كتاب القضاء - ج ١

ميرزا حبيب الله الرشتي

كتاب القضاء - ج ١

المؤلف:

ميرزا حبيب الله الرشتي


المحقق: السيد أحمد الحسيني
الموضوع : الفقه
الناشر: دار القرآن الكريم
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٣٧٤
الجزء ١ الجزء ٢

كما ذكرناه مرارا.

( الخامس ) الأولوية ، لأن الظن الحاصل من الشياع أقوى من الظن الحاصل من بعض أفراد البينة. استدل به في المسالك ، وهو كما ترى لا ينفعنا ، لأن الأولوية القطعية واضحة المنع والظنية غير مجدية الا أن تكون لفظية بالفحوى ، ولا مجال له في المقام. والله العالم.

التقاط

[ هل ينعزل القضاة بموت الإمام؟ ]

إذا مات الامام فعن الشيخ تارة ان الذي يقتضيه مذهبنا انعزال القضاة أجمع وأخرى عدم الانعزال ، كما أن الأصحاب أيضا اختلفوا في ذلك على ما في المسالك.

وجه الأول أمران :

( الأول ) ان ولاية القضاء متقومة بإذن الامام ونصبه ، والاذن مما لا بقاء له بعد موت الاذن ، ومن هنا أطبقوا على انعزال الوكيل بموت الموكل. وبالجملة لا معنى لبقاء حكم الاذن بعد زواله بموت أو عزل ، وبقاء الوكالة إلى زمان بلوغ العزل أمر ثابت على خلاف القاعدة ، لأنها تقتضي الانعزال بمجرد العزل الواقعي وان لم يعلم به الوكيل كما في موت الموكل. والحاصل ان صفة الاذن بديهي الزوال بموت الاذن ، فلا يبقى أثره جدا.

( الثاني ) ان متعلق ولاية القاضي انما هو في الافعال والأمور التي كان ولايتها للإمام عليه‌السلام ، فالقاضي إنما يتولى أفعال الإمام بإذنه ، فاذا مات فات متعلق الاذن كفوت متعلق الوكالة في شي‌ء بفواته.

وهذا معنى قول من استدل على الانعزال بأن ولايتهم فرع ولايته ، فاذا زال

١٠١

الأصل زال الفرع.

ومن زعم أن المراد عدم ثبوت ولاية للإمام على الأعصار المستقبلة وان ولاية امام كل عصر مختصة بعصره. فقد سها سهوا بينا ، لان كل نبي أو وصي مسلط على كل تصرف يرى فيه مصلحة سواء اختص بزمانه أو عم الأزمنة كلها ، حتى ان آدم على نبينا وآله وعليه‌السلام كان له من التصرفات ما يدوم أثره إلى يوم قيام القيامة.

وهو واضح ، لأن ولاية أولياء الله ولاية إلهية تامة عامة كاملة ـ فافهم حتى لا يشتبه عليك الفرق بين اختصاص ولاية الإمام بعصره وبين ما قلنا من فوات متعلق الاذن بموت الاذن.

وجه الثاني أيضا أمران :

أحد هما ـ حسبان أن نصب القاضي فعل من أفعال الامام وجعل من مجعولاته كسائر أفعاله وتصرفاته ، مثل الإعطاء والمنع والبيع والشراء وأمثالها ، وهو ماض مطلقا كما ستعرف في نصب الفقيه والقضاة العامة ، وليس من قبيل إنشاء الاذن في شي‌ء حتى يزول بموت ونحوه.

والثاني ـ الاستصحاب.

وكلاهما ضعيفان ، لأن الأول غير ثابت والثاني ليس بحجة في مثل المقام ، على ما هو المختار من عدم الاعتبار بالاستصحاب في الشك باعتبار المقتضي.

ثمَّ ان أدلة الطرفين جارية في المنصوب العام ، مثل قول الصادق عليه‌السلام في مقبولة ابن حنظلة : انظروا الى من كان منكم قد روى حديثنا ـ انتهى ونحوه (١).

لكن الظاهر المصرح به في المسالك الإطباق على عدم الانعزال ، ولعله لأجل ظهور مثل قوله عليه‌السلام « انظروا » في جعل المنصب لا في الاذن في القضاوة خاصة ، فلا يزول بموت الامام وان كان الخطاب الشفاهي مختصا

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب صفات القاضي ح ٤.

١٠٢

بالمخاطب ، لان المفروض موت المخاطب ـ بالكسر ـ دون المخاطب.

وربما يعلل أيضا ـ كما في المسالك ـ بأن التولية العامة اعلام بالحكم الشرعي وانه من أهل الولاية ، كالاعلام بحجية قول العدل ، والحكم الشرعي لا يختلف باختلاف موت الامام ، وهو حسن وان كان مشروطا بإذن الإمام عليه‌السلام ، نظير وجوب الصلاة على الميت مشروطا بإذن الولي ، وقد أشرنا الى ما في ذلك فيما سبق ـ فتأمل.

وهكذا الكلام في الفقيه حال الغيبة ، بل الحكم هنا أولى ، لأنهم قائمون مقام الحجة المنتظر صلوات الله عليه وعلى آبائه الكرام ، فيخرج من جزئيات مسألة عزل القضاة بموت الامام ، بل هو خارج عما نحن فيه مطلقا ، لأنهم منصوبون في حال الغيبة بحكم الأدلة العامة ، مثل مقبولة عمر بن حنظلة (١) ونحوها ، ولا معنى لانعزالهم بموت أحد الأئمة السابقين كما لا يخفى.

فما في المسالك من اجراء البحث في الفقيه حال الغيبة وجعل نصبهم من باب الاعلام كما بينا غير صحيح. ولعل تقييد الفقيه بحال الغيبة سهو من قلمه ، والصواب ما حررنا من جعل محل الكلام النواب العامة الذين نصبهم الصادق عليه‌السلام بمثل قوله « انظروا الى من كان منكم » إلخ. والله العالم.

بقي الكلام في منصوبي الفقهاء والمجتهدين في حال الغيبة ، والظاهر أن الحكم أيضا كما ذكر من الانعزال ، بل هنا أولى ، لأن بقاء ولاية المنصوبين ـ كما يقوم على الأطفال مثلا ـ مبني على كون ولايتهم تصرفا من تصرفا الفقيه ونصبا منه ، وقدرته على مثل ذلك النصب وشرعيته غير معلومة ، والتمسك بعمومات أدلة الولاية قد عرفت ضعفه فيما سبق عند البحث عن جواز قضاء المقلد فارجع وتأمل.

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١ من أبواب صفات القاضي ح ٤.

١٠٣

ومما ذكرنا يظهر ضعف أحد الوجهين المذكورين في المسالك ، أعني وجه عدم الانعزال في المتصرفين في شغل عام كقوام الأطفال والوقوف. وما علله به من ترتب الضرر بولايتهم الى أن يتجدد الولاية. واضح المنع. والله العالم.

التقاط

[ علم القاضي هل يكون بينة للقضاء ]

اختلفوا في قضاء القاضي غير الامام عليه‌السلام بعلمه على أقوال ، ثالثها القضاء في حقوق الناس لا في حقوق الله ، ورابعها العكس. والأكثر على جواز القضاء مطلقا ، وهو الأظهر.

واعلم أن أصل القضاء بالمعنى المبحوث عنه أمر على خلاف القاعدة ، أشرنا إلى وجهه في صدر الباب عند البحث عن جواز قضاء المقلد ، وحاصله : ان القضاء سلطنة إلزام شرعي للشخص على ما لا يقتضيه تكليفه ، سواء كان القضاء بمقتضى العلم أو بمقتضى البينة ، والأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي.

وهذا هو المراد مما ذكرنا في الالتقاط المتقدم من كون العلم في مسألة القضاء موضوعا قابلا للإثبات والنفي ، والأصل عدم الإلزام في الحكم الوضعي التكليفي في مقام الحجية ، لكن إذا فرض وجوب القضاء لا محالة فلا معنى لعدم اعتبار العلم ولا لاعتبار سائر الموازين في مقابله. مثلا إذا علم القاضي بحقية الدعوى فالإعراض عن مقتضى العلم والرجوع الى اليمين لا معنى له ، أو علم مثلا أن قاتل زيد هو عمرو وأقيمت البينة على كونه خالدا فان الحكم بالقصاص عن خالد وعدم الحكم بالقصاص عن عمرو مع العلم بأن خالدا ليس بقاتل ، يوجب التخصيص في أدلة الأحكام الواقعية ، مع أن القاضي إنما أمر بالقضاء حسب الحق الواقعي.

١٠٤

وقد أجاد في المسالك في مقام الاستدلال على المدعي حيث تمسك في اعتبار العلم بمثل قوله تعالى « السّارِقُ وَالسّارِقَةُ » ، فإن الخطاب بقطع السارق وغيره من الخطابات لا يحتاج في تنجيزها سوى العلم القاطع للعذر.

ومن هنا ظهر أن التمسك بأدلة البينة أو ببعض ما ورد في باب القضاء من حصر الموازين في الأربعة أو نحو ذلك. فاسد جدا ، للقطع بأن الموازين الشرعية كلها أمارات على الواقع ، ومن شأن الامارة اختصاصها بالجاهل.

والحاصل ان القول بعدم حجية العلم للقاضي وانه انما يقضي حسب البينة مثلا ولو علم بكذبها تصويب محض أما في الموضوعات ، فهو باطل بالضرورة والإجماع ، لأن القاتل والزاني والمديون ونحوها من موضوعات الاحكام ليس مما يعم الموضوع الواقعي وما يقام عليه البينة إجماعا وضرورة من العامة والخاصة ، أو تصويب في الموضوعات بملاحظة تعلق الاحكام ، بمعنى ثبوتها للأمرين الموضوع الواقعي والظاهري الذي أقيم عليه البينة.

وهذا وان لم يكن ضروري البطلان كالأول ـ بل ربما قال به بعض ـ ولكنه بديهي السقوط عن الانظار ، فالحق ما عليه الأكثر من القضاء بالعلم مطلقا.

وأما الامام عليه‌السلام فقد نقل الاتفاق على قضائه بعلمه ، فالأمر فيه أوضح بعد دعوى غير واحد الاتفاق عليه.

وأما ظاهر بعض الروايات الدالة على اغضائهم عليهم‌السلام عن علومهم في المعاملة مع الناس ، بقول مطلق أو في خصوص فصل الخصومات. فروايات متشابهة قابلة لضروب من التأويل والتوجيه التي : منها عدم التفتيش والسؤال لا عدم العمل بالعلم مع حصوله ، ومنها اقتضاء المصلحة في خصوص المقام للاعراض عن الواقع ، ومنها غير ذلك مما لا يحد تحت حد ، مضافا الى عدم وضوحها سندا ودلالة.

١٠٥

وبالجملة لم يثبت لنا إهمال الامام لعلمه في مورد ، وعلى تقدير الثبوت فهو قضية في واقعة محتملة لكثير من التأويلات والتوجيهات التي ذكر السيد قدس‌سره جملة منها. والله العالم.

التقاط

[ حبس المدعى عليه لو كانت بينة المدعى غير تامة ]

قال الشيخ في محكي المبسوط : إذا أقام المدعي بينة ولم يعرف الحاكم عدالتها فالتمس المدعي حبس المنكر ليعدلها جاز للحاكم حبسه لتقام البينة على ما ادعاه.

واستشكل فيه المحقق « قده » من حيث أنه لم يثبت الحق بتلك البينة بعد حق يوجب عقوبة الحبس.

ومبنى الخلاف ـ على ما ذكره في المسالك ـ على أن العدالة شرط أو أن الفسق مانع ، فالشيخ بنى على الثاني والمشهور على الأول.

أقول : بناء الشيخ على كون الفسق مانعا لا يجديه أيضا في تعجيل الحبس إذ لا بد من رفع المانع في اقتضاء العلة التامة أثره.

ولعله مبنى ـ مضافا الى ما ذكر ـ على شي‌ء آخر أيضا ، وهو أن المانع يكفي للحكم بعدمه الشك في وجوده ولو لم يقتضيه شي‌ء من الامارات ، ولا يلزم في نفي المانع من الاستناد إلى شي‌ء بعد الأصل ، إذ لو لا ذلك لوجب أيضا عدم الحكم حتى يعلم أن البينة غير فاسقة اما بالوجدان أو بالأصل ، بأن كان الشاهدان غير فاسقين في السابق.

ومما ذكرنا ظهر أنه لا فرق بين كون العدالة شرطا أو الفسق مانعا الا على الاكتفاء بالشك في رفع المانع أو دعوى ان الفسق مطلقا مجرى للأصل باعتبار

١٠٦

كونه أمرا حادثا لا محالة. والأول غير ثابت بل المظنون خلافه كما ذكرنا في الأصول ، والثاني مبني على كون الفسق مجرد صدور بعض الأفعال القبيحة ، بأن يكون بينه وبين العدالة واسطة ، وهو غير بعيد.

ويمكن ابتناء الخلاف على كون العدالة هي ظهور الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو الملكة أو حسن الظاهر ، وهو أحسن.

وفي عبارة المسالك هنا نوع مؤاخذة ، لأنه جعل البنائين بناء واحدا على ما يظهر من ظاهر التفريع في قوله « فالشيخ بنى في جواز الحبس على أصله من ثبوت العدالة الى أن يظهر خلافها » ، مع احتمال كون المراد من هذا الأصل كون الإسلام طريقا للعدالة لا نفسها ، فتصير المباني ثلاثة والمؤاخذة أيضا باقية كما لا يخفى.

ثمَّ ان إطلاق البينة على ذات الشاهدين ـ كما في عبارة الشرائع ـ اما مبني على المسامحة على أن البينة في الاصطلاح اسم لذات العدلين لأنها مقيدة بالعدالة. والله العالم.

التقاط

( في نقض الحكم )

اعلم أن حرمة نقض الحكم في الجملة مما لا خلاف فيه ولا اشكال ، وقد أشرنا في صدر الباب الى أن حرمة النقض لا يحتاج في إثباتها إلى دليل آخر غير ما دل على وجوب الرضا بحكم الحاكم بعد تصور حقيقة الحكم ، فان الحكم المبحوث عنه ـ على ما سبق مرارا ـ عبارة عن فصل الخصومة وقطع المنازعة بإلزام أحد المتخاصمين على غير ما يقتضيه تكليفه.

ومن الواضح أن النزاع يستحيل أن يطرأ عليه فصلان متماثلان أو متضادان ،

١٠٧

نحو استحالة فصل أمر متصل مرتين ، فاذا تحقق مرة عند حاكم جامع لشرائط صحة القضاء فصل الخصومة فلم يبق أمر قابل للفصل شرعا بعد ، سواء رضي الخصمان بتجديد المرافعة أم لا ، لان رضاء هما يقع لا غيا بعد فرض عدم خصومة بينهما شرعا ، وان جواب المنكر منهما بالنفي غير مسموع ومطالبة المدعي منهما بالحق غير مقبولة في الإسلام ، فلا حاجة حينئذ إلى إقامة دليل من نص أو إجماع على حرمة النقض وان كانا موجودين في المسألة كما لا يخفى.

فما مال اليه بعض مشايخنا قدس‌سره من عدم المانع من تجديد المرافعة على تقدير رضاء المحكوم عليه. ليس في محله بعد ما عرفت من عدم بقاء محل قابل للفصل بعد الحكم الأول.

[ ما يجوز فيه نقض الحكم ]

نعم يجوز النقض في مواضع ثلاثة ، وهي المواضع التي يقع فيها الحكم الأول من أصله لاغيا غير مؤثر لا أنه حقيقة نقض للحكم بعد صحته :

( أحدها ) ما لو علم الحاكم أو غيره مخالفة حكم الحاكم الأول للحكم الإلهي الواقعي علما قطعيا ، سواء كان ذلك بنظر الحاكم الثاني في الحكم الأول حيثما يجوز له النظر أو بظهور المخالفة من غير نظر ، فإنه يجوز النقض حينئذ حتى يتجدد المرافعة ، لأنه الحكم على حد غيره من الامارات فلا يكون حجة إلا مع الجهل بالواقع ، وأما مع العلم به فلا حكومة له ولغيرها من الامارات على الواقع أبدا ، بل لا يعقل ذلك الأعلى التصويب الباطل.

نعم حكم الحاكم حاكم على سائر الأمارات كائنا ما كان ، بمعنى وجوب متابعة الحكم على الوجه الذي أمرنا بمتابعته لا تنزيل المحكوم به بمنزلة الواقع وتحكيمه على ما ينافيه من الامارات القائمة في مورد الحكم من تقليد أو اجتهاد

١٠٨

كما يأتي. ومنه يعلم أن التمسك بإطلاق أدلة حرمة الرد هنا ليس في محله مع إمكان دعوى الإجماع عليه.

( وثانيها ) ما لو علم مخالفة الحكم لدليل معتبر عند الكل ، كالخبر الصحيح المعمول به الثابت في الكتب المعتبرة مع عدم المعارض ، فان نقض الحكم حينئذ جائز على ما صرح به غير واحد ، لان العلم بالواقع الاولى والواقع الثانوي مع وحدته بين الكل سيان في عدم جواز المخالفة ، ولذا جعلوا الإجماع من الأدلة القطعية التي لا يجوز مخالفتها ، مع أنه قد لا يكشف بها عن الواقع بل عن وجود دليل معتبر عند الكل ، بحيث لو فرض مراعاة المجتهد لشرائط الاجتهاد لم يفت الا بمضمونه.

والحاصل ان المناط على كون المحكوم به مخالفا للتكليف الفعلي المتبع عند الكل ، سواء كان واقعيا أو ظاهريا ، كمدلول ظاهر كتاب سالم عن المعارض أو ظاهر سنة متواترة أو إجماع كاشف عن دليل ظني معتبر أو خبر واحد صحيح عند الكل على القول به مثلا.

وأما مخالفة الحكم الثانوي مطلقا فليس محل النقض ، لأن الأحكام الثانوية متعددة حسب تعدد الآراء ، فليس لمجتهد ابطال ما زعم الأخر حكما إلهيا والا لم يبق للحكم مورد لا ينتقض فيه الا نادرا.

وأدلة حرمة الرد يتعين الشمول للمسائل الاجتهادية الخلافية ، بل مورد مقبولة عمر بن حنظلة التي هي من أمتن أدلة حرمة الرد هي صورة الاختلاف في الحكم.

والحاصل ان المخالفة في الرأي لا يوجب جواز النقض مطلقا ، بل تتوقف على كونها بحيث لا تخفى على أحد يراعى لوظائف الاجتهاد.

( وثالثها ) ما لو ظهر خطأ الحاكم في الاجتهاد قصورا أو تقصير ، مثل الاستناد في الحكم الى كتاب فيه ترك أو خبر معارض أقوى مع ترك الفحص أو على

١٠٩

بعض كتب الاخبار من غير المراجعة إلى غيره أو غير ذلك مما ينافي الاجتهاد الصحيح.

ولا فرق في هذا القسم بين أن يكون الحكم موافقا للواقع أو مخالفا. لان سبب جواز النقض هنا فساد الاجتهاد لا مخالفة الواقع. والسر في ذلك أن الاجتهاد في مقام الحكم موضوعي لا طريق صرف الى الواقع ، فلا يجدي مصادفته للواقع مع اختلال شرائط صحته ، ولذا لا ينفذ حكم المقلد ولو مع مطابقته للواقع.

ومن هنا يعلم الفرق بين هذا وسابقة ، لان سبب النقض في الثاني مخالفة الحكم للواقع الثانوي المعتبر عند الكل ولو كان صادرا عن اجتهاد صحيح وهنا مجرد فساد الاجتهاد ، سواء صادف الواقع الأولى أو الثانوي أم لا. ولو عممت الخطأ في الاجتهاد بحيث يندرج فيه الثاني كان الفرق بينهما بالعموم والخصوص المطلقين كما لا يخفى.

هذا كله في المسائل الخلافية ، وأما الحكم في الموضوعات فالظاهر عدم الفرق بينهما الا على بعض الوجوه ، وحاصله ان العلم بخطإ الحاكم في الموضوع أو قصوره أو تقصيره في استعمال موازين القضاء يصحح نقضه في الباطن جدا ، بمعنى عدم وجوب الالتزام بآثار الحكم في الواقع كما يجب على الجاهل الشاك ، فيجوز المقاصة الباطنية في غير اليمين مثلا ، وأما النقض جهارا ـ بمعنى تجديد المرافعة من رأس ـ فلعل فيه بعض المحذور المانع من النقض ، بل الأمر كذلك في المسائل الخلافية ، فلو أوجب تجديد المرافعة فتنة أو إهانة محرمة على الحاكم الأول لم يجز على احتمال.

ثمَّ المراد بالنقض ليس ما يتبادر منه ، أعني ابطال الأمر المستمر ، بل المراد هو الحكم بفساد حكم به الأول من حين صدوره ، ففي لفظ « النقض » هنا

١١٠

مسامحة.

ومن هنا يعلم أنه لو شك في جواز النقض وعدمه لم يجز التمسك بالاستصحاب لإثبات العدم ، لان الشك في النقض شك في وقوع الحكم الأول صحيحا حين صدوره ، بل المحكم فيه هو التمسك بأصالة عدم ترتب الأثر على حكم الحاكم الثاني على اشكال فيه ـ فتأمل.

التقاط

[ ما ذا يراد من حرمة نقض الحكم؟ ]

هل المراد بحرمة النقض في مواردها الالتزام بآثار المحكوم به مطلقا في نوعه أو في شخصه ، أو بآثاره من حيث انفصال الخصومة.

مثلا إذا اختلف المتبايعان في نجاسة المبيع كالعصير الذاهب ثلثاه بالشمس وطهارته فحكم الحاكم بالطهارة ، ففي وجوب ترتيب جميع آثار الطهارة على نوع العصير أو على شخصه المتنازع فيه ـ سواء وافق اجتهاد المرتب أو تقليده أم خالف ـ أو خصوص الأثر الذي بسببه وقعت الخصومة ـ أعني صحة البيع وتملك البائع الثمن من غير ترتيب المشتري أو غيره سائر آثار الطهارة كإباحة الأكل والصلاة ونحوهما إذا لم يساعد تكليفه ـ وجوه ، أقربها الأخير ، لقصور الأدلة عن الدلالة على تحكيم الحكم على تكليف الشخص الأمن حيث انفصال الخصومة.

بل الظاهر من بعض الأدلة كقوله « فارضوا به حكما » (١) مجرد ارتفاع الخصومة لأنه الذي يقبل الحكم بمعنى الإلزام وأما غيره من الاثار فليس مما يقبل ذلك ، بل الحكم بالنسبة إلى الاثار الأخر بمنزلة الفتوى أو الشهادة التي

__________________

(١) الوسائل ج ١٨ ب ١١ من أبواب صفات القاضي ح ١.

١١١

لا تنفذ في حق حاكم آخر ومقلديه.

ومما ذكرنا ظهر ضعف ما قد يتوهم هنا من التفصيل بين ما إذا كان متعلق الحكم طهارة العصير مثلا بأن يقول الحاكم حكمت بطهارته فالأول أو الثاني أو أداء الثمن بأن يقول للمشتري حكمت عليك برد الثمن فالثالث ، لأن الطهارة من حيث هي مع قطع النظر عن استلزامها أداء الثمن لا تحتمل الحكم بل الفتوى ، ومع هذه الحيثية ترجع الى الثاني.

ثمَّ انه لو قيل بأحد الأولين امتنع الحكم بنجاسة ذلك العصير الجزئي أبدا حتى في مخاصمة أخرى بين اثنين آخرين ، بخلاف الثالث ، فإنه غير مانع عن الحكم بنجاسته في منازعة أخرى. فلو باع المشتري ذلك العصير بتقليد أو اجتهاد فيه ووقع النزاع بينه وبين البائع في الطهارة والنجاسة فترافعا الى حاكم آخر يرى نجاسته نفذ حكمه بالنجاسة.

ولو قيل بالثاني في الملازمة بينه وبين الأول بعدم القول بالفصل بين جزئيات العصير الخارجية وجهان : وجه الثاني إمكان القول بجواز خرق الإجماع المركب في الأحكام الظاهرية كما تقرر ذلك في الأصول. الا أن يقال بالفرق بين خرقه بحسب الأصول أو بحسب التقليد وغيره من الامارات المجعولة ، فيجوز الأول دون الثاني ، وهو تحكم. نعم لو أوجب التفكيك مخالفة قطعية عملية لم يجز ، كما لا يجوز ذلك بحسب الأصول أيضا.

[ نقض الفتوى بالحكم وبالعكس ]

هذا هو الكلام إجمالا في نقض الحكم بالحكم ، وأما نقض الفتوى بالحكم وبالعكس فقد ظهر أيضا مما ذكر ، وهو جواز الأول دون الثاني ، لأن حكم الحاكم حاكم على جميع الطرق والامارات. ومقتضى الحكومة أن لا يمنع

١١٢

الفتوى السابقة من نفوذه ولا يرفع المتأخرة لأثره.

وأما نقض الفتوى بالفتوى ـ أي رفع اليد عن آثار الفتوى السابقة ماضيا ومستقبلا بالفتوى المتأخرة ـ فالكلام فيهما محرر في الأصول تعرضنا لجملة القول فيه في مسألة الاجزاء ، وإجمال القول هنا هو : ان الفتويين تارة تكونان من مجتهد واحد وأخرى من مجتهدين :

( أما الأول ) فقد ذكرنا في الأصول أن الحق فيه النقض ، بمعنى وجوب رفع اليد عن آثار الفتوى المعدول عنها في الماضي والمستقبل ، نظرا الى عدم كون الأمر للاجزاء ، من غير فرق بين العبادات والمعاملات والإيقاعات والاحكام ، على خلاف ضعيف في بعضها كالعبادات وبعض أقسام المعاملات.

نعم استثنينا من صورة النقض قضاء العبادات على احتمال قوي للعسر والحرج في مظان جريانهما ، وذكرنا أيضا أن قيام السيرة على عدم النقض مطلقا ـ وان ادعاه بعض ـ أمر غير ثابت.

وكذا دعوى لزوم العسر والحرج ، خصوصا بعد ملاحظة الاتفاق على النقض في صورة العدول بدليل علمي ، فان الطرق الشرعية تجري مجرى العلم في الحكاية عن الواقع أولا وآخرا. ودعوى أن الحرج والعسر المترتبين على العدول العلمي غير قادحين لشذوذه. مدفوعة بأن العدول مطلقا ظنيا كان أو قطعيا شاذ خصوصا في المسائل المبتلى بها.

ونحن لم نجد في عصرنا مجتهدا عدل في شي‌ء من تلك المسائل ، بل هو محض فرض لو وقع لكان نادرا. واختلاف فتاوى العلامة في كتبه الاستدلالية لا ينافي دعوى الشذوذ ، لان حال كتب الاستدلال غير حال رسائل الفتوى.

نعم هنا كلام آخر ، وهو الفرق بين المجتهد ومقلديه ودعوى عدم النقض في حقهم ، لأن أدلة التقليد باعتبار كونها أدلة لبية محصلة من مجموع الكتاب

١١٣

والسنة والإجماع يمكن دعوى اختصاصها بالجاهل الغير المتعبد بشي‌ء من الطرق ، ولذا لا يتناول المجتهد جدا والمقلد إذا قلد مجتهده في المسألة أمكن إلحاقه بالمجتهد من حيث كونه متعبدا في مقام التكليف بطريق شرعي وهو التقليد ، فلا تتناوله تلك الأدلة اللبية.

لكن قوينا في الأصول النقض في حقه وإلا لزم القول باستمرارهم على تقليدهم في المستقبل أيضا ، وهو خلاف الإجماع ظاهرا ، فكما أن رفع اليد عن الفتوى المعدول عنها وجب عليهم في المستقبل فكذا في الماضي.

وما ذكرنا من قصور شمول الأدلة لا تفاوت فيه بين الماضي والمستقبل ، مع أن الشك في تناول الأدلة للعامي المقلد في الماضي معارض بالشك في حجية الفتوى القديمة في حقهم بعد العدول ، بمعنى أن أدلة التقليد لا إطلاق فيها كما أوضحناه في محله. والقدر المعلوم من حجية تلك الفتوى في حقهم هو إذا لم يعدل المجتهد ، وأما بعده فيرجع الى الأصل القاضي بالقدر المتيقن ، وهو الأخذ باللاحقة. وكيف كان فهذا الكلام لا كرامة فيه.

( وأما الثاني ) أعني نقض المجتهد فتوى غيره ـ بمعنى عدم ترتب آثاره في الماضي والمستقبل والحال ـ فالكلام فيه بمقتضى القواعد مثل ما مر من النقض ، لكن الخلاف فيه لعله أكثر وآكد ، وان نقل عن العميدي والعلامة وغيرهما دعوى الإجماع على النقض.

ومدرك المسألة في الموضعين شي‌ء ذكرناه أيضا في الأصول من أن الطرق والأمارات الشرعية هل هي محدثة للمصلحة كما يقوله أهل التصويب المحال أو مغيرة لها أو طريق محض مشتمل على المصلحة الطريقية أو غير مشتمل. فان قلنا بالأولين لم يعقل النقض ، وان قلنا بأحد الأخيرين وجب.

وقد رجحنا في الأصول الثالث صونا لأمر الشارع بالتعبد عن خلو المصلحة

١١٤

وقلنا ان حال الأدلة الشرعية حال الأمارات في الموضوعات ، فكما أن كل شخص مكلف بما عنده من الامارة على حياة زيد أو موته أو طهارة شي‌ء أو نجاسته ، كذلك المجتهد مكلف بما عنده من الأدلة طابق دليل الغير أم خالف ، فلا يجب بل لا يجوز له ترتيب آثار الزوجية بين اثنين فيما لا يساعده اجتهاده وان ساعده اجتهاد الغير أو اجتهاد الزوجين ، وكذا سائر المعاملات والعبادات والطهارات.

والحاصل ان مقتضى القاعدة النقض الا فيما قام فيه السيرة أو الحرج.

وربما قيل بأن الأمور الإضافية ـ كالزوجية والملكية ونظائر هما ـ لا يجوز فيها النقض مطلقا لأنها أمورات عرفية لا واقعية لها سوى ما عهدوه والتزموه فيما بينهم ، من غير نظر الى شي‌ء من الأسباب الشرعية ، وان كانت هي أيضا من أسباب تحقق عناوين هذه الأمور.

ويؤيده أن العرف إذا فهموا حرمة التصرف في أموال الكفار وأزواجهم لم يتوقفوا على ترتيب حكم الزوجية والملكية على أزواجهم وأموالهم في طريقتهم ولو مع قطع النظر عما ورد في الشرع من الأمر بإقرارهم على طريقتهم وأخذهم بمعتقدهم الذي لا يعرفه إلا علماء المتشرعة. فالمدار في هذه الأمور ليس على حقائقها الواقعية الثابتة عند الشارع حتى يجري فيها التخطئة ويترتب عليه النقض. بل على الإضافات الحاصلة من الأسباب الظاهرية المستعملة فيما بينهم طابقت الأسباب الواقعية أم خالفت ، بل سواء كانت أسبابا شرعية أو من مجعولاتهم ، مثل ما يجري بين الكفار من أسباب هذه الأمور.

وهذا وان ذهب اليه بعض أهل النظر من المتأخرين ، لكن الحكم به أيضا لا يخلو عن اشكال. فكيف كان فتحقيق هذه المسألة مطالب من الأصول. والله العالم.

١١٥

التقاط

[ تتبع الحاكم حكم من قبله ]

ذكر في الشرائع أنه ليس على الحاكم من قبله ، لكن لو زعم المحكوم عليه أن الأول حكم عليه بالجور لزمه النظر فيه. وذكر قبله ما ينافي ذلك ، وجمع بينهما في المسالك بما لا بعد فيه معنى لا لفظا.

وظاهر العبارة أن النظر يجوز للحاكم ولو لم يزعم المحكوم عليه الجور ، حيث أن قوله « ليس عليه » نفي الوجوب لا الجواز ، ولعله كذلك قبل صدور الحكم من الأول بعد الثبوت ، إذ لا مانع منه ، لأنه ليس بالتجسس المنهي عنه ، الا أن يكون غرضه الاطلاع على عيوب الحاكم الأول فيحرم ، وأما بعد الحكم فالظاهر أيضا كذلك لما ذكرنا.

ثمَّ ان الظاهر من وجوب النظر على الحاكم اختصاص الكلام بالحكم في الشبهات الحكمية ، خصوصا بملاحظة ادعاء المحكوم عليه الحكم الجوري ، لان دعوى الجور ليس مما ينفع فيه البينة ، إذ هو من قبيل الشهادة على الرضاع المحرم ونحوه مما يتضمن الاخبار بحكم الله.

ويمكن تنزيل دعوى الجور على ذكر شي‌ء من أسبابه ، كالحكم بالبينة الفاسقة عنده أو مطالبة اليمين من المدعي ونحوه مما يسمع فيه البينة ، وحينئذ فيكون المراد بنظر الحاكم تجديد المرافعة.

التقاط

[ ترجمة مترجم الدعوى شهادة أو رواية؟ ]

إذا افتقر الحاكم الى من يترجم مراد الخصمين أو الشاهدين مثلا ، جاز له أخذ

١١٦

المترجم والمشي بمقتضى الترجمة.

والاشكال المذكور في دلالة آية النبإ على حجية الاخبار مع الواسطة ، يجري في المقام أيضا كالإقرار بالإقرار. لكن الظاهر عدم الخلاف في سماع قول المترجم ، وإنما الخلاف بعد الاتفاق على اعتبار العدالة فيه في اعتبار العدد.

ومبنى المسألة على كون الترجمة شهادة أو رواية مثلا ، وذكروا في تميز الشهادة عن غيرها أمرا مذكورة في محلها لا يخلو جلها أو كلها عن النظر.

والذي تلقيناه من الأستاد الأنصاري دام ظله هو أن الشهادة عبارة عن كل خبر صدر في مقام التوقع والانتظار ، فكل خبر كان مسبوقا بسؤال محقق أو مقدر بمعنى وقوعه في مقام انتظار شخص له كالاخبار ابتدائية غير مسبوقة بسؤال عن مضامينها تحقيقا أو تقديرا.

ومن هنا يظهر اندراج الترجمة تحت الشهادة ، فيعتبر فيها التعدد ، للإجماع على اعتباره فيها.

ثمَّ لو شك في كون شي‌ء شهادة أو رواية يرجع الى إطلاق ما دل على اعتبار قول العدل مطلقا ، سواء انضم معه عدل آخر أم لا ، بناء على حجية قول العدل كذلك ، اقتصارا فيما خرج عن تحت العام ـ وهي الشهادة ـ على القدر المعلوم كونه من أفردها ، كما هو الشأن في كل مخصص مجمل بحسب المفهوم مردد بين الأقل والأكثر ، فإن المرجع في الفرد المشكوك الاندراج هو العام. ولو منع عن عموم حجية قول العدل كان المرجع في الموارد المشكوكة أصالة عدم الحجية كما لا يخفى. والله العالم.

١١٧

التقاط

[ هل يكفي إظهار الإسلام في الشهادة ]

[ أو لا بد من العلم بالعدالة ]

إذا عرف إسلام الشاهدين وجهل عدالتهما ، توقف الحاكم حتى يتحقق ما يبنى عليه من عدالة أو فسق عند المشهور ، خلافا للمحكي عن الخلاف ، فذهب إلى أنه يحكم بمجرد ظهور الإسلام وعدم ظهور الفسق. وهذا هو الأصل عند الشيخ في كل موضع يشترط فيه العدالة ، فيترتب أثرها بمجرد الإسلام مع عدم ظهور الفسق ، وتبعه بعض القدماء أيضا من الشيعة. والمشهور بين الأصحاب سيما المتأخرين هو الأول.

وهاهنا قول ثالث صرح به بعض رؤساء المتأخرين (١) وفاقا لما استظهره من كلام بعض القدماء ، وهو عدم الاكتفاء بالإسلام واعتبار حسن الظاهر.

والمراد بالاكتفاء بالإسلام أو بحسن الظاهر كونهما طريقين جعليين من الشارع إلى العدالة التي هي ملكة من الملكات وصفة من الصفات ، نظير سائر الطرق الشرعية كالبينة وفعل المسلم وأصالة الطهارة ، لا أن العدالة عبارة عنهما كما تو همه جملة من المتأخرين حيث زعموا أن الاختلافات في المقام راجعة إلى حقيقة العدالة وأنها الملكة أو الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر.

ولكنه سهو واضح ، لان القول بأن العدالة هي نفس الإسلام مع عدم ظهور الفسق أو حسن الظاهر ، غير معقول عقلا ونقلا. فهنا مقامان : الأول عدم كون العدالة عبارة عن الإسلام مع عدم ظهور الفسق عند أحد من العلماء ، والثاني عدم اعتبار هما في مقام الكشف عنها.

( لنا على الأول ) ان العدالة والفسق أمران متضادان بالبداهة والوجدان ،

__________________

(١) قائله الوحيد البهبهاني « قده ».

١١٨

فلا يجتمعان في مورد واحد ضرورة ، ولو كان الإسلام مع عدم ظهور الفسق نفس العدالة جاز اجتماعها مع الفسق النفس الأمري ، لعدم المنافاة بين الجهل به وثبوته واقعا. والسر في ذلك أنه إذا اعتبر في أحد الشيئين عدم العلم بالآخر جاز اجتماعهما واقعا وخرجا عن الضدية.

وأما عدم ثبوته فعلا فلان بناء الشيخ على العدالة بمجرد الإسلام ، وعدم ظهور الفسق ليس فيه دلالة على كونه هو العدالة ، بل فيه الدلالة على الخلاف كما أوضحنا. مضافا الى ظهور ما في محكي الخلاف على المدعي بأن الأصل في الإسلام هو العدالة ، لأن القول بكون الإسلام مع عدم ظهور الفسق هو العدالة ينافي جعل العدالة في المسلمين من الأصول.

ومن شواهد ما ذكرنا عبارة الشرائع حين نقل الخلاف عن الشيخ ، حيث أرسل وجوب البحث عن العدالة مع الجهل بها إرسال المسلمات ثمَّ قال : وكذا لو عرف إسلامهما وجهل عدالتهما. ثمَّ ذكر خلاف الشيخ في وجوب البحث.

ووجه الشهادة : ان الغرض من قوله « وكذا ذكر خلاف الشيخ » في بعض أقسام المسألة الاولى ، وهذا ينافي كون العدالة هو ظهور الإسلام ، إذ العدالة حينئذ مجهولة عند الشيخ حتى يبحث عنها ، مع أن ظاهر العبارة اختلاف الشيخ في وجوب البحث حينئذ لا في تحقق العدالة.

مع أن إرسال الأولى إرسال المسلمات يقتضي فرض صورة تكون العدالة فيها مجهولة غير مبحوث عنها عند الكل حتى الشيخ ، وعلى تقدير كون الإسلام نفس العدالة لم يتصور ذلك الفرض.

وأيضا فرض عنوان المسألة الخلافية بما إذا عرف الإسلام وجهل العدالة ، لا يجامع القول بأن العدالة هي نفس الإسلام مع عدم ظهور الفسق عند الشيخ كما لا يخفى. نعم ربما أطلق عليه العدالة في كلام الشيخ وفي كلام غيره المتعرضين

١١٩

لنقل قوله ، لكنه مسامحة في التعبير وتنزيل لا يجري مجرى العدالة عند الشيخ منزلتها.

وهذا صاحب المسالك لما دخل في المسألة حرر الخلاف في وجوب البحث عن العدالة والاعتماد على ظاهر الإسلام. وهو كما ترى صريح في كون الخلاف في طريقها ، ثمَّ بعد نقل أدلة الأول قال : وفي هذه الأدلة نظر :

أما الآية ـ يعني قوله تعالى « وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ » (١) ـ فليس فيها أن المراد منها ما ذا. ومدعي الاكتفاء بظهور الإسلام إذا لم يظهر الفسق يقول :

ان ذلك هو العدالة وانها الأصل في المسلم. بمعنى أن حاله يحتمل على القيام بالواجبات وترك المحرمات ، ومن ثمَّ جرى عليه هذا الحكم حتى لا يجوز رميه بفعل محرم ولا ترك واجب أخذا بظاهر الحال ، واتفق الكل على بناء عقده على الصحيح ـ انتهى كلامه رفع مقامه.

فإنه وان نسب الى الشيخ أنه يقول بأن العدالة هو ظهور الإسلام لكن جعل ذلك عبارة أخرى عن الأصل والأخذ بظاهر حال المسلم. وحمله على عدم فعل القبائح وترك الواجبات قرينة على مسامحته في العبارة الأولى.

نعم ظاهر ما ذكره ثانيا بقوله : ثانيا سلمنا ان العدالة أمر آخر غير الإسلام وهي الملكة الاتية لكن لا يشترط العلم بوجودها بل يكفي عدم العلم بانتفائها ـ إلخ ، بقرينة المقابلة يوهم خلاف المقصود.

لكن الأمر في ذلك كله سهل بعد وضوح الأمر وبداهته ومعلومية كونها مسامحات في العبارة ، كما يصرح بذلك قول صاحب المسالك أيضا في شرح قول المصنف « ولا يجوز التعويل على حسن الظاهر » حيث قال : ومن اكتفى بالإسلام وجعله دليلا على العدالة اكتفي بحسن الظاهر بطريق أولى.

__________________

(١) سورة الطلاق : ٢.

١٢٠