كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

ففيه من الطفرة ما لا يخفى ، إذ ينبغي ذكر الشك أولا ثمَّ ذكر الوهم لأنه أقرب الى الظن. وان أريد به الظن ـ كما يراد به الاحتمال الموجود في موارد التهمة فمرجعه الى الظن أيضا ، فلا وجه للمقابلة.

ويمكن أن يقال : ان المراد به الظن المسبب عن امارة كالاحتمال الموجود في موارد التهمة ، فإن التهمة عبارة عن الرجحان الحاصل ببعض الامارات ، والمراد بالظن هو مطلق الرجحان حتى ترجع المقابلة الى مقابلة العام والخاص أو يعم الرجحان الحاصل من غير سبب. أو يقال : ان المراد بالظن الرجحان القوي وبالوهم الظن الضعيف.

( الثاني ) ان ظاهر كلمات القوم سماع الدعوى الظنية في موضعين : أحدهما دعوى الوارث بحسب ما يجده في ديوان أبيه وخطه ، والثاني دعوى الحاكم أو الإمام عليه‌السلام دينا لمن لا وارث له بمقتضى ديوانه ورسم خطه. فان ظاهر هم عدم الخلاف في إحلاف المدعى عليه فيهما والقضاء بالنكول على القول به.

ودعوى تنزيل المسألتين على صورة علم الوارث أو الحاكم بسبب ملاحظة الديوان لا يلائم تعليلهم بعدم رد اليمين الى الوارث والحاكم بعدم علمهما. ولعل الكلام فيهما يأتي.

التقاط

( في جواب المدعى عليه )

وهو اما إقرار أو إنكار أو سكوت. وزاد الأردبيلي وجملة ممن تأخر عنه قسما رابعا وهو قوله « لا أدري » ، ووجه عدم ذكر القدماء له اما مبني على غفلتهم أو ادراجهم إياه في أحد القسمين الأخيرين.

والأول في غاية البعد ، فأما ان الإنكار عندهم يعم نفي الواقع ونفي العلم ،

١٦١

أو يقال ان السكوت باعتبار احتمال كونه عن عناد أو جهل يشمل قوله « لا أدري » ، فإنه نحو سكوت عن التعرض لما يدعيه المدعي من الحق ، إذ الجواب لا بد أن يكون ناظرا الى نفس المدعى به وهو الحق لا إلى شي‌ء آخر لم يدعه المدعي ـ أعني العلم ـ فهو بالنسبة إلى الدعوى سكوت وان كان غير سكوت بنفسه.

والأول أقرب ، فإن الإنكار وعدم العلم متساويان في التمرد عن الحق ، وان كان الأول من حيث العلم بعدمه والثاني من حيث عدم العلم بوجوده. وربما يستظهر ذلك أيضا مما ذكروه في جواب الوارث للمدعي على مورثه بقوله « لا أدري » ، فإنهم يجعلونه من إنكار الوارث. نعم لا يترتب على الجواب بـ « لا أدري » حكم الإنكار من الاستحلاف أورد اليمين إلا إذا ادعي عليه العلم.

وكيف كان فإن أقر فالإقرار حجة مستقلة من غير الاحتياج الى ضم الحكم بلا خلاف ولا اشكال ، لعموم أدلة الإقرار. قال في الشرائع : أما الإقرار فيلزم إذا كان جائز التصرف ، وهل يحكم به عليه من دون مسألة المدعي؟ قيل لا ، لأنه حق له فلا يستوفي إلا بمسألته ـ انتهى.

وقوله « وهل يحكم » إلخ ، دليل على ما قلنا من أن الإقرار بنفسه ملزم ، لان المراد بقوله « فيلزم » ان كان إلزام خصوص الحاكم بالحكم لم يتأخر ذكر الحكم وشرطه ، وحينئذ فثمرة حكم الحاكم تظهر في بعض ما هو من خواص الحكم ، كحرمة النقض وأمثالها.

[ لا بد من الحكم بعد البينة لإثبات الدعوى ]

وأما البينة ففي المسالك من غير ذلك خلاف : ان الحق لا يثبت بمجرد إقامتها ، بل لا بد معه من حكم الحاكم. ثمَّ قال : والفرق ان البينة منوطة باجتهاد

١٦٢

الحاكم في قبولها وردها وهو غير معلوم بخلاف الإقرار ـ انتهى كلامه حسن مقامه.

وما ذكره من الفرق محل نظر ، لأن أدلة حجية البينة مطلقة كأدلة الإقرار ، فلا وجه لتقييدها بضم حكم الحاكم. مع أن الظاهر عدم الاشكال بل عدم خلاف معتد به في ثبوت الموضوعات بها كالحياة والموت والطهارة والنجاسة من غير حكم الحاكم. وكونها أمرا اجتهاديا محتاجا الى النظر لا يوجب عدم نهوضها في إثبات ما قامت عليه من الحق إذا كان أمرها من حيث العدالة وسائر شرائط القبول واضحا ، فينقل الكلام في البينة التي كانت حجة عند الكل.

والحاصل ان قضية ما يقضى به حجية البينة وكونها أمارة شرعية إلى الموضوعات ثبوت الحق بمجرد قيامها كالإقرار ، فلا وجه لاعتبار حكم الحاكم.

ومقتضى ذلك إلزام كل أحد للمدعي عليه بالحق بمجرد سماع البينة المقبولة عند السامع وترتيب آثار ثبوت ذلك الحق سواء كان ذلك الحق عينا أو دينا.

الا أنه قد يقال : ان ترتيب الغير آثار البينة من حيث ثبوت الحق فصل عملي للخصومة ، وقد ثبت أن فصل الخصومة بجميع أنحائه من خصائص الحاكم. توضيح المقام : انه إذا قامت البينة على اشتغال ذمة المدعى عليه مثلا فترتب الاثار عليه والجري على طبقه والالتزام بحجيته للكل في نفسه قبل الحكم عبارة عن جواز أخذ الحق عنه وإعطائه المدعي أو قبول المصالحة من المدعي على ذلك الحق أو التقاص من أمواله أو أخذ شي‌ء منه سرقة وإعطائه المدعي أو نحو ذلك مما يرجع الى تنزيل ذلك الدين المدعى به أو العين منزلة حقوق المدعي وأمواله.

ولا ريب أن ذلك فصل للخصومة بينهما عملا وان لم يكن حكما مصطلحا ،

١٦٣

ولذا يصح صدور الحكم من الحاكم على تقدير كونها حجة مستقلة أيضا وفصلها شأن الحاكم ليس الا.

ودعوى أن حجية البينة في ثبوت الحق مرجعها الى كونها بمنزلة العلم بالحق ، فكما أن العالم إذا عمل بمقتضى علمه وعمل مع ذلك الحق معاملة حق المدعي ، لم يكن ذلك منافيا لما ثبت من اختصاص القضاء بالحاكم ، إذ لا يقال له انه فاصل للخصومة ، بل عامل بمقتضى ما علمه من ثبوت ذلك الحق ، كذلك من قامت عنده البينة إذا رتب عليها الاثار لم يكن فاصلا للخصومة.

مدفوعة بأن المراد بالفصل ليس هو الحكم المصطلح حتى يقال ان العمل بمقتضى العلم أو البينة ليس فصلا لها ، بل المراد ما عرفت من مجرد تطبيق العمل على وفق حقيقة المدعي ولو سرا من غير التعرض للمدعي عليه ظاهرا. ولا ريب أنه مداخلة بين الخصمين من حيث ثبوت الحق وعدمه ونحو فصل عملي للخصومة.

فإن قلت : ينبغي حينئذ أن لا يجوز للعالم أيضا العمل بمقتضى ما علمه من ثبوت الحق للمدعي نظرا الى اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم.

قلنا : اعتبار العلم في ترتيب آثار المعلوم عقلي لا يقبل التخصيص ، بخلاف اعتبار البينة ، فإنه لما كان ثابتا من الشرع أمكن تخصيصها بغير الحقوق نظرا الى ما استفيد من أدلة القضاء من اختصاص الفصل بالقضاة.

ومن هنا يعلم أن ترتيب سائر آثار ما قامت عليه البينة غير جهة كونه حقا للمدعي مما يرجع الى تكاليف المرتب نفسه لا مانع منه ، فلو قامت البينة مثلا على نجاسة المبيع قبل حكم الحاكم بها وجب على من سمعها الاجتناب عنه وعن ملاقيه ، فان ترتيب هذا الأثر غير مرتبط بمسألة الفصل فيجوز ، وانما المرتبط به ترتيب أثرها من حيث فساد البيع وكون ثمنها ملكا للمشتري وجواز أخذه من البائع سرقة مثلا ودفعه الى المشتري.

١٦٤

[ موضع حجية البينة ]

والحاصل ان البينة حجة إذا لم تستلزم ثبوت حق على الغير وان استلزمت ثبوت حق على العامل بها ، كما لو شهد عند الوارث بينة على اشتغال ذمة أبيه بدين مثلا فيجب على الوارث وفاؤه لعدم الخصومة هنا ، وأما معها ـ كما لو شهدت على عين في يد زيد مثلا ـ لم يثبت كونها للمدعي وان لم يكن زيد منكرا ، لان حجيتها في إثبات شي‌ء على الغير موقوفة على ضم حكم الحاكم ، فحالها حال اليمين في كونها ميزانا للحاكم لا لغيره ، ويتفارقان من جهة حجية الأول في غير مقام الخصومة دون الثاني.

فإن قلت : لا دليل على اختصاص مطلق فصل الخصومة حتى العملي منها بالحاكم ، لأن أدلة القضاء وردت في الفصل القولي لا في مطلق الفصل.

قلت : يستفاد من مجموعها ـ ولو بملاحظة كونه من شعب الرئاسة المطلقة ـ أن المداخلة في أمر المتخاصمين من الجهة التي وقعت فيها الخصومة ـ أعني الحق وقطع النزاع ظاهرا وباطنا وبأي وجه كان ـ مختص بالحاكم.

ومما ذكرنا ظهر أنه كما لا يجوز الالتزام بآثار البينة سرا كذلك لا يجوز جهرا ، بأن يتعرض للمنكر ويلزمه بدفع الحق كما هو شأن الحاكم. بيانه : ان حجية البينة في إثبات الحق من غير انضمام الحكم اليه لها مراتب ثلاث : إحداها جواز ترتيب آثاره الراجعة إلى تكليف المرتب مدعيا وغيره دون الراجعة إلى نفس الحق نفيا وإثباتا ، وثانيتيها ترتيب جميع الاثار حتى ما يرجع الى ثبوت الحق لكن سرا من غير مزاحمة للمنكر في تكليفه كما هو شأن الحاكم خاصة ، وثالثتها الترتب مطلقا سرا وجهارا. والثابت من وجوه حجيتها هو الأول دون الأخيرين.

١٦٥

ثمَّ ان ما ذكرنا وجه مخرج لقول الأكثر بعدم حجية البينة إلا مع الحكم ، وصحته أو سقمه يحتاج الى مزيد تأمل في كلمات العلماء وأخبار البينة والقضاء.

[ الإقرار سبب لإلزام المقر بما أقربه ]

هذا كله في البينة ، وأما الإقرار فلا شبهة في أنه ليس بحجة في ترتيب الاثار الراجعة إلى تكليف من سمع الإقرار ، لأنه ليس طريقا شرعيا إلى إثبات الموضوعات ونفيها كسائر الامارات والطرق وانما هو سبب إلزام المقر بما أقر به ، لان قوله عليه‌السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » لا يدل على أزيد مما ذكرنا ، سواء كان الظرف متعلقا بالإقرار أو الجائز. وانما الكلام في سببيته للإلزام هل هي مشروطة بانضمام حكم الحاكم نحو حجية البينة أم لا ، وعلى الثاني فهل المراد بالإلزام ترتيب آثار ثبوت الحق سرا خاصة بحيث لا يزاحم المقر الراجع عن إقراره في ظاهر تكليفه أو ما يعم الإلزام الظاهري الذي يرد على تكليفه في الظاهر ، كما هو من خواص القضاء الاصطلاحي ، فإنه على ما سبق في صدر الباب عبارة عن إلزام الشخص بما لا يقتضيه تكليفه ، عكس الأمر بالمعروف.

توضيح المطلب : ان المقر إذا نكل ورجع عن إقراره وادعى شبهة داعية له إلى الإقرار الصادر ، فمقتضى القاعدة عدم مزاحمته فيما يراه بعد الإنكار من تكليفه ، خصوصا إذا علم منه الصدق في دعوى الشبهة وانه كان مشتبها في الإقرار الصادر منه ، لان هذه المزاحمة لا تنهض بإثباتها أدلة الأمر بالمعروف ولا غيرها من سائر الأدلة إلا ما قد يتوهم استفادته من أدلة الإقرار من أن نفوذه ومضيه عبارة عن قهر المقر وإلزامه بما أقر ، وان علمنا منه الشبهة في نفس الإقرار إذا كان أصل ثبوت المقر به محتملا ، فلا بد من النظر في القدر المستفاد من مثل قوله

١٦٦

« إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » فهل هو الإلزام بحيث لا يحصل المزاحمة له في تكليفه ، وحاصله إلزامه في أصل ثبوت الحق واقعا وجواز التقاص من أموالهم سرا أو نحو ذلك مما يرجع الى ثمرات اشتغال ذمته الواقعي إذا كان المدعى به دينا مثلا ، أو الإلزام مع المزاجمة المزبورة كما هو شأن الحاكم ، فنقول :

قد عرفت ان الإلزام على خلاف ما يقتضيه تكليف الشخص أمر من شعب الرئاسة المختصة بالإمام عليه‌السلام ونوابه ـ أعني الحكام ـ فيكون معنى جواز الإقرار ونفوذه حينئذ هو المعنى الأول.

فإن قلت : هذا المعنى أيضا غير لائق إلا بحال الحاكم ، كما مر في وجه عدم حجية البينة ، لأنه أيضا فصل عملي للخصومة ، والمستفاد من أدلة القضاء اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم كما قلت.

قلت : نعم لكن وزان قولهم « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » غير وزان قوله « البينة حجة » مثلا ، فان الظاهر المتبادر من الأول ـ لو لم نقل به الالتزام على خلاف ما يقتضيه التكليف الذي هو وظيفة الحاكم. فلا أقل من القول بكونه الإلزام في أصل ثبوت الحق من حيث أنه حق على المقر. وحينئذ فيخصص به ما استظهرنا من أدلة القضاء من اختصاص جميع أقسام الفصل بالحاكم ، وانما لم نقل بذلك في البينة بل قلنا بأن هذه الأدلة بملاحظة هذا الاستظهار تخصص أدلة حجية البينة بغير ما إذا تضمنت حقا على الغير باعتبار كون هذه الأدلة أخص من أدلة البينة ـ فافهم.

وأما اليمين فالظاهر أنه حجة من غير ضم حكم الحاكم بالبراءة ، فإذا حلف المنكر عند الحاكم ذهب حلفه بما فيه ، فلا يجوز تعرضه لا للمدعي ولا لمن يعلم بكذبه الأعلى تقدير جواز تعرضه بعد الحكم أيضا. والحاصل ان اليمين

١٦٧

قبل صدور الحكم وبعده على حد سواء ، لعموم أدلته وإطلاقها على وجه لا يتأمل في عدم اشتراطها بصدور الحكم ، فراجع اليه وتأمل.

[ مسائل من أحكام الإقرار ]

بقي أشياء :

( الأول ) انه إذا قيل بأن البينة يثبت به الحق قبل الحكم كالإقرار ، فهل يعتبر فيه ما يعتبر في مستند الحاكم من الشرائط أم لا.

بيانه : انه يعتبر في البينة التي هي ميزان للحاكم أمور اتفاقية وأمور خلافية ، ومن الأول أن تكون البينة القائمة على الحق حيا عند تحرير الدعوى ، فلا يجوز له الحكم بمقتضى البينة التي ماتت قبل المرافعة وأن لا يكون إقامة الشهادة منهم قبل سؤال الحاكم وغير ذلك من الشروط الاتية ، ومن الثاني أن لا يطرأ الفسق ما بين الإقامة والحكم ، فلو فسق بعدها لم يحكم بسببها على الخلاف الاتي إنشاء الله. وحينئذ فلا بد من التأمل في أن هذه الشروط هل هي معتبرة فيها على القول بعدم الحاجة الى حكم الحاكم أيضا أم لا.

والثمرة بينهما واضحة : فعلى الأول لا يجوز ترتيب آثار البينة التي أقامت الشهادة قبل سؤال السامع المرتب ، وكذا إذا كانا ميتين ، فإنه إذا لم يكن قد رتب الاثار حين سماعها ما لم يكن له الترتيب بعد الممات على هذا التقدير ، وهكذا الى سائر الشرائط. وعلى الثاني يجوز ترتيب الاثار بمجرد قيام البينة على أي وجه كان ، ولا ريب أن مقتضى إطلاق أدلة البينة عدم مراعاة تلك الشروط رأسا.

ومثل هذا القول هو النظر إلى إطلاق أدلتها ، فلا بد لمن يقول به أن يلتزم بحجيتها مطلقا ، وحينئذ فيشكل الأمر في كثير من فروعات هذا القول ، مثل ما إذا علم الحاكم بالبينة وماتت قبل المرافعة ، فإنه بمقتضى ما اتفقوا عليه ظاهرا

١٦٨

من عدم جواز الحكم بالبينة السابقة أن يكون وظيفة الحاكم حينئذ إحلاف المنكر الذي علم بقيام البينة على اشتغال ذمته. ومقتضى القول بحجية البينة مطلقا من غير انضمام الحكم اليه أن يجوز له ترتيب آثار الاشتغال ، وهذا أيضا مما يفصح بفساد القول المزبور ـ الى غير ذلك مما يتفرع عليه من غوامض المسائل ومشكلات الفروع.

( الثاني ) ان الفتوى في الشبهات الحكمية مثل الإقرار في الشبهات الموضوعية ، فكما أن الإقرار حجة قبل لحوق الحكم كذلك الفتوى في المرافعات التي منشأها الاشتباه في الحكم الشرعي ، بمعنى أن ما عند كل شخص من المدعي وغيره من الفتوى أو الاجتهاد يجوز له العمل سرا وترتيب آثاره باطنا من غير ترقب صدور الحكم على طبقه. وهذا من فروع ما أشرنا إليه في مسألة النقض.

( الثالث ) ان فائدة الإقرار في المال قد تتوقف على اعمال بعض الأصول العملية كما لو أقر بدين في الماضي ، أو اعمال بعض الأصول اللفظية كما لو أقر بلفظ محتمل لخلاف المقصود وظاهر فيه.

ولا إشكال في أن الحاكم يجري الأصلين ويأخذه بإقراره حالا في الأول وعلى حسب ما يقتضيه ظاهر لفظ الإقرار في الثاني. وأما غير الحاكم ففي الاقتصار على الإلزام به من غير أعمال الأصل مطلقا فيلزمه بدين الماضي في الماضي إذا كان هناك فائدة مترتبة على الاشتغال في الماضي دون الحال في الأول ، وبالقدر المتيقن من مدلول لفظ الإقرار لو كان هناك قدر متيقن يترتب على الإلزام به فائدة في الثاني ، أو الإلزام مع اعمال الأصل مطلقا ، أو التفصيل بين الأصل العملي فالأول واللفظ فالثاني ، وجوه :

« وجه الأول » ـ ان البينة أقوى الطرق الشرعية ، ولذا لا يعارضها شي‌ء منها ، وبعد ما عرفت أنها ليست حجة إذا تضمنت حقا على الغير الا للحاكم فما عداها

١٦٩

بطريق أولى ، بل الوجه المذكور في عدم حجيتها بعينه يجري في غيرها.

والحاصل ان الطرق الشرعية غير الإقرار الذي فائدته الإلزام خاصة كما ظهر ملغاة في إثبات الحق على الغير الا للحاكم ، لما استفدنا من أدلة القضاء من اختصاص جميع أنحاء الفصل بالحاكم سوى الإقرار ، فإذا لم ينهض الإقرار بإثبات الحق الا بضميمة غيره من سائر الطرق كان العمل به أيضا من خصائص المجتهد ، لان المستند إليه حينئذ حقيقة هو ذلك الطريق دون الإقرار بنفسه.

« ووجه الثاني » ـ أنه فرق بين الأصول وسائر الطرق التعبدية ، لأن العمل بالأصول أمر مركوز في أذهان العقلاء ، وتعبد الشرع بها يرجع الى نحو من الإمضاء ، وبعد ملاحظة بنائهم على العمل بها يكون الإقرار بالماضي مثلا إقرارا بالحال وبالظاهر إقرارا بالنص ، فيلزم بهما بمقتضى قوله عليه‌السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز ».

« ووجه الثالث » ـ أن الأصول العملية لو سلم كون العمل بها مركوزا في أذهان العقلاء فليست محققة لموضوع الإقرار بما يقتضيها ، بل انما هي سبب آخر للإلزام بالحق في عرض الإقرار ، فالإقرار سبب للإلزام في نفسه والأصل المسبوق به سبب آخر له عند العقلاء من غير أن يرجع الى الإقرار بحيث يندرج تحت اسمه.

كيف والمفروض أن المنكر غير معترف باشتغال ذمته الفعلي ، ومع عدم الاعتراف به كيف يصدق عليه أنه مقر وان كان عدم اعترافه غير مسموع عند العقلاء بل محجوجا عليه بالاستصحاب.

وهذا بخلاف الأصول اللفظية ، فإنها محققة لموضوع الإقرار ، فإن مجاري الإخبارات على الظواهر اللفظية ، فليس الإلزام بما يقتضيه ظاهر اللفظ إلزاما بشي‌ء آخر غير الإقرار حتى يندرج تحت الأصل الذي أصلنا من عدم نهوض

١٧٠

الطرق الواقعية في إثبات الحق سوى الإقرار.

وقد يناقش فيه : بأن قضية قوله عليه‌السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » الإلزام بما علم أنه أقر به ، وأما الإلزام بما ظن أنه أقر به فلا بد فيه من التماس دليل آخر ، كما قلنا نظير ذلك في رد من تمسك بحديث الثقلين على حجية ظواهر الكتاب والسنة ، فان كان ذلك الدليل هو بناء العقلاء ، فيرد عليه حينئذ ما أشرنا إليه في تأسيس الأصل المزبور من أن أدلة القضاء مخصصة للظنون المعتبرة بغير ما تضمنت حقا على الغير ، لأنه لا يترتب على بناء العقلاء على العمل بالظن اللفظي سوى حجيته في غير مقام إثبات حق على الغير بالنسبة إلى خصوص الاثار الراجعة إلى ثبوت الحق من حيث أنه حق لأمن حيثيات أخرى راجعة إلى تكليف الشخص كما مر.

الا أن يقال : ان الإقرار يشمل القسمين القطعي والظني ، فالدليل على الإلزام بمقتضى الإقرار الظني أيضا هو قوله عليه‌السلام « إقرار العقلاء على أنفسهم جائز » ، ويستند في شموله للقسمين الى بناء العقلاء ، على أن الاخبار بلفظ ظاهر في ثبوت الحق إقرار به.

وليس المقام نظير التمسك بحديث الثقلين على حجية ظواهر القرآن ، لان ظواهر القرآن ان لم يثبت حجيتها فلا ينفع فيها حديث الثقلين ، وان ثبتت حجيتها ببناء العقلاء استغني عن الحديث بل لا يبقى له معنى سوى الإرشاد مثل أوامر الإطاعة. بخلاف ما نحن فيه ، لأنه بعد ثبوت حجية الظواهر يتحقق موضوع الإقرار. وأما جواز الإلزام به بعد الصدق فنحتاج فيه أيضا الى أدلة الإقرار ، لما عرفت من أن أدلة حجية الطرق لا تنفع في المقام سوى دليل الإقرار ، فنحن نثبت أولا صدق الإقرار على ما يدل عليه ظاهر لفظ الإقرار لبناء العقلاء على حجية الظواهر ثمَّ نستدل على نفوذه بأدلة الإقرار ـ فافهم.

١٧١

( الرابع ) هل يجوز الحكم بعد الإقرار قبل التماس المدعي أم لا ، ومبنى المسألة أحد أمور :

الأول ـ انه لو قلنا بكون الحكم حقا للمدعي لم يجوز قبل مطالبته كما أشار إليه المحقق ، وان قلنا انه تكليف محض على الحاكم يرجع الى نحو الأمر بالمعروف ، وان لم يكن منه حقيقة فيجوز.

وانما قيدنا التكليف بكونه محضا لأنه لو كان فيه جهة الحقيقة أيضا توقف على مطالبة صاحب الحق أيضا. ومن هنا يعلم ضعف هذا المبنى ، لان الظاهر عدم كونه تكليفا محضا للحاكم وان لم يكن حقا محضا أيضا ، نظرا الى كون إحقاق الحق وكذا رفع الظلم عن الشخص واجبا شرعا مع توقفه على رضى المظلوم.

الثاني ـ انه لا شبهة في كونه حقا ، وانما الكلام في أن حقيته انما يتحقق بعد الالتماس ، كوجوب إقامة الشهادة واستحباب إجابة المؤمن فإنهما مأتيان بعد السؤال ، أو أنه حق قبل الالتماس أيضا. فعلى الأول لا يجوز أي لا يترتب عليه الأثر ، وعلى الثاني يجوز لان كونه حقا لا يقضي بعدم جواز أدائه قبل المطالبة ، كما في الدين فإن أداءه جائز طالب الدائن أم لا.

الثالث ـ انه لا إشكال في أنه حق مطلقا ، ولكن الإشكال في أنه من الحقوق التي تأخيرها أيضا حق لأربابها ، كالدين المؤجل على أقوى الوجهين ، لأن الدائن له الامتناع عن أخذ الدين وإبقاءه في ذمة المديون قبل بلوغ الأجل ، مع احتمال أن يكون التأجيل محض الترفيه لحال المديون فلا يكون للدائن الامتناع أم لا. فعلى الأول لا يجوز ، لا حقيقة الشي‌ء إذا كانت بيد ذي الحق فعلا وتركا لم يجز أداؤه قبل المطالبة ، وإلا جاز وان لم يجز مع المنع لان كون الشي‌ء حقا لا يقضى بتوقف أدائه على المطالبة مطلقا ، لأن الإذن النوعي الموجود

١٧٢

في نوع ذوي الحقوق يكفي في المطالبة ، نعم إذا منع كان ذلك في حكم الاسقاط عن الحكم ـ فتأمل.

الرابع ـ انه لا إشكال في كونه من الحقوق التي فعلها حق وتركها أيضا حق ، وأنه يتوقف على رضاء صاحب الحق ومطالبته ، وانما الكلام في اكتفاء شهادة الحال في الاذن والمطالبة وعدمه أو في وجود شهادة الحال وعدمها ، وأوجه الأمور ثالثها.

التقاط

( في دعوى المدعى عليه الإعسار )

قال في الشرائع بعد ذكر أقسام الجواب وبعض ما يجري في مجلس المرافعة وأحكامها : ولو ادعى الإعسار كشف عن حاله ، فان استبان فقره أنظره ، وفي تسليمه الى غرمائه ليستعملوه أو يؤاجروه روايتان ، أشهرهما الانظار حتى يوسر ، وهل يحبس حتى يتبين حاله؟ فيه تفصيل ذكر في باب المفلس.

وفي هذه العبارة إجمال وإغلاق ، لأن المراد بكشف الحال يحتمل أن يكون الكشف الشرعي بمطالبة البينة أو الإقرار وأن يكون الكشف الحقيقي بالفحص والتجسس من المطلعين على حقيقة الحال.

وعلى الأول يكون المراد بعدم تبين الحال الذي يدل عليه قوله أخيرا « وهل يحبس حتى يتبين الحال » عدم البينة والإقرار ، وبالتفصيل المذكور في باب المفلس ما ذكره هناك من الحبس مع وجود مال ظاهر بيده وعدم الحبس مع عدم وجوده.

وعلى الثاني يكون المراد بعدم تبين الحال عدم انكشاف الحال بالفحص

١٧٣

وبالتفصيل المزبور هناك في قواعد القضاء من مطالبة البينة والاستحلاف وغير هما مما ذكره هناك.

وظاهر عبارة المسالك ينطبق على الأخير كما يظهر للمتأمل ، كما أن عبارة الفاضل في القواعد صريحة أيضا في ذلك ، حيث فرض البحث مع جهل الحال بعد فقد البينة والإقرار ، فإن البحث بعد فقد هما لا معنى له سوى الانكشاف الحقيقي. وحينئذ فيشكل على عبارة الشرائع هذه ، حيث أوجب أولا كشف الحال بالفحص ثمَّ استعمال البينة وسائر موازين القضاء ، إذ ليس في الدعاوي ما يكون حاله كذلك ، بأن يوقف الاستحلاف أو طلب البينة حتى يتفحص الحاكم عن حقيقة الحال. الا أن يقال : ان الإعسار من الموضوعات التي يتوقف استعمال الأصل فيها حتى يتفحص ـ فتأمل.

ثمَّ أن في العبارة إجمالا آخر ، من حيث أنه لم يعلم أن مفروض الكلام دعوى الإعسار قبل الحكم بعد ثبوت الحق أو بعد الحكم ، وان كان ظاهر المسالك هو الأخير ـ فراجع وتأمل.

[ هل يحتاج في إثبات الإعسار إلى اليمين؟ ]

ثمَّ ان مسألة دعوى الإعسار كلمات الأصحاب فيها مضطربة من حيث الاحتياج الى اليمين بعد إقامة البينة وعدمه ، ففي الشرائع في باب المفلس : ان المعسر إن أقام البينة على تلف المال الذي كان بيده لم يحتج الى اليمين ، وان أقامها على مطلق الإعسار فللغرماء إحلافه. وفي موضع من محكي التذكرة عكس ذلك ، وفي موضع آخر منه أنه لا يمين في الموضعين.

ولنكشف الحال في المسألة بعد ذكر مقدمة يتبين بها المدعي من المنكر في مسألة الإعسار

١٧٤

اعلم أن الإعسار أمر وجودي ينشأ دائما من عدم المال ، لأنه عبارة عن نحو ضيق في المعيشة وسوء حال في المعاش ، نظير الفقر والفاقة ، فان الفقر عبارة عن الاحتياج الذي هو أمر وجودي ، ومنشؤه عدم المكنة والثروة وفقدان المال.

ودعوى أن مفهوم العسر عين ذلك المفهوم العدمي ـ أعني عدم المال ـ شطط من الكلام يعرف وجهة من ملاحظة افتراقهما كثيرا ، فإن الإنسان قد يكون في سعة من أمر معاشه مع فقدانه المال رأسا ، كواجبي النفقة مثل الولد والزوجة بل العبد أيضا إذا كان متنعما بأنواع النعم ، فإن هؤلاء كثيرا ما لا يكونون في العسر والضيق ، سواء كان لهم مال يبذل فيما عليهم من الحقوق كالدين والجناية أم لا.

ودعوى أن هؤلاء إذا لم يستطيعوا أداء ما عليهم من الحقوق فيكونون أولي الإعسار بالنسبة إلى أداء الحق وان لم يكونوا كذلك بالنسبة إلى مئونة المعاش.

مدفوعة بأن مجرد ثبوت الحق في الذمة مع قطع النظر عن مطالبة صاحب الحق ووجوب أدائه شرعا ليس مما يصدق به الإعسار العرفي ، وكلامنا في تشخيص المعسر الذي يبحث عن جواز مطالبته وعدمه. وهذا الإعسار لا يعقل أن يكون تحققه بعد المطالبة ووجوب الأداء ، لأن الشي‌ء إذا كان مقدما على شي‌ء آخر في المرتبة امتنع أن يكون ذلك الشي‌ء المقدم من أحكام ذلك الشي‌ء المؤخر. وهنا لما فرضنا أن للمطالبة مدخلية في تحقق الإعسار كانت مقدمة عليه طبعا ، فيمتنع أن تكون من أحكامه وجودا وعدما.

والحاصل ان غرضنا تشخيص الإعسار الذي نتكلم في جواز المطالبة وعدمها معه وبيان مورد افتراقه عن ذلك المفهوم العدمي ـ أعني عدم المال ـ لا بيان مطلق الإعسار حتى ما يمتنع أن تكون المطالبة وجودا وعدما من أحكامه

١٧٥

كالاعسار الذي يتحقق موضوعه بعد المطالبة ، وهذا هو الذي لا يفارق عدم المال ، وأما الأول فقد عرفت مفارقته عنه.

فان قلت : الحكم هو جواز المطالبة وعدم الجواز لا نفس المطالبة ، فلا يمتنع عروضه للإعسار الذي يتوقف على المطالبة حرمة مطالبة المعسر مطلقا سواء كان معسرا بدون المطالبة أو بعدها.

قلت : نعم لكن ذلك أيضا لا يبطل ما ادعيناه من مفارقة عدم المال عن الإعسار ، لأنا نفرض من سمعت غير مطالب بدين أو حق ، فان العسر حينئذ غير متحقق مع عدم المال رأسا.

[ في مفهوم العسر ]

وكيف كان فلا شبهة في أن مفهوم العسر أمر وجودي لكن مع ملاحظة أمر عدمي ، وهو فقدان المكنة الموجودة في صورة اليسار التي يتحقق بسببها مفهومه.

توضيح ذلك : ان اللفظ قد يكون معناه وجوديا محضا وقد يكون عدميا كذلك وقد يكون أمرا وجوديا ملحوظا فيه معنى عدمي ، وذلك مثل لفظ « الحد » فإنه عبارة عن جزء وجودي لا يكون بعده جزء آخر ، ومثل « اللازم » فإنه عبارة عن أمر وجودي لا ينفك عن وجودي آخر ، ومثل « الإلزام » فإنه عبارة عن أمر وجودي وهو مرتبة خاصة من الطلب مع عدم الرضا بالترك ، ومثل « الحبس » فإنه عبارة عن كون الشخص في مكان بحيث لا يقدر على الكون في مكان آخر ، ومثل « الشرط » فإنه عبارة عن شي‌ء وجودي أو عدمي يلزم من عدمه عدم شي‌ء آخر ـ الى غير ذلك من الألفاظ الدالة على أمور وجودية مع ملاحظة أمر عدمي ، بحيث لو جرد ذلك الوجودي عن ملاحظة ذلك المعني العدمي كان إطلاق اللفظ عليه غلطا ويحتاج الى لفظ آخر.

١٧٦

وما نحن فيه من هذا القبيل ، فان العسر اسم لمرتبة من المكنة بملاحظة فقدانها للمكنة الموجودة في صورة اليسار ، لكن مناط الحكم الشرعي ـ وهو حرمة المطالبة ـ الظاهر هو ذلك المفهوم العدمي.

وحاصله : كون اليسار الذي هو عبارة عن مقابل ذلك العدمي شرطا لجواز المطالبة لا كون الإعسار مانعا ، وان كان ظاهرا صدر قوله تعالى « وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ » (١) ذلك ، لكن ذيلة ظاهر فيما قلناه ، أعني كون اليسار شرطا للمطالبة و

عدم اليسار موضوعا لحرمة المطالبة دون العسر الذي هو الوجودي. توضيح ذلك : أن معنى الانظار هو الإمهال ، والإمهال أمر عدمي محض وقد علق وجوبه بمقتضى صدر الآية على العسر الذي قد عرفت أنه أمر وجودي ملحوظ فيه أمر عدمي.

وتعليق أمر عدمي على شي‌ء وجودي يدل على مانعيته للوجود ، كما في قوله عليه‌السلام « إذا بلغ الماء قدر كر لم ينجسه شي‌ء » (٢) فان أخذنا بظاهر الصدر لزم الحكم بأن العسر هو المانع عن المطالبة وأنه الموضوع للحكم الشرعي.

لكن لما كان ملاحظة عدم اليسار معتبرا في معنى العسر جاز أن يقال ان : تعليق الإمهال على العسر باعتبار كون ذلك المفهوم العدمي الذي هو لازمه سببا لعدم المطالبة وكون نقيضه الذي هو اليسار شرطا لجوازها.

وهذا الاحتمال في نفسه خلاف ظاهر الصدر ، لكن إذا نظرنا الى نفس الإنظار إلى حصول الميسرة فيتعين ذلك ، لأنه صريح في أن الميسرة شرط لجواز المطالبة شرعا كما أن القدرة شرط للتكليف عقلا ، فيكون سبب الحرمة عدم ذلك الشرط لا الأمر الوجودي المقارن له ـ أعني الإعسار.

__________________

(١) سورة

(٢) الوسائل ج ١ ب ٩ من أبواب الماء المطلق ح ١ بلفظ « إذا كان الماء قدر كر. ».

١٧٧

ومما ذكرنا ظهر ما في كلام من زعم أن العسر مانع عن المطالبة ، وليس عدم المال والمكنة شرطا وسببا لحرمة المطالبة. ويتفرع على ذلك أن دعوى الإعسار مطابق للأصل ، لأنه في الحقيقة دعوى لأمر عدمي ، أعني عدم اليسار على الوجه الذي بينا. وعليه اتفقت كلمات الجل أو الكل ، حيث يعللون يمين المعسر بأنه منكر وبأن الإنسان خلق معسرا كما عن الشيخ.

نعم لو بنينا على أن العسر مانع وان حرمة المطالبة متفرع على ثبوت العسر لا أن جوازها مشروط باليسار كان مدعي الإعسار مدعيا مخالفا للأصل.

إذا تمهدت المقدمتان فالكلام في دعوى الإعسار يقع في مقامين : أحدهما دعوى الإعسار بدون العلم بسبق المال ، والثاني دعواه فيما كان هناك مال سابقا أو كان أصل الدعوى مالا مثل القرض وثمن المتاع.

[ دعوى الإعسار بدون العلم بسبق المال ]

( أما الأول ) فظاهر الجل كالمحقق والعلامة والشهيدين « ره » أنه لو أقام فيه على إعساره بينة خلي سبيله.

قال في الشرائع في باب المفلس : وان لم يكن له مال ظاهر ـ أي للمفلس ـ وادعى الإعسار فإن وجد البينة قضى بها وان عدمها وكان قبلا له أصل مال أو كان أصل الدعوى مالا حبس حتى يثبت إعساره ، وإذا شهدت البينة بتلف أمواله قضى بها ولم يكلف اليمين ولو لم تكن البينة مطلعة على باطن أمره ، أما لو شهدت بالإعسار مطلقا لم تقبل حتى تكون مطلعة على باطن أموره بالصحبة المؤكدة ، وللغرماء إحلافه دفعا للاحتمال الخفي ، ولو لم يعلم له أصل مال وادعى الإعسار قبلت دعواه ولا يكلف البينة وللغرماء مطالبته باليمين ـ انتهى موضع الحاجة من كلامه قدس‌سره.

١٧٨

ودلالته بل صراحته في أن البينة يكتفى بها من مدعي الإعسار مطلقا حتى فيما لو لم يعلم أصل مال ، واضحة بشهادة ترك الاستفصال ، لأنه أطلق القضاء بالبينة مع وجودها ، وفصل في صورة عدمها بين المقامين في الحبس واليمين. وقريب منه عبارة القواعد.

وأما عبارة الشهيد في اللمعة فيمكن استفادته منها أيضا ، قال فيها : فان ادعى الإعسار وثبت صدقه فيه ببينة مطلعة على باطن أمره أو بتصديق خصمه له أو كان أصل الدعوى بغير مال وحلف ترك.

فان الترديد في عبارة المصنفين غالبا أو دائما محمول على منع الخلو ، وعلى هذا يكون مقتضاه أن صدق دعوى الإعسار يثبت بالبينة مطلقا ، سواء كان الدعوى بمال وهو المقام الثاني أو بغير مال كما هو المفروض في المقام الأول.

نعم لو حمل الترديد على منع الجمع لم يدل على كفاية البينة في المقام الأول بل يدل على عدم الكفاية. وأما عبارة الروضة وشرحها فصريحة في قبول البينة حينئذ ، بل بعدم الافتقار الى اليمين بالأولوية ، خلاف ما ذكره جماعة في صورة سبق المال أو كون الدعوى مالا من جواز إحلاف مدعي الإعسار مع إقامة البينة أيضا.

بل لعل ما صرح به في الروضة من عدم اليمين في المقام الأول مع إقامة البينة يمكن القول بأنه ظاهر الشرائع والقواعد وكل من أطلق القول بكفاية البينة في ثبوت الإعسار ، وحينئذ فيشكل المسألة من جهتين :

( إحداهما ) ان دعوى الإعسار في المقام الأول ـ أعني ما إذا لم يعلم له مال سابق ولم يكن أصل الدعوى مالا ـ ان كانت مطابقة للأصل كما قلنا فلا وجه للاقناع عنه بالبينة ، لأن المنكر لا يسمع منه البينة ، بمعنى أنه لا يكتفى بها ، وان كانت مخالفة للأصل فلا وجه للاكتفاء منه باليمين كما هو صريح الشرائع

١٧٩

وغيره ، لان المدعى لا ينفع له اليمين. فأما أن يقال : ان مدعى الإعسار في هذه الصورة مدعي لكن يطالب باليمين أيضا استظهارا ـ كما في غير موضع ـ أو يقال انه منكر ولكن تسمع منه البينة ، على خلاف القاعدة.

( وثانيتهما ) ان البينة على الإعسار في المقام الثاني قد صرح بعضهم كالمحقق بأنها لا تغني عن اليمين أيضا. والفرق بينه وبين المقام الأول غير واضح ، فلا بد لمن يرى جواز الإحلاف مع البينة في المقام الثاني القول بجوازه في المقام الأول أيضا.

ويمكن الجواب عن الإشكال الأول بوجوه :

« الأول » ـ المنع عن قبول البينة من مدعي الإعسار في المقام الأول ، فإن المصرح به قليل مع إمكان منع دلالة عبارة المحقق مع تصريحه بعدم مطالبة البينة حينئذ ـ فارجع وتأمل.

« والثاني » ـ ان دعوى الإعسار بعد ثبوت الحق مخالفة لأصالة الاشتغال المقتضية للبراءة ، فيكون مدعيها مدعيا ، لان الثابت في ذمته مأمور بالأداء ، فادعاء العسر حينئذ ادعاء للبراءة بعد ثبوت الاشتغال ، فيكون مخالفا للأصل. وفيه نظر واضح.

« والثالث » ـ ان الإعسار قد عرفت أنه أمر وجودي ملحوظ فيه العدم ، وكل شي‌ء يكون كذلك يمكن مطالبة البينة عليه باعتبار جزئه الوجودي واليمين باعتبار جزئه العدمي.

فإن قلت : مطالبة البينة على الجزء الوجودي بعد عدم كونه موضوعا للحكم الشرعي بل الموضوع هو ذلك الجزء العدمي لا وجه لها.

قلت : لما كان ذلك الجزء الوجودي مسببا عن ذلك الجزء العدمي كما عرفت كانت البينة عليه مثبتا لذلك العدم بالملازمة الانية.

١٨٠