ما روي ان أحكام المسلمين على ثلاثة : بينة عادلة ، ويمين قاطعة ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٢ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٢٢٧

وسنة جارية (١). أي القرعة. والنكول خارج عن الثلاثة ـ إلى أخر ما عرفت هنالك.

وغير ذلك مما دل على حصر حجة المدعي في البينة وخلاص المنكر عن أداء الحق باليمين.

وقد يستدل على المطلوب أيضا برواية عبيد بن زرارة عن الصادق عليه‌السلام في الرجل يدعى عليه الحق ولا بينة للمدعي. قال : يستحلف أو يرد اليمين على صاحب الحق ، فان لم يفعل فلا حق له (٢).

وأجاب عنها في المسالك بضعف سندها بقاسم بن سليمان وضعف دلالتها أيضا بظهورها في كون الراد هو المنكر ، لأن صيغة « يرد » أن قرئت معلوما رجع الضمير المستتر فيها الى المنكر بقرينة رجوع الضمير المستتر في المعطوف عليه ـ أعني يستحلف ـ اليه ، فيكون الراد هو المنكر لا الحاكم. وان قرئت مجهولا كان الراد هو الحاكم ، لعدم استتار ضمير فيها حينئذ ، وظاهره الأول.

واستدل أيضا برواية هشام عنه عليه‌السلام « يرد اليمين على المدعي » (٣).

والعمدة هي العمومات.

وحجة القول الثاني أيضا روايات عامة وخاصة :

منها ـ قوله عليه‌السلام « البينة على المدعي واليمين على المنكر » (٤).

استدل به في المسالك وغيره ، وتقريب الاستدلال حسبما مرت إليه الإشارة : ان الفقرة الثانية باعتبار تعريف المسند والمسند اليه تفيد قضيتين عامتين ، إحداهما ان كل يمين على المنكر ، والثانية أن كل منكر عليه اليمين كما مرت إليه الإشارة سابقا. ومقتضى عموم القضية الاولى عدم القضاء بيمين المدعي ، لان يمين

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب كيفية الحكم ح ٦.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ٧ من أبواب كيفية الحكم ح ٢.

(٣) الوسائل ج ١٨ ب ٧ من أبواب كيفية الحكم ح ٣.

(٤) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ١ و٢.

٢٢٨

المدعي ليس يمين المنكر ، فليست يمين شرعا بحكم عكس نقيض القضية ، أعني كل ما ليس على المنكر ليس بيمين ، خرج عن عمومها يمين المدعي إذا كان الراد هو المنكر ، وأما غيرها فلا دليل.

لا يقال : عدم القضاء بيمين المدعي لا يستلزم المطلوب ، وهو القضاء بالنكول ، لجواز عدم القضاء رأسا وإيقاف الدعوى أو حبس المنكر حتى يفعل أحد الأمرين أو الأمور من اليمين أو الرد أو أداء الحق.

قلنا : مفروض البحث وجوب القضاء في صورة النكول اما قبل الرد الى المدعي أو بعده ، فاذا ثبت بمقتضى العموم عدم القضاء باليمين تعين القضاء بالنكول.

وفيه :

أولا : ان قوله « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » مسوق لبيان وظيفتهما في ابتداء الأمر ، فالوظيفة الأولية للمدعي هي إقامة البينة ، فلا يكلف ابتداء الا بها ، وكذا وظيفة المنكر الأولية هي اليمين ، فلا يطالب الا بها. وأما وظيفتهما الثانوية ـ بمعنى وظيفة المدعي مع عدم إقامة البينة ووظيفة المنكر مع عدم الحلف ـ فهو ساكت عن بيانها. فلا بد من التماس دليل آخر في صورة نكول المنكر عن اليمين أو عدم إقامة المدعي البينة. ومن هنا يعلم أن القضاء باليمين المردودة من قبل المنكر أيضا ليس تخصيصا في عمومها.

وثانيا : ان القضاء بالنكول من دون رد اليمين الى المدعي تخصيصا زائدا في عكس الفقرة الأولى ، لان مقتضى عكسها بحكم تعريف المسند ان كل مدعى عليه البينة بمعنى عدم الحكم له الا بها خرج عنها اليمين إذا ردها المنكر أو الحاكم بالاتفاق ، وأما النكول المجرد عن الرد فلا.

لا يقال : لا نسلم خروج اليمين إذا كان الراد هو الحاكم ، لأنه أول الدعوى ، والقاضي بالنكول لا يقول به ، فالأمر يدور بين خروج النكول أو خروج اليمين

٢٢٩

عن العموم ، لا أن خروج اليمين اتفاقي وخروج النكول مشكوك فيه.

لأنا نقول : المراد ان القضاء بالنكول يتصور على قسمين : أحدهما القضاء به بعد رد الحاكم اليمين ، وهذا اتفاقي ، لأن الفريقين كليهما يقولان به ، أما القائل بالرد فواضح وأما القاضي بالنكول فهو أيضا يقضي حينئذ ولو كان لا جل النكول لا لأجل اليمين ، فغرضنا من الاتفاق أن النكول الذي يتعقبه الرد قد خرج عن عموم القضاء بالاتفاق ، سواء كان الخارج هو النكول المجرد أو المتعقب بها ، وأما النكول الذي لا يتعقبه رد فالقضاء به مشكوك ، ومقتضى ما ذكرنا من العموم عدم القضاء.

والحاصل ان القضاء باليمين يستلزم تخصيصا في أصل الفقرة الأخيرة ، والقضاء بالنكول يستلزمه في عكس الفقرة الاولى ، وأحد التخصيصين ليس بأولى من الأخر.

الا أن يقال : ان القضاء باليمين كما يستلزم تخصيصا في أصل الفقرة الأخيرة كذلك يستلزم تخصيصا في عكسها ، لأنه إذا اعتبرنا في القضاء الرد فلازمه أن يقضي للمنكر إذا نكل المدعي عن اليمين المردودة. والقضاء بنكول المدعي تخصيص في عكس الفقرة الأخيرة ، لأن قضية عكسها أن لا يتخلص المنكر الا باليمين ، على التقريب الذي عرفت في عموم الفقرة الأولى أصلا وعكسا. فالأمر يدور بين التخصيص والتخصيص ، والأول أرجح ، فيثبت القضاء بالنكول ويسقط اشتراط الرد.

لا يقال : القضاء بنكول المدعي مما لا كلام فيه ، فهو خارج عن عموم عكس الفقرة الأخيرة بالروايات السابقة ، فهو لازم على أي تقدير.

قلت : نكول المدعي عن اليمين إذا كان الراد المنكر غير نكوله إذا كان

٢٣٠

الراد الحاكم ، والإجماع لو كان فإنما هو على القضاء بالأول دون الثاني ، فالقضاء به تخصيص آخر في عكس الفقرة الأخيرة.

ومنها ـ رواية البصري عبد الرحمن بن أبي عبد الله على ما في محكي الكافي والتهذيب قال : قلت للشيخ ـ يعني موسى بن جعفر عليه‌السلام ـ خبرني عن الرجل يدعي قبل الرجل الحق فلا يكون لا البينة بماله. قال : فيمين المدعي عليه ، فان حلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه ، وان كان المطلوب بالحق قد مات فأقيمت عليه البينة فعلى المدعي اليمين بالله الذي لا إله الا هو لقد مات فلان وان حقه لعليه ، فإن حلف والا فلا حق له ، لأنا لا ندري لعله قد أوفاه ببينة لا نعلم موضعها أو بغير بينة قبل الموت ، فمن ثمَّ صارت عليه اليمين مع البينة ، فإذا ادعى ولا بينة فلا حق له ، لان المدعى عليه ليس بحي ، ولو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو يرد اليمين عليه ، فمن ثمَّ لم يثبت عليه حق (١).

دلت يصدرها وذيلها على القضاء بمجرد عدم حلف المدعى عليه من دون اشتراطه يرد اليمين : أما الصدر فهو قوله « وان لم يحلف فعليه » ، فإنه يدل على ثبوت الحق عليه بمجرد عدم الحلف من دون اعتبار أمر آخر.

وأورد عليه بوجوه :

« الأول » ان سند الرواية ضعيف لاشتماله على ياسين الضرير.

« والثاني » ان متنها مختلف ، لأنها بعينها مروية في الفقه وليس فيها قوله « وان لم يحلف فعليه » بل « وان رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له ».

وعلى هذا فلا مساس لها بالمدعي ، واختلاف المتن عيب في الرواية يسقطها عن الاعتبار.

« والثالث » ان ظاهرها مقيد لا محالة ، للإجماع على عدم ثبوت الحق على

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٤ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٢٣١

المنكر بمجرد عدم الحلف ، بل لا بد معه من أحد أمرين : أما رد اليمين وحلف المدعي ، أو نكوله عن الرد أيضا. والاستدلال انما يتم لو كان القيد المقدر ولم يرد ، وهو ممنوع لاحتمال نكوله وحلف المدعي. والحاصل ان التقدير لازم ، فالمقدر اما لم يرد فيكون المعنى ان المدعى عليه ان لم يحلف ولم يرد ـ أي نكل عن الرد ـ فعليه الحق أو حلف المدعي ، والمعنى أنه ان لم يحلف وحلف المدعي فعليه الحق. والاستدلال يتم به على الأول ، وأما على الثاني فهي دليل على عدم القضاء بالنكول كما لا يخفى.

وهذه الوجوه كلها مردودة :

( أما الأول ) فلان ضعف السند مع حصول الوثاقة وسكون النفس غير معيب على الرواية ، والرواية مما رواه المشايخ الثلاثة ، فهي مجمع على روايتها وان كان في متنها نحو اختلاف. مع أن الرواية مأخوذة من كتاب احمد بن محمد بن عيسى ، وهو بمكان من الإتقان والمداقة في الرواية حتى أمر بإخراج البرقي من قم لكونه يروي عن الضعفاء. مع أنها معمول بها عند الكل في الجملة ، وهو جابر لسندها ، ولا يشترط في جبران السند بالعمل عمل الأصحاب بجميع فقراتها. نعم ذلك شرط في جبر الدلالة ، فيتقدر الانجبار بمقدار العمل.

( وأما الثاني ) فلان مثل هذا الاختلاف لا يضر ، لعدم رجوعه الى التكاذب والتعارض ، لا مكان الجمع ، بأن كان الكليني « ره » قد أسقط بعض فقرات الرواية وأسقط الفقيه البعض الأخر ، وكان ما ذكره كل منهما هو الذي أسقطه الأخر ، فيؤخذ بهما معا خروجا عن ظاهر كل منهما بنص الأخر ، فإن عدم تعرض الكليني لما رواه الصدوق من الفقرة ظاهر في عدم كونه من الرواية لكن صريح الصدوق كونها منها ، فيكون التعارض بينهما تعارض النفي والإثبات ،

٢٣٢

وكذا عدم تعرض الصدوق لما في الكافي ظاهر في عدم كونه من الرواية لكن الكافي مصرح بكونها منها.

والحاصل ان هذا الاختلاف بمنزلة روايتين غير متعارضتين ، فيعمل بهما معا ويثبت المطلوب ، ولهذا جمع الشيخ الحرفي الوسائل بينهما ، فروى الرواية جامعة لهما ، وصورة ما عن الوسائل هكذا : وان حلف فلا حق له ، وان رد اليمين على المدعي فلم يحلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه (١).

وأوردها بعض مشايخنا أيضا في جواهره على وجه الجمع بين الفقرتين لكن بعكس ترتيب الوسائل ، فراجع اليه. والحاصل ان ما صنعه في الوسائل في محله.

ومن العجائب ما عن بعض نسخ الوسائل من روايتها على طور رابع ، وصورته ، وان حلف فلا حق له وان لم يحلف فعليه وان حلف فلا حق له.

وكيف كان فالعمل بهما معا لا مانع منه.

ثمَّ لو بني على التعارض سقطت عن الاستدلال للإجماع ، وقد يرجع الفقيه لكون الصدوق أضبط.

( وأما الثالث ) فلان التقدير في المقام غير لازم ، بل المقام مقام دوران الأمر بين التقييد بالأقل والأكثر ، وذلك لان إطلاق « وان لم يحلف فعليه » يشمل صورا : أحدها ما إذا لم يحلف ولم يرد بأن يكون ناكلا عن اليمين وردها ، وثانيها ما إذا لم يحلف ورد اليمين وحلف المدعي ، وثالثها ما إذا ردها ولم يحلف المدعي.

والصورة الأخيرة خارجة عن تحت الإطلاق قطعا ، إذ ليس في هذه الصورة شي‌ء على المنكر جدا. والصورة الثانية باقية تحت الإطلاق ، لأنه إذا حلف

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٤ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٢٣٣

المدعي ثبت على المنكر الحق. والصورة الاولى مشكوك فيها ، والقاضي بالنكول يدعي بقاءها تحت الإطلاق أيضا والقاتل بعدم القضاء يقول بخروجها ، فالمقام مقام التقييد بالأكثر أو الأقل لا مقام التقدير ودوران المقدر بين الأمرين.

وأما ذيل الرواية فهو قوله عليه‌السلام « وليس المدعى عليه بحي ولو كان حيا لألزم اليمين أو الحق أو برد اليمين عليه ». وجه الدلالة : ان مقابلة إلزامه بالحق للحلف ولرده اليمين ظاهرة أو صريحة في أن المدعى عليه إذا لم يحلف ولم يرد الزم بالحق من غير اعتبار أمر آخر.

ودعوى ان المراد الإلزام بالحق بعد رده اليمين على المدعي. خروج عن ظاهر المقابلة ، وبعد رد الحاكم تقييد بلا دليل.

وقد يناقش في دلالتها بسبب إجمال « يرد » لاحتمال كونه مبنيا للمجهول فيسقط عن الاستدلال ، لان مفاد الرواية حينئذ أن المدعى عليه يكلف أولا باليمين وان أبى فبالحق ، وان أبي فالحاكم يرد اليمين الى المدعي ويقضي بعد حلف المدعي.

ويبعده أمران :

أحدهما ـ ان مقابلة الإلزام بالحق لرد الحاكم لا معنى له ، للإجماع على أن الحاكم ليس مخيرا بين الإلزام بالحق من دون الرد الذي هو عبارة أخرى عن القضاء بالنكول وبين الرد ، ومجرد تكليفه بأداء الحق من غير إلزام ليس بمعنى الإلزام في شي‌ء.

والثاني ـ انه ان قرئ مجهولا لم يكن في الكلام قرينة مقالية أو مقامية تدل على المدعي الذي هو مرجع لضمير « عليه » ، فالكلام يخرج الى حد الغلط ، بخلاف ما لو قرئ معلوما فان الضمير المستتر فيه يرجع الى المدعى عليه ، وهو يكون بمنزلة سبق ذكر المدعي ـ فافهم.

٢٣٤

هذا مع احتمال أن يكون عبارة الحديث « برده اليمين » بالموحدة ، فيكون مفعولا بالواسطة لألزم.

ثمَّ ان الإلزام باليمين أو الحق أو الرد يحتمل معنيين : أحدهما كونه في مقام إنشاء الحكم الشرعي ، فالمعنى ان حكم الله حينئذ الإلزام بأحد الأمور ، والاستدلال به حينئذ واضح ، لان القضاء بالنكول هو الإلزام بالحق إذا لم يرد.

والثاني أن يكون مسوقا لبيان الواقع ، بمعنى أن المدعى عليه لو كان حيا لكان يلزمه أحد الأمور ، لا أن الإلزام بأحدها وظيفة الحاكم.

ووجه لزوم أحد هذه الأمور للمدعي عليه الحي : هو أن وظيفته شرعا الحلف أو رده اليمين ، فيلزمه الحاكم بأحدهما ويقهره عليهما الا أن يختار أحدهما ، فمتى لم يختر شيئا فهو في عقوبة الحاكم وإلزامه الى أن يفك نفسه ويتوصل الى خلاص نفسه مع التمرد منهما برد الحق ، فلزوم الأمور المذكورة له ليس لأجل كون الإلزام بأحدها حكم الله تعالى ، بل لان حكمه تعالى هو الإلزام باليمين أو الرد.

لكن قد ينجر الأمر الى أن المدعى عليه لا يحلف ولا يرد ولكن يخلص نفسه بدفع الحق ، فقوله « الزم اليمين » إلخ بيان لما ينتهي اليه أمر المدعى عليه الحي ولو باختيار نفسه. وعلى هذا يثبت القضاء بالنكول أيضا ، لأن رد الحاكم يمنع عن لزوم أحد هذه الأمور ، إذ ربما ينكل عن اليمين فيسقط حقه ، فلا بد من القول بعدم الرد محافظة للحصر.

لا يقال : القضاء بالنكول غير دفع المدعى عليه الحق تخلصا عن اليمين والرد.

لأنا نقول : « أولا » انه يبطل القضاء بالرد كما عرفت ، وإذا بطل ذلك ثبت القضاء بالنكول ، لاتفاق الفريقين على أنه لا بد من القضاء. « وثانيا » ان القضاء

٢٣٥

بالنكول لا يقصد منه سوى إخراج الحق بدون الرد ، وهو بعينه ما يدل عليه الرواية ـ فتأمل.

ومنها ـ رواية الأخرس : سأل محمد بن مسلم الصادق عليه‌السلام عن الأخرس كيف يحلف؟ قال : ان أمير المؤمنين عليه‌السلام كتب له اليمين وغسلها وأمره بشربها ، فامتنع فألزمه الدين (١).

وظاهرها الإلزام بدون رد اليمين والا لنقل ولزم تأخير البيان عن وقت الحاجة. مضافا الى ظهور كلمة الفاء في « فألزمه الدين » على تعقيب الإلزام للامتناع بلا مهلة فتخلل اليمين بينهما.

ودعوى ان حكاية الحال مجملة لا تصلح للاستدلال. ساقطة في مثل المقام المسوق لجواب السؤال ، خصوصا إذا كان الحاكي هو الامام عليه‌السلام.

لكن يمكن المناقشة فيها بوجه آخر ، وهو ان الإجماع قائم على عدم القضاء بمجرد الامتناع عن الحلف ، بل لا بد معه من أحد أمرين : اما النكول عن رد اليمين أو اليمين المردودة ، فلا بد من الالتزام بإهمال المكاتبة وعدم اشتمالها على تمام ميزان القضاء ، فتكون مجملة.

ولا يوجه بما وجهنا به الاستدلال بقوله « ولا يحلف » في رواية البصري ، تضعيفا لورود مثل هذه المناقشة الذي تو همه بعض الأجلاء كما لا يخفى.

هذا مدرك القول الثاني ، ومع ذلك فالقول الأول لم يبعد ، لما تقدم. والله العالم.

تذييل

[ مستثنيات عدم القضاء بالنكول ]

قد استثنى الأصحاب من مسألة عدم القضاء بالنكول على القول به مواضع ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٣٣ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٢٣٦

وظاهره الاستثناء كما في المسالك (١) القضاء به فيها على القول بعدم القضاء به مطلقا : منها دعوى التهمة وقد تقدمت ، ومنها دعوى الوصي ما لا لليتيم ، ومنها دعواه على الورثة إيصاء الميت مالا للفقراء. والضابط كل موضع امتنع رد اليمين الى المدعي لمانع عقلي أو شرعي ، ولعله يأتي إنشاء الله تعالى بيان ذلك المانع الشرعي أو العقلي في المواضع المشار إليها.

ويمكن أن يستدل على الاستثناء بوجوه :

( منها ) أن فصل الخصومة في تلك المواضع ، مما لا بد منه ، لعموم الايات والاخبار الإمرة بالحكم بما أنزل الله تعالى الدالة على سماع الدعوى. مضافا الى ما فيه من المحافظة على عدم ضياع الحقوق الذي هو الداعي إلى شرعية أصل القضاء والى ظاهر اتفاقهم على ذلك.

ولو قيل بتوقيف الدعوى عند تمرد المنكر من الحلف على القول بعدم القضاء بالنكول ، وإذا ثبت سماع الدعوى فيها فلا بد من القضاء بالنكول ، إذ على تقدير عدمه لا يترتب على السماع فائدة إذا لم يكن للمدعي بينة ، لان الحاكم لا يقدر حينئذ إلزام المنكر بشي‌ء ، فإن غاية ماله ان يقول له « احلف وان شئت لا تحلف فليس عليك شي‌ء » ، ومن المعلوم أن ذلك عين عدم سماع الدعوى.

فان قلت : نمنع وجوب سماع الدعوى فيها مع عدم البينة ، لأن أوامر الحكم بما أنزل الله تعالى متخصص بحكم العقل بما إذا كان هناك ميزان للحكم. ومن هنا لا يسمع الدعوى على الميت أو الصغير. وبالجملة كل موضع ليس المدعى عليه قابلا للإحلاف إذا لم يكن للمدعي بينة وليس في هذه المواضع بعد فقد البينة ميزان للحكم ، لان يمين المنكر على تقدير كونها ميزانا فإنما هي في صورة إمكان الرد لا مطلقا ، لظاهر قوله عليه‌السلام « استخراج الحقوق بالأربعة » التي ليس منها القضاء بالنكول بدون الرد.

__________________

(١) واعلم ان ظاهر المسالك الاستثناء من الرد لأمن القضاء بالنكول ـ فافهم « منه ».

٢٣٧

قلت : أولا كلامنا مع الجماعة الذين رأوا سماع الدعوى مع عدم القضاء بالنكول وإيقاف الدعوى. وثانيا انه لا دلالة في الرواية على انحصار ميزان القضاء في الأربعة مطلقا بل في الموارد التي يمكن فيها الرد ، لأنها مسوقة لبيان الموازين التي هي تحت قدرة المدعي استظهارا من لفظ « الاستخراج » كما يظهر وجهه بالتدبر. ولو سلم الإطلاق ففيما يأتي دلالة على التقييد بصورة إمكان الرد.

( ومنها ) قوله عليه‌السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (١) ، لأن ظاهر الفقرة الأخيرة ـ كما مر غير مرة ـ حصر وجوه خلاص المنكر وانفكا كه من قيد الدعوى في اليمين ، فلو لم يحلف لم يتخلص ، فتخلصه موقوف بعد عدم أداء الحق على اليمين ، فلو لم يحلف لم يتخلص ، فتخلصه موقوف بعد عدم أداء الحق على اليمين ، فحيث لا يحلف الزم بالحق ، خرج منه صورة نكول المدعي عن اليمين المردودة مع إمكان الرد وبقي الباقي.

فإن قلت : ظاهر الفقرة الأولى أيضا حصر حجج الدعوى وأسباب استخراج حقه بالبينة ، خرج منه اليمين المردودة أو نكول المدعي عليه عن رد اليمين على القضاء بالنكول ، وأما نكوله عن اليمين مع عدم النكول عن الرد باعتبار عدم إمكانه فلا دليل على خروجه.

قلت : أولا أنا ندعي بقرينة كلمة « على » انها لا تدل الا على انحصار حجج المدعي التي هي تحت قدرته واختياره كالبينة ونحوها في البينة ، وأما ما هو خارج عن اختياره كنكول المنكر فلا يندرج في عموم المحصور ـ فافهم وتأمل.

وثانيا انا نجمع بين الفقرتين ونقول : أما المدعي فليس له حجة في هذه المواضع على إثبات حقه ، وأما المنكر فليس له خلاص أيضا إلا باليمين ، ويترتب عليه أن المنكر اما أن يحلف أو يؤدي الحق أو يحبس تحقيقا لمعنى حصر خلاصه في اليمين ـ فتأمل.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ١ و٢.

٢٣٨

( ومنها ) قوله عليه‌السلام في رواية البصري المتقدمة « وان لم يحلف ـ أي المنكر ـ فعليه الحق » ، فإن غاية ما يرد على إطلاقه تقييده برد الحاكم اليمين الى المدعي مع إمكانه وأما مع عدمه فلا.

فان قلت : هذا معارض بما في الروايات الأخر من أن المدعي إذا لم يحلف فلا شي‌ء له.

قلت : المراد عدم الحلف مع الرد لا مطلقا ، خصوصا مع ملاحظة ما في بعض الروايات ، حيث أن فيها بدل ولم يحلف « وان أبى عن الحلف أو امتنع » ، فان ظاهر الإباء والامتناع أو صريحهما عدم الحلف فيما له أن يحلف لا فيما لا يجوز له الحلف لمانع شرعي أو عقلي.

( ومنها ) أن سير الموازين الشرعية للقضاء والتأمل فيها يقضي باعتبار نكول المنكر عن اليمين ميزانا للقضاء أيضا ، لأنه أمارة نوعية على اشتغال الذمة ، مثل نكول المدعي عن اليمين المردودة ونكول المنكر عن الرد على القول بالقضاء به ، فيكون نكول المنكر عن اليمين أيضا كذلك ـ فتأمل.

( ومنها ) ما سبق في المسألة السابقة من الروايات الواردة في خصوص موضع الدعوى تهمة الذي يندرج في مفروض المسألة ، كقوله عليه‌السلام في الصائغ والأجير : ان اتهمته فاستحلفه لعله يستخرج منه شيئا.

وجه الدلالة ، انه لو لا القضاء بالنكول فلا يترتب الاستخراج على الاستحلاف ، لان المدعي ان حلف وان لم يحلف فلا يلزم عليه شي‌ء على هذا القول.

ودعوى ان احتمال الاستخراج لرجاء الإقرار بسبب الاستحلاف مدفوع : أولا بأن الخارج بسبب الإقرار لا يصدق عليه عنوان المستخرج ، وثانيا ان رجاء الإقرار من الاستحلاف على تقدير عدم القضاء بالنكول لا وجه له ، لان الاستحلاف انما يجدي في الإقرار إذا كان الامتناع من الحلف تعظيما لله تعالى متوقفا عليه. وأما

٢٣٩

إذا لم يكن متوقفا عليه ولا على دفع الحق بل يتحقق مع عدمهما أيضا فلا وجه للرجاء المزبور. الا أن يقال : ان الاستحلاف في الرواية محمول على الاستحلاف في غير مقام الحكومة ، فتدبر.

هذه وجوه يمكن توجيه الاستثناء بها بمعنى الحكم بالقضاء بالنكول على القول بعدمه في غير المقام ، ولكن للمناقشة في الكل أو الجل نظر. ولو قيل بالحبس حتى يقر أو يحلف كان أوجه ، وان كان لا يقاف الدعوى رأسا أيضا وجه ، ولكن القول بسقوط حق المدعي نظرا إلى إطلاق ما سمعت من أنه إذا لم يحلف فلا شي‌ء له ، بمكان من الضعف والسقوط. والله العالم.

التقاط

[ لا يستحلف المدعى لو أقام بينة تثبت حقه ]

إذا أقام المدعي بينة قابلة لا ثبات الحق لم يستحلف إذا كان المدعى عليه حيا عاقلا بالغا حاضرا. بلا خلاف موجود أو محكي ، عملا بالروايات المصرحة بالمعتضدة بمقتضى قاعدة كون البينة حجة مستقلة والعمومات الحاصرة لتكليف المدعي في البينة.

وما ورد في بعض الروايات من وصية علي عليه‌السلام لشريح برد اليمين الى المدعي مع إقامة البينة لكونه أجلى للعمى (١). محمول على ما لو انقلب المنكر مدعيا فاستحلفه ، أو على ما إذا كانت الدعوى على غير الجامع للأوصاف المزبورة.

ولا فرق في ذلك بين ما إذا شهدت البينة على سبب الحق واستصحبه الحاكم ـ على القول بجوازه ـ أو شهدت بالحق الفعلي اتكالا على الاستصحاب. وان

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٨ من أبواب كيفية الحكم ح ٤.

٢٤٠