كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

وحاصل هذا الوجه أصل ، وهو أن المنكر إذا كان قوله ملزوما لأمر وجودي صح منه إقامة البينة ، وانما لم يصح منه ذلك في النفي المحض الذي ليس له أثر وجودي ـ فافهم.

( والرابع ) المنع من عدم سماع البينة من المنكر ، وانما الفرق بينه وبين المدعي أنه مطالب به بخلافه فإنه غير مطالب الا باليمين ، ولكن لو أقام البينة لنمنع عدم قبولها منه لعموم أدلتها.

فإن قلت : ظاهر قوله عليه‌السلام « البينة على المدعي واليمين على من أنكر » (١) عدم سماع اليمين من المدعي والبينة من المنكر من وجهين : « أحدهما » التفصيل القاطع للشركة ، فلو كان المدعي والمنكر متشاركين في قبول البينة أو اليمين مطلقا أو في بعض الموارد كان التفصيل أو إطلاقه لغوا كما لا يخفى.

« وثانيهما » ان المسند إليه إذا كان محلى باللام أفاد حصره في الخبر ، سواء كان وصفا كقولك « الأمير زيد » أولا كقولك « الكرم في العرب » كما صرح أساطين علم العربية والبيان.

وقد ذكرنا في الأصول أن وجهه دلالة اللام حينئذ على ثبوت جنس المسند إليه في المسند ، وثبوت الجنس لشي‌ء بعد فرض كون المقام مقام البيان يستلزم ثبوت كل فرد ، وثبوت كل فرد في المسند يمنع من ثبوت بعض الافراد لغيره.

ويؤيده بل يدل عليه ما ورد في تقديم بينة الخارج وعدم قبولها من الذي في يده العين المتنازع فيها.

قلت : ما ذكرت من ظهور الرواية في الحصر المانع عن قبول البينة من المنكر مسلم ، لكنا نصرفها عن ظاهرها بقرينتين داخلية وخارجية :

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٢ من أبواب كيفية الحكم ، عدة احاديث بلفظ « البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه ».

١٨١

( أما الأولى ) فهي ان الفقرة الأخيرة بعد ورودها عقيب الاولى ـ نظير الأمر الوارد عقيب الحظر ـ لا يفيد سوى الرخصة. توضيحه : ان مفاد كلمة الاستعلاء في الفقرتين ليس هو الحكم التكليفي كما لا يخفى ، لوضوح أن اقامة البينة على المدعي ليس بواجب عليه ، بل الحكم الوضعي ، وهو اشتراط تحقيق مقالة المدعي بإقامة البينة وتحقيق المنكر مقالته باليمين ، ولما كان إقامة البينة كلفة دلت الفقرة الأولى على اشتراط ثبوت قوله بها وعدم كفاية شي‌ء آخر. وأما اليمين فهي وان كانت في نفسها كلفة في مقابل عدمها لكنها في جنب إقامة البينة أمر هين.

ومن الواضح أن سبق مطالبة الأمر الأسهل من المنكر بعد ذكر مطالبة الأمر الأصعب من المدعي لا يكون مؤداه سوى الترفيه والرخصة كالأمر بعد الحظر أو توهمه ، لا عدم اجزاء الأمر الأصعب على تقدير تبرعه به كعدم أجزاء أمر اليمين من المدعي.

ومما يدل على أن اليمين ليست كلفة مع وضوح أن المدعي إذا أريد الترفيه بحاله لعسر إقامة البينة عليه أو لنكتة أخرى سمع قوله باليمين. والحاصل ان الاكتفاء باليمين حقيقة تصديق لقول المكتفى عنه من غير كلفة ، وأما مطالبة البينة فهو رد لقول المطالب منه حقيقة ، ولذا يقال ان القول قوله بيمينه لا بنيته.

ومن هنا علم أن عدم ذكر البينة مع اليمين مع تساويهما لأجل استهجان ذكر الأثقل مع الأخف ، كالتخيير بين الأقل والأكثر.

ثمَّ لا يذهب عليك أن ذلك لا يستلزم التخصيص في الفقرة الأولى ، لأن مفادها حينئذ حصر مطالبة جميع أفراد البينة في المدعي ، وهو باق على عمومه ، لا حصر كفاية جميع أفرادها فيه ـ فافهم.

نعم كل ما يكتفى فيه من المدعي باليمين فهو تخصيص في الفقرة الاولى ، وكل ما لا يكتفى فيه من المنكر فهو تخصيص في الفقرة الثانية ، والتخصيص

١٨٢

الأول كثير وأما التخصيص الثاني فهو في الدماء أيضا ثابت ، وذلك لان ظاهر الفقرتين حصر المدعى في البينة والمنكر في اليمين أيضا لعين ما ذكرنا في حصر البينة في المدعى.

وحاصله : ان المسند المحلى باللام أيضا يدل على العموم ولو كان للجنس في مقام البيان لقاعدة الحكمة ، فمفاد « البينة على المدعى » أن كل بينة على المدعى وكل مدع عليه البينة ، وكذا مفاد « اليمين على المنكر » ، فكل موضع لا يكتفى من المنكر باليمين بل يطالب منه البينة فهو تخصيص في الفقرة الأولى باعتبار مدلولها بملاحظة تعريف المسند اليه وفي الفقرة الثانية أيضا باعتبار مدلولها بملاحظة تعريف المسند.

وأما القرينة الخارجية فهي ما ورد في الدماء من « ان الله تعالى حكم في دمائكم بغير ما حكم به في أموالكم ، حكم في أموالكم بأن البينة على المدعي واليمين على من أنكر ، وفي دمائكم بأن اليمين على المدعي والبينة على المنكر محافظة للدماء » (١). وجه كونها قرينة : أن الإجماع قائم على كفاية البينة في دعوى الدم فكذا في الإنكار في غير الدماء ، لأن المغايرة بينهما انما هي في كون المدعي في الدماء بمنزلة المنكر في غيره ، فالحكم الثابت في دعوى الدماء ثابت في المنكر في غيرها.

وما ورد أيضا من أن الله تعالى أوحى الى نبي من أنبيائه أن احكم بين الناس. فقال : يا رب كيف أحكم بما لم يره عيني ولا سمعت أذني؟ فقال : أحكم بالبينات وأضفهم إلى اسمي. قال المعصوم عليه‌السلام : هذا لمن لم يكن له بينة (٢). بناء على كون المراد بالموصول المنكر دون المدعي.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ٣ مع اختلاف في بعض الألفاظ.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

١٨٣

وما رواه أيضا في العيون في باب العلل من تعليل يمين المنكر بأنه جاحد لا يستطيع على إقامة البينة على الجحود (١). فإنه يدل على أن تعيين اليمين للمنكر مبني على الرخصة والترفيه وأنه لو استطاع على إقامة البينة ـ بأن كان إنكاره متضمنا لأمر وجودي قابل لا قامتها عليه ـ سمع منه ، الا أن الرواية وردت في إبداء الحكمة ، ولكنه لا يخلو عن نحو تأييد لما قلنا.

وأما رواية منصور (٢) الواردة في تقديم بينة الخارج والمصرحة بعدم قبول البينة من الذي في يده العين ـ أعني المنكر ـ فلا تنهض في منع قبولها في غير صورة المعارضة الذي كلامنا فيه ، لان البحث في أن المنكر هل يسمع منه البينة وهل تكون بينته مغنية عن يمين أم لا مع قطع النظر عن صورة التعارض؟ فيمكن الالتزام بمضمون الرواية في صورة المعارضة وجعلها دليلا على ترجيح بينة الخارج حتى يكون دليلا على المطلوب ، لان الترجيح فرع كون الطرف المقابل حجة.

ومن هنا يظهر سقوط ما أورده الفاضل في كشف اللثام على ما في القواعد حيث جمع العلامة فيها بين ترجيح بينة الخارج وبين سماع البينة من ذي اليد في صورة عدم المعارضة ، إذ لا منافاة بين عدم القبول في صورة التعارض لرجحان معارضة ذاتا وبين القول بحجيته بدون التعارض كما لا يخفى.

( الخامس ) ان تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعلية ومدخليته في الحكم ، فيستفاد من قوله « اليمين على المنكر » أنه من حيث إنكاره وجحوده لا يطالب ولا يسمع منه سوى اليمين ، فلو كان منكر يتضمن قوله ادعاء أمر وجودي مستلزم عقلا أو عادة لصدق إنكاره ـ كما في المقام وكما في صورة الاختلاف في وجه

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ٦.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ٣ من أبواب كيفية الحكم ح ٤.

١٨٤

الإجارة بأن قال الموجر آجرتك بعشرة وقال المستأجر بل بخمسة ـ فلا يستفاد منه عدم قبول البينة منه من حيث ادعائه لذلك الأمر الوجودي.

ودعوى أنه إذا اشتمل الإنكار على ادعاء أمر وجودي كان المنكر مدعيا من جهة وان كان منكرا من جهة إنكاره. مدفوعة بأن مجرد تضمن الإنكار لادعاء أمر وجودي لا يجعله مدعيا ، ولذا لا يحكم في مثله بالتحالف فلا يطالب اليمين في مسألة الاختلاف في وجه الإجارة الا من المستأجر ، على ما صرح به في المسالك ناسبا له الى المشهور ناقلا لخلاف الشيخ وقوله بالتحالف.

[ مواضع تقبل فيها بينة المنكر ]

وقد صرح غير واحد بقبول البينة من المنكر في مواضع :

« منها » ـ ما ذكروه في دعوى تلف المغصوب حيث حكموا فيه بسماع قول المدعي ـ أعني الغاصب ـ حذرا من لزوم تخليد الحبس والعقوبة.

وأورد عليه بالنقض فيما إذا أقام المنكر ـ أعني المالك ـ البينة على البقاء ، فلو لا إقامة البينة من المنكر الذي يقتدر على إقامتها باعتبار اشتمال مقالته على أمر وجودي كان النقض ساقطا غير صالح للإلزام على القوم.

« ومنها » ـ مسألة الاختلاف في وجه الإجارة المشار إليها ، فإن هذه أيضا مما صرح به في المسالك مرسلا له إرسال الواضحات.

والحاصل : ان مواضع سماع البينة من المنكر في كلمات القوم تصريحا وتلويحا كثيرة. نعم كثيرا ما يصرحون بعدم السماع أيضا في مسائل مخصوصة وعلى وجه الكلية أيضا ، كما صرح به المحقق في الشرائع والفاضل في كشف اللثام والسيد في محكي الرياض. لكن القدر الجامع بين الكلمات والأدلة يمكن أن يكون ما ذكرنا من التفصيل بين صور الإنكار والقبول فيما يتضمن منه

١٨٥

لادعاء أمر وجودي مسبب عن أمر عدمي. وعليك بالتأمل والنظر في كلماتهم.

لكن هذا التفصيل أيضا غير منضبط ، لان القول بسماع البينة من المنكر في كل مقام يتضمن إنكاره لأمر وجودي ولو بالاستلزام أيضا مشكل. مثلا لو أقام البينة على موت مورث مدعي الدين قبل تاريخ التمسك الذي تمسك به في دعوى الدين من جانب مورثه أشكل سماع بينته.

الا أن يقال : ان الميزان هو أن يكون الإثبات الذي يقيم عليه البينة متعلقا لغرض المنكر بالذات ، كإقامة المالك البينة على بقاء المغصوب ، فيخرج مثل إقامة البينة على موت المورث قبل تاريخ التمسك ، فان موته ليس متعلقا لغرضه بالذات بل باعتبار استلزامه لعدم اشتغال ذمته بالدين.

وهو أيضا مشكل ، لأن إقامة المستأجر البينة على قدر ما يدعيه من الأجرة أيضا إقامة لها على غير المقصود بالذات ، لان الغرض منها نفي ما يدعيه الموجر من الزيادة. وكيف كان فالنظر في الأدلة لا يبعد مساعدته على سماع البينة من المنكر إذا كان إنكاره مستلزما لأمر وجودي يكون متعلق غرضه ، وأما مساعدة كلمات العلماء لجميع جزئيات هذا الميزان فلا نلتزم به ولا نقول به.

[ سماع البينة من المنكر على ما ينفعه ]

ثمَّ ان المحقق القمي في محكي جواب سؤاله اختار ما قويناه من سماع البينة من المنكر حيث يقيمها على ما ينفعه ويحقق مقالته ، واستدل عليه بعد تزييف دلالة « البينة على المدعي واليمين على أنكر » على عدم السماع بقاعدة كون التفصيل قاطعا للشركة بما حاصله : ان التفصيل انما هو في الأمر الواجب على المتخاصمين دون الكافي ، فالمدعي والمنكر ممتازان في أن الأول يجب عليه إقامة البينة والثاني لا يجب الا اليمين ، بأمور :

١٨٦

« منها » ـ ما ورد فيمن ادعى على الباقر عليه‌السلام بغلة اشتراها من شخص فصدقه وسلمه البغلة ، ثمَّ ادعى سرجها أيضا فكذبه وقال « ع » : ان لي بينة على أن السرج لي (١). فإنه عليه‌السلام كان ذا يد على السرج ومع ذلك استند في كون السرج ماله إلى البينة.

ودلالته وان كانت محل مناقشة ، لأنه عليه‌السلام لم يكن معه في مقام المرافعة والخصومة بل في مقام بيان الواقع ، لكنه لا يخلو عن تأييد لما قلنا.

« ومنها » ـ قول أمير المؤمنين عليه‌السلام حين طالب منه أبو بكر البينة على ملكية فدك : حكمت بخلاف ما حكم به رسول الله « ص » من ان البينة على المدعى واليمين على من أنكر ، لم تطالب البينة مني ولا تطالبها من المسلمين (٢).

فان جوابه عليه‌السلام يشعر أو يدل على قبول البينة من المنكر ، والا كان عليه أن يقول لم تطالبني البينة مع أن المنكر لا يسمع منه البينة. وحاصله الى تقريره عليه‌السلام له على مطالبة البينة من حيث اشتمالها على فائدة له وردعه في تعيين المطالبة منه لا من المسلمين.

ومنه يندفع ما قد يتوهم من دلالة قوله عليه‌السلام « بخلاف ما حكم به رسول الله » على خلاف المقصود وان البينة من المنكر خلاف حكم رسول الله « ص ». وجه الاندفاع : ان المخالفة اما هي في المطالبة والتقرير انما هو في إفادة البينة فائدة في حق المنكر ـ فافهم.

ثمَّ ان كونه عليه‌السلام منكرا في ملكية فدك اما باعتبار كونها في يده أو باعتبار ما تقتضيه قواعد الميراث. ثمَّ ان دلالته أيضا خفية أو ممنوعة ، كما يظهر بالتأمل من وجوه ، لكنه لا تخلو عن نحو تأييد أيضا.

__________________

(١) الوسائل.

(٢) الوسائل

١٨٧

« ومنها » ـ ادعاء صاحب المهذب البارع الإجماع على أنه إذا تنازع اثنان في عين تحت يد هما قضى لمن كان له بينة إذا لم يقم صاحب البينة.

وأنت بعد الإحاطة بما قدمنا وبكلمات الأصحاب كالمحقق والفاضل الأصفهاني وصاحب الرياض المصرحين بعدم القبول والشهيد المتأمل في ذلك في الدروس وغيرهم تعرف ما في هذا الإجماع.

وأما ما ذكره في تزييف دلالة التفصيل على قطع الشركة وتبعه بعض مشايخنا ، ففيه ما لا يخفى ، لان قبول البينة من المنكر ينافي إيجاب اليمين عليه ، لأنه أحد فردي الواجب المخير.

ودعوى كون البينة مسقطة وان التكليف تعلق باليمين خاصة كما يقال مثل ذلك في بعض المقدمات. شطط من القول هنا ، لان اليمين والبينة ليس شي‌ء منهما تكليفا بل كل منهما مسقط محض.

وأما الإشكال الثاني فنقول في حسمه : تارة بعدم الفرق بين المقامين ، فمن يرى الإحلاف في بعض صور المقام الثاني الذي تأتي الإشارة إليه يلزمه القول به في المقام الأول في تلك الصورة أيضا. وأخرى بإمكان الفرق بينهما ، وهو أن البينة القائمة على الإعسار في المقام الأول ـ أعني غير المسبوق بالمال ـ لا بد أن تكون وافية بتمام المدعى ، بأن تكون نافية للاحتمال الخفي الذي علل بدفعه اليمين في المقام الثاني.

وأما البينة القائمة على الإعسار في المسبوق بالمال فستعرف أنها قد تكون وافية رافعة للاحتمال الخفي ، فيستغني عن اليمين حينئذ مثل الأول كما سنذكره ، وان تكون غير وافية محتاجة في تماميتها الى اليمين. فالبينة التي تحتاج الى اليمين لما كانت مختصة بالمقام الثاني ـ كما سنذكر ـ اختص اليمين به أيضا ، بخلاف المقام الأول فإن مثل هذه البينة لما لم تسمع في المقام الأول استغني

١٨٨

عن اليمين ، فالفرق بين المقامين انما جاء من قبل الفرق بين بينهما لأمن أنفسهما.

وانما لم تسمع البينة الغير الوافية في المقام الأول لأنه لا يلزم من عدم سماعها محذور ، إذ المنكر ـ أعني مدعي الإعسار في المقام الأول ـ ان شاء أن يستريح عن اليمين فعليه إقامة البينة الوافية وان عسر عليه إقامتها فيستريح الى اليمين ، إذ لا يطالب منه أزيد منها. بخلاف المقام الثاني الذي فرضنا كون مدعي الإعسار فيه مدعيا ، فان وظيفته ليس اليمين لكونه مدعيا ، فلو كلف بالبينة التامة لزم تخليد الحبس إذا عدمها ، فيقنع عنها بالبينة الغير الرافعية للاحتمال الخفي وينجبر ضعفه باليمين ـ فتأمل وانتظر تمام الكلام.

ثمَّ ان البينة المعتبرة في المقام الأول يعتبر فيها الخبرة والاطلاع التام بحال المدعى ، فان شهدت بالإعسار اعتمادا على الأصل لم تقبل وان قبل مثلها في غير المقام ، لأن الشهادة المستندة إلى الأصل انما تعتبر حيث تعتبر إذا لم يكن نسبة الأصل الذي استند اليه الشاهد الى الجميع سواء والا فلا معنى لقبول مثلها ، فاذا كانت الحالة السابقة في شي‌ء معلومة لكل أحد وشهد شاهد على طبقها بمقتضى الاستصحاب لم تنفع شهادته جدا ، فلو شهدت في المقام بالإعسار باعتبار كونه مطابقا للاستصحاب لم ينفع وانما ينفع لو كانت شهادته مستندة الى ما هو من خصائصه كالخبرة والاطلاع التأمين بحال المدعي. ومن هنا اعتبروا في بينة الإعسار الخبرة والاطلاع على بواطن الأمر.

فظهر أن البينة في المقام الأول على ثلاثة أقسام لاغية ومغنية عن اليمين وغير مغنية ، والاولى ما كانت مستندة الى الأصل ، والثانية ما كانت نافية للاحتمال الخفي ، والثالثة ما يبقى معه الاحتمال. وهذه قد عرفت الحال فيها وأنها لو لم تقبل في هذا المقام لم يكن بعيدا.

١٨٩

ثمَّ لو شك في كون البينة من الأولى أو الثانية فالكلام فيه مثل الكلام فيما احتمل استناد الشهادة إلى الحدس ، وقد مضى حكمه فيما تقدم.

[ الصور المختلفة في الشهادة على الإعسار ]

( وأما المقام الثاني ) فتفصيل القول فيه : ان دعوى الإعسار اما أن تكون مع العلم بسبق اليسار أو بسبق مال مخصوص واف بالدعوى كلا أو بعضا ، كما إذا كان أصل الدعوى مالا مثل ثمن المبيع أو القرض أو نحوهما مما يتضمن العلم بسبق مال معين باعتراف الخصمين. وعلى التقديرين فاما أن تشهد البينة على الإعسار أو على تلف المال أو الأموال.

ثمَّ ان الشهادة على كل من الإعسار أو تلف الأموال : قد تكون على وجه ينفي احتمال المال الخفي ، كما إذا شهدت على ارتداد مدعي الإعسار أو صلحه عن جميع أمواله شخصا أو بيعه أو نحو ذلك مما يستلزم عدم المال رأسا سرا وعلانية ، وقد تكون على وجه يبقى معه احتمال بقاء بعض الأموال السابقة أو تجدد مال آخر ، كما إذا شهدت بعد الخلطة التامة على تلف جميع أمواله الظاهرة بغرق أو حرق أو نحوهما ، فالصور ثمان :

( الاولى ) ما إذا شهدت على الإعسار مع العلم بسبق اليسار شهادة نافية للاحتمال الخفي.

وهذه لا إشكال في قبولها مجردا عن اليمين ، ولا يظن شمول كلمات من قال بالإحلاف مع البينة كالمحقق لمثل هذه الصورة ، خصوصا مع عدم مجي‌ء ما علل به من نفي الاحتمال الخفي فيها كما لا يخفى.

( الثانية ) مثل الصورة مع كون الشهادة غير نافية لاحتمال البقاء ، كما إذا شهدت بالعسر والضيق اللائقين بحال الفاقدين ، لا بما يلزم عقلا أو شرعا أو عادة

١٩٠

لفقدان المال ، فان الضيق قد يجامع المال الواقعي وان كان منشؤه غالبا عدمه.

وهذه مورد الإشكال الذي اضطرب فيه كلام بعض من تصدى لدفعه. وجه الاشكال : ان مدعي الإعسار في هذه الصورة مدع ، والمدعي لا ينفع يمينه سواء كانت بينته وافية بالمقصود أم لا ، غاية الأمر أنه إذا لم تكن وافية قضى لصاحبه بعد الحلف.

ولو قيل : ان المدعي فيما يعسر فيه اقامة البينة يكلف باليمين والمقام منه لان عدم المال الواقعي مما يعسر عليه إقامة البينة نوعا ولو كان مسبوقا باليسار ، لأن غاية ما يمكن أن يعلم به الشاهد هو تلف أمواله الظاهرة ، وهو غير مناف لبقاء شي‌ء من الأموال أو تجدد مال جديد مخفي ، فصار المقام ما يعسر فيه اقامة البينة نوعا ، فيكتفى فيه باليمين.

قيل : ان عسر إقامة البينة نوعا يوجب العدول الى اليمين رأسا ، وليس المقام كذلك ، لأنهم لا يقولون بحلف مدعي الإعسار إذا لم يكن له بينة وانما يقولون به معها ، فان كان المقام من موارد العسر لم يحتج إلى البينة والا لم ينفع اليمين أيضا ، فالجمع بينهما مما لا يساعده شي‌ء من القواعد.

وتفصى بعض مشايخنا قدس‌سره عن الاشكال ووجه الجمع بينهما ، بأنه قبل إقامة البينة الناقضة مدعي ضعيف الجانب ، فلا يكتفي منه باليمين بل عليه البينة ، وبعد إقامة البينة الناقصة يقوى جانبه نحو قوة جانب المنكر الذي اكتفي منه باليمين لقوة جانبه ، فيكلف باليمين كسائر الموارد التي يحلف المدعي لقوة جانبه باعتبار مساعدة الظاهر له ، مثل مدعي الإنفاق على الزوجة مع التيام الأخلاق ، وانما لم يقنع منه بتلك البينة القائمة لعدم وفائها بالمقصود وهو العسر الواقعي وعدم المال النفس الأمري. هذا غاية ما يحسن في توجيه كلامه.

وفيه بعد ونظر من وجوه :

١٩١

الأول ـ ان اليمين لا يدور مدار قوة الجانب ولو حصلت من الظهور مطلقا في مقابل الأصل. كيف وتقديم قول من يدعي على طبق الظاهر معدود محصور ثبت الحكم فيها بالأدلة الخاصة.

والثاني ـ انه على تقدير اعتبار الظهور مطلقا في سقوط البينة والإقناع باليمين فالمعتبر انما هو الظهور النوعي الداخلي لا الظهور الشخصي مطلقا ولا الظهور الخارجي مطلقا ، بأن يكون مستنده بعض الامارات الخارجية الغير المعتبرة ، كقول عدل أو عدلين غير ناهض بالمقصود ، وإلا لزم القول بحلف المدعي إذا كان له شاهد واحد ، وهو كما ترى.

والحاصل ان الظهور قد يكون حاصلا من الأمور الداخلية كدعوى إنفاق الزوج على الزوجة مع التيام الأخلاق ودعوى الزوجة الدخول مع الخلوة وسلامة الرجل من العيب ونحوهما مما يظهر فيه صدق المدعي في نفسه مع قطع النظر عن معاضدة أمارة خارجية ، وقد يكون خارجيا حاصلا من ملاحظة أمر خارج ، والمعتبر على القول بدوران الحلف مدار الظهور دون الأصل هو الأول دون الثاني.

والثالث ـ ان التقوية تحصيل في المقام الأول أيضا ، مع أن القائل باليمين في المقام الثاني لا يقول به في المقام الأول كما عرفته.

والذي يمكن أن يوجه به الجمع بين البينة واليمين هنا وترفع الاشكال هو أن يقال : ان عسر إقامة البينة باب في الفقه ، لسقوط البينة من المدعي شرطا أو شطرا أو رأسا ، بحسب اختلاف المقامات كما أومأنا إليه في بعض الالتقاطات السابقة. فقد يوجب سقوط بعض شرائطها كالذكورية كما في الموارد التي يكتفى فيها بشهادة النسوان ، وكالعدالة كما في موارد الاستفاضة ، وكالعلم كما في مواضع

١٩٢

قبول الشهادة الظنية مثل العدالة ونحوها ، وقد يوجب سقوط أصلها كما في الموارد التي يقدم قول المدعي فيها بيمينه.

وما نحن فيه من قبيل الأخير ، فان اقامة البينة على عدم المال الواقعي المخفي لما كان عسرا عدل عنه في مقدار العسر الى اليمين ، وانما لم يعدل عنها إليها رأسا لا إقامتها على عدم الأموال الظاهرية وعلى الضيق والشدة ليس عسرا ، فلا وجه لإهمال هذا المقدار من الميسور بالمعسور.

فنقول : ان مطالبة البينة لأجل إثبات ما يسهل إثباته من الضيق الكاشف عن عدم الأموال الظاهرة ومطالبة اليمين لأجل إثبات ما يصعب إثباته من عدم المال الباطني ، وهذا نظير موارد جريان قاعدة الميسور في العبادات ، فكما أن قاعدة الميسور قاضية بإهمال بعض أجزاء العبادات وشروطها المعسورة مع مراعاة الميسور كذلك قاعدة عسر إقامة البينة قاضية بإهمال القدر المعسور من مراعاتها شرطا أو شطرا.

ومن جملة الشروط أو الشطور وفاؤها بالمدعى بنفي الاحتمال الخفي ، فحيث لم تكن وافية فلينظر : فان كان في مراعاة الوفاء عسر عدل في التوفية إلى اليمين كما يعدل إليها لو كان العسر في أصل إقامتها.

ومنه يظهر وجه عدم العدول إليها مع عدم البينة ، لأن إقامتها ولو غير وافية ليس عسرا ، فلا وجه لإهمال الميسور بتعذر المعسور.

فان قلت : لو أن شخصا كان عليه إقامة البينة على تمام ما يدعيه من العشرة مثلا عسرا مع إقامتها على الخمسة فهل يحلف عدولا في القدر المعسور الى اليمين كما ذكرت؟.

قلت : المناط هو العسر النوعي لا الشخصي.

ومما ذكرنا ظهر أن اليمين في المقام ليست من قبيل اليمين الاستظهارية في الدعوى على الميت ونحوها ولا من قبيل جزء السبب كاليمين المنضمة مع

١٩٣

الشاهد في دعوى الأموال بل من قبيل اعتضاد السبب وجبران ضعفه في الدلالة والصراحة في المدعى بجابر ، لان اليمين الاستظهارية لدفع ما ربما يقال بعد ثبوت المدعى مثل دعوى الإبراء أو الوفاء أو نحوهما ، وهذا اليمين محتاج إليها في أصل ثبوت الدعوى. وكذا ضميمة الشاهد في دعوى الأموال جزء سبب شرعي كالشاهد ، بخلاف هذه اليمين فإنها ليست لدفع ما يقال بعد ثبوت الدعوى ولا جزء السبب الشرعي بل جابر دلالته.

( الصورة الثالثة ) أن تشهد على تلف الأموال في المسبوق باليسار شهادة نافية للاحتمال الخفي ، مثل أن تشهد على ما يستلزم شرعا أو عقلا لعدم المال الواقعي ، كالارتداد والبيع والصلح ونحوها ، وحكمها حكم الصورة الأولى.

( الصورة الرابعة ) مثل الصورة مع بقاء احتمال اليسار ، اما لاحتمال بقاء بعض الأموال السابقة حيث يحتمل خفاء بعضها على البينة واما لاحتمال تجدد مال بعد تلفها ، وحكمها حكم الثانية في الاحتياج الى اليمين.

وعليها ينزل قول العلامة بالإحلاف مع بينة التلف في موضع من التذكرة ، كما ينزل على سابقها قول من فرق بين بينة التلف وبينة الإعسار بعدم الإحلاف في الأول دون الثاني كالمحقق. وان كان هذا لا يخلو عن نحو تفكيك معيب في العبارة ، والا أشكل الفرق ولا يكاد يتم ، الا أن يقال : ان الشهادة على تلف الأموال السابقة نافية لاحتمال بقاء شي‌ء من الأموال السابقة تصديقا للبينة.

وأما احتمال تجدد المال. فهو مدفوع بالأصل كما في المقام الأول ، فإن كان يدعيه مدعي اليسار فله الإحلاف ، كما في المقام الأول ، بل هو منه حقيقة ، فلا يندرج تحت صورة العلم بسبق اليسار وان لم يدعه. فلا وجه للإحلاف ، لأن تلف الأموال المعلومة قد يثبت بالبينة بحيث لا يبقى معه الاحتمال الخفي كما في جميع المقامات ، لأن البينة إذا شهدت بشي‌ء فلا يلتفت الى احتمال

١٩٤

خطأها وغفلتها وجهلها بالواقع وغيرها من الأموال الخفية أو المتجددة يدعيها الخصم حتى يستحلف لأجله.

والحاصل ان شهادة البينة على تلف الأموال المعلومة على حد شهادتها على الارتداد مثلا في تلف الأموال الظاهرة ، واحتمال تجدد المال غير ضائر ، والكلام بالنسبة إليه مثل الكلام في المقام الأول فله حكم نفسه. واحتمال بقاء شي‌ء من الأموال المعلومة منفي في القسمين بالبينة ، وهكذا الكلام بالنسبة إلى احتمال خفاء بعض الأموال على البينة من أول الأمر ، فإنه مثل احتمال التجدد منفي بالأصل كالمقام الأول.

فظهر وجه كلام المحقق من أنه مع قيام البينة على التلف لا حاجة الى اليمين ، يعني بالقياس إلى الأموال السابقة وتلفها لا مع دعوى المدعي بعض الأموال غير التي شهدت البينة بتلفها ، أو دعوى تجدد بعض الأموال بعد التلف ، فإنه يندرج تحت المقام الأول المفروض عدم العلم باليسار ، ومع قيامها على الإعسار المطلق لا بد من اليمين ، لأن غاية ما تشهد به البينة هو ذلك الأمر الوجودي الذي قد تفارق عدم المال الواقعي ، فيكون دلالتها على المراد ـ وهو العسر الواقعي ـ ناقصة فيحتاج الى المكمل. الى آخر ما عرفت في الصورة الثانية.

لكن يبقى الكلام حينئذ في توجيه العكس الذي ذهب إليه في موضع من التذكرة ، وتوجيهه أن يقال : ان مفروض كلام الفاضل في بينة التلف أن تشهد البينة على تلف الأموال الظاهرة ساكتا عن الاحتمالات الخفية كما في الصورة الثانية.

وحينئذ فوجه اليمين في بينة التلف ما قلنا في بينة الإعسار من أن في رفع الاحتمالات الخفية بالبينة لما كان عسرا نوعيا عدل فيه الى اليمين عملا بالقاعدة المشار إليها.

ويوجه عدم اليمين في بينة الإعسار بحملها على ما لا يبقى معه الاحتمال الخفي كالصورة الأولى ، أو بما أشار إليه البعض من أن بينة الإعسار بعد فرض

١٩٥

خبرتها واطلاعها على بواطن الأمور تفي بالمدعي ، لأنها تثبت الضيق والشدة اللائقين بحال الفاقد. وبه يثبت الإعسار ، لأن الحكم الشرعي لا يناط على دفع الاحتمالات الواهية ولا على زيادة مداقة في الفحص عن البواطن ، فاذا ثبت أن الرجل يصبر على ما لا يصبر عليه الملي غالبا كفى ذلك في ثبوت إعساره ، ولا يلتفت الى الاحتمالات التي خفيت على البينة. وفيه تأمل والأول أولى.

كما أن ما وجهنا به كلام العلامة في بينة التلف أولى مما وجهنا به كلام المحقق في بينة التلف ، لان احتمال تجدد المال في صورة قيام البينة على التلف ـ وان كان في نفسه مخالفا للأصل ـ لكن استصحاب بقاء اليسار مع احتمال التجدد حاكم على أصالة العدم ، كما تقرر في استصحاب الكلي. وكذا احتمال خفاء بعض الأموال على الشاهد من أول الأمر ، فإن أصالة العدم وان كان بنفسه جاريا الا أن استصحاب كلي اليسار المحتمل وجوده في ضمن فرد آخر خفي غير الأفراد المعلومة العدم حاكم عليه أيضا كما تحقق في محله.

والحاصل انه متى حصل العلم باليسار السابق كان مدعي الإعسار مخالفا للأصل ، سواء كان احتمال اليسار باعتبار احتمال تجدد مال بعد التلف أو باحتمال خفاء مال غير الأموال الظاهرة أو باحتمال بقاء بعض الأموال الظاهرية ، فليس وظيفته اليمين بشي‌ء من الاعتبارات ، وحينئذ فلا فرق بين بينة التلف وبينة الإعسار المطلق في الاحتياج الى الحلف وعدمه.

وحاصل الكلام من أوله الى آخره : ان مع قيام الاحتمال الخفي لا بد من اليمين في بينة التلف وبينة الإعسار ، لما ذكرنا من القاعدة ، ومع عدمه فلا حاجة إليها.

ومن فرق بينهما فأحسن الوجوه في توجيهه حمل البينة على التلف في كلامه على غير البينة على الإعسار.

١٩٦

ومن الإحاطة بما ذكرنا يعرف الكلام في الصور الباقية الأربع ، كما يعرف الكلام من حيث الإحلاف وعدمه في المقام الأول الذي فرض فيه عدم العلم بسبق اليسار ، وان ما ذكرنا من الاحتياج الى اليمين في البينة الغير النافية جار فيه أيضا.

وان الفرق بينه وبين المقام الثاني مع فرض اتحاد البينة مشكل ، الا أن يتمسك بما نبهنا عليه من منع سماع البينة الغير النافية في المقام الأول ، نظرا الى ما لمدعي الإعسار فيه من المندوحة والاستراحة إلى اليمين على تقدير فقدانه البينة النافية الكاملة.

التقاط

[ حلف المنكر يسقط جميع حقوق المدعى ]

إذا حلف المنكر سقطت الدعوى في الحال والاستقبال ، وليس للمدعي مطالبته بالحق ولا الاقتصاص من أمواله كما كان له ذلك قبل التحليف ، ولا معاودة المحاكمة ولا تسمع دعواه لو فعل ، ولكن ذمة المنكر مشغولة بالحق ولا تحصل له البراءة في نفس الأمر.

وبهذا كله صرح في المسالك ناسبا له الى المشهور نافيا لظهور الخلاف فيه بعد فرض الكلام فيما إذا لم يقم على حقه بينة بعد الإحلاف.

ومستند المسألة أخبار بين الأمر بتصديق الحالف والرضا بيمينه عن الحق وبين المصرح بذهاب اليمين بحق المدعي وإبطاله وانه لا حق له على المنكر بعد الإحلاف وبين النافي للتقاص سرا.

وتوضيح الحال في المسألة : ان الدعوى اما أن تكون في الدين أو العين ، فان كانت في الدين فلا إشكال في عدم حصول البراءة الواقعية للمنكر بالحلف

١٩٧

للإجماع ظاهرا على وجوب التخلص عنه على المنكر فيما بينه وبين الله لو كانت اليمين كاذبة ، ولأنه إذا أقر بعد الحلف جاز المطالبة ظاهرا وباطنا كما سيأتي ، فلو كانت الذمة بريئة كان الإقرار لغوا ، لأنه إقرار بشي‌ء كان في ذمته قبل الحلف لا بعده ، وسيأتي توضيحه أيضا.

وكذا لا إشكال في عدم العود الى الدعوى ولا في عدم جواز المطالبة ، وأما حرمة المقاصة فلو لا ما دل عليها بالخصوص كان حالها نظير ما يأتي ، ولكن الخبر الوارد في جناية اليهودي صريح في عدم جوازها ، ولعله لا خلاف فيها معتدا به.

وأما ترتب سائر أحكام الملكية على وجه لا يكون فيه تعرض للمنكر ولا لحاله ظاهرا ولا باطنا ـ مثل الاحتساب من الزكاة والخمس ونحو هما ـ فمال بعض مشايخنا قدس‌سره في ملحقات كتابه إلى العدم ، استظهارا له من مثل قوله عليه‌السلام في الروايات « ذهبت اليمين بما فيه » (١) و « انها أبطلت كل ما ادعاه قبله » (٢) ، لكن الإنصاف انه محل تأمل بل منع ، لأنه ان أريد دلالتها على خروج ما في ذمة المنكر من الدين عن المالية رأسا نمنع إمكان دعوى الإجماع على عدمه ، لما عرفت من وجوب التخلص عنه على المنكر بلا خلاف ظاهر ، وعدم براءة ذمته في نفس الأمر المقتضي لاشتغالها بالدين ، فلا دلالة فيها على ذلك والإلزام القول بكون اليمين من النواقل إذا كان المدعى به عينا ، فان ذهاب جميع جهات الملكية والمالية في العين لا معنى له سوى خروجها عن ملك المالك ، ولعله مما لا يلتزم به أحد.

والتفكيك بين العين والدين بالتزام بقاء بعض الجهات المالية في الأول

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٩ من أبواب كيفية الحكم ح ٢.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ٩ من أبواب كيفية الحكم ح ١.

١٩٨

دون الثاني ، وان أمكن لكنه يحتاج الى دليل ، ولا دليل في خصوص العين لا يجري في الدين سوى قصور دلالتها على ذهاب جميع الجهات المالية.

ودعوى ان الدليل في العين هو الإجماع في مثل المقام. كلام قشري لا يليق بمن عرف الإجماع الناشئ عن دليل تعبدي والناشئ عن مقتضى القواعد العامة مع قصور دلالة المخرج. فاذا ثبت أن الذاهب انما هو بعض الجهات المالية لا جميعها فالقدر المتيقن منه ما قلنا من المطالبة أو التعرض لحاله الباطني أيضا.

ويؤيده ما في خبر آخر من النهي عن الأخذ بعد اليمين (١) مكان ما اشتمل عليه غيره من الإذهاب والإبطال ، فإن المقام وان لم يكن من موارد التخصيص أو التقييد الا أن المظنون اتحاد مفاد الكل. وان أريد دلالتها على بقاء الدين على حكم مال المدعي مع عدم جواز تصرفه فيه بشي‌ء من التصرفات ، فهذا في العين وان كان أمرا معقولا لكنه في الدين ليس بمعقول ، لأن مالية الدين ليس على حد مالية العين الراجعة الى صفة اضافية بينها وبين المالك ، بل هي عبارة عن صرف ترتيب أحكام المالية من التصرفات ، فبقاء المالية وعدم نفوذ شي‌ء من التصرفات فيه كالتناقض.

فان قلت : أثر بقاء المالية ممحض فيما يتعلق بالأخرة من العقوبات والمؤاخذة ونحو هما مما يترتب على شغل الذمة بحق الناس ، وأما ما يتعلق بالدنيا فلا ضير في عدم ثبوت شي‌ء منها.

قلت : ما يتعلق باشتغال الذمة في الآخرة ليس شيئا قابلا لإثبات صفة المالية للدين ، لأنك عرفت أن مالية الدين حقيقتها ترتيب أحكام المال وما يتعلق بالاشتغال في الآخرة ليس من الحكم الشرعي في شي‌ء ، مع أن المؤاخذة والعقاب

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١٠ من أبواب كيفية الحكم ح ١ و٢.

١٩٩

ونحو هما مما يرجع الى الأمور الأخروية ، يكفي في ترتبها مجرد الحلف الفاجر ولو قلنا بخروج المال عن المالية رأسا حتى في العين ، لأنه حينئذ بمنزلة الإتلاف التي لا توجب شيئا سوى الإثم والعقاب ، فلا يكون فرق حينئذ بين ثبوت بقاء المالية وذهابها رأسا ـ فافهم.

وقد يستدل أيضا بما دل على تصديق الحالف والرضا بيمينه عن الحق (١) ، فإن عموم التصديق بجميع الجهات المالية يقتضي الاعتراض عن جميع التصرفات وفيه مضافا الى ما عرفت في غيره أن وزان تصديق الحالف المأمور به هنا ، وزان تصديق المؤمن المأمور به في الاخبار ، وان المراد عدم الاتهام والتصديق المخبري الصوري لا ترتب آثار مطابقة قول المؤمن للواقع.

فان قلت : حكم الامام عليه‌السلام بذهاب اليمين بالحق ثمَّ استشهد بالنبوي الأمر بتصديق الحالف ، فيكون المراد بتصديقه أمرا غير محض عدم الاتهام والتصديق المخبري الذي لا يترتب عليه ذهاب العين بالحق وعدم جواز التعرض.

قلت : القدر المحتاج إليه في صحة الاستشهاد كون المستشهد له مما يندرج تحت الشاهد ، وأما اقتضاء الاستشهاد لعموم الشاهد فلا. بل قد يقال : ان الاستشهاد المزبور مما يوهن دلالة قوله عليه‌السلام « ذهبت اليمين » على عدم التعرض الباطني كالمقاصة ، ويوجب اختصاصه بعدم جواز المطالبة جهارا ، لان التصديق المأمور به ليس مؤداه سوى التجافي عن المعارضة والمخاصمة ، نظير تصديق المؤمن الفاسق مثلا.

ومما ذكرنا ظهر أن تعقيب الأمر بالتصديق في النبوي بقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله « ذهبت اليمين بحق المدعي أيضا » لا يعطي عموما في التصديق.

هذا كله مع أن الخارج عن تحت عموم الأمر بالتصديق أكثر من داخله ،

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٩ من أبواب كيفية الحكم ح ٢.

٢٠٠