كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

إذ ليس يجب على الناس متابعة من أخبر خبرا ثمَّ حلف بالله تعالى على طبقه ، وتقييده بمقام المرافعة يحتاج الى دليل ، وذيله المشار اليه لا يقتضي التقييد بحسب القواعد اللفظية.

والقول بأن المقيد هو الإجماع. قد عرفت ما في مثله.

كل ذلك مضافا الى أن في الروايات السابقة التي هي أظهر دلالة من الأمر بالتصديق ما يستظهر منه الفطن العارف بأساليب الكلام ومزايا الدلالات ، كخبر ابن ابي يعفور قال بعد ما قال الامام عليه‌السلام : ذهبت اليمين بحق المدعي فلا حق له. قلت : وان كان له بينة عادلة؟ قال : نعم وان أقام بعد ما استحلفه خمسين قسامة ما كان له ـ الحديث (١).

وجه الاستظهار أن كلمة « ان » الوصلية تدل على رفع توهم عدم مناسبة الشرط للجزاء وتوهم مانعيته له ، ومن الواضح أن اقامة البينة إنما يتوهم منافاته للمطالبة والتعرض لحال المنكر أو ماله لا ببعض التصرفات التي تتوقف على ثبوت الحق واقعا لا ظاهرا كالإبراء والعتق مثلا ، فلو أن الامام عليه‌السلام أراد بذهاب اليمين عدم جواز الإبراء والاحتساب السري من الزكاة أيضا وان الراوي أيضا فهم ذلك من كلامه عليه‌السلام كان قوله « وان أقام البينة » وقوله في جوابه « نعم » بمكان من الركاكة والاستهجان ، إذ قيام البينة وعدمه بالنسبة إلى مثل تلك التصرفات لا يؤثر شيئا ، لأنها منوطة بثبوت الحق واقعا لا ظاهرا ، بل كان عليه لو أراد توضيح الحال أن يقول ولو أقام بينة فكيف الحكم لا التعبير بأن الوصيلة المشعرة بالاستبعاد الغير اللائق بالمقام.

فظهر أن التعبير بها مبني على كون الحكم المدلول عليه بقوله عليه‌السلام « ذهبت اليمين » مما لا يناسبه إقامة البينة ، وليس هو إلا حرمة المطالبة وترتب

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٩ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٢٠١

سائر الاثار جهارا لا خفاء.

ثمَّ ان لازم القول بسلب جميع الاثار المالية في الدين عدم حصول التهاتر القهري أيضا لو فرض إتلاف المدعي شيئا من أموال المنكر يساوي قيمته بمقدار الدين الذي في ذمته. وهو كما ترى أثر قهري ، لأن التهاتر في مورده ، إذ لا يعقل اشتغال ذمة الشخص بعين ما اشتغل ذمة الشخص الأخر كالدينار الكلي ، فاذا فرض أن ما في ذمة المنكر دينار وقيمة التألف أيضا دينار حصل البراءة قهرا.

وبالجملة مفاسد هذا القول يضيق عن الإحاطة بها نطاق البيان ، وكيف بمثل هذه الأدلة الموهونة الدلالة يلتزم بخلاف القواعد المتينة ، سيما مع عدم مصرح به سوى من عرفت مع تأمله وتردده واعترافه بأنه لا يخلو عن نظر واشكال.

ومما يبعده أيضا تصريحه وتصريحهم بأن المنكر لو كذب بالإقرار عاد المطالبة والتعرض ، فإنه مع ذهاب المالية الدنيوية رأسا لا يكاد يتم ذلك الا بالتزام كون الإقرار سببا جديدا في حدوث المالية ، بخلاف ما لو قلنا ببقاء المالية وان الذاهب هو السلطنة على بعض الاثار كالتعرض والمطالبة.

[ لو أقر المنكر عاد حكم المطالبة والتقاص ]

توضيح المقام ، انه قد تطابق النص والفتوى على أن المنكر الحالف لو أقر بالحق مطلقا ـ سواء كان عند الحاكم أو عند غيره أو في السر ـ عاد حكم المطالبة والتقاص وغيرهما مما لم يكن له قبل الإقرار بعد الحلف.

وهذا على تقدير ذهاب المالية مشكل ، لأن الإقرار لا يقتضي إلا الإلزام بالمقربه ، فحيث كان المقر به أمرا غير مترتب عليه شي‌ء من الأثر وقع لاغيا ، وعلى القول بذهاب المالية رأسا فالإقرار به إقرار بما مر غير ملزم وانه كالإقرار بالدين الذي يتعقبه المسقط مثل الإبراء ونحوه ، فلا بد من الالتزام بأن الإقرار

٢٠٢

سبب شرعي تعبدي لحدوث مال جديد في ذمة المقر مع العلم بعدم ثبوت مال في ذمته قبل الإقرار.

وهذا جدل لا يلتفت اليه من أنس بالفقه أنسا ، بخلاف ما لو قيل بما اخترنا من بقاء صفة المالية وعدم جواز ترتب بعض الاحكام لمانع الإنكار المقرون باليمين ، لأنا نقول حينئذ : ان الإقرار يرفع المانع من استيفاء الحق. وبعبارة أخرى :

ان المنع انما تعلق باستيفاء الحق من المنكر بعد اليمين ما دام منكرا وبعد الإقرار يرتفع الموضوع.

الا أن يقال بمثله على ذلك القول أيضا ، بأن يقال : ان الإنكار كان مانعا عن ترتب جميع الاثار المالية ما دام منكرا وتكذيب النفس يرفع المانع.

وكيف كان فقد ظهر أن التمسك في الحكم المزبور ـ أعني جواز المطالبة بأدلة الإقرار ـ غير سديد ، لأن أدلة الإقرار انما تفيد الإلزام إذا كان المقر به أمرا ملزما ، فلا بد أولا من إحراز كون الدين بعد الحلف من الأمور الملزمة ثمَّ التمسك بها ، لا التمسك بها مع قطع النظر عن ذلك حتى على احتمال خروجه عن المالية في الدنيا رأسا ، فإنه حينئذ كالإقرار بالدين بعد تحقق المسقط.

( تجديد مقال لتوضيح حال )

قد عرفت أن الأمر بالتصديق في النبوي نظير قرينة ، أعني الأمر بإعطاء الحالف له معنى آخر غير ترتيب آثار النفي والبراءة ، وان ذهاب اليمين بحق المدعي وإبطالها إياه ونفي الحق بعد اليمين لا دلالة لها أيضا على نفي جميع تصرفات المدعي من المطالبة وغيرها.

ونقول أيضا طلبا لمزيد البيان : ان ذهاب اليمين بالحق وإبطاله لا بد أن يراد به ـ بدلالة الاقتضاء كما في حديث رفع الخطأ والنسيان ـ ابطال الاثار

٢٠٣

لا ابطال نفس المال ، لأن إبطال الشي‌ء الثابت خصوصا إذا كان من الأعيان الخارجية لا معنى له ، فيدور الأمر بين أن يكون المراد ابطال جميع الاثار حتى ما يرجع الى المنكر بحيث يكون المنكر بعد الحلف برئ الذمة رأسا الذي هو خلاف الإجماع ظاهرا أو إبطال جميع ما يرجع الى المدعي خاصة من الاثار أو إبطال خصوص ما يليق بمقام الدعوى والخصومة أعني المطالبة وتجديد دعوى أخرى ونحوها مما يشاركها في التعرض لحال المنكر.

والأول لو قلنا بكونه المتعذر في مثل المقام مع إمكان منعه وإرجاعه إلى نفي الأثر الظاهر ، فلا بد من المصير الى غيره بقرينة الإجماع بزعمك وبمساعدة المقام بزعمنا ، فتعين أحد الأخيرين ، وأولهما تحكم بلا دليل.

ودعوى ان القرينة هي الأقربية بالمعنى الحقيقي بعد تعذر الأول الذي هو أقرب من الكل. كما ترى ، فتعين الثاني ، أعني إرجاع الابطال إلى الأثر الظاهر اللائق بالمقام ، لان المقام مقام إعطاء ميزان القضاء وفصل الخصومة.

ومن الواضح أن موازين الفصل لا يزيد مقتضاها على مجرد ترك الدعوى والخصومة ، ومن هنا يعلم أنه لو لا النص الوارد في حرمة المقاصة بعد اليمين لم يجز الحكم بها بدلالة هذه الروايات وكان حال اليمين حال البينة في جواز المقاصة الباطنية أيضا. مضافا الى أن قوله عليه‌السلام « ذهبت اليمين بحق المدعي » وانها أبطلت كل ما ادعاه ، لا يدل الا على إبطالها الحق من حيث الدعوى لأمن حيثيات أخرى كما لا يخفى.

نعم من بين هذه الروايات ذيل الرواية الدالة على حرمة المقاصة المعلل فيها بأنه رضي بيمينه وقد مضت اليمين بما فيها (١). يمكن أن يستدل به على ذهاب جميع الجهات المالية من طرف المدعي حتى مثل قابليته للإبراء ونحوها ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٠ من أبواب كيفية الحكم ح ٢.

٢٠٤

لان التعليل في قوة كبرى صغراها حرمة المقاصة ، فكأنه قال عليه‌السلام : ان المقاصة حق من الحقوق ، ولا شي‌ء من الحقوق بثابت بعد اليمين. ولا يجري ما قلنا في سائر الروايات ، لأن إرجاع الإمضاء إلى خصوص جهة المخاصمة والتعرض والادعاء يوجب عدم الارتباط بين الدليل والمدعى ، لان المقاصة ليست من جهات الدعوى والمخاصمة فلا بد من إرجاعه إلى معنى عام شامل.

فهو اما ذهاب جميع التصرفات المالية من طرف المدعي حتى مثل الإبراء والاحتساب ، أو القدر الجامع بين قطع الخصومة وحرمة المقاصة ، والثاني لا مجال له كما أشرنا إليه لكونه تحكما بلا دليل وبعيدا عن الفهم السليم ، فتعين الأول.

وفيه : ان ذيل الرواية ليس في مقام التعليل حتى يكون في مقام إعطاء القاعدة ، بل اللام في كلمة « اليمين » للعهد والإشارة إلى اليمين المتقدم ذكرها ، فقوله « فقد مضت اليمين بما فيها » عبارة أخرى عما نهى عنه أولا من الأخذ. نعم قوله « لكنك رضيت بيمينه » في قوة التعليل لعدم الأخذ والمضي.

وكيف كان فالإنصاف أن العدول عن مقتضى القواعد المحكمة بمثل هذه الدلالة التي تتوقف على دقة النظر مع عدم مصرح به من الفقهاء جرأة عظيمة ، خصوصا مع ما سمعت عن غير واحد من أن اليمين لا يحصل به البراءة الواقعية ومع ملاحظة إطلاق ما ذكروه في غير المقام من أن حكم الحاكم لا يغير الواقع ، فإنه يعم المستند الى اليمين.

ودعوى أن إطلاق كلامهم ورد في بيان ما يترتب على حكم الحاكم من حيث أنه حكم ، فلا يدل على عدم تغييره الواقع باعتبار شي‌ء آخر يقارنه وينضم اليه كاليمين. مدفوعة بأن موضوع الحكم إذا كان في بعض الموارد ملازما لعنوان ينافي الحكم كان الإطلاق قبيحا كما قررناه في الأصول وأوردنا به على

٢٠٥

الحلي في مقدار ما ينزح لموت الكافر من البئر حيث رجع في حكمه الى مالا نص فيه وحمل النص الوارد فيه على أنه مسوق لبيان حكم الموت من حيث انه موت ، فتأمل جيدا.

ثمَّ ان الفرق بين القولين وثمرات بقاء أحكام المالية عدا المطالبة والمقاصة لا تكاد لكثرتها تحصى. مثلا إذا أوصى للمدعي بالدين على المنكر ومات قبل القبول بعد اعترافه به كان للورثة حق القبول على المختار لا على القول الأخر ، وهكذا الى آخر ما لا يخفى.

[ هل يذهب الحلف بالحق في العين أيضا؟ ]

هذا كله في الدين ، وأما العين فينبغي النظر في أن الروايات شاملة لها أم لا. قد يقال بعدم تقييد فيها بالدين ، لأن الحق يعم الدين والعين ، ويؤيده أن الدليل على انقطاع الخصومة باليمين في العين ليس سوى هذه الروايات.

والتحقيق أن الشامل منها للعين غير نافع ، والنافع منها غير شامل ، فان ما عدا الرواية الدالة على عدم المقاصة قد عرفت أن مؤداها لا يزيد على انقطاع الخصومة وحرمة العود إلى الخصومة وسائر وجوه المعارضة ، وبها تمت مسألة فصل الخصومة في الدين والعين بواسطة اليمين.

والرواية الدالة على عدم المقاصة غير شاملة للعين ، لعدم عموم فيها سوى ما يتوهم من عموم الموصول في قوله « مضت اليمين بما فيها » ، وقد عرفت أن الظاهر منها العهد كاللام في اليمين ، ويؤيده صيغة الماضي المشيرة الى ما سبق ذكره ، فلا دلالة فيها على حرمة المقاصة في العين.

نعم يدل عليها أمران آخران :

( أحدهما ) ان التقاص فرع السلطنة على المقتص عليه شرعا ، واليمين

٢٠٦

قاطعة للسلطنة الشرعية على الشخص إجلالا لاسمه تعالى.

والحاصل ان التقاص فرع استحقاق المطالبة شرعا لا فرع الاستحقاق للمال ، فلو استحق المال ولم يستحق المطالبة لم يجز له التقاص ، لأن السلطنة على مال الشخص سلطنة عليه كما لا يخفى. وأقل ما يدل عليه روايات المسألة ، حتى مثل الأمر بالتصديق والرضا باليمين أن لا يكون للمدعي سلطنة على المنكر الحالف ، ونفي السلطنة على الشخص يمنع المقاصة لكونها متفرعة على السلطنة عليه ، لاستلزام السلطنة على المال السلطنة على المالك.

ومن هنا أمكن تصحيح دلالة غير الرواية الواردة في عدم التقاص على حرمة المقاصة أيضا.

( والثاني ) رواية سليمان بن خالد : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل وقع لي عنده مال فكابرني عليه وحلف ثمَّ وقع له عندي مال آخذه مكان مالي الذي أخذه وأجحده وأحلف عليه كما صنع؟ قال : ان خانك فلا تخنه ، ولا تدخل فيما ائتمنته عليه (١).

فان المال يشمل العين والدين ، بل ظاهر قوله « عنده » هو العين ، الا أن يمنع دلالتها باعتبار كونها واردة في مقاصة الودعي ، وهو غير المقام.

[ لو وجد المدعي عين ماله يجوز أخذه ]

ثمَّ انه لو ظفر المدعي بالعين على وجه لا يكون في أخذها اهانة بالحاكم جاز الأخذ ، حتى لو قلنا في مسألة الدين بعدم جواز شي‌ء من التصرفات ، وذلك لان الدين ليس سوى الحقوق التي يستحقها الدائن والحق قابل للإبطال والذهاب ، فيمكن الاستدلال بقوله عليه‌السلام « ذهبت اليمين بحق المدعي

__________________

(١) الوسائل ج ٦ ب ٨٣ من أبواب ما يكتسب به ح ٧.

٢٠٧

وأبطلت كل ما ادعاه » على ذهاب تلك الحقوق بأسرها ، بخلاف العين فإن ابطالها مع قطع النظر عن الاحكام غير معقول ، فلا بد من إرجاع الابطال إلى الأحكام المتعلقة بها. والأحكام الباطلة الذاهبة المتعلقة بها ليست الا ما كان من قبيل السلطنة على الحالف نفسا أو مالا ، وأما الاحكام التي لا يلزم من ترتبها تعرض بحاله فلا وجه لذهابها وبطلانها.

ومن الواضح أن التصرف في العين بحيث لا ينجر إلى خصومة ومنازعة ودعوى أخرى ليس سلطنة على المنكر ولا على ماله ، وكذا ليس إنشاء مخاصمة جديدة كما لا يخفى.

فالحق أن التصرف الباطني الغير الآئل الى اهانة الحكم أو الى منازعة ومشاجرة جديدة جائز بخلاف المقاصة لما عرفت ، والله العالم.

[ في جواز التقاص من المنكر ]

بقي شي‌ء ، وهو أن في مسألة التنازع في الثمن والمثمن الذي ينجر الأمر فيه الى التحالف ، قد صرح غير واحد بالتقاص ، فيقتص البائع مثلا بالمبيع المردود اليه بعد حلف المشتري على نفي الثمن الذي يستحقه البائع في ذمة المشتري الذي نفاه بحلفه.

وهذا ربما يقال بمنافاته لما أجمعوا هنا عليه من عدم جواز التقاص بعد الحلف. نعم لو قيل ان التحالف سبب شرعي تعبدي لا فلانفساخ العقد أو لفسخ الحاكم ارتفع المنافاة ، لكن على ما ذكره في الروضة من التقاص ربما يتوهم ورود الاشكال ، والجواب عنه ان حرمة المقاصة بعد الحلف ليس لأجل كون الحلف ناقلا كما لا يخفى ، بل لأجل احترام عرض الحالف فلا يدعى عليه ثانيا واحترام ماله فلا يقاص منه.

٢٠٨

وقضية ذلك اختصاص الحرمة بالمقاصة التي ينافيها الحلف ويكرهها الحالف ، لا المقاصة التي لا ينافيها الحلف بل يؤكدها ولا يكرهها الحالف بل يحبها ويرضى بها كما في المقام ، لأن المشتري الحالف على عدم وقوع البيع بالثمن الذي يدعيه البائع يريد دفع سلطنة البائع عليه بالثمن المخصوص ويرضى بأول أمرها الى ما كان قبل البيع ، فلو تمرد البائع عن قبول البيع فهو مناف لمقتضى الحلف بخلاف ما لو قبله وجعله قصاصا عما له في ذمة المشترى ، فإنه تصديق ظاهري بحلف المشتري وعمل على طبق حلفه ظاهرا.

ومن هذا البيان ظهر إمكان تقرير الإشكال في غير التحالف أيضا ، كمدعي البيع ومنكره الحالف على عدمه ، كما ظهر جوابه أيضا ، فالإشكال مشترك الورود بين صورة التحالف وغيره ، وكذا الجواب.

وحاصل الجواب : ان مقتضى حلف المشتري على نفي البيع بالثمن المخصوص مع اعتراف البائع بعدم البيع على الثمن الذي يدعيه المشتري كون المبيع باقيا في ملك البائع ، ففي تصرف البائع فيه واحتسابه قصاصا عن الثمن الذي يدعيه تصديق للحلف ظاهرا وعمل بأدلة المقاصة باطنا ، فالتقاص الباطني إذا كان منافيا لتصديق الحالف ظاهرا فهي التي تمنعها اليمين لا ما كان فيها تصديق صوري للحالف.

ويمكن أن يجاب أيضا في مسألة التحالف خاصة : بأن المتداعيين معترفان بأن كلا منهما يستحق على الأخر شيئا وانما الخلاف في الخصوصية والحلف انما وقع على نفيه مطلق المال ، فحينئذ نقول : ان البائع مثلا يأخذ المبيع قصاصا عما له على المشتري لا على الثمن الذي نفاه المشتري بحلفه.

فان قلت : الذي يستحقه البائع مثلا ـ وهو الثمن المخصوص الذي يدعيه ـ قد ذهب بحلف المشتري ، والذي يعترف المشتري من الثمن ينفيه البائع

٢٠٩

ويعترف بعدم استحقاقه ، فلا يبقى مال يمكن أن يجعل المبيع في مقابله.

قلت : لا منافاة بين عدم استحقاق البائع شيئا من الخصوصيتين واستحقاقه مالا كليا بمقتضى اعتراف المشتري واعتقاد البائع ، لأن الحكم يتبع الدليل ولو على نحو يقتضي الجمع بين المتضادين أو المتناقضين ، ومن الواضح أن جواز المقاصة حكم من أحكام استحقاق المال المطلق لا المال المعين.

وان شئت قلت : ان الثمن الذي يعترف به المشتري لا ينفيه البائع بحسب مقدار ماليته ، فمقدار مالية ذلك الثمن أمر متفق الثبوت في ذمة المشتري ، فيعطى البائع عن مقدار ماليته لا عن نفسه ، لان نفسه مع قطع النظر عن المالية لا يقبل المقاصة ، الا أن مقتضى ذلك أن يقتصر في المقاصة على مقدار مالية الثمن الذي يعترف به المشتري.

والظاهر أن من يقول بالمقاصة في التحالف يقول بأنه يقتص بمقدار ما يدعيه المقاص من الثمن مثلا لا بمقدار ما يدعيه المقاص منه. والثمرة بينهما تظهر في مقدار الزيادة التي يجب على البائع مثلا دسها في مال المشتري ، فإنه يختلف زيادة ونقصانا باختلاف الوجهين.

ثمَّ انه قد ظهر أن الحكم في صورة كون الثمن دينا على خلاف ما قلنا في الدين من حرمة المقاصة ، فلو كان الثمن عينا فهل يحكم فيه بخلاف ما حكمنا في العين من جواز التصرف في العين باطنا ، بأن يدس البائع مثلا المبيع في مال المشتري ويتصرف بعين الثمن الذي وقع البيع عليه باعتقاد البائع؟ وجهان.

وجه العدم أن التصرف في الثمن تكذيب للحالف وتعرض له فلا يجوز ، ووجه الجواز ـ وهو الأقوى ـ أنه تصرف في ملكه لا في ملك المشتري ، وليس فيه تعرض للمشتري الحالف لا لنفسه بالدعوى والمخاصمة ولا لماله ، وليس فيه

٢١٠

أيضا تكذيب صوري للحلف لابتنائه على الخفاء ، وأما تكذيب الحالف باطنا فلا ضير فيه ، بل هو مقتضى عدم كون الحلف مغيرا للواقع. والله العالم.

التقاط

[ هل تسقط دعوى المدعي مع النكول ]

إذا رد المنكر اليمين الى المدعي فأما أن ينكل عن اليمين ولا يحلف أو يحلف ، فلو نكل سقطت دعواه في ذلك المجلس بلا خلاف ولا اشكال ، والروايات ناطقة به.

وهل تسقط دعواه مطلقا حتى في غير ذلك المجلس ـ بأن لا يسمع دعواه أبدا ولو أقام بينة ـ أو يختص سقوط الدعوى بذلك المجلس. قولان ، ذهب الى الثاني جماعة منهم الشهيدان على ما حكي عنهما ناسبا له في الروضة إلى المشهور ، لكن عن جماعة دعوى الإجماع على السقوط.

ويدل عليه إطلاق الاخبار والاستصحاب ، بناء على أن المجمع عليه في ذلك المجلس هو سقوط الدعوى بحيث لا يسمع منه إقامة البينة حينئذ ، فإنه يستصحب حينئذ متى شك في حدوث حق جديد ، وأما لو كان المجمع عليه مجرد عدم سماع قوله ثانيا في ذلك المجلس وعدم سلطنته على المنكر في ذلك المجلس لم يجز الاستصحاب إذا شك في وجوب سماع قوله في مجلس آخر ، لان السلطنة في كل آن موضوع مستقل غيرها في آن آخر ، فلا ينسحب حكم أحدهما إلى الأخر ، بخلاف الحق فإنه إذا سقط سقط والعود يحتاج الى دليل ـ فافهم.

وان حلف ثبت حقه نصا وفتوى ، وهل هي في حكم بينة المدعي أو بمنزلة إقرار المنكر؟ وجهان بل قولان. وربما قيل انها قسم ثالث ، فلا يجري فيها

٢١١

حكم شي‌ء من البينة والإقرار بل يرجع في كل حكم الى ما يقتضيه القواعد فيه. وذكروا لهذا الخلاف ثمرات مذكورة في كتب الفقهاء.

[ الأدلة على سقوط الدعوى مع النكول ]

والمهم هنا بيان أمرين : أحدهما وجه الحصر الذي ذكره غير واحد ، والثاني وجه القولين على تقدير ثبوت الانحصار.

( أما الأول ) فيمكن أن يستدل عليه بعموم « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (١) ، فإنه يقضي بالانحصار على البيان الذي مر في بعض الالتقاطات السابقة. وحاصله ان الحكم بجنس البينة على جنس المدعي في مثل المقام يفيد أن كل بينة على المدعي وكل مدعى عليه البينة ، فإذا ثبت أن يمين المدعي هنا تثبت حقه على المنكر ، فلا بد أن يكون يمينه اما بمنزلة البينة في الحكم حتى لا يلزم تخصيص في العالم المزبور أو تكون بمنزلة البينة إقرار المنكر الذي يرتفع به أصل الخصومة.

فلو قيل : ان اليمين ليست بمنزلة صيرورة الدعوى بمنزلة التسالم والتصالح ـ كما لو أقر المنكر ـ بل قسم ثالث لميزان فصل الخصومة لزمه بطلان الحصر المستفاد من العموم.

وهذا نظير ما ذكروه في التحليل من أنه بمنزلة ملك اليمين أو بمنزلة النكاح اتباعا لظاهر الآية الشريفة الناطقة بمحافظة الفروج الا على الأزواج أو ما ملكت الايمان. ولب الكلام ان الأمر دائر بين الإلحاق الموضوعي والتخصيص.

توضيحه : ان الشارع حصر حجة المدعي المثبتة لحقه في البينة بمقتضى قوله « البينة على المدعي » ، ثمَّ قال في دليل آخر ان اليمين المردودة أيضا يثبت

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

٢١٢

بها الحق ، فإن كان المراد بالبينة ما يعم اليمين على أن يكون اليمين في نظره بمنزلتها ومشاركتها في الحكم بقي الحصر بحاله وسلم العموم أيضا عن التخصيص ، لأن الإخراج والإدخال الموضوعيين ليسا من التخصيص في شي‌ء كما حققناه في الأصول.

ولذا لم نذهب الى أن الاستصحاب ونحوه من الأصول بل الأمارات أيضا مخصصة للواقع ، بل مؤدياتها ملحقة بموضوعات الأحكام إلحاقا جعليا. وأما لو كان المراد بالبينة ما لا يعم اليمين وكانت اليمين حجة أخرى في عرض البينة بطل الحصر وتخصص العموم.

ومثل هذا التقرير يقال في مسألة التحليل.

وحيث أن أصالة العموم في البينة على المدعي مع عدم ظهور أدلة اليمين في استقلالها وتخصيص العموم بها يقتضي بقاء الحصر. وبعبارة أخرى : الإلحاق الموضوعي في صورة الشك ، فلا جرم يكون اليمين بمنزلة البينة ان كانت حجة للمدعي وإلا لزم أن تكون بمنزلة ارتفاع الخصومة بإقرار المنكر ، إذ لا ثالث لهما مع بقاء الحصر وأصالة العموم على حالها.

مضافا الى ظهور بعض أدلة اليمين في كونها بمنزلة البينة وسكوت الباقي عن التخصيص وعن كونها حجة أخرى مستقلة ، كخبر يونس : استخراج الحقوق بأربعة وجوه : شهادة رجلين عدلين ، فان لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، وان لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدعي ، وان لم يكن شاهد فاليمين على المدعى عليه ، فان لم يحلف رد اليمين على المدعي فهي واجبة عليه أن يحلف ويأخذ حقه ، فان أبى أن يحلف فلا شي‌ء له (١).

وجه الظهور : ان ما عدا اليمين المردودة كلها في حكم البينة وملحقة بها

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٥ من أبواب كيفية الحكم ح ٢.

٢١٣

كأنها تفاصيل البينة التي حصر حجة المدعي في الروايات العديدة فيها ، مثل ما روي ان أحكام المسلمين على ثلاثة : بينة عادلة ، ويمين قاطعة ، وسنة جارية (١). يعني بها القرعة بناء على كون المراد بالقاطعة الفاصلة لا الجازمة ، فإنها حينئذ يمين المنكر لأنها التي تقطع الخصومة وترفعها. وغيرها مما دل على انحصار فصل الدعوى بالبينة ويمين المنكر.

نعم في الموارد التي يقدم قول المدعي بيمينه ـ وبالجملة كل يمين يحلفها المدعي بأصل الشرع لا بالرد ـ نلتزم بكون اليمين في تلك الموارد حجة مستقلة في عرض البينة.

وأما وجه القولين :

( فوجه الأول ) أن يمين المدعي يمين على الإثبات وطريق شرعي له الى ثبوت الحق عند الحاكم ، مثل سائر الموارد المقبول فيها قول المدعي بيمينه ، الا أن الفرق أن اليمين في تلك الموارد حجة مستقلة لمساعدة أدلتها للتخصيص وهنا في حكم البينة ، إذ الخصم معترف بأنها على تقدير كونها حجة مثبة للحق ، فلا بد أن تكون مثل البينة وليست حجة مستقلة والا عاد الكلام الى المقام الأول ، والمفروض أن التنازع في أنها مثل اليمين أو البينة لا بد أن يكون بعد التسالم على الحصر ، فاذا كانت حجة على المدعي على ثبوت الحق فلا جرم يكون مثل البينة.

( ووجه الثاني ) ان هذه اليمين ليست على حد سائر الايمان الثابتة بأصل الشرع للمدعي بل هي يمين المنكر المردودة اليه ، ورد اليمين في قوة الإقرار بالحق ، فكأنه مقر والا كان يحلف ولم يردها على المدعي.

وهذا وان كان وجها اعتباريا الا أنه يصلح سرا للحكم المنصوص عليه.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب كيفية الحكم ح ٦.

٢١٤

والصواب أن يقال في وجه الثاني : ان الأمر بالتصديق المأمور به في النبوي المتقدم « من حلف لكم بالله فصدقوه » (١) يجعل يمينه في حكم الإقرار ، فإن المنكر مأمور بتصديقه بعد رد اليمين ، والتصديق والإقرار بمعنى ، والحاكم أيضا مأمور بترتيب آثار التصديق المأمور به ، فيكون حال اليمين المردودة حال الإقرار في الاثار الشرعية وحال المدعي حال المقر له.

وجوابه : ان تصديق الحالف إذا أخذنا بظاهره أفاد وجوب ترتيب آثار المصدق به لا آثار نفس التصديق ، نظير مفاد أدلة تصديق العادل ، فهو على خلاف الظاهر ، يعني كون اليمين بمنزلة البينة أولى.

[ عدم تمامية أدلة سقوط الدعوى مع النكول ]

والتحقيق أن إتمام ما ذكروه من الحصر بحسب القواعد اللفظية مشكل ، لان العمومات القاضية بالحصر قابلة للتخصيص ، وأدلة اليمين غير ناظرة إلى مدلول تلك العمومات حتى تكون مفسرة للبينة بل منافية لها ومعارضة لعمومها.

ولو سلم فغاية الأمر الشك في كونها مخصصة أو جاعلة لليمين بمنزلة البينة ، ومقتضى الشك الرجوع فيما يخالف القاعدة من أحكام البينة إلى الأصول والقواعد ، وكذا اقامة الدليل اللفظي على كونها بمنزلة البينة أو الإقرار أشكل.

والذي يقتضيه التأمل أن يقال في وجه الحصر : ان أمر اليمين في الواقع مردد بين كونها بمنزلة البينة في الأحكام الثابتة لها من حيث كونها حجة شرعية مثبتة للحق وبين كونها بمنزلة الإقرار كذلك ، لاشتمالها على التزام المنكر بقول المدعي بعد اليمين.

توضيح ذلك : ان اليمين المردودة قد اجتمعت فيها جهتان : جهة حكاية

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٩ من أبواب كيفية الحكم ح ٢.

٢١٥

عن الواقع وكشف عنه نظير كشف الأدلة الاجتهادية الحاكمة على الأصول ، وجهة التزام من طرف المدعي الراد ، لان وضع رد اليمين ومبناه على التزام الراد ـ وهو المنكر للحق ـ على تقدير حلف المدعي اليمين مثل الالتزام الذي هو في الإقرار. غاية الأمر ان المقر المخبر عن الواقع ملتزم بالحق المقر به منجزا والمنكر الراد ملتزم به معلقا على حلف المدعي ، فان كان الشارع لا حظ جهتها الاولى في جعلها حجة مثبتة للحق فلا بد أن تكون مثل البينة من الأحكام المجعولة لها من حيث كونها حجة لأمن حيث كونها بينة ، فان كان من الاحكام مالا يعقل انسحابه الى غير البينة ولو كانت شرعية مثلا الترجيح بالأعدلية ونحوها عند التعارض حيثما تلاحظ المرجحات ، ومثل الجمع بين البينتين إذا كانت شهادة أحدهما على المدعي بالتصريح والتنصيص والأخر على خلافه بنحو الإطلاق والظهور القابل للجمع مع الأول ، فإن مثل هذه الاحكام لا يعقل ثبوتها لليمين على تقدير كونها حجة شرعية كالبينة كما لا يخفى. ولعل الأصحاب المرددين لها بين الأمرين لا يريدون ترتيب مثل هذه الاحكام على تقدير كونها بمنزلة البينة ، كما سيظهر ذلك من بعض ما سنشير اليه.

وان كان الشارع قد لا حظ جهتها الثانية فلا بد أن تكون مثل الإقرار في الأحكام الثابتة له من جهة كونها التزاما بالحق لا الأحكام الثابتة له من جهة كونها إقرارا مثل كونه مكذبا للبينة التي يقيمها بعد الإقرار ، فإنه من خواص ذات الإقرار ، وحينئذ فيبطل كثير من الفروعات التي ذكروها ثمرة للنزاع :

مثل ما ذكروه فيما لو أقام المدعى عليه بينة على رد المال المدعى به بعد حلف المدعي اليمين المردودة من أنها لو كانت بمنزلة الإقرار لم تسمع كما لا تسمع فيما لو أقر بعدم الرد ولو كانت بمنزلة البينة على عدم الرد مثلا سمعت وقضي له ، اما لتقديم بينة الإثبات على بينة النفي وكذا على ما في حكمه ، أو لأن اليمين

٢١٦

المردودة إذا كانت بمنزلة البينة لم تكن تنفع من المدعي في المقام لكونها بينة على النفي ، وغير ذلك.

وجه البطلان : أنه لو قيل بأن اليمين مثل الإقرار لم يترتب عليها عدم قبول البينة بعدها ، لأنه من خواص ذات الإقرار باعتبار كونه تكذيبا للبينة ، فلا وجه لجريان مثله في اليمين أيضا.

ومثل ما ذكروه أيضا من عدم الاحتياج الى حكم الحاكم لو كانت بمنزلة الإقرار بخلاف ما لو كانت مثل البينة.

فإن هذه الثمرة أيضا لا تخلو عن إشكال ، لأن عدم احتياج الإقرار إلى حكم الحاكم يمكن القول بأنه من خواص ذات الإقرار ، لأنه سبب لارتفاع الخصومة والتشاجر ، وعدم الاحتياج الى الحكم لعله لأجل ذلك لا لأمر تعبدي ثابت في الإقرار ، وحينئذ نقول : الظاهر أن الشارع لا حظ جهة كونه حجة كاشفة عن الواقع في مقابل الأصول لوجهين : أحدهما ان مقتضى تصديق الحالف المأمور به ترتيب آثار الصدق لا آثار التصديق كما نبهنا عليه آنفا ، والثاني ان ظاهر رواية استخراج الحقوق بالأربعة المشار إليها كون اليمين بمنزلة البينة في إثبات الحق. واستخراجه بقرينتين :

الاولى ـ ان ظاهر الاستخراج كونها حجة ، فإنه لو كان بمنزلة الإقرار لم يتحقق بسببها الاستخراج ، بل المنكر باعتبار نكوله عن اليمين فقد سبب الى ثبوت حق المدعي ، بل الأمر في الإقرار الحقيقي أيضا كذلك ، كما ذكرنا في البحث عن الإقرار ، لأنه سبب لارتفاع الخصومة ، وأسباب ارتفاع الخصومة ليست أسبابا للمدعي في استخراج حقه ، لان صدق الاستخراج يتوقف على بقاء المنكر على إنكاره حتى يكون المدعي بواسطة إقامة حجة عليه مستخرجا لحقه ، وهو واضح.

٢١٧

والثانية ـ ان قرينة المقابلة تقتضي ما ذكرنا ، لان اليمين المردودة آخر الأربعة ، والثلاثة السابقة عليها كلها حجج للمدعي مثل البينة والشاهد واليمين ورجل وامرأتان.

لا يقال : قبل اليمين المردودة ذكرت في الرواية يمين المنكر ، وهي ليست حجة في شي‌ء بل أمرا قاطعا للخصومة ، فتكون اليمين مثلها لا مثل ما قبلها من الثلاثة.

لأنا نقول : يمين المنكر ذكرت في الرواية توطئة لذكر اليمين المردودة لا أصالة ، بأن تكون بيانا لميزان القضاء.

[ معنى كون اليمين بمنزلة البينة ]

ثمَّ الظاهر أن كونها بمنزلة البينة انما هو بالنسبة إلى المتخاصمين كما صرح به الشهيد في القواعد لا بالنسبة الى من عداهما ، لان ذكر اليمين في مقام استخراج الحق لا يزيد مؤداه على كونها حجة من حيث استخراج الحق لا حجيته في إثبات المدعى بقول مطلق كالبينة ، والأمر بالتصديق أيضا على تقدير دلالته على ترتيب آثار الصدق دون التصديق لا يدل على أمر زائد على ترتب الصدق من الحجية المزبورة.

ودعوى ان قرينة المقابلة تقتضي كونها مثل البينة. مدفوعة بأنه لو لا ما يدل على حجية البينة مطلقا من الأدلة والعمومات ، لما حكمنا بمقتضى هذه الرواية الواردة في مقام التنازع على أزيد من الحجية في حق المتخاصمين في البينة أيضا ، وحينئذ فلا ينتزع العين المتنازع فيها من المنكر بعد حلف المدعي إذا كانت العين في يد ثالث ، لأنها حجة بالنسبة إلى المنكر خاصة.

وفائدته التغريم للحيلولة إذا كان الثالث متلقيا للعين من المنكر ، فلو ادعى عينا أقر بها المدعى عليه لغير المدعي ونكل عن اليمين فحلف المدعي لم ينتزع

٢١٨

العين من يد المقر له ، لأنها ليست مثل البينة بالنسبة إلى الغير أيضا بل بالنسبة إلى خصوص المدعى عليه ، وفائدته حينئذ تغريمه قيمة العين للحيلولة.

فلو قلنا بأنها مثل الإقرار مبنى على كون الإقرار المسبوق بالإقرار لاخر سببا لضمان القيمة للحيلولة ، فمن يقول به كان كما إذا قيل بكونها مثل البينة فلا ثمرة ومن لا يقول به خرجت المسألة عن موضع إحلاف المنكر ، لأن الإحلاف لا يجوز فيما لو أقر الحالف لم يترتب على أثره إقرار ، بل من القواعد المقررة عندهم أن الحلف محله ما لو إقرار الحالف ينفع إقراره.

ومن هنا اتجه أن يقال : بناء على هذا القول ـ أي القول بعدم فائدة للإقرار الثاني ـ لم ينفع القول بكونها مثل البينة أيضا إذا كانت المماثلة بالنسبة إلى خصوص المتخاصمين ، لأنه إذا خرجت المسألة عن مورد الإحلاف باعتبار عدم نفع الإقرار فلا يكون مورده باعتبار كون اليمين المردودة بمنزلة البينة.

والحاصل انهم في مورد الإحلاف ذكروا للفرق بين إلحاقها باليمين أو بالبينة ثمرات ، وهو انما يتم لو كانت مثل البينة مطلقا حتى في حق غير المتخاصمين ، إذ لو لم تكن حجة إلا في حقهما لم يكن فرق بين القولين الا أن يجعل الإحلاف وعدمه من ثمرات المسألة ، كما جعله الشهيد في القواعد ، فإنه ذكر فيها أربع عشرة ثمرة أكثرها يرجع الى ذلك ، وحاصله : انه لو قلنا بأنها مثل البينة ولو من حق المتخاصمين احلف المقر ، وفائدته النكول وحلف المدعي ثمَّ التغريم » ، وان قلنا بكونها مثل اليمين لم يحلف إلا إذا كان للإقرار فائدة.

[ الادعاء على من يقر بغير ما يدعيه المدعى ]

ومن فروع المسألة أيضا ما لو ادعى زوجية امرأة مقرة بالزوجية لغير المدعي ، فعلى القول بأنها مثل الإقرار لم تحلف الا على القول بتغريم الإقرار

٢١٩

الثاني ، وأما على القول بكونها مثل البينة أحلفت على أي حال ، وفائدته رجاء النكول وحلف المدعي ثمَّ تغريمها المهر.

وظاهر كلمات الأصحاب المفروغية عن أنها ليست مثل البينة بقول مطلق حتى في حق غير المتخاصمين ، يعلم ذلك من كلماتهم في أبواب الفقه.

وهذا الشهيد الثاني قال فيما إذا ادعى الاثنان عينا في يد ثالث فأقر لأحدهما فلآخر إحلاف ذي اليد ، فان نكل وردها الى المدعي غرم قيمة نصف العين. ولم يفصل بين ما لو قيل بأن اليمين المردودة مثل البينة أو مثل الإقرار ، مع انها لو كانت مثل البينة في حق غير المتخاصمين أيضا لم يتجه الإحلاف في تغريم النصف ، لان التغريم لا يتم على القول بأنها مثلها مطلقا ، لان مقتضى ذلك استرداد نصف العين من يد الأخر المقر له.

ومثله المحقق في التداعي ، فإنه صرح في بعض فروعه بأن فائدة اليمين المردودة على القول بأنها مثل الإقرار التغريم لا استرداد العين. لكن ظاهر المحكي عن الدروس أنها لو كانت مثل البينة أثرت أثرها مطلقا حتى بالنسبة الى غير المتخاصمين ، حيث قال : انها ـ أي اليمين المردودة ـ كالإقرار فلا ينفذ في حق غيره ، وقيل كالبينة ، وهو بعيد. فان مقابلة القول بأنها مثل البينة في مقابل القول بأنها مثل الإقرار الذي لا ينفذ في حق غيره ، صريح أو ظاهر في أنها على تقدير كونها مثل البينة تنفذ في حق غير هما أيضا.

ومثله العلامة في باب النكاح فيما لو ادعى اثنان زوجية امرأة فصدقت أحدهما ، أنها لو ردت اليمين إلى الأخر فحلفت انتزعت من الأول للثاني.

فإن قلت : إذا كان لليمين المردودة جهتان جهة الإثبات وجهة الالتزام فلم لا يلتزم بمقتضى الجهتين حتى يكون قسما ثالثا ، فيلتزم بترتيب آثار البينة من حيث كونها حجة مثبتة وبآثار الإقرار من جهة اشتمالها على التزام المنكر بالحق

٢٢٠