كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

فان قلت : فرق بين الاخبار بالعدالة الواقعية اعتمادا على الظن الحاصل من الأصل وعدم الوجدان بعد الفحص وبين الاخبار بالعدالة الظاهرية أعني الملكة مع عدم العلم بالفسق ، فإن الأول يعارض اخبار الجارح بالفسق قطعا غاية الأمر كون المقام من قبيل تعارض الظني والقطعي ، والثاني لا يعارضه جدا.

ضرورة عدم المنافاة بين عدم العلم بالمعصية والعلم بها ، وظاهر الاخبار بالعدالة هو الأول ، ولذا استدل في المسالك على تقديم الجرح بأنه مستند الى الحس والتعديل مستند الى عدم المعاينة والأصل ، وهما ظنيان فكان الأول أولى. فإذا ثبت التعارض فالعمل بالجرح طرح لقول المعدل لا جمع بينهما ، فينبغي ملاحظة المرجحات كما ذكره المحقق المشار اليه.

قلت : لو سلمنا ان ظاهر الاخبار بالعدالة اخبار بالعدالة الواقعية اتكالا على الظن الحاصل من عدم الوجدان ، فليس بينه وبين الجرح أيضا معارضة أصلا.

[ الكلام في الامارة وكيفية قبولها ]

والنكتة في ذلك أن الامارة إذا كانت بحيث تزول ذاتا بالعلم بخلافها كانت نسبتها الى كل أمارة إلى خلافها كنسبة الأصل إلى الدليل في عدم المعارضة ، وانما تقبل الامارة للمعارضة إذا لم يكن العلم بالخلاف رافعا لموضوعها بل لحكمها ، كالخبر مثلا فان العلم بكذبه لا يرفع ذاته بل اعتباره ، لان الخبر خبر في صورة العلم بالكذب أيضا بخلاف عدم الوجدان وعدم الدليل وعدم البيان ونحوها من الامارات العدمية بعد الفحص والتتبع ، كأصل البراءة أيضا على القول باعتبارها من باب الظن ، فان العلم بالوجود أو الدليل أو البيان يضاد أنفسها ويوجب زوال ذواتها لا أنه يوجب عدم اعتبارها.

فعدم وجدان الدليل مثلا ـ وان كان أمارة ظنية على عدم الحكم الواقعي

١٤١

والظاهري بعد الفحص ـ الا أنه لا يعقل أن يكون معارضا للدليل بعد العلم. فحينئذ لا تفاوت بين القول بكون التعديل اخبارا بالعدالة الواقعية اتكالا على الظن الحاصل من عدم معاينة الفسق أو كونه إخبارا بالعدالة الظاهرية ـ أعني الملكة وعدم العلم بالفسق ـ في أن الاخبار بالجرح غير معارض له جدا ، فالعمل بالجرح ـ كما قالوا ـ من كونه جمعا بين الخبرين لا طرحا لخبر العدالة.

[ معنى تصديق المخبر بالعدالة والفسق ]

نعم هنا اشكال آخر يجري فيما لو كان التعديل اخبارا بالعدالة الظاهرية أيضا ، وهو أن الاخبار بالعدالة الظاهرية وان كان يجتمع مع الاخبار بالفسق الواقعي مع الفسق النفس الأمري ، لكن الالتزام بهما معا غير ممكن.

ومعنى تصديق الخبر وجوب الالتزام بمضمونه سواء كان حكما ظاهريا أو واقعيا ، فمعنى تصديق المخبر بالعدالة الظاهرية الالتزام بآثارها ولو في مرحلة الظاهر ، ومعنى تصديق المخبر بالفسق الواقعي أيضا الالتزام بآثار الفسق.

وقضية الجمع بينهما الالتزام بالأمرين معا ، وهو محال ، فالعمل بخبر الجارح ترجيح له على الخبر المعدل لا أن فيه جمعا بينهما.

ويمكن دفعه بأن معنى تصديق الخبر أن يجعل الشخص نفسه بمنزلة المخبر لا الالتزام بما يلتزم به المخبر ، فقبول العدالة الظاهرية معناه الالتزام بها ما لم يقم دليل على الواقع ، فان المخبر غير ملتزم بما أخبر به الا كذلك ، حتى لو ظفر على ما يدل على الواقع وجب عليه الأخذ به. نعم لو كان معنى تصديق الاخبار بالحكم الظاهري الالتزام به واقعا تعارض الجرح والتعديل جدا.

توضيحه : انه إذا أخبر شخص بأمر ظاهري كالعدالة وانحصار الوارث والطهارة وكل ما يشتمل على أمر عدمي ، ففي تصديقه يتصور مفهومان : أحدهما

١٤٢

الالتزام الواقعي بالحكم الظاهري ، والثاني الالتزام الظاهري بالحكم الواقعي على حد التزام المخبر. وعلى الأول يعارض الاخبار به مع الاخبار بضده دون الثاني. ونحن ندعي الثاني ، لأن الحكم الظاهري ليس أمرا منضبطا بل يختلف باختلاف الأشخاص ، فالمخبر به انما يخبر عن حكمه الظاهري لا عن حكم غيره ، فالالتزام به لا يزيد عما قلنا.

وقد يقال : ان الاخبار بالحكم الظاهري من حيث هو غير قابل للتصديق ، لان السامع ان كان شاكا في حكم الواقعي فهو ملتزم بالظاهري من غير حاجة الى تصديق الغير وان كان عالما بالواقع ، فيجب عليه العمل بعلمه لا بالأخبار بالحكم الظاهري ـ فافهم.

ومن هنا يظهر أن مورد التصديق بالأخبار بالحكم الظاهري لا بد أن يكون غير ما يكفي مجرد الشك في الحكم به ، مثل ما لا يجري فيه الأصل بمجرد الشك الابتدائي كانحصار الوارث ، فان الحكم به بمجرد الشك من دون فحص يستلزم مخالفات كثيرة ، فإذا شهد به عند الحاكم صدقه في الفحص الذي امتاز الشاهد به عن الحاكم ، لا مثل الطهارة التي يكفي في الحكم بها مجرد عدم العلم بالنجاسة من غير فحص ، وحينئذ يجري بحث التعارض فيما نحن فيه ، لأنه من قبيل الأول ، وسيتم الكلام الى آخر ما قلناه.

فان قلت : يمكن أن يكون مستند الجرح العلم بالمعصية وعدم العلم بالتوبة بعدها ، ومستند التعديل العلم بالتوبة ، فينعكس الأمر ويكون الجرح حينئذ بمنزلة الأصل والتعديل بمنزلة الدليل ، وهذا الاحتمال يعارض الاحتمال الأول فيجب التوقف. نعم لو كان التعديل مرجعه الى عدم العلم بالكبيرة ومرجع الجرح الى العلم بها دائما اتجه تقديم الجارح ، وأما مع قيام الاحتمال المزبور في كل جرح وتعديل فلا وجه للتقديم بل لا بد من التوقف ، لان نسبة الأصلية

١٤٣

والدليلية الى كل منهما على حد سواء.

قلت : ذلك الاحتمال أمر خارج عن مدلول قول المعدل ، لان حاق معنى التعديل لا يزيد عن الاخبار بأمر وجودي ـ وهو الملكة ـ وعدم العلم بوجودي آخر وهو الفسق ، كما أن معنى الجرح لا يزيد عن الاخبار بأمر وجودي وهو المعصية الكبيرة وعدم العلم بوجودي آخر وهو التوبة ، فيؤخذ كل منهما في معلومه وهو الأمر الوجودي لا في مجهوله ، بل يرجع فيه الى الأصل لو لم يعارضه قول الأخر.

ومقتضى أخذ قول المعدل في معلومه تصديقه في الملكة ومقتضى عدم الأخذ في مجهوله الرجوع في الفسق الى الأصل. لكن يمنع عن الأصل تصديق قول الجارح في معلومة ، لأنه بالنسبة إليه دليل وارد ، كما أن مقتضى عدم تصديقه في مجهوله ـ أعني التوبة ـ الرجوع الى الأصل ، فيلخص من التصديقين ثبوت الفسق كما لا يخفى.

وأما احتمال استناد المعدل الى العلم بالتوبة بعد الفسق الذي شهد به الجارح فلا يدل ظاهر لفظ التعديل عليه ، لان العالم لا يدل على الخاص بل على القدر المشترك. فالاخبار بمجي‌ء الرجل مثلا لا يترتب عليه حكم مجي‌ء زيد بل حكم مجي‌ء جنس الرجل.

ووجه كون التعديل أعم منه واضح ، لأن العدالة قد تحصل بالملكة مع عدم تحقق الفسق في الخارج وقد تحصل بالتوبة بعد سبق المعصية. وهذا قسم خاص من الملكة ، كما ان الملكة الابتدائية بدون سبق المعصية قسم آخر ، والقدر المشترك بينهما هي الملكة مع عدم الفسق ، فاذا أخبر المعدل بالعدالة وجب تصديقه في ذلك القدر المشترك الذي هو القدر المتيقن لا في الملكة الخاصة الحاصلة بالتوبة بحمل كلامه عليها.

نعم لو علمنا منه ذلك قدم قوله على الجارح ، كما إذا شهد الجارح بالفسق

١٤٤

في يوم الجمعة والعدل بالتوبة في يوم السبت.

[ لو اختلف زمان التعديل والجرح ]

وقد جعل في محكي المبسوط من هذا القبيل ما لو كان زمان التعديل مؤخرا عن زمان الجرح ، كما إذا انتقل الشاهد من بلد الى آخر فشهد بينة من أهل البلد المنتقل عنه بفسقه ومن أهل البلد المنتقل إليه بالعدالة ، أو إذا سافر الشاهد وشهد شاهد بفسقه في الحضر وآخر بعدالته في السفر باعتبار ما آنس منه في الطريق من الأمور الكاشفة عن العدالة.

وفيه نظر ، وان كان ظاهر صاحب المسالك السكوت عنه المنبئ عن الرضا ، لان تقديم قول المعدل حينئذ ليس إلا لأجل كونه نصا في عدالته في الزمان المتأخر ، وقول الجارح ظاهر بالنسبة اليه ونصا في الزمان المتقدم ، فيصرف عن ظاهر الجرح بنص التعديل. وحاصله ان الاخبار بالفسق في يوم الجمعة مثلا لا ينافي عدالته في يوم السبت ، فلا يعارض ذلك الاخبار بعدالته يوم الجمعة ، لأن الأخبار الثاني دليل بالنسبة الى الاخبار الأخر ، لظهور عدم دلالته على الفسق في يوم السبت الا بالظهور الحاصل من ملاحظة الاستصحاب الذي لا يعارض الدليل.

وفيه :

( أولا ) النقض ، لأن تأخير زمان العدالة المشهود بها لو كان سببا لتقديم قول المعدل لزم التوقف في صورة التقارن ، لان التفاوت بينهما ليس الا من جهة اختلاف زماني الفسق والعدالة ، وتأثير الاختلاف إذا كان هو تقديم قول المعدل بصيرورته حينئذ نصا بالنسبة الى ما يقتضيه قول الجارح ، فيكون أثر الاتحاد عدم التقديم ، أعني التوقف باعتبار عدم الخصوصية في قول المعدل وكونه ظاهرا في العدالة كظهور قول الجارح في عدمها لا تقديم قول الجارح.

١٤٥

وبعبارة أخرى : إذا كان قول الجارح في صورة التأخير ظاهرا وقول المعدل نصا لزم أن يكون في صورة الاتحاد ـ أي اتحاد زماني الفسق والعدالة كأن يقول الجارح هو فاسق الان والمعدل هو عادل الان ـ ظاهرين متعارضين موجبين للتوقف ، كما هو الشأن في تعارض الظاهرين الا أن يكون قول الجارح مقدما ـ فافهم.

( وثانيا ) ان وجه تقديم قول الجارح في صورة الاتحاد بعينه موجود في صورة التغاير ، واحتمال استناد قول المعدل الى علمه بالتوبة بعد الفسق الذي أخبر به الجارح موجود فيها أيضا. وقد عرفت أن هذا الاحتمال أمر خارج عن حاق التعديل ، فلا يصار اليه الا بتصريح المعدل به.

هذا هو الكلام في صورة الإطلاق ، أي فيما لم يرجع الجرح والتعديل الى التكاذب ، فان رجعا اليه فالمشهور أيضا تقديم قول الجارح ، عملا بمعنى التوقف والرجوع الى ما يقتضيه أصالة عدم العدالة والتكاذب ، بأن عين الجارح زمان المعصية وشهد المعدل بأنه في ذلك الزمان كان مشغولا بعمل ينافي الاشتغال بتلك المعصية.

ومن صورته أيضا ما لو كانت المعصية المشهود بها مما لا يجامع الملكة ، كقطع الطريق وأخذ عشور أموال المسلمين ، فإن أمثال هذه الكبائر العظمى القريبة من الكفر لا تجامع ملكة العدالة ، فالاخبار بها اخبار بعدمها ، كما أن الاخبار بالملكة اخبار بخلافها وعدم صدورها. ومثله ما لو كانت المعصية مما يمتنع خفاؤها على المعدل عادة فإنه يرجع أيضا الى التكاذب.

لكن لا يبعد تقديم قول المعدل في هذه الصورة إذا كان المعدل يدعي الاطلاع على وجه صحيح لهذا العمل القبيح الصوري مع اختفائه على الجارح ، فيكون الجرح حينئذ بمنزلة الاخبار عن الظاهر والتعديل بمنزلة الاخبار عن الباطن.

١٤٦

هذا ، وقد يتأمل في كون الفرض الأول من قبيل تكاذب الجارح والمعدل ، لأن الأخبار بكون المجروح في غير مكان المعصية في زمانها ليس تعديلا له بل اخبارا بأمر ينافيها ، لان المخبر ربما لا يخبر بعدالته لو سئل عنها.

نعم الفرض الأخير أقرب منه بالمثال وان كان فيها أيضا بعض المنافيات. وكيف كان فالتحقيق أن التوقف لا يستلزم العمل بما يقتضيه الجرح مطلقا ، فان التكاذب إذا كان في معصية لا ينافي الملكة ، فالتوقف فيه يقتضي العمل بما يوافق التعديل ، لأنه بعد تعارض قوليهما يرجع الى أصالة عدم صدور المعصية. فيبنى حينئذ على العدالة ، لأن الفرض إحراز الملكة ، وانما النزاع والتكاذب في الفسق باعتبار صدور المعصية لا باعتبار وجودها وعدمها. نعم لو كان التكاذب يرجع الى إثبات الملكة ونفيها كان التوقف مستلزما للعمل بما يوافق الجرح ، لأصالة العدم بعد تعارض القولين. والله العالم.

التقاط

[ عند تعارض الجرح والتعديل يؤخذ بالأرجح ]

لا عبرة بالمرجحات في تعارض الجرح والتعديل على ما صرح به غير واحد ، حتى من يرى العمل بالظن المطلق في الاحكام وفي ترجيح الاخبار كالسيد في محكي الرياض وولده النبيل في محكي المفاتيح.

وهو الأصل فيما شك في اعتباره من الظنون استدلالا وترجيحا ، لان الاستناد الى الظن لا يفرق فيه بين الاحتجاج به على وجه الاستقلال أو الترجيح كما فصلناه في الأصول حيث سوينا بين الوجهين في حرمة العمل.

نعم قد يقال بناء على كون البينة طريقا شرعيا الى الموضوعات الخارجية ، ان طريقة العقلاء في أمثاله على متابعة أقرب الطريقين الى الواقع وأرجحهما ،

١٤٧

لكن ذلك أيضا مبني على لابدية الترجيح ، فإنه لا بد حينئذ من وجوب الأخذ بالأرجح. واللابدية أيضا تحتاج الى مقدمات لم يثبت شي‌ء منها في المقام ، منها عدم إمكان الاحتياط أو عدم وجوبه ، وحاصله ثبوت التخيير على فرض التكافؤ ، فإنه مما لا بد فيه من الأخذ بالأقوى.

والحاصل انه إذا ثبت التخيير بين الطريقين على فرض التكافؤ فمقتضى العقل بل النقل أيضا الأخذ بالأرجح ـ فتأمل. وأما إذا لم يثبت ذلك بل كان اللازم في تلك الصورة التوقف ـ مثل ما نحن فيه ـ فطريقة العقلاء لا يسلم كونها على الأخذ بالأقرب والأرجح ، وما نحن فيه من قبيل الثاني إجماعا عند من لم يقدم الجرح مطلقا.

هذا مضافا الى احتمال كون البينة أمرا تعبديا غير ملحوظ فيه جهة الكشف عن الواقع أصلا كالأصول ، بل لعله أقوى الاحتمالين في البينة. وحاصله كون البينة موضوعا للحكم وسببا له لا طريقا اليه.

ومع هذا الاحتمال يسقط اعتبار المرجح رأسا ، لأن المرجح لا بد أن يكون من جنس ما فيه الترجيح ليتأكد به مصلحة العمل والأمور الكاشفة عن الواقع والناظرة اليه ، ومثل الأكثرية والأعدلية والاوثقية ونحوها لا مساس لجهة الحكم الشرعي ومصلحته بناء على هذا الاحتمال ، وهذا مثل ترجيح أحد الفريقين باعتبار عظم جثته ونحوها من المضحكات.

التقاط

[ جواز الاستناد في ملكة العدالة إلى الاستصحاب ]

قد ذكرنا أن مستند الشاهد بالعدالة لا يلزم أن يكون علميا للزوم الحرج

١٤٨

والضيق ، وانه يجوز له الاستناد في الملكة إلى الظن وفي عدم الفسق بعد إحرازها الى الأصل.

واعلم أيضا أنه يجوز الشهادة عليها بسبب الاستصحاب ، بأن كانت الملكة الرادعة المشكوكة البقاء بعد العلم بها سابقا ، فيشهد بها مع الشك في زوالها أو طرو الفسق ، فيحكم الحاكم بهذه الشهادة الاستصحابية. ولو شهد بالعدالة السابقة جاز للحاكم البناء على العدالة الفعلية بالاستصحاب.

والأصل في هذا الباب أن أدلة الاستصحاب حاكمة على اعتبار العلم في الشهادة وان كان العلم فيها موضوعا. إذ لا مانع عن مثل هذه الحكومة وان احتاج الى دليل آخر غير دليل جعل أصل الامارة الحاكمة.

ويمكن أن يكون ذلك الدليل هو الإجماع ، لأن الشهادة بالملك والدين ونحوهما من الموضوعات جائزة بمقتضى الاستصحاب. نعم حكم الحاكم بها لا يجوز أن يستند اليه لخروجه عن موازين القضاء ، وأما الحكم بالعدالة فليس من القضاء المحتاج الى الموازين المعهودة ـ فافهم.

التقاط

[ وجوب سماع دعوى المجهول ]

دعوى المجهول مما ذهب الشيخ الى عدم وجوب سماعها وأكثر المتأخرين إلى الوجوب.

وقول الشيخ ليس مبنيا على خروجها بالنص ، فلا ينفع في رده التمسك بعموم أدلة القضاء أو إطلاقها لو كان لها عموم أو إطلاق ينفع في المقام ، بل على منع جريان فائدة القضاء وترتب أثر السماع ، لأن فائدة سماع الدعوى انما هو الإلزام بها بعد ثبوتها.

١٤٩

وهذه الفائدة غير متصورة في الدعوى المجهولة ، لأن العنوان المجهول المقول بالتشكيك لا يفيد الإلزام ، إذ لا يتصور الأمر بدفع المجهول الأعلى أحد وجوه كلها باطلة في المقام :

( أحدها ) الأمر بدفعه على وجه الإبهام ، وهو غير معقول ، لان المبهم مع وصف الإبهام لا يمكن دفعه حتى يلزم به.

( والثاني ) الأمر به على وجه التخيير للدافع أو للمدفوع اليه ، وهو إلزام بغير المدعي به ، لان المفروض كونه أمرا معينا في

الواقع مبهما في الظاهر.

( والثالث ) الأمر به على القدر المعلوم والمتيقن من محتملاته ، كالأمر بدفع الدين المجهول على دفع أقل ما يحتمله المدعي ، وهو أمر معقول لكنه ليس إلزاما بأمر مجهول بل بأمر معلوم. وليس مما يتفرع على سماع دعوى المجهول أيضا ، لأن ذلك في المعنى دعوى لأمر معلوم في ضمن عبارة متضمنة لأمر بلا فائدة ، أعني احتمال الزائد.

والحاصل ان سماع الدعوى المجهولة ان كان لأجل الإلزام بالقدر المتيقن.

فهذا سماع لدعوى أمر معلوم لا مجهول ، وهو خارج عن مفروض المسألة.

مضافا الى أن الإلزام بالقدر المتيقن لا يتمشى فيما إذا دار المجهول بين المتباينين كالثوب والفرس. الا أن يقال : ان دعوى العين المغصوبة فائدتها الإلزام بالقيمة فرارا عن خلود الحبس كما مر في كتاب الغصب ، فيرجع حينئذ إلى الأقل والأكثر المتداخلين.

فان قلت : نختار الوجه الأول ، أعني الإلزام بالمجهول على إبهامه. قولك « انه يتعذر تسليمه فلا يقبل الإلزام ». قلنا ممنوع لا مكان أدائه بالاحتياط أو الخروج عن عهدته بالصلح.

قلنا : إذا كانت المسألة من مجرى البراءة لدوران الأمر بين الأقل والأكثر

١٥٠

في الدين والعين كليهما كما عرفت فحكم الحاكم لا يوجب انقلاب حكمها الى الاحتياط ، بل غاية ما يترتب على الحكم تنزيل المحكوم به منزلة الواقع.

ولا ريب أن اشتغال الذمة واقعا بأمر مجهول مردد بين الأقل والأكثر لا يزيد حكمه على إيجاب القدر الأقل ، فيرجع الأمر في سماع الدعوى إلى الإلزام بالقدر المعلوم. وقد عرفت أنه ليس سماعا للدعوى المجهولة من حيث أنها مجهولة ، أي في ذلك الوصف العنواني.

والقول بأن الأمر قد يدور بين المتباينين كالثوب والفرس فيترتب على سماع دعوى ذلك الحكم باشتغال ذمته به واقعا المقتضي للاحتياط. قد عرفت ما فيه من أن دعوى الأعيان على تقدير سماعها انما تؤثر في الغرامة لا في دفع العين ، فيندرج تحت الأقل والأكثر المتداخلين.

ولو فرض تعلق الدعوى بأحد العينين الموجودتين حتى لا يرجع الى التغريم ، فالاحتياط فيه أيضا لا يرجع الى محصل ، إذ لا احتياط للحاكم في الحكم بدفع المتباينين تحصيلا للبراءة ، لأنه إعطاء للمال على غير مستحقه قطعا ولا للمحكوم له في أخذ هما ، بل هو مخالف للاحتياط في حقه.

نعم الاحتياط في تكليف المحكوم عليه يقتضي الصلح أو إرضاء المحكوم له ولو بدفعهما ، لكنه احتياط لا يلزم عليه بسبب الحكم ، بل يدور مدار علمه باشتغال الذمة وجهله به ، سواء حكم الحاكم باشتغال الذمة أم لا.

[ سماع الدعوى على الغائب ]

ومما يدل على أن المجهول على نحو إجماله لا يقبل الإلزام استثناء القائلين بسماع دعوى المجهول الدعوى على الغائب كالعلامة والمحقق ، إذ لا يتفاوت بناء على ما ذكر بين الدعوى على الحاضر أو الغائب ، فهذا الاستثناء دليل على

١٥١

أن فائدة سماع لدعوى أمر وراء الإلزام بالمجهول ، كاحتمال إقرار المدعي أو نحو ذلك مما يتبين به الحال بغير حكم الحاكم ـ فافهم.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين الدعوى المجهولة من جميع الجهات ـ كدعوى شي‌ء متمول ـ أو من بعض الوجوه ، ولا بين دعوى الدين أو العين.

فان التحقيق في الكل عدم السماع في ذلك العنوان المجهول بوصف المجهولية ما لم يأخذ المدعي بالقدر المتيقن منه في تحرير الدعوى.

فان قلت : عدم صلاحية المجهول للحكم لا يقتضي عدم وجوب السماع لما يترتب عليه من بعض الفوائد كالإقرار ونحوه ، فيجب على القاضي السماع رجاء لا خراج الحق ولو بغير الحكم كالإقرار.

قلت : وجوب السماع مقدمة لما هو الغرض من تشريع الحكم ، وذلك الغرض ليس سوى الإلزام بالمدعى به على تقدير البينة أو الحلف ، وأما رجاء الإقرار فهو من قبيل الفوائد المترتبة على السماع أحيانا كترتبها على مكالمة غير الحاكم مع المدعى عليه من المؤمنين المحسنين المصلحين.

والحاصل انه لما علم أن الغرض من نصب الحاكم أمر وراء ما يعم جميع الناس ـ وهو الإلزام بالحق بموازين القضاء ـ فلا جرم يختص وجوب سماع الدعوى بما إذا احتمل حصول هذا الغرض ، فمع امتناع حصوله لو أوجبنا أيضا السماع كان قد أوجبنا المقدمة مع تعذر ذيها ، وهو كما ترى.

فإن قلت : لا نسلم انحصار غرض الشرع في الإلزام ، بل نقول ان الغرض هو إخراج الحق بأي وجه كان حتى بالإقرار ونحوه ، فيجب السماع حيث يحتمل حصول الغرض على بعض الوجوه.

قلت : الدعوى والاستعداد اللذين هما بابان من أبواب الفقه : الأول عبارة عن ادعاء حق يتضمن لإنكار المدعى عليه ، لان الدعوى هو الشكوى ، ومجرد

١٥٢

الاخبار بحق على الغير دون إظهار إنكار الخصم ولو في ضمن « لا ادري » ليس يصدق عليه الشكوى. والثاني عبارة عن قبول الشكوى ، ومن الواضح أن قبول الشكوى لا معنى له الا الإلزام على المشتكى عنه بما به الشكوى لا إحضاره لرجاء إقراره.

ومن هنا يظهر أن الحكم المستند إلى إقرار الخصم ليس استعداء من الحاكم حقيقة ، كما أن الإلزام على المقر المماطل بالأداء ليس قضاء مصطلحا بل أمرا بالمعروف أو سياسة من السياسات.

[ النقاش في سماع دعوى المجهول ]

ومن جميع ما ذكرنا ظهر فساد ما استدل به على السماع تارة بالعمومات وأخرى بالقياس إلى الوصية بالمجهول أو الإقرار به فإنهما جائزان ، وينفذ الأول فيما هو القدر المعلوم من محتملاته ، ويلزمه الثاني بالتفصيل.

وجه فساد الأول ان العمومات انما تنهض فيما يترتب فيه على السماع غرض تشريع الحكم وهو الإلزام ، وقد ظهر أنه لا يترتب على السماع دعوى المجهول ما لم يرجع الى دعوى القدر المتيقن ، ووجه فساد الثاني أن الوصية بالمجهول انما صحت بإطلاق أدلة الوصية بعد معلومية صدقها عليها وعدم المانع ، والمفروض في المقام عدم شمول الأدلة للدعاوي المجهولة الغير النافعة إلا في القدر المتيقن ، وكذا الإقرار بالمجهول ، فإنه لا فرق بينه وبين الإقرار بالمعلوم في كون كل منهما قابلا للإلزام ولو بعد الاستفصال. ومن الواضح أن الاستفصال من المنكر غير معقول بخلاف الاستفصال من المقر.

وما ذكره الشهيد الثاني في الروضة والمسالك من أنه فرق اعتباري لا يصلح منشأ للحكم الشرعي. يدفعه أن المنشأ للحكم ـ أعني قبول الإقرار بالمجهول

١٥٣

وعدم قبول دعوى المجهول ـ ما ذكرنا من نهوض أدلة الإقرار بعد إمكان الاستفصال في القبول وعدم نهوض أدلة السماع.

ومن الفرق المزبور يعلم أن دعوى الإقرار بالمجهول أو الوصية به أيضا غير مسموعتين ، لامتناع الاستفصال هنا أيضا وان أمكن في نفس الإقرار. لكن في المسالك نفي الخلاف في سماعهما ، ولعل المراد به السماع في القدر المتيقن ، وان كان بعيدا لعدم الفرق حينئذ بين هاتين الدعويين وغير هما من الدعاوي المجهولة.

ويمكن أن يقال : ان الإقرار بالمجهول لما كان حكمه شرعا الاستفصال وجب سماع دعواه لترتب الفائدة على السماع حينئذ ، وهو الاستفصال. وفيه تأمل ، لأن المنكر للإقرار كيف يؤمر بالتفصيل مع إنكاره ، وان صح صح الاستفصال في دعوى المجهول أيضا.

والحاصل ان الاستفصال من خواص الإقرار فلا يعم الإنكار وان كان غير معتبر محجوجا عليه بالبينة ، سواء كان المنكر هو الحق المجهول أو الإقرار بحق مجهول. وكذلك الكلام في دعوى الإقرار المجهول فإنه مثل دعوى الإقرار بالمجهول.

ولعله لما ذكرنا من التوجيه والتأمل تردد الشهيد مع قوله بعد سماع الدعوى المجهولة في سماع دعوى الإقرار بالمجهول ، وذكر فيه الوجهان.

ثمَّ انه بناء على ما ذكر من عدم سماع دعوى المجهول لو ادعى دعوى مجهولة فللحاكم تلقينه صورة الدعوى بما يرجع الدعوى الى التعيين ، كادعاء القدر المتيقن لو كان المدعى به دينا ولو كان عينا فيلقنه الحاكم بأنه على تقدير الثبوت لا سبيل لك الى عين المال ، بناء على ما تقدم في مسألة الغصب من أن دعوى الأعيان لا تؤثر مع إنكار المدعى عليه الا في الغرامة بل لك أن تغرمه بالقيمة ،

١٥٤

ثمَّ يلقنه صورة ترجع الى التعيين. فلو كان المدعى به أحد العينين الموجودين سقطت الدعوى رأسا ، إذ لا ثمرة لسماعها أصلا. والقائلون بالسماع لا يظن أنهم يقولون به في هذه الصورة ، خصوصا بعد ملاحظة بعضهم لوجوب إخراج الحق ، ضرورة عدم تصور الإخراج في هذه الصورة.

ودعوى إيجاب السماع لو جاء الإقرار قد ظهر جوابها.

ومن هنا أمكن أن يكون النزاع في السماع لفظيا ، لأنا لم ننكر أيضا وجوب السماع باعتبار القدر المتيقن وانما ننكر سماعها من غير أن يرجع الى التعيين.

والظاهر أن القائلين بالسماع أيضا لا يقولون بسماعها الا من جهة ما يترتب عليها من رجاء الحكم بالقدر المتيقن. وهو جيد لا غائلة فيه لكنه ليس سماعا لدعوى المجهول ، والثمرة تظهر فيما فرضنا من الصورة التي ليس فيها قدر متيقن. والله العالم.

تنبيهان

[ إحضار الخصم بالتماس خصمه ]

( الأول ) ذكر المحقق وغيره قبل هذه المسألة أنه إذا التمس الخصم إحضار خصمه مجلس الحكم أحضره إذا كان حاضرا ، سواء حرر المدعي الدعوى أو لم يحرر.

وفيه اشكال من وجهين :

« أحدهما » ـ أن سماع الدعوى الغير المحررة واجابة مدعيها في إحضار الخصم ينافي عدم سماع الدعوى المجهولة ، كيف وإبهام الأولى أكثر من إبهام الثانية ، لما في الاولى من الاحتمالات التي لم تسمع الدعوى على تقدير بعضها قطعا ، كاحتمال دعوى غير مشروعة ، بخلاف الثانية فإن وجه عدم سماعها ممحض في إبهام المدعى به.

ويمكن دفعه بأن إجابة المدعي في إحضار خصمه غير السماع المنفي في

١٥٥

الدعوى المجهولة ، لاحتمال كونها من السياسات التي قد تجب على الحاكم بنفسها أو مقدمة للدعوى التي سماعها من حقوق المدعي. وبعبارة أخرى :

وجوب سماع الدعاوي المحررة شي‌ء واجابة المدعي بإحضار الخصم لتحرير الدعوى شي‌ء آخر ، فلا منافاة بين عدم الأول لجهل المدعى به ووجوب الثاني سياسة أو مقدمة للتحرير ـ فتأمل.

« وثانيهما » ـ انه إذا لم يكن الدعوى محررة لم يعلم شرط وجوب إحضار الخصم ، لان وجوبه مقدمة لاستنقاذ حق المدعي أو إيفاء بحقه في سماع الدعوى الصحيحة ، ولا يعلم شي‌ء من الأمرين قبل التحرير ، والشك في شرط الوجوب يوجب الشك في نفسه.

نعم لو علم من حال المدعي ان له دعوى صحيحة نسلم وجوب الإحضار قبل التحرير ، ولكن كلمات الأصحاب مطلقة.

ويمكن ذبه ـ مضافا الى ما عرفت في دفع الاشكال من الوجه الأول ـ باعمال أصالة الصحة في الدعوى ، فإنها مما تتصف بالصحة والفساد ، فيجري فيها الأصل المزبور ، أو بأن وجوب سماع الدعوى الصحيحة انما هو لاستنقاذ حق المدعي المحتمل لا المعلوم. وهذا الاحتمال قائم قبل التحرير أيضا.

والسر في الموضعين أنه لو بني على عدم التعرض لمقدمات الاستنقاذ الا بعد العلم بثبوت المستنقذ ـ أعني الحق ـ لزم تضييع حقوق كثيرة واختلال أمور المسلمين كما لا يخفى.

( الثاني ) ان عدم وجوب سماع الدعوى المجهولة فيما كان فيه قدر متيقن مبني على ما يأتي في المسألة الاتية من اشتراط الجزم في الدعوى والا وجب السماع لأنها تنحل حينئذ إلى دعوى مجزومة بالنسبة إلى القدر المتيقن ومشكوكة

١٥٦

بالنسبة إلى الزائد ، فتسمع على القول بعدم اشتراط الجزم لكن مع مراعاة ما يأتي من الشروط. والله العالم.

التقاط

[ اعتبار الجزم في الدعوى ]

اختلفوا في اعتبار الجزم في الدعوى بعد الاتفاق ظاهرا على عدم وجوب الفحص عن الباطن على الحاكم إذا كانت صورة الدعوى جزمية.

وتوضيح المقال : ان الدعوى الغير الجزمية ـ سواء كانت ظنية أو وهمية ـ اما أن يكون للمدعي طريق شرعي إليها كالأصل أو البينة أم لا. والكلام في كل منها يقع في جهتين : إحداهما من حيث الحكم التكليفي ، والأخرى من حيث الحكم الوضعي ـ أعني وجوب السماع على الحاكم واعمال قواعد القضاء.

أما القسم الأول : فالظاهر عدم الاشكال فيه من حيث التكليف ، فلا اثم على من كان له بينة على حق على أحد أو أصل يقتضي ذلك الحق أن يطالبه بذلك الحق ويدعي عليه ولو على سبيل الجزم ، سواء قلنا ان الدعوى إنشاء لا يقبل الصدق والكذب أو قلنا انه إخبار ، أما على الأول فواضح ، وأما على الثاني فلان الكذب هنا مقرون بالمصلحة المجوزة ، وهو استنقاذ الحق الذي قام عليه أمارة شرعية.

وأما من حيث الحكم الوضعي فالظاهر أن فيه اشكالا ، بل لا يبعد القول بعدم ترتب شي‌ء من الأحكام المترتبة على الدعاوي عليه ، فلا يجب على الحاكم سماعها ، لان الظاهر أن الاخبار بالحق على الغير ما لم يقترن بالجزم والمطالبة لم يصدق عليه الدعوى عرفا.

فلو قال اني احتمل دينا لي في ذمة زيد أو أظن ، لم يجب على الحاكم

١٥٧

ما يجب عليه في الدعاوي المجزومة لأنه لم يدع شيئا ، وانما أخبر بخبر لا فائدة فيه الإظهار الحال ، فلا بد للظان إبراز الدعوى بصورة الجزم والمطالبة تحقيقا لمعنى الدعوى.

ولو اقتصر على مجرد المطالبة ـ بأن يقول المدعي ان لي بينة على اشتغال ذمتك واني مطالب به بمقتضى البينة ـ كفى على الظاهر. فالقول باشتراط الجزم على الدعوى زيادة على المطالبة لا يخلو عن إشكال أو منع ، ويمكن تنزيل كلام من اعتبره على المطالبة.

وكيف كان فيجب على الحاكم حينئذ سماع هذه الدعوى ، ولو علم بالحال وأنه يدعي عن ظن أو وهم لا عن جزم. والدليل عليه أمور :

( الأول ) ان المقتضى للسماع موجود وهو أدلة القضاء ، والمانع وهو عدم ترتب الفائدة على السماع كما في القسم الثاني مفقود.

( والثاني ) ان في عدم سماع مثل هذه الدعوى تقاعدا عن إحقاق الحقوق الذي هو الغرض من تشريع القضاء كما مر.

( والثالث ) فحوى ما دل على حلف الامناء فيما إذا ادعوا التلف ، فان دعوى المستأمن عدم التلف عليه غالبا أو دائما دعوى غير مجزومة مستند الى عدم العلم أو أصالة العدم.

( والرابع ) فحوى خصوص ما ورد في الصائغ والقصار والحائك من جواز إحلافهم إذا اتهموا ، معللا باحتمال استخراج شي‌ء منهم.

وهذا وسابقة وان لم يكن موردهما ما إذا كان الظان هو المدعي بل المنكر ـ وهو المستأمن أو المستأجر ـ لكن الاستدلال بهما من حيث المناط المنقح ، لأنه إذا أثر الظن في إحلاف المدعي أثر في إحلاف المنكر أيضا لاتحاد المناط ثمَّ يتوجه اليمين على المدعي. ولا رد هنا ، لاشتراط الجزم في اليمين كما سيأتي ،

١٥٨

فإن حلف والا فيبنى على القضاء بالنكول ، فان قضى به الزم والا فالدعوى توقف.

وأما القسم الثاني : فلا إشكال في أن الحكم التكليفي فيه الحرمة بناء على كون الدعوى اخبارا لكونه كذبا ، وما ذكرنا من المصلحة غير جارية هنا ، لان المفروض هنا عدم قيام أمارة شرعية على الحق ، فليس له حق ظاهري أو واقعي حتى يجوز الكذب مقدمة لاستنقاذه. ومجرد احتماله الذي لا دليل عليه بل الدليل على خلافه ـ وهو الأصل ـ لا يصلح مجوزا له.

وأما الحكم الوضعي ـ أعني سماع الدعوى ـ فمبني على ما أشرنا إليه في الالتقاط السابق من أن الغرض الذي وجب سماع الدعوى لأجله ، هو منحصر في الإلزام حتى لا يجب حيث لا يكون للدعوى قابلية ذاتية للإلزام أم لا بل متى احتمل احدى الفوائد المترتبة على السماع كإقرار المدعى عليه أو يمينه المسقط لحق الدعوى أو نحوهما مما قد يترتب على سماع الدعوى من الفوائد ، وجب السماع مقدمة لها.

فان قلنا بالأول ـ كما لعله الأقوى ـ لم يجب السماع هنا إذا علم الحاكم بأنه يدعي من غير جزم ولا أمارة شرعية ، لاستحالة الحكم له على خصمه بما يدعيه ، لان المفروض كونه ممنوعا في الشرع عن أخذ المدعي به فكيف يتعلق به الحكم ولا أقبل رجاء للإقراء أو الصلح.

هذا ، وقد يستدل على مساواة القسمين بالأخبار المشار إليها الواردة في الصائغ والصانع والحائك ، كخبري بكر بن حبيب في أحدهما قلت لأبي عبد الله عليه‌السلام : أعطيت جبة الى القصار فذهب بزعمه. قال : ان اتهمته فاستحلفه وان لم تتهمه فليس عليه شي‌ء (١).

وخبر ابى بصير عنه عليه‌السلام : لا يضمن الصائغ ولا القصار ولا الحائك

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ب ٢٩ من أبواب الإجارة ح ١٦.

١٥٩

الا أن يكونوا متهمين فيخوفون بالبينة ويستحلف لعله يستخرج منهم شيئا (١) ، نظرا إلى إطلاقه وعمومه لجميع صور الاتهام التي منها دعوى الخيانة والتفريط ، خصوصا في الرواية الأخيرة ، حيث لا اشعار ولا دلالة فيها على اختصاص الحكم بصورة دعواهم الذهاب والتلف.

الا أن يقال : ان الظاهر من الاستخراج المعلل به الإحلاف كونه على وفق الأصل ، بمعنى ثبوت الحق ولو ظاهرا. إذ لا يقال للدعوى المخالفة للأصل وسائر الطرق الشرعية انها استخراج للحق بل تسبب وتوصل إلى إحداث حق غير ثابت ـ فتأمل.

وقد يستدل أيضا على مساواتهما بالوجه الثاني ، أعني استلزام الاقتصار في السماع على الدعاوي اليقينية وعدم سماع الدعاوي الظنية والوهمية تضييع حقوق الناس المحترمة. أترى أن دعوى السرقة لو بني فيها على اعتبار الجزم فهل يستخرج مسروق.

ثمَّ ان كلمات الأصحاب في المسألة غير منقحة ، من حيث أن بعضها ظاهر في أن الجزم من شروط المدعي لا الدعوى ، ومقتضاه الإثم والحرمة في أصل الفرض للدعوى ، وأما اشتراط صيغة الدعوى بالجزم فلا ، ومقتضاه سماع قوله « أظن » أو « أتوهم » على تقدير الإثم. وظاهر عبارة المحقق العكس ـ يعنى اعتبار الجزم في الصيغة ـ والحق ما فصلناه.

تنبيهان

[ في الظن في الدعوى ومحله ]

( الأول ) ان ذكر الوهم في مقابل الظن كما في الشرائع وعن القواعد لا يخلو عن شي‌ء ، لأنه ان أريد بالوهم معناه المعروف ـ أعني الطرف المرجوح

__________________

(١) الوسائل ج ١٣ ب ٢٩ من أبواب الإجارة ح ١١ وفي آخره « فيخوف بالبينة. ».

١٦٠