كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

مع أن الاخبار التي استند إليها الشيخ كلها ظاهرة في كون الإسلام مع عدم ظهور الفسق طريقا إلى العدالة لا نفسها ، مضافا الى شهادة غير واحد من الاخبار تصريحا وتلويحا ، بأن العدالة حالة من حالات الشخص وصفة من أوصافه توجب الطمأنينة في أقواله ، مثل ما اشتمل على الوثاقة والعفة والصيانة كما في صحيحة ابن ابي يعفور (١) وغيرها مما يقاربها في الدلالة على كون العدالة حالة رادعة.

بل يمكن الاستدلال عليه بآية النبإ أيضا ، نظرا الى عدم الفرق بين العدالة بمعنى ظهور الإسلام والفسق في الردع عن التعمد في الكذب الذي صار احتماله سببا لوجوب التبين الرافع للندم وقباحة تعليل الحكم الخاص ، أعني التبين في خبر الفاسق خاصة بعلة مشتركة بينه وبين ضده.

ومن هنا لو ادعي تطابق الاخبار وكلمات الأخيار على كون العدالة هي الحالة وأنها مطابقة لمعناها العرفي أعني الاستقامة ، لوضوح عدم اتصاف الشخص بالاستقامة في نظر الشرع والعرف الا باعتبار ما به من الملكات والحالات الباعثة على ارتكاب حسان الافعال والأخلاق وانزجار قبائحهما ، كان دعوى مع البينة والبرهان.

وكذا الكلام في حسن الظاهر بالمعنى المقابل للباطن ، فان مثل ذلك أيضا يجامع الفسق الباطني ، فلا يكونان متضادين ، وأيضا على تقدير كونه نفس العدالة استحال تبين فسق الشهود أبدا ، مع أن الشيخ والمكتفين بحسن الظاهر يوافقون الأصحاب في عنوان مسألة تبين فسق الشهود.

نعم يمكن بناء على ظهور الإسلام جعل التبين عبارة عن ظهور كفرهم ، وهو كما ترى من المضحكات ، لان الشيخ ولا غيره من الأصحاب لا يرضون بذلك.

أترى أنه لو تبين فسق من ظاهره الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو ظاهره الاتصاف

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٤١ من أبواب الشهادات ح ١.

١٢١

بالحسن بفعل كبيرة قبل الشهادة ، فهل الشيخ أو أحد من المسلمين يرى نفوذ شهادته وجواز الحكم على طبقه إذا كان التبين بعد إقامة الشهادة وقبل صدور الحكم ، كما هو لازم جعل نفس الإسلام مع عدم ظهور الفسق العدالة ، فإنه من قبيل صدور الكبيرة من ذي الملكة بعد تمام الشهادة الذي لا يمنع عن الحكم بلا اشكال.

[ ما هي حقيقة العدالة؟ ]

هذا ، ثمَّ ان العدالة عند الشيخ بعد معلومية كونها ما ذكر يحتمل أن يكون أحد أمور ثلاثة :

( الأول ) الملكة على ما هو الظاهر الموافق للعرف والشرع.

( والثاني ) الإسلام مع عدم الفسق الواقعي ، لا عدم ظهوره الذي يجامع الفسق الباطني ، على أن يكون عدم الظهور دليلا تعبديا شرعيا أو ظنيا نوعيا على الجزء الأخير الذي يعتبر في العدالة بمعنى الملكة أيضا.

( والثالث ) خصوص عدم الفسق الواقعي ، بأن يكون الإسلام مقسما للعدالة والفسق لا معتبرا في المفهوم الأول ، فالمسلم العادل هو من لا يفسق بإخلال واجب أو ارتكاب محرم ، والمسلم الفاسق من كان لا يبالي عن القبائح ويرتكبها ، فتنطبق العدالة حينئذ عند الشيخ على ما يعطي ظاهر عبارة جمع كثير من القدماء ، حيث يفسرون العدالة بمجرد ارتكاب الواجبات والانتهاء المحرمات ، لو لم نرجع هذا التفسير أيضا الى الملكة كما هو الظاهر من قولهم « فلان لا يفعل كذا » أي له حالة رادعة عنه.

مضافا الى عدم معقولية كون الفعل والترك الاتفاقيين الغير الصادرين من حالة نفسانية مناطا للعدالة ، لأنه غير داخل تحت ضابط حتى يجعل المدار عليه فيقال مثلا : ان المدار على عدم ارتكاب في آن الشهادة أو قبله بيوم أو يومين

١٢٢

أو سنة أو سنتين أو في جميع السنين الماضية أو غير ذلك من المضحكات.

بخلاف المقرونين بالملكة والحالة ، فإن المناط حينئذ على تلك الحالة بشرط عدم فعل الكبيرة أو التوبة على تقدير الفعل.

ولعل ظاهر قوله « الأصل في الإسلام العدالة » غير الثاني ، لأن الإسلام بناء عليه معتبر في العدالة جزءا لا أمارة عليها ، وقد عرفت أن هذه العبارة ظاهرة في كون الإسلام طريقا إليها. وكذا غير الثالث ، لأن الإسلام بناء عليه غير معتبر في العدالة أصلا لا طريقا ولا موضوعا. وظاهر العبارة المزبورة مدخليتهما في العدالة لا في المقسم كما احتملنا.

( ولنا على المقام الثاني ) أن الاكتفاء بعدم ظهور الفسق وعدم البحث عن الباطن وان ورد بها أخبار متكاثرة واضحة الدلالة لكنها شاذة معارضة بأقوى منها دلالة وعملا. نعم الاكتفاء بحسن الظاهر له وجه لشهادة جملة من الاخبار ، بل يدل عليه قوله عليه‌السلام بعد ذكر أن العدالة هي العفاف في صحيحة ابن ابي يعفور « والدليل على ذلك كله أن يكون ساترا لعيوبه حتى يحرم على الناس تفتيش ما وراء ذلك » (١) ، فإنه صريح في أن ملكة التستر ـ أعني حفظ ظاهره من القبائح ـ دليل على العدالة.

لكن في الاعتماد على حسن الظاهر أي ملكته تعبدا محضا مثل الأصول التعبدية حتى فيما لو علم كون التستر حياء من الناس لا خوفا من الله مع الشك في الفسق الواقعي ، أو مشروطا بإفادته العلم كما نقل عن ظاهر الشهيد الثاني في كتاب الصلاة ، وهو ظاهر المحقق هنا حيث أوجب البحث ولم يجوز الاعتماد على حسن الظاهر ، أو الظن المطلق نوعا أو شخصا ، أو الظن الاطمئناني الشخصي.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٤١ من أبواب الشهادات ح ١.

١٢٣

وجوه أو أقوال ، أقربها الأخير ، يدل عليه قوله عليه‌السلام في مرسلة يونس « فاذا كان ظاهره ـ أي الشاهد ـ ظاهرا مأمونا جازت شهادته » (١) ، فان حسن الظاهر انما يكون مأمونا إذا كان بحيث يظن معه عدم الخيانة ظنا فعليا.

[ أمور تتعلق بالملكة ]

وينبغي التنبيه على أمور :

( الأول ) ان المراد بالملكة ملكة التجافي عن جميع الكبائر ، فلا عبرة بملكة البعض دون البعض والا لكان جميع الناس عادلين الا من شذ ، إذ مأمن أحد الا وفيه حالة رادعة عن بعض المعاصي لا محالة ، الا أن يقال : ان المراد بالملكة هي الحالة الناشئة عن خوف الله تعالى ، ومثل ذلك لا يقبل التشكيك. وفيه نظر.

( والثاني ) ان الملكة لا تنافي فعلية المعصية الكبيرة ، لان الملكات قد تغلب.

ومن العجب اعتقاد بعض امتناع ذلك حتى نفوا ثبوت الملكة في مثل سلمان.

نعم صدور المعصية ينافي العدالة ، لأنها عبارة عن الملكة المقيدة بعدم المعصية لا عن مجرد الملكة ، فصدور المعصية يوجب زوال أحد الجزئين.

( والثالث ) ان معيد العدالة التوبة مع العزم على عدم المعاودة. فإذا علم ذلك من مرتكب الكبيرة مع إحراز ملكته عادت عدالته.

( والرابع ) ان كل معصية تنافي المكلة ، فالتجري بها ظاهرا كذلك وان لم نقل بحرمته شرعا ، لأن التجري في مقام الكشف عن عدم الاكتراث في الدين وعدم المبالات عن النواميس الشرعية لا يقصر عن نفس المعصية ـ فافهم. والله العالم.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٢٣ من أبواب كيفية الحكم.

١٢٤

التقاط

[ نقض حكم الحاكم إذا عرف فسق الشهود ]

إذا حكم الحاكم بعد إحراز العدالة كل على مذهبه ثمَّ ظهر للحاكم فسق الشهود قبل الحكم ، فهل يجب عليه نقض الحكم كما صرح به غير واحد أم لا.

وعلى تقدير النقض ففي وجوب النقض على كل من كان عالما بفسقهم من مجتهد أو مقلد ، أو التفصيل بين علم الحكام فالنقض وعلم المقلد فالعدم. وجوه واحتمالات تنشأ من التأمل في أن عدالة الشهود شرط علمي للحاكم أو واقعي ، وعلى الأول فهل العبرة بعلم الحاكم الذي حكم أو نوع الحكام ، وعلى الثاني يجب على كل من علم بفسقهم نقض الحكم كما لو علم الحاكم نفسه سواء كان مجتهدا أو مقلدا.

لا يقال : إذا كانت العدالة شرطا واقعيا لم ينفذ الحكم إلا في حق من علم بعد التهم ، فيجوز للشاك النقض أيضا كالعالم بالفسق.

لأنا نقول : علم الحاكم يقوم مقام علم غيره في صورة الشك خاصة لا مطلقا ، وعلى الأول من شقي الأول لا يجوز النقض مطلقا حتى من الحاكم وعلى الثاني يجوز لغير الحاكم من سائر الحكام النقض دون المقلد ، فكل حاكم يتبع علمه بالعدالة والفسق وأما صورة الجهل فمثل ما ذكر من قيام علم الحاكم الذي حكم مقام علم غيره.

وهذه الوجوه آتية في عدالة شهود الطلاق أيضا بالنسبة إلى المطلق أو الشهود أو غيرهم من سائر المكلفين.

والتحقيق أن حكم الحاكم بمقتضى البينة نظير فتوى المجتهد بمؤدى الرواية ، وان الفتوى والحكم كليهما ناظران الى مدلول الامارة الشرعية من حيث كونه مدلولا لها لا من حيث كونه مطابقا للواقع ، فوظيفة الحاكم الإلزام بما تقوله البينة العادلة من حيث كونه قول البينة لا من حيث كونه صدقا أو كذبا ، كما أن وظيفة

١٢٥

المفتي الإفتاء بمدلول الرواية من حيث كونه مدلولها.

وقضية تلك الحيثية أنه إذا تبين فسق الشهود تبين فساد الحكم ، وانه لا حكم هنا واقعا بل ظاهرا. كما لو تبين فسق الراوي للمقلد على مذهب مجتهده الذي يعتبر العدالة في الراوي ، فإنه لا شبهة في وجوب نقض الفتوى ماضيا ومستقبلا.

والحاصل ان فساد المستند في الحكم والفتوى بمثل اختلال هذا الشرط ـ أعني العدالة ـ يستلزم فساد الحكم وان شك في الخطأ الواقعي ، إذا ليس المفتي به والمحكوم به هو مدلول الامارة من حيث كونه مطابقا للواقع حتى يشك مع اختلال بعض شرائط القبول في صحة الحكم أو الفتوى ، بل هو من حيث كونه مدلولها.

وهذه الحيثية تنتفي عند بعض شرائط تلك الامارة ، فالحكم المستند إلى شهادة الزور أو شهادة الفاسق ليس بحكم متبع وإلزام نافذ في الواقع كالفتوى بمؤدي قول الفاسق مثلا عند مشترطي العدالة في الراوي ، بل الأمر في الشهادة أيضا كذلك ، إذا الشاهد لو علم مستند شهادته وفساده يجب متابعته مطلقا وان احتمل مطابقته للواقع ، فمن شهد بالفجر أو الهلال مستندا إلى شي‌ء علم عدم صلاحيته للشهادة لم يجب قبول قوله.

والحاصل ان التعبد بمقتضى الامارات والأدلة الشرعية يرجع الى وجوب العمل بمؤدياتها من حيث كونها مستفادة منها لا من حيث المطابقة للواقع وعدمها ، فلا يعقل مع فسادها باختلال بعض شرائط العمل موضوع للتعبد الشرعي.

فظهر أن مقتضى القاعدة هو الاحتمال الثاني ـ أعني كون العدالة شرطا واقعيا ـ لان وجود الموضوع شرط واقعي لحكمه ، ولا يعقل أن يكون شرطا علميا الا بعد فرض عدم كونه هو الموضوع ، فمن حكم أو أفتى أو عمل بمؤدى البراءة المشروطة بعدم الناقل مع وجوده في الواقع وخطائه في الفحص خطأ

١٢٦

غير معذور كان الحكم صوريا ظاهريا في مرحلة الظاهر أيضا.

وأما شهود الطلاق فالظاهر من أدلته أيضا اعتبار العدالة الواقعية فيهم ، فلو كان الشاهدان فاسقين حرم عليهما تزويج المرأة المطلقة بمحضرهما وهكذا غيرهم. لكن في القواعد أنه يجوز لهما نكاحها على اشكال. وعلى الأول فإحراز العدالة منوط بنظر المطلق ، فيكفي إحرازه على إحراز غيره في صورة الشك لا مطلقا.

هذا ، وقد يقال ان كون العدالة شرطا واقعيا في حق جميع المكلفين مشكل ، لما يترتب عليه من المفاسد التي لا يظن بالتزام أحد إياها ، مثل سماع قول كل من يتمرد من قبول حكم الحاكم مدعيا لفسق الشهود ولزوم الهرج والمرج ، فلا يبعد القول بأن علم غير الحكام بفسق الشهود غير مؤثر في جواز النقض ، وأما الحكام فلا ضير في القول بجواز النقض في حقهم ، بمعنى عدم وجوب إنفاذ الحكم المستند إلى البينة الفاسقة عليهم إذا كانوا عالمين بها.

وعبارة الشرائع في هذه المسألة لا تخلو عن إجمال ، قال : ولو حكم بالظاهر ثمَّ تبين فسقهما وقت الحكم نقض حكمه. لاحتمال البناء على المعلوم والمجهول في الفعلين ، أعني حكم ونقض ، فعلى الأول اختص النقض بالحاكم ، وعلى الثاني عم كل من تبين عنده فسق الشهود. والله العالم.

التقاط

[ كيفية تعديل الشهود أو جرحهم ]

اختلفوا في قبول التعديل والجرح مطلقين أو مفصلين أو مختلفين على أقول ، وقبل الخوض في المسألة فلتقدم مقدمتين :

( الاولى ) ان متعلق الاخبار قد يكون حكما شرعيا صرفا ، وقد يكون موضع

١٢٧

الحكم الصرف ، وقد يكون ملفقا منهما.

لا إشكال في أن الأول يرجع الى الاجتهاد والفتوى ، كما أن الثاني إلى الشهادة. ومثل الأول الاخبار بحدود الموضوعات المستنبطة. فإنه أيضا يرجع الى الفتوى دون الشهادة. وأما الثالث فالتحقيق فيه انه أيضا ملحق بالفتوى وان كان بينهما بعض الفرق ، مثاله الشهادة بالمملك لا بالملك ، إذا الشهادة على حصول المملك ترجع إلى الشهادة بوجود شي‌ء خارجي والفتوى بأنه مملك ، ومثل الاخبار بالرضاع فان مرجعه أيضا الى نحو من الفتوى ، بل هو مندرج تحت الاخبار بوجود الموضوع المستنبط من حيث وصفه العنواني الراجع الى نحو الاجتهاد ، ولذا ذهب الأكثر الى عدم قبول الشهادة على الرضاع الا مفصلا بذكر مرات الرضعة.

وأما الشهادة على أمر مبين متحد مفهوما بين الكل مختلف بحسب الأسباب فخارج عما نحن فيه ، فان المشهود به إذا لم يكن متضمنا للفتوى بل كان من الموضوعات الصرفة الخارجية فالشهادة به مقبولة وان كان له أسباب مختلفة بين صحيح وفاسد ، كالملكية والزوجية والحرية ونحوها ، فان عموم حجية قول العدل يشملها إلا إذا علم الاستناد فيها إلى الأسباب الفاسدة ، والا لما بقي للمسلمين شهادة ، إذ ما من خبر الا ويمكن الاستناد فيه الى سبب حدسي فاسد.

ومن هذا القبيل الشهادة على البيع ، فإنها مقبولة من غير استفصال عن صيغته وشرائطه ، لأن النقل أمر عرفي لا تعدد فيه ولا اختلاف بحسب الانظار ، وانما الخلاف في أسبابه.

وقد يقال : ان قبول الشهادة على البيع مطلقا أما باعتبار حمل الفعل على الصحيح الواقعي ، واما باعتبار حمل الحاكم أو حمل الشهود اتكالا على أصالة الصحة التي جعلها الشارع دليلا على الصحيح الواقعي ، ولو مع العلم باختلاف رأي البائع مع

١٢٨

رأى الحامل فضلا عن الشك فيه ، والأول أولى. فتأمل.

( والثانية ) ان مناط العدالة والفسق على الاقتحام في المعصية الاعتقادية دون الواقعية ، فمن تناول كل قبيح باعتقاد معذور من اجتهاد أو تقليد أو قصور بحليته لم يكن فاسقا ، بل يتصف بالعدالة إذا كان معه الحالة الرادعة عن ارتكاب ما يراه فسقا.

وأما تناول المباحات معتقدا لحرمتها جهلا مركبا من اجتهاد أو تقليد فخروجه عن العدالة مبني على القول بأن التجري مثل المعصية ، وستأتي الإشارة اليه.

ومقتضى ذلك التوقف في الحكم بعدالة شخص أو فسقه إذا فعل فعلا وشك في اعتقاده الحل أو الحرمة وان كان في نظر الحاكم حراما.

[ شرطية التفصيل في الجرح ]

إذا تحقق ذلك فاعلم أنهم اختلفوا في قبول الجرح مطلقا أو مفصلا ، والمشهور الثاني استنادا الى أن الحاكم قد يخالف رأيه لرأي المزكي ، فيبني في التفسيق على مذهبه مع مخالفته رأي الحاكم ، حتى انهم صرحوا باختصاص القبول مطلقا بما إذا كان الحاكم والمزكي متوافقين في أسباب الفسق ومفهوم الكبيرة وأشخاصها.

وهذا الكلام بظاهره غير مستقيم ، لما ظهر في المقدمة الأخيرة من أن الفسق لا يحصل الا بعد اعتقاد الفاعل معصية الفعل ، ومقتضى ذلك عدم العبرة برأي الحاكم أو المزكي بل برأي المزكى.

ويمكن توجيه كلامهم بأن ملاحظة رأي الحاكم أو المزكي انما هو لأجل الاختلاف في مفهوم الكبيرة ومصاديقها لا في عدد المعاصي ، وهو مما يوجب الاستفصال.

١٢٩

توضيحه : ان الفسق يحصل بالمعصية الكبيرة ، ولا بد فيما يحصل به من إحراز أمرين : أحدهما كونه معصية ، والثاني كونها كبيرة. والأول هو الذي قلنا باناطته على رأي الفاعل في الحل أو الحرمة ، وأما الثاني فالمناط فيه هو نظر من يريد ترتيب آثار العدالة من تزكية أو حكم أو غير هما ، وذلك لان المعصية تخرج عن كونها معصية بالجهل ، وأما الكبر والصغر فلا يؤثر فيهما الجهل.

مثلا : إذا قيل ان الكبيرة ما أوعد الله عليه النار ، فهذا المعنى لا يتغير بعلم الفاعل ولا بجهله بإيعاده تعالى ، فلو فعل فعلا معتقدا بكونه معصية غافلا عن كونه كبيرة أو جاهلا به أو معتقدا بكونه صغيرة فيجري عليه حكم فاعل الكبيرة من الاثار الوضعية عند العالم بالحال ، ولو انعكس ، انعكس.

فلو اعتقد الفاعل كونه كبيرة دون الحاكم أو المزكي أو غير هما ممن يريد ترتيب آثار الفسق والعدالة اما باعتبار الاختلاف في مفهوم الكبيرة ـ كما إذا كان رأي الفاعل أن كل ما أوعد الله عليه فهو كبيرة ـ وارتكب شيئا منها وكان رأي الحاكم أنها أخص من ذلك وانها خصوص ما أوعد الله عليه النار ، أو في مصداقها من جهة بعض الاشتباهات في الأدلة كما إذا اتفقا على أن الكبيرة ما أوعد الله عليه النار واختلفا في إيعاد النار على بعض المعاصي ـ كالغناء في غير مقام اللهو باعتبار دعوى النافي أن آية اللهو (١) التي استدل بها الامام عليه‌السلام على كونه من الكبائر (٢) لا تعم ما كان منه في غير مقام اللهو ـ أو في مصداقها من جهة الشبهة الموضوعية الخارجية كما إذا كان معتقد الفاعل أنه يشرب خمرا ومعتقد الحاكم أو المزكي أنه شرب عصيرا محرما ، لم يحكم بفسقه في الصور الثلاث.

نعم يمكن التفسيق في الصورتين الأخير تين ، بناء على أن التجري في

__________________

(١) وهي قوله تعالى « وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ... » [ سورة لقمان : ٦ ].

(٢) الوسائل ج ١٢ ب ١٥ من أبواب ما يكتسب به ح ١.

١٣٠

المعصية مثلها في أصلها ووصفها ، دون الصورة الأولى التي هي محط نظر الأصحاب خاصة أو مع الصورة الثانية أيضا ، لعدم تحقق التجري فيها بالنسبة الى ما اعتقده كبيرة ، لأن التجري بها مرجعه الى اعتقاده صدق ما ظن أنه كبيرة على ما يأتي من الصغيرة الواقعية في نظره.

والأمر فيها ليس كذلك ، لان المفروض فيها أن مرتبة المعصية محفوظة عند الفاعل ، وليس مخطئا في اعتقاد تحقق تلك المرتبة فيما يأتي به من المعصية وانما هو مخطئ في ظن وسعة دائرة الكبيرة حيث اعتقد شمولها لتلك المرتبة.

والحاصل ان خطأ الشخص في كون ما يأتي به من المعصية كبيرة ، تارة يكون من جهة الصغير وأخرى من جهة الكبرى. والأول مثل ما إذا أصاب في كون شرب الخمر كبيرة وأخطأ في اعتقاد كون ما يأتي به من الشرب شرب خمر ، والثاني مثل ما إذا أخطأ في كون النظر إلى الأجنبية كبيرة وأصاب في اعتقاد كون ما يأتي به من أفراد النظر.

والتجري بالكبيرة انما يتحقق بالأول دون الثاني ، لأن الناظر إلى الأجنبية مثلا مع علمه بمرتبة معصيته وكونها أخف من الزنا التي هي كبيرة لم يتجر على المولى بشي‌ء.

ولو اعتقد جهلا أن هذه المرتبة الخفيفة تشارك المرتبة الأكيدة من العصيان في عنوان الكبيرة الذي ترتب عليه في الاخبار وكلمات الأخيار بعض الاثار الوضعية كالتفسيق وعدم التكفير إلا بالتوبة. أترى أن من يرى أن كل معصية كبيرة فهو عاص بنفس المعصية ومتجري بوصفها عند من يخطئه.

وكذلك يمكن منع اجراء حكم فاعل الكبيرة في المسألة الأولى في الشبهة الموضوعية ، مثل ما إذا شرب الخمر باعتقاد أنه العصير ، لان شرب الخمر إذا كان مغفولا عنه لم يتحقق حينئذ معصية شرب الخمر أصلا حتى يجري عليه حكم

١٣١

فاعل الكبيرة.

وما قلنا من عدم تأثير العلم والجهل في الكبر والصغر ، انما هو بعد تحقق العصيان بذات الكبيرة ، وأما مع فرض عدم تحقق المعصية بالنسبة إلى ذاتها فلا معنى لجريان حكم المعصية الكبيرة عليها. الا أن يقال : ان الغفلة عن عنوان شرب الخمر انما يخرجه عن المعصية إذا لم يتصف بالمعصية بعنوان آخر كشرب العصير ، مثل ما إذا شرب الخمر باعتقاد كونه ماء. وأما مع الاتصاف فنمنع عدم تحقق المعصية بالنسبة إلى شرب الخمر حينئذ.

نعم في الشبهة الحكمية يتجه الحكم بالفسق ، لما أشرنا من أن الجهل بكون المعصية كبيرة مع الالتفات إلى أصل العصيان لا يمنع عن ترتيب آثار الكبيرة.

وكيف كان فقد ظهر مما ذكرنا وجه غير بعيد لصحة القول المشهور من لزوم الاستفصال ، لأنا إذا قلنا ان مناط الفسق والعدالة على ارتكاب الكبيرة الواقعية وعدم الارتكاب فلا جرم يسقط نظر المزكي والفاعل عن الاعتبار في كبر المعصية وصغرها ، لان طريق الواقع لكل شخص اعتقاده لا اعتقاد غيره ، فالمزكي لا بد أن يكون موافقا مع الحاكم في أسباب الفسق حتى تقبل شهادته ، فمع شك الحاكم في الموافقة لا بد له من الاستفصال.

لكن هذا الوجه لا يجري في قول من يرى ان المعاصي كلها كبيرة كابن إدريس ، فإنه يقتضي الاعتماد على رأي الفاعل دون الحاكم أو المزكي.

[ حمل كلام المخبر على الصدق الخبري ]

هذا ، وفي المقام شي‌ء آخر لو تم لزم قبول الجرح مطلقا ، وهو حمل كلام المخبر على الصدق الخبري ، ولو مع الاختلاف في أسباب المخبر به كما أشرنا

١٣٢

إليه في ذيل المقدمة الأولى ، فإذا أخبر بالفسق الواقعي باعتقاده وجب على السامع تصديقه في ذلك الاعتقاد والحكم بمطابقته للواقع ، كما إذا أخبر بالملكية والزوجية ، لأن أدلة الشهادة وأدلة تصديق العادل انما تدل على تصديق الخبر دون المخبر ، فان الفاسق والعادل سيان في التصديق المخبري الراجع الى حمل اخباره على وجه مباح دون مطابقة الواقع. والاختلاف في أسباب المخبر به لا يقدح إذا كان متعلق الاخبار هو الواقع.

وفيه نظر ، لأن أدلة صحة قول العدل لا تساعد على قبول اخباره الناشئ عن الاجتهاد إجماعا وعن الحدس على الأقوى ، ولذا لا يعتبر قول المجتهد وفتواه ولو على سبيل الجزم واليقين الا على مقلديه ، وإذا فرضنا كون المخبر به من الأمور المختلف فيها بحسب الأسباب انتهى الإخبار به إلى شهادة وفتوى.

مثلا : إذا أخبر بالملكية مستندا فيها إلى المعاطاة فهذا الاخبار ينحل الى قضيتين :

إحداهما الشهادة على وقوع المعاطاة ، والثانية الفتوى بإفادتها الملكية. وبعد فرض الإجماع مثلا على عدم حجية الفتوى يسقط اخباره بالملكية عن الاعتبار عند السامع ، سواء كان عالما بفساد المعاطاة أو شاكا في صحتها.

وما ذكرت من دلالة الأدلة على التصديق الخبري لا يقتضي تصديق المخبر في اجتهاده بالاتفاق ، كما إذا أخبر بنجاسة عرق الجنب مثلا ، ولازم ذلك عدم حجية الشهادة المتضمنة للاجتهاد والفتوى أيضا كما في الأمثلة المشار إليها ، لأن المشهود به إذا كان مختلفا فيه بحسب الحقيقة كالرضاع أو بحسب الأسباب كالملكية تضمنت نحوا من الإفتاء.

ودعوى أن قضية تصديق العادل في القسم الأخير حمل الخبر على ما يطابق الواقع في اعتقاد السامع دون المتكلم. فاسدة ، لأن تصديق العادل في خبره عبارة عن الحكم بثبوت مضمونه واقعا في اعتقاده لا في اعتقاد السامع.

١٣٣

توضيح المقام : انه إذا أخبر شخص فهاهنا أمور قابلة للتصديق : أحدها مطابقة الخبر لاعتقاده ، ومقابله تعمد الكذب. والثاني ثبوت مضمونه الذي قصده من الكلام واقعا في اعتقاده ، ومقابله السهو والخطأ في الاعتقاد. وثالثها ثبوت مضمونه واقعا بقول مطلق.

والأول لا كلام لنافيه. والثاني هو الذي يجب الحكم به ، ويسمى بالصدق الخبري ، لان الصدق ليس إلا مطابقة ما أراده المتكلم من الألفاظ للواقع لا مطابقة ما لم يقصد به. مثلا إذا قال « هذا ملك لزيد » فلا بد أولا من تحصيل مراده من هذا الكلام ثمَّ الحكم بمطابقته للواقع ، فلو علمنا أنه أراد بالملك ما وقع عليه المعاطاة وجب تصديقه في ذلك لا فيما لم يقصده ، أعني ما وقع عليه القصد مثلا ، فاذا كان البائع يرى عدم حصول الملك بالمعاطاة فكيف يحكم بحصول الملك الواقعي بمجرد اخباره بالملك. والثالث هو الذي ينفع في المقام.

ولا دليل عليهم كما عرفت ، لان دليل تصديق خبر العادل مركب من أمور لا يثبت المقصود في المقام :

( أحدها ) الحكم بعدم تعمده بالكذب ، وهو أمر ثابت بالكتاب والسنة بل الإجماع أيضا في الجملة.

( والثاني ) الحكم بعدم ارادته خلاف ظاهر كلامه ، لأنه من مقدمات الصدق الخبري أيضا وان لم يكن من مقدمات الصدق المخبرى ، وهذا يدل عليه أصالة الحقيقية.

( والثالث ) عدم اشتباهه وخطأه فيما يستند فيه الى الحسن دون الحدس والاجتهاد ، ولا ريب هنا أن السامع إذا حمل شهادته بالملك على ما يحصل بعد المعاطاة التي يرى المخبر سببيتها دون السامع مثلا لم يكن فيه مخالفة للمقدمة الأولى كما هو واضح ولا للمقدمة الثانية لعدم تجوز في أطراف الكلام حينئذ

١٣٤

كما لا يخفى ولا للمقدمة الثالثة لعدم استناده في الاخبار الى الحس بل الى الاجتهاد الغير القائم على تصديقه دليل إلى الآن بل الدليل على خلافه.

فظهر مما ذكرناه أنه كما لا يجب تصديق الشاهد في أمثال المقام إذا علم استناده الى السبب الفاسد عند السامع كذلك لا يجب إذا شك في الاستناد اليه والى السبب الصحيح من حدس أو اجتهاد ، فالمخبر بالملك وان احتمل في حقه الاستناد الى العقد الصحيح الجامع لشرائط الصحة عند الكل فلا يقبل قوله أيضا لدورانه بين ما يقبل وما لا يقبل ، والشك في الشرط يستلزم الشك في المشروط كما لا يخفى.

ومن هنا ظهر أيضا بطلان ما أشير إليه في المقدمة الاولى من قبول الشهادة إذا كان المشهود به مفهوما متحدا مختلفا فيه بحسب الأسباب.

فإن قلت : لم يتوقف أحد في قبول الشهادة على الملك والزوجية مع اختلاف العماء في أسباب الملكية والزوجية ، وكذا في قبول الشهادة على سائر الموضوعات الصرفة ، كالهلال ودخول الوقت ونحو هما مع قيام احتمال استناد الشاهد الى بعض الأسباب الحدسية في الكل. وعلى ما ذكرنا من عدم تصديق العادل فيما يحتمل فيه الاجتهاد أو الحدس لزم التوقف في هذه الصورة رأسا ، ولعل فساده بديهي.

قلت : وجه قبول الشهادة بهذه الأمور مع الشك في الاستناد الى السبب الفاسد أو الحدس الباطل أحد أمور لا يجري شي‌ء منها في الاخبار عن الفسق :

( أحدها ) دعوى قيام السيرة المستمرة الكاشفة عن دليل آخر غير أدلة تصديق العادل من حيث أنه عادل ، فيكون الأصل في الاخبار بهذه الأمور الصحة الواقعية ، نظير أصالة الصحة في الأفعال على القول بكونها دليلا على الصحة الواقعية وان لم يقتضها ظاهر حال المسلم.

١٣٥

( وثانيها ) إجراء أصالة الصحة في أسباب الملكية والزوجية مثلا التي أخبر بها العادل بناء على القول المزبور ، وهذا هو الذي أشرنا إليه في ذيل المقدمة الأولى ، حيث قلنا ان الشاهد إذا أخبر بالبيع مثلا فيقبل ذلك الاخبار ثمَّ يحمل هذا البيع الثابت بالبينة على البيع الصحيح الواقعي لا الصحيح عند الفاعل ، وهكذا إذا أخبر بالملكية ، فإن الاخبار بها اخبار بسببها التزاما ، فيقبل ذلك الاخبار ثمَّ يعمل أصالة الصحة في ذلك المدلول الالتزامي ، أعني السبب.

( وثالثها ) ندرة السبب المختلف فيه لهذه الأمور وجودا ، فإن أسبابها المختلف فيها وان كانت كثيرة في نفسها لكن الغالب استنادها في الخارج الى السبب المتفق فيه لكونها من الموارد المطلوب فيها شرعا وعرفا الاحتياط التام.

هذا في مثل الملكية والزوجية مما يكون له سبب في الشرع ، وأما سائر الموضوعات العرفية الصرفة ـ كالهلال ودخول الوقت وموت زيد ـ فالغالب أيضا فيها استناد علم الشاهد بها الى الأمور الحسية أو الحدسية المنتهية إلى الحس.

وهذه الغلبة مما جرى على متابعتها بناء العقلاء ولحقه إمضاء الشارع أيضا ، بل يمكن نفي هذه الاحتمال النادر ، أعني احتمال الاستناد الى السبب المختلف فيه أو الحدس الباطل بالأصل فيهما ، لأن أصالة عدم الخطأ في الاجتهاد أو الحدس انما يمنع جريانه عكس احتمال الخطأ في الحس باعتبار عدم افادته الظن النوعي عند العقلاء ، والا فلا مانع منه جدا.

ومن الواضح أن أصالة عدم الاستناد الى السبب الفاسد أو الحدس الباطل في الأمور الحسية لا يبعد القول بإفادته الظن النوعي ومتابعته عند العقلاء.

ولا ريب أن شيئا من هذه الأمور لا يجري في الاخبار بالفسق ، إذ ليس على قبول الاخبار به مطلقا سيرة تكشف عن دليل آخر غير أدلة التصديق. كيف والمشهور

١٣٦

بين العلماء قولا وفعلا الاستفصال عن سبب الفسق ، وكذا لم يتحصل فيه الغلبة المشار إليها.

وأما أصالة الصحة فعدم جريانها في الاخبار بالفسق ـ أي في مدلوله الالتزامي أعني السبب ـ واضح ، لأن أسباب الفسق ليست مما تقبل الصحة والفساد.

كل ذلك مضافا الى عدم كون الاخبار بالفسق مثل الأخبار بالملكية من الأمور الواقعية المتحدة بحسب المفهوم عند الكل ، بل مثل الاخبار بالرضاع والملك الذي يختلف حقيقته بحسب اختلاف الأنظار.

[ كيفية تعديل الشهود ]

كل ذلك في الفسق ، وأما العدالة فقد تبين الحال فيها أيضا مما ذكرنا ، لأنه إن جعلناها من المفهومات المتحدة عند الكل جرى فيها ما قويناه من حمل الاخبار بمثلها على الواقع باعتقاد السامع والا لم ينفع خبر حسي أو ما في حكمه أصلا ، لقيام احتمال الحدس في الكل الا ما شذ. وعلى هذا يكون أصالة الصحة من جزئيات هذه القاعدة ، أعني قاعدة حمل الاخبار على الصحة ، بمعنى اندراجهما معا تحت قاعدة أخرى.

وهو ما قواه بعض مشايخ متأخري المتأخرين في كشف الغطاء من أن الأصل في كل شي‌ء مردد بين صحيح نافع وفاسد غير نافع الصحة فعلا كان أو قولا أو عينا خارجيا. فمدعي العيب يطالب بالبينة ، لأن الأصل السلامة مثلا.

وان قيل بتعدد مفهومها وتردده بين الملكة وحسن الظاهر وظهور الإسلام ، جرى فيه ما قلنا في مثل الشهادة بالرضاع من عدم الإشكال في الاستفصال. لكن قد يقال بوجوب الاستفصال على التقدير الأول أيضا ، لأن العدالة وان كانت هي الملكة عند الكل الا أن تقييدها بعدم الفسق الواقعي يجعلها مثل الفسق في

١٣٧

الاستفصال ، لأن الملكة المقيدة بعدم صدور الكبيرة الواقعية تختلف بحسب الانظار على حد اختلافها في مفهوم الكبيرة ومصاديقها ، فاذا جعلنا المدار في الكبيرة على اعتقاد الحاكم كان مدار العدالة أيضا عليه ، وهو واضح.

فيجب على الحاكم حينئذ الاستفصال عن ملكة اجتناب جزئيات ما رآه كبيرة ، بأن يقول إله ملكة الكف عن الزنا وشرب الخمر وشرب العصير لو زعمه كبيرة ، الى آخر ما يراه كبيرة حذرا من مخالفة رأى الشاهد لرأيه في الكبيرة ، فإذا شهد بملكة الكل سئل ثانيا عن بقاء العدالة لعدم صدور شي‌ء من تلك الكبائر ، ولو شهد الشاهد بملكة الكف عن جميع المعاصي وعدم صدور شي‌ء منها كفى من غير استفصال.

تذنيب

[ اعتبار العلم في مستند التعديل ]

مستند الشاهد في الجرح لا بد أن يكون علميا ، فلا يكتفى بالظن بالفسق قطعا ، ولعله لا خلاف فيه أيضا. وأما مستنده في التعديل فمقتضى القاعدة أيضا اعتبار العلم بها في الشهادة وان قلنا بكفاية الظن لترتيب سائر آثار العدالة ، إذ لا ملازمة بينهما جدا ، بل الأمر بالعكس نظرا الى ما دل على اعتبار العلم في الشهادة زيادة على ما هو الأصل في كل شي‌ء.

لكن يمكن الاستدلال على كفاية الظن بأن الاقتصار على العلم في الشهادة بالعدالة حرج شديد موجب لاختلال أمور المسلمين لانسداد طريق العلم إليها غالبا ، فلا بد من الاكتفاء بالظن كسائر ما يغلب فيه انسداد باب العلم ، مضافا الى ظاهر الاخبار البالغة حد الاستفاضة أو التواتر الواردة في الباب ، فإن أقل ما تدل عليه هو الاتكال والاعتماد في ترتيب آثار العدالة على الصلاح الظاهري

١٣٨

المفيد للظن.

ودعوى التفكيك بين جواز الشهادة وسائر الاثار. مدفوعة بإطلاق ما يستفاد منها من كون صلاح الظاهر طريقا على العدالة ودليلا عليها كما نطق به قوله عليه‌السلام في مرسلة يونس « فاذا كان ظاهره ظاهرا مأمونا جازت شهادته » (١) وقوله عليه‌السلام في صحيحة ابن ابي يعفور « والدال على ذلك كله أن يكون ساترا لجميع عيوبه » (٢) ، مضافا الى قوله عليه‌السلام في هذه الصحيحة بعد ذلك « حتى يحرم على المسلمين تفتيش ما وراء ذلك من عثراته وغيبته ويجب عليهم توليته وإظهار عدالته » لان التعديل إظهار للعدالة كما لا يخفى ، والى ما في رواية أخرى أيضا من الدلالة على أن « من حسن ظاهره كملت مروته وظهرت عدالته » ، فإنها تدل بدلالة الإيماء والتنبيه على كبرى محذوفة صغراه قوله « كملت مروته » والا لغي الكلام كما لا يخفى. وهي أن كل من ظهرت عدالته وجب الالتزام بآثار العدالة في حقه التي من جملتها الشهادة.

ثمَّ ان في الاكتفاء بمطلق الظن أو اعتبار الظن الاطمئناني مطلقا أو خصوص ما يحصل منه من حسن الظاهر وصلاح ظاهر الحال. وجوه أظهرها وأحوطها الأخير ، بل لا يبعد دلالة ما في المرسلة على ذلك ، لان مأمونية الظاهر لا تنفك عن اطمينان الخاطر وطمأنينة القلب ، فيقيد به إطلاق الباقي لو كان فيها دلالة على الاكتفاء بمطلق الظن بناء على التقييد في الأحكام الوضعية حتى في المثبتين مطلقا ـ فافهم. والله العالم.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ٢٢ من أبواب كيفية الحكم.

(٢) الوسائل ج ١٨ ب ٤١ من أبواب الشهادات.

١٣٩

التقاط

[ العمل بقول الجارح عند اختلاف الشهود ]

إذا اختلف الشهود في الجرح والتعديل ولم يرجع الى التكاذب ـ بأن اكتفيا بالجرح والتعديل المطلقين ـ كأن أخبر أحد بأنه فاسق والأخر بأنه عادل ـ فمقتضى القاعدة العمل بقول الجارح ، لأن الأخبار بالعدالة من حيث هو مع قطع النظر عن فرض بعض الخصوصيات إخبار بأمر وجودي هو الملكة وعدمي هو عدم صدور الكبيرة مثلا. ولا ريب أن الاخبار بالأمر العدمي مستنده عدم العلم أو الأصل ، فلا يعارض به ما هو بمنزلة الدليل بالنسبة إليه ، أعني أخبار الجارح بالوجود.

والحاصل ان الجرح والتعديل لو خليا وأنفسهما فالجارح مقدم ، لعدم المعارضة بينهما كعدم معارضة الأصل والدليل ، فان مرجع التعديل الى الاخبار بالملكة وعدم وجدان المعصية ومرجع الجرح الى وجدانها ، فلو عمل بقول الجارح لم يكذب المعدول باعتبار عدم منافاة قول الجارح لقوله ، بخلاف ما لو عمل بقول المعدل فإنه تكذيب لقول الجارح بوجدان المعصية. ومقتضى وجوب تصديق العادل أن يجمع بين قوليهما بما ذكر.

واستشكل فيه المحقق الكاظمي في المحصول بأن التعديل والجرح اخباران بأمرين لا يجتمعان في الواقع لا بمجرد حسن ظاهر أو صدور معصية حتى يجمع بينهما.

وفيه : انا لا نقول بأن المخبر به في الجرح والتعديل ليس هو الأمر الواقعي ، بل نقول ان طريق اخبار المعدل به هو الأصل الذي لا يعارض حسن الجارح بالفسق ـ فافهم.

١٤٠