نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد عبد اللطيف الحسيني الكوه‌كمري الخوئي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٢

( الثانية ) أسباب التسلط على ملك الغير ، وهي أقسام خمسة :

الأول : ما تسلط (١) عليه بالتملك قهرا ، كالشفعة والمقاصة للمماطل ، وبيع الملك الممتنع عن الحق الواجب ، ورجوع البائع في عين ماله للتفليس مطلقا وللموت إن كان في المال وفاء ، وفسخ البائع بخياره إن قلنا بانتقال المبيع بالعقد ، وهو الأصح.

الثاني : ما تسلط على ملك الغير بالتصرف لمصلحة المتصرف خاصة ، كالعارية.

الثالث : ما تسلط على ملك الغير بالتصرف لمصلحة المالك ، كالوديعة المأذون في نقلها وإخراجها ، والوكالة المتبرع بها ( والوصية مع غنى الوصي ) (٢).

الرابع : ما تسلط لمصلحتها ، كالشركة والقراض والجعالة والوكالة بجعل.

الخامس : ما تسلط على ملك الغير بمجرد وضع اليد ، كالوديعة غير المأذون فيها إذا لم يحتج إلى النقل.

( الثالثة ) أسباب تقتضي منع المالك من التصرف في ماله ، وهي أسباب الحجر (٣) الستة وما يضاهيها ، كحجر الزوج على المرأة فيما يتعلق بالاستمتاع ، وحجر البائع والمشتري لتسليم الثمن والمثمن ، والحجر على سيد أم الولد فيما يتعلق بإخراجها عن ملكه إلا في مواضع :

الأول : في ثمن رقبتها مع إعسار مولاها به.

الثاني : إذا جنت على غير المولى.

__________________

(١) في ص : ما يتسلط عليه.

(٢) ما بين القوسين ليس في ص.

(٣) وهي الجنون والصغر والفلس والسفه والمرض المتصل بالموت والرقبة.

٦١

الثالث : إذا عجز عن نفقتها.

الرابع : إذا مات قريبها ولا وارث له سواها.

الخامس : إذا كان علوقها بعد الارتهان.

السادس : إذا كان علوقها بعد الإفلاس.

السابع : إذا مات مولاها ولم يخلف سواها وعليه دين مستغرق وإن لم يكن ثمنها.

الثامن : بيعها على من تنعتق عليه ، فإنه في قوة العتق.

التاسع : بيعها بشرط العتق على الأقرب.

( العاشر : أن تسلم في يد سيدها الكافر ) (١).

( الرابعة ) ما هو وسيلة إلى حفظ المقاصد الخمسة ، وهي النفس والدين والعقل والنسب والمال التي لم تأت شريعة إلا بحفظها ، وهي الضروريات الخمس فحفظ النفس بالقصاص والدية والدفاع ، وحفظ الدين بالجهاد وقتل المرتد ، وحفظ العقل بتحريم المسكرات والحد عليها ، وحفظ النسب بتحريم الزنا وإتيان الذكران والبهائم وتحريم القذف والحد على ذلك ، وحفظ المال بتحريم الغصب والسرقة والخيانة وقطع الطريق والحد والتعزير عليها.

قلت : ومن هنا ظهر بطلان قول من قال إن الخمر كانت مباحة في بعض الشرائع المتقدمة ، والمنقول عن أئمتنا عليهم‌السلام خلاف ذلك ، ونقل المرتضى قدس‌سره إجماع الإمامية على تحريمها وتحريم كل مسكر في كل شريعة وأنها لم تبح في وقت أصلا. وذلك هو المطلوب.

( الخامسة ) ما كان مقويا لجلب المصلحة وذب المفسدة ، وهو القضاء والدعاوي

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في ص.

٦٢

والبينات ، وذلك لأن الاجتماع من ضروريات المكلفين ، وهو مظنة التنازع ، فلا بد لحاسم لذلك وهو الشريعة ، ولا بد لها من سائس وهو الإمام ونوابه والسياسة بالقضاء وما يتعلق به.

المطلب الثالث

( فيما يترتب على القواعد الخمس المستنبطة على وجه مختصر )

وفيه أبحاث :

البحث الأول

قاعدة :

اليقين ، وهي البناء على الأصل ، أعني استصحاب ما سبق. وهو أربعة أقسام :

( الأول ) استصحاب النفي في الحكم الشرعي إلى أن يرد دليل ، وهو المعبر عنه بالبراءة الأصلية.

( الثاني ) استصحاب حكم العموم إلى ورود مخصص وحكم النص إلى ورود ناسخ ، وهو إنما يتم بعد استقصاء البحث عن المخصص والناسخ.

( الثالث ) استصحاب حكم ثبت شرعا ، كالملك عند وجود سببه وشغل الذمة عند إتلاف أو التزام إلى أن يثبت رافعه.

( الرابع ) استصحاب حكم الإجماع في موضع النزاع ، كما نقول : الخارج من غير السبيلين لا ينقض الوضوء ، للإجماع على أنه متطهر قبل هذا الخارج فيستصحب ، إذ الأصل في كل متحقق ودوامه حتى يثبت معارض والأصل عدمه.

٦٣

وكما نقول في المتيمم : إذا وجد الماء في أثناء الصلاة لا ينتقض تيممه ، للإجماع على صحة صلاته قبل وجوده ، فيستصحب حتى يثبت دليل يخرجه عن التمسك به.

( ومن فروعها ) طهارة الماء لو شك في نجاسته ونجاسته لو وقعت فيه نجاسة وشك في بلوغه الكرية ، لأن الأصل عدم بلوغها.

وقيل : هو من باب تعارض الأصلين ، لأن الأصل طهارة الماء والشك في تأثره بالنجاسة.

ويضعف : بأن ملاقاة النجاسة المعلومة رفع حكم الأصل السابق فيحتاج إلى مانع ، أما لو كان كرا فوجد متغيرا وشك في تغيره بالنجاسة أو بالأجون (١) فالبناء على الطهارة ، لأنها الأصل الذي لا يعارضه أصل آخر.

( ومنها ) عدم الالتفات لو تيقن الطهارة وشك في الحدث. وقال بعض العامة : يتطهر ، لأن الصلاة ثابتة في ذمته يقينا ، فلا تزول إلا بيقين الطهارة.

ويرد عليه الخبر السالف ، وهو قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إن الشيطان ليأتي أحدكم إلى آخره (٢).

ولو تيقن الحدث وشك في الطهارة أعاد ، وكذا يعيد الصلاة بالشك في الركعتين الأولتين أو الثنائية الثلاثية ، لأنه مخاطب بالصلاة يقينا ، ولا يقين بالبراءة هنا إلا بإعادتها ولزوم الاحتياط لو شك في غير ذلك. فإن فيه مراعاة البناء على الأصل ومن عدم الإتيان بالزائد ، ووجود أداء الزكاة والخمس لو شك في

__________________

(١) أجن الماء أجنا وأجونا من باب ضرب وقعد : تغير إلا أنه يشرب ، فهو آجن. وفي القاموس : الآجن الماء المتغير اللون والطعم.

(٢) راجع ص : ١٠.

٦٤

أدائهما ، وسقوط الوجوب لو شك في بلوغ النصاب ، وصحة الصوم لو شك في عروض المفطر ، وصحة الاعتكاف لو شك في عروض المبطل. وكذا الشك في أفعال الحج بعد الفراغ منها ، وعدم قتل الصبي الذي يمكن بلوغه ، ودعوى المشتري العيب أو تقدمه ، ودعوى الغارم في القيمة.

وقد يتعارض الأصلان ، كدخول المأموم في صلاة ، فشك هل كان الإمام راكعا أو رافعا. ولكن يتأيد الثاني بالاحتياط. وكالشك في العبد الغائب (١) فتجب فطرته أو لا ويجوز عتقه في الكفارة أو لا ، والأصح ترجيح البقاء على أصل البراءة كاختلاف الراهن والمرتهن في تخمير العصير عند الراهن أو بعده ، لإرادة المرتهن فسخ البيع المشروط به ، فالأصل صحة البيع والأصل عدم القبض الصحيح. لكن الأول أقوى ، لتأيده بالظاهر من صحة القبض.

وكذا لو كان المبيع عصيرا ، وكذا لو اختلف البائع والمشتري في تغير المبيع ، وهو مما يحتمل تغيره ، فالأصل عدم التغير ، وصحة البيع والأصل عدم معرفة المشتري بهذه الصفة التي هو عليها الآن ، فإن حاصل دعوى البائع أن المشتري علمه على هذه الصفة ، ويتأيد هذا بأصالة عدم وجوب الثمن على المشتري إلا بما يوافق عليه ويقوى إذا كان دعوى المشتري حدوث عيب في المبيع بعد الرؤية وقال البائع كان حاصلا حال الرؤية ، لأن الأصل عدم تقدم العيب على الزمان الذي يدعي المشتري حدوثه فيه.

أما لو ادعى المشتري اشتماله على صفة كمال حال الرؤية كالسمن والصنعة وهو مفقود الآن وأنكر البائع اشتماله عليها ، فإنه يترجح البائع لأصالة عدم تلك الصفة.

__________________

(١) في ص : المكاتب.

٦٥

ولو تسلم المستأجر العين وادعى على المؤجر أنه غصبها من يده وأنكر المؤجر ، فهنا أصلان : عدم الغصب ، وعدم الانتفاع. ويؤيد الأول أن الأجرة مستحقة بالعقد والأصل بقاؤها.

ولو شك في وقوع الرضا بعد الحولين أو قبله تعارضا. ورجح الفاضل الحل ، ويشكل بأغلبية الحرام على الحلال عند الاجتماع.

ولو شك في حياة المقدود بنصفين تعارضا ، وتقديم أصل الحياة قوي. وربما فرق بعضهم بين كونه في كفن وشبهه وبين ثياب الأحياء. وهو خيال ضعيف ، لأن الميت قد يصاحب ثياب الأحياء والحي قد يلبس ثياب الموتى ، وخصوصا المحرم.

ومنه اختلاف الزوجين في التمكين أو النشوز أو تقديم الحمل على الطلاق في صور منتشرة.

وهنا فوائد :

( الأولى ) قد يستثنى من تغليب اليقين على الشك مسائل :

« أ » المتحيرة تغتسل عند أوقات الاحتمالات ، والأصل عدم الانقطاع. وفيه نظر.

« ب » لو أنمى (١) صيده حرم ، مع أصالة عدم حدوث سبب آخر.

« ج » يجب غسل جميع الثوب والبدن لو علم إصابة النجاسة موضعا وجهل تعيينها ، مع أصالة الطهارة في غير ذلك الموضع.

__________________

(١) في ص : لو نأى. وفي هامش ك : لو أبقى. قال في القاموس : أنمى الصيد : رماه فأصابه ثمَّ ذهب عنه فمات ونأى أي بعد.

٦٦

« د » لا يلتفت الشاك بعد الفراغ من العبادة ، مع أن الأصل عدم الفعل.

« هـ » من فاته صلاة واحدة تجب ثلاث مع أصالة البراءة.

( الثانية ) قد يعارض الأصل ظاهر ، ففي ترجيح أحدهما وجهان ، وصوره كثيرة :

١ ـ غسالة الحمام ، ورجح فيها الأصحاب الظاهر ، وهو النجاسة.

٢ ـ ثياب مدمن الخمر وشبهه وطين الطريق ، ورجح فيه الأصحاب الطهارة وربما فرق بين طريق الدور والطريق في الصحاري.

٣ ـ لو تنازع الراكب والمالك في الإجارة والعارية بعد انقضاء مدة ، ففيه وجهان. وترجيح قول المالك أقوى ، لأن الظاهر يقتضي الاعتماد على قوله في الإذن فكذا في صفته ، أي الإجارة والإعارة. كما تقدم قوله لو ادعى الغصب فهو من باب ترجيح الظاهر ، ولأن الأصل له فالظاهر أن المنفعة له.

٤ ـ لو تنازع القاذف والمقذوف في الحرية والرقية ، فالأقرب ترجيح الظاهر ، لأنه الأغلب في بني آدم ، مع إمكان أن تجعل معتضدة بأصالة الحرية.

٥ ـ لو تنازع الزوجان بعد ردتها في وقت الإسلام ، فالظاهر ترجيحها ، فيجب النفقة. ويحتمل ترجيح دعوى الزوج ، لأصالة البراءة من النفقة بعد الردة وأصالة عدم تقدم الإسلام. والظاهر بقاء ما كان على ما كان.

٦ ـ الاختلاف في شرط يفسد العقد ، فيرجح فيه جانب الظاهر على أصالة عدم صحة العقد وعدم لزوم الثمن ، وكذا في فوات الشرط في الصحة.

٧ ـ ربما جعل حيض الحامل من هذا الباب ، لأن الظاهر أنه دم علة ، والأصل السلامة والظاهر الغالب عدم حيض الحبلى ، فيكون لعلة ، وهو ضعيف.

٦٧

٨ ـ إذا تمعط (١) شعر الفأرة في البئر فنزحت حتى غلب على الظن خروجه فإنه يحكم بطهارة الماء وإن كان الغالب أنه يبقى شي‌ء ، ترجيحا للأصل.

٩ ـ قطع لسان الصغير يرجح فيه الظاهر ، وهو الصحة.

( غريبة ) :

عد العامة من هذا الباب قصة ذي اليدين ، فإنه اعمل في الأصل من استصحاب بقاء الصلاة تماما ، وسرعان (٢) الصحابة الذين خرجوا من المسجد أعملوا الظاهر من عدم السهو على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، والزمان ، قابل للنسخ ، فجوزوا أن يكون تشريعا ، والساكتون تعارض عندهم الأصل والظاهر. وابن بابويه قائل بهذه المسألة (٣) ، ولم يثبت عند باقي الأصحاب.

__________________

(١) معط الشعر : سقط ، يقال تمعط شعر فارة : إذا سقط شعرها.

(٢) سرعان الناس بفتح السين والراء : أوائلهم ، يقال « جئت في سرعاتهم » أي في أوائلهم. والحديث مشهور أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب الصلاة.

(٣) قالها في أحكام السهو ، وفرق بين الصلاة وبين التبليغ ، وقال : ولا يجوز أن يقع عليه في التبليغ ما يقع عليه في الصلاة ، لأنها عبادة مخصوصة والصلاة عبادة مشتركة ، وبها تثبت له العبودية.

إلى أن قال : وليس سهو النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله كسهونا ، لأن سهوه من الله عزوجل ، إنما أسهاه ليعلم أنه بشر مخلوق فلا يتخذ ربا معبودا دونه ، وليعلم الناس بسهوه حكم السهو متى سهوا ، وسهونا من الشيطان وليس للشيطان على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة عليهم‌السلام سلطان. إلى آخر ما قال رحمة الله عليه.

ورده كثير من العلماء رضوان الله تعالى عليهم ، ومنهم العالم العارف المولى المعظم المجلسي الأول في روضة المتقين ، وحمل الأخبار التي وردت في هذه المقولة عن الأئمة صلوات الله عليهم على التقية ، لما رواه الشيخ في الموثق كالصحيح عن زرارة قال سألت

٦٨

١٠ ـ موضع الخلاف في تعارض الأصل والظاهر ليس عاما ، إذ الإجماع على تقديم الأصل على الظاهر في صورة دعوى بيع أو شراء أو دين أو غصب وإن كان المدعي في غاية العدالة مع فقد العصمة وكان المدعى عليه معهودا بالتغليب والظلم ، كما أجمعوا على تقديم الظاهر على الأصل في البينة الشاهدة بالحق ، فإن الظاهر الغالب صدقها وإن كان الأصل براءة ذمة المشهود عليه ، ولهذا نظائر كثيرة.

المبحث الثاني

قاعدة :

النية ، ولها أحكام يأتي ذكرها في العبادات والمعاملات ، ولنذكر هنا منها قاعدتين :

( الأول ) النية يكتفى بها في تقييد المطلق وتخصيص العام وتعيين المعين والمطلقة والفريضة المنوية وتعيين أحد معاني المشترك وصرف اللفظ من الحقيقة إلى المجاز ، كقوله في المطلق « والله لأصلين » وعنى به ركعتين أو « لأكلمن

__________________

ابا جعفر عليه السّلام : هل سجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سجدتي السهو قط؟ فقال : لا ولا سجدهما فقيه.

إلى أن قال : ولا يلزم أن يحصل منهم السهو حتى يعلم أنهم ليسوا بآلة ، فإن ولادتهم وأكلهم وشربهم وذهابهم إلى بيت الخلاء ونومهم في غير حال الصلاة وموتهم كافية في ذلك مع قطع النظر عن تجسمهم وتحيرهم وتعبدهم وإقرارهم وبالعبودية ، إلى غير ذلك مما لا يحصى.

نعم يمكن القول بالإسهاء إذا لم يكن للإخبار معارض ، وقد ذكرنا المعارض. والأولى التوقف في الإسهاء ، لأن الدلائل العقلية لا تتم في نفي الإسهاء والنقلية الدالة على علو مرتبتهم لا تنافي الإسهاء وإنما تنافي السهو ، وهو منفي عنهم صلوات الله عليهم عند الجميع ، ومن قال بالإسهاء والإنامة لا يتعدى عن المرتين. والله تعالى يعلم.

٦٩

رجلا » وعنى به زيدا ، وتخصيص العام « والله لا لبست الثياب » وعنى به القطن أو ثيابا بعينها.

ولا تكفي النية عن الألفاظ التي هي أسباب كالعقود والإيقاعات ، فلو قال « والله لا أكلت » أثرت النية في مأكول بعينه إذا أراده (١) ، أو في وقت بعينه إذا قصده ، لأن اللفظ دال عليه التزاما.

وقد جاء في القرآن ( ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ ) (٢) مع قوله تعالى في الآية الأخرى ( إِلّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ) (٣) أي لا يأتيهم في حالة من الأحوال إلا في هذه الحالة من لهوهم وإعراضهم ، فقد قصد إلى حال اللهو والإعراض بالإثبات وإلى غيرها من الأحوال بالنفي.

والأحوال أمور خارجة من المدلول المطابقي ، مع أنها عارضة غير لازمة. فإذا أثرت النية في العوارض ففي اللوازم أولى.

وقوله تعالى ( حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ ) الآية (٤) ، والمدلول المطابقي هنا متعذر ، إذا التحريم لا يتعلق بالأعيان بل بالأفعال المتعلقة بها من الأكل والانتفاع ، فقد قصد بالتحريم ما لا يدل اللفظ عليه مطابقة بل لأدلة خارجة ، فإن كانت الأفعال لازمة فالمطلوب وإن كانت عارضة فبالأولى ، لأن التصرف في اللازم أقوى من التصرف في العارض.

__________________

(١) في ص : إذا إرادة أول وقت بعينه.

(٢) سورة الأنبياء : ٢.

(٣) سورة الشعراء : ٥. ، وكذا أول الآية « وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ ».

(٤) سورة المائدة : ٣.

٧٠

ومنه ما ورد في الحديث القدسي ما ترددت في شي‌ء أنا فاعله كترددي في قبض روح عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا يكون إلا ما أريد (١) فإن التردد عليه تعالى محال ، غير أنه لما جرت العادة أن يتردد من يعظم الشخص في مساءته نحو الوالد والصديق وأن لا يتردد في مساءة من لا يكرمه ولا يعظمه كالعدو والحية ، بل إذا خطر بالبال مساءة أوقعها من غير تردد ، فصار التعدد لا يقع إلا في موضع التعظيم والاهتمام وعدمه لا يقع إلا في مورد الإهانة. فحينئذ دل الحديث على تعظيم الله تعالى للمؤمن وشرف منزلته عند الله ، فعبر باللفظ المركب عما يلزمه ، وليس مذكورا في اللفظ إنما هو بالإرادة والقصد ، فمعناه حينئذ منزلة عبدي المؤمن عندي عظيمة.

لطيفة :

قيل في تأويل هذا الحديث وجوه :

١ ـ ما ذكرناه.

٢ ـ ما ذكره بعض الفضلاء ، وهو أن التردد إنما هو في الأسباب ، بمعنى أن الله تعالى يظهر للمؤمن أسبابا يغلب على ظنه دنو الوفاة ، فيصير مستعدا للآخرة استعدادا تاما ، وينشط للعمل ، ثمَّ يظهر له أسبابا توجب البسط في الأمل ، فيشتغل بعمارة دنياه بما لا بد منه. ولما كان ذلك بصورة التردد أطلق عليها ذلك استعارة ، إذ كان العبد الذي هو متعلق تلك الأسباب بصورة التردد وأسند إليه تعالى من حيث إنه فاعل للتردد في العبد ، وهو مأخوذ من كلام بعض القدماء الباحثين عن أسرار

__________________

(١) الكافي ٢ / ٤٦ ، علل الشرائع ١ / ١٢ مع اختلاف بينهما ، وليس فيهما : ولا يكون إلا ما أريد.

٧١

كلام الله تعالى ، فالتردد في اختلاف الأحوال لا في مقدر الآجال.

٣ ـ إنه تعالى لا يزال يورد على المؤمن حالا بعد حال ليؤثر الموت فيقبضه مريدا له ، وإيراد تلك الأحوال المراد بها غاياتها من غير تعجيل ، فالغايات من القادر على التعجيل يكون ترددا بالنسبة إلى قادرية المخلوقين ، فهو بصورة التردد ولم يكن ثمَّ تردد ، كما ورد في قصة إبراهيم عليه‌السلام لما أراه (١) ملك الموت ، فكره قبض روحه فأخره حتى رأى شيخا يأكل ولعابه يسيل على لحيته ، فاستشنع (٢) ذلك وطلب الموت. وكذا قيل عن موسى على نبينا وآله وعليه‌السلام.

٤ ـ إنه بصورة التردد ، لتعارض تحتم الموت على العباد وكراهة مساءة المؤمن ، وهو استعارة أيضا.

٥ ـ أن يكون على التقدير والفرض ، أي لو كنت مترددا لترددت في ذلك وهو مجاز (٣).

__________________

(١) في ص : لما أتاه.

(٢) في بعض النسخ : فاستفظع.

(٣) قال الشيخ العارف العالم المولى محمد بن الحسين بهاء الدين العاملي في الأربعين : وقد يتوهم المنافاة بين ما دل عليه هذا الحديث وأمثاله من « أن المؤمن الخالص يكره الموت ويرغب في الحياة » وبين ما ورد عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله « من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه » فإنه يدل بظاهره على أن المؤمن الحقيقي لا يكره الموت بل يرغب فيه ، كما نقل عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنه كان يقول إن ابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أمه. وأنه قال حين ضربه ابن ملجم عليه اللغة فزت ورب الكعبة.

وقد أجاب عنه شيخنا الشهيد في الذكرى فقال : إن حب لقاء الله غير مقيد بوقت ، فيحمل على حال الاحتضار ومعاينة ما يحب ، كما روينا عن الصادق عليه‌السلام ورووه في الصحاح عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه. قيل : يا رسول الله إنا لنكره الموت. فقال : ليس ذلك ولكن المؤمن

٧٢

( القاعدة الثانية ) ذهب بعضهم إلى أنه إذا نوى بالعام الخاص لا يتخصص به بل يكون ذكر الخاص توكيدا للنسبة إليه والنسبة إلى غيره باقية بحالها ، فلو قال « لا كلمت أحدا » ونوى زيدا عمه بالقصد الثاني وغيره بالقصد الأول ، إلا أن ينوي مع ذلك إخراج من عدا زيد ، لأن المخصص يجب أن يخالف حكم العام وذكر زيد لا يخالفه ، فهو مثل خبر شاة ميمونة مع قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أيما إهاب دبغ فقد طهر (١).

فإن قيل : لو قال « والله لا لبست ثوبا » ونوى القطن كان بمثابة قوله « ثوبا قطنا » ، ولو قال ذلك تخصص به وإن كان غافلا عن غيره.

أجيب : بأن المعلوم من كلام العرب أن اللفظ المستقل بنفسه إذا ألحق به غير المستقل صير الأول غير مستقل ، كما في الاستثناء والغاية ، ولم يثبت ذلك في النية حتى يجري مجرى اللفظ ، ومن ثمَّ لو قال « له عشرة إلا تسعة » قبل ، ولو قال « تنقص تسعة أو أديتها » لم يقبل ، لاستقلال الضميمة بنفسها.

قلت : كلما تلفظ به كان مخصصا ، إذ اللفظ المذكور صالح له ، فينبغي أن يكون بنية تنافي التخصيص ، إذ يصير ذلك بمثابة الملفوظ ، لأن التقدير صلاحية اللفظ له. واستعمال العام في الخاص من هذا القبيل ، فيصير الجزء الأخير كغير المذكور في عدم تناول اللفظ إياه.

ولأن الصفة المتعقبة يجوز جعلها مؤكدة ولا يخرج ما عداها ، ويجوز جعلها

__________________

إذا حضره الموت بشر برضوان الله وكرامته فليس ، شي‌ء أحب إليه مما أمامه كره لقاء الله فكره الله لقاءه ـ انتهى.

وقد يقال : إن الموت ليس نفس لقاء الله ، فكراهته من حيث الألم الحاصل منه لا يستلزم كراهة لقاء الله ، وهذا ظاهر وأيضا فحب الله سبحانه يوجب الاستعداد التام للقائه بكثرة الأعمال الصالحة ، وهو يستلزم كراهة الموت القاطع لها.

(١) الجامع الصغير : ١١٨.

٧٣

مخصصة ، وذلك بالنية. فإذا أثرت النية في الصفة الملفوظة فلم لا تؤثر في المنوية مع اشتراكهما في الاستفادة من اللفظ.

ولأنه لو صح ما قاله لم يكن معنى صورة إطلاق العام وإرادة الخاص منه إلا مع التقييد بإرادة إخراج الخاص الآخر.

وحاصل كلام هذا القائل راجع إلى أن ذلك من قبيل المفهوم ، فيجري الخلاف فيه كالخلاف في المفهوم ، إلا أنه مع ذلك لا يفترق صورة التلفظ بالصفة والنية بها.

ونحن نقول : إنما يخصص هذا بالمذكور لا بمفهوم اللفظ ، بل لأن قضية الأصل تنفي ما عدا المذكور.

البحث الثالث

قاعدة :

كون المشقة سبب اليسر. وجميع رخص الشرع وتخفيفاته تعود إليها ، كالتقية ، وشرعية التيمم عند الخوف على النفس ، وإبدال القيام عند التعذر في ( صلاة ) (١) الفريضة ومطلقا في النافلة ، ( وصلاة الاحتياط غالبا ) (٢) ، وقصر الصلاة والصوم ( وإن كان فرض السفر مستقلا في نفسه ) (٣).

ومنه المسح على الرأس والرجلين بأقل مسماه ، ومن ثمَّ أبيح المفطر ( في )

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في ك.

(٢) ما بين القوسين ليس في ص.

(٣) ما بين القوسين ليس في ص.

٧٤

جميع الليل بعد أن كان حراما بعد النوم ، وكان ذلك للترغيب في العبادة وتحبيبها إلى النفس.

ومن الرخص ما يخص ، كرخص السفر والمرض والإكراه والتقية ، ومنها يعم كالقعود في النافلة ، وإباحة الميتة عند المخمصة يعم السفر والحضر عندنا.

ومن رخص السفر ترك الجمعة والقصر ، وسقوط القسم بين الزوجات لو تركهن ، بمعنى عدم القضاء بعد عوده ، وسقوط القضاء للمتخلفات لو استصحب بعضهن. والظاهر أن القسم تابع لمطلق السفر وإن لم يقصر فيه الصلاة.

ومن الرخص إباحة كثير من محظورات الإحرام مع الفدية ، وإباحة الفطر للحامل والمرضع والشيخ والشيخة وذي العطاش ، والتداوي بالنجاسات والمحرمات عند الاضطرار ، وشرب الخمر لإساغة اللقمة ، وإباحة الفطر عند الإكراه عليه مع عدم القضاء سواء وجر (١) في حلقه أو خوف حتى أفطر في الأصح.

ولو أكره على الكلام في الصلاة فوجهان ، مع القطع بعدم الإثم ، والقطع بالبطلان لو أكره على الحدث. أما الاستدبار وترك الستارة (٢) واستعمال النجاسة فكالكلام ، والأقرب في ذلك كله إبطال هذه الصلاة والإتيان بغيرها. هذا مع اتساع الوقت ، وإلا فلا بطلان.

ومن اليسر (٣) الاستنابة في الحج للمعضوب (٤) ، والمريض المأيوس من برئه

__________________

(١) أي يصب في حلقه ، يقال « أوجرت المريض » صببت الدواء في حلقه.

(٢) الستارة بكسر السين : ما استترت به كائنا ما كان. والمراد هنا بين المرء والمرأة أو ستار العورة.

(٣) وكذا في هامش ك ، وفي ص : ومن التيسير.

(٤) عضبة : قطعه ، رجل معضوب : زمن لا حراك به ، كأن الزمانة عضبته ومنعته الحركة.

٧٥

وخائف العدو ، والجمع بين الصلاتين في السفر والمرض والمطر والوحل والإعذار بغير كراهية.

ومنه إباحة نظر المخطوبة المجيبة للنكاح ، وإباحة أكل مال الغير مع بذل البدل مع الإمكان ولا معه مع عدمه عند الإشراف على الهلاك.

ومنه العفو عما لا تتم الصلاة فيه منفردا منع نجاسته ، وعن دم القروح والجروح الذي لا يرقى. وعد منه الشيخ دم البراغيث بناء على نجاسته ، وما لا يدركه الطرف من الدم في الماء القليل. وطرده بعض الأصحاب في كل نجاسة غير مرئية.

ومنه قصر الصلاة في الخوف كمية وكيفية ، وفعلها مع الحركات الكثيرة المبطلة مع الاختيار ، وقصر المريض الكيفية.

ثمَّ التخفيف قد يكون لا إلى بدل كقصر الصلاة وإن استحب الجبر بالتسبيح وترك الجمعة ، والظهر فرض قائم بنفسه ، وصلاة المريض. وقد يكون إلى بدل ، كفدية الصائم ، ونقص الناسكين في بعض المناسك ، كالشاة لمن ترك المبيت بمنى ، ومكة لضرورة ، وكالبدنة لو أفاض قبل الغروب لعذر وقلنا بالوجوب وكشاة المزدلفة. والوجه عدم الوجوب فيهما مع الضرورة.

وعد الشيخ من التخفيف تعجيل الزكاة المالية قبل الحول ، والبدنية قبل الهلال.

والرخصة قد تجب كتناول الميتة عند خوف الهلاك ، والخمر عند الاضطرار إلى الإساغة به ، وقصر الصلاة في السفر والخوف ، وقصر الصيام في السفر عندنا. وقد يستحب ، كنظر المخطوبة.

وقد يباح ، كالقصر في الأماكن الأربعة ، والإبراد بالظهر في شدة الحر

٧٦

محتمل للاستحباب والإباحة. ومثار الاحتمالين قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للمؤذن أبرد أبرد (١). يحتمل الإباحة لما ثبت من أفضلية أول الوقت ، وعموم « وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ » (٢) والاستحباب لأغلبية أفعاله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ولتكرار الأمر (٣) المشعر بالتأكيد المفيد للاستحباب.

وهنا فوائد :

( الأولى ) المشقة الموجبة للتخفيف على ما ينفك عنه العبادة غالبا ، أما ما لا ينفك عنه العبادة فلا ، كمشقة الوضوء والغسل في السبرات (٤) وإقام الصلاة في الظهيرات والصوم في شدة الحر وطول النهار وسفر الحج ومباشرة الجهاد ، إذ مبنى التكليف على المشقة ، إذ هو مشتق من الكلفة فلو انتفت انتفى التكليف ، فتنتفي الصالح المنوطة به. وقد رد (٥) الله على القائلين « لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ » بقوله « قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا » (٦).

ومنه المشاق التي تكون على جهة العقوبة على الجزم (٧) وإن أدت إلى تلف النفس كالقصاص والحدود بالنسبة إلى المحل والفاعل ، وإن كان قريبا بعظم ألمه باستيفاء (٨) ذلك من قريبه لقوله تعالى « وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللهِ

__________________

(١) أخرجه البخاري في صحيحه في باب الأذان.

(٢) سورة آل عمران : ١٣٢.

(٣) في ص : ولتكرار الإبراد المشعر.

(٤) السبرة : ضحوة الباردة ، والجمع سبرات مثل سجدة وسجدات. في هامش ك : الشتوات والبكرات.

(٥) في ص : وقد نص الله. وفي هامش ك : وقد نقم الله.

(٦) سورة التوبة : ٨١.

(٧) في ص : على الحرم ، وهو جمع حرام.

(٨) في ص : باستيفاء ذلك.

٧٧

إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ » (١).

والضابط في المشقة ما قدره الشرع. وقد أباح الشرع حلق المحرم للقمل كما في قصة كعب بن عجرة سبب نزول الآية (٢) ، وأقر النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عمرو على التيمم لخوف البرد (٣) ، وكذا المشاق في باقي محظورات الإحرام وباقي مسوغات التيمم (٤).

وليس ذلك مضبوطا بالعجز الكلي ، بل بما فيه تضيق على النفس ، ومن ثمَّ قصرت الصلاة وأبيح الفطر في السفر ولا كثير مشقة فيه ولا عجز غالبا. فحينئذ يجوز الجلوس في الصلاة مع مشقة القيام وإن أمكن تحمله على (٥) عسر شديد ، وكذا باقي مراتبه. ومن ثمَّ تحلل المصدود والمحصر وإن أمكنهما المصابرة لما في ذلك من العسر.

( الثانية ) قد يقع التخفيف في العقود كما يقع في العبادات ، ومرات الغرور فيها ثلاث :

الأولى : ما يسهل اجتنابه ، كبيع الملاقيح (٦) والمضامين وغير المقدور على تسليمه. وهذا لا تخفيف فيه ، لأنه أكل مال بالباطل.

__________________

(١) سورة النور : ٢.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه في أبواب المحصر ، أسد الغابة ٤ / ٢٤٣ ، الإصابة ٥ / ٣٠٤.

(٣) أخرجه البخاري في صحيحه في باب : إذا خاف الجنب على نفسه. وفيه : عمرو بن العاص أجنب في ليلة باردة فتيمم وتلا « وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ » إلخ ، فذكر للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم يعنفه.

(٤) في ص : وباقي مشروبات التيمم.

(٥) في ص : مع عسر شديد.

(٦) الملاقيح جمع ملقوح ، وهو جنين الناقة وولدها ملقوح به ، فحذف الجار. والناقة ملقوحة.

٧٨

الثانية : ما يعسر اجتنابه وإن أمكن تحمله بمشقة ، كبيع البيض في قشره والبطيخ والرمان قبل الاختبار وبيع الجدار وفيه الأس ، وهذا يعفى عنه تخفيفا.

الثالثة : ما توسط بينهما ، كبيع الجوز واللوز في القشر الأعلى وبيع الأعيان الغائبة بالوصف عندنا لمشاركته في المشقة. ومنه الاكتفاء بظاهر الصبرة المتماثلة وبظهور مبادئ النضج في بدو الصلاح وإن لم ينته.

ومن التخفيف شرعية خيار المجلس ، لما كان العقد قد يقع بغتة فيتعقبه الندم فشرع ذلك للتروي ، ثمَّ لما كان مدة التروي قد تزيد على ذلك جوز خيار الشرط بحسبه وإن زاد على ثلاثة أيام ، ليتدارك فيه ما عساه يحصل فيه من غبن يشق تحمله.

ومنه شرعية المزارعة والمساقاة والقراض ، وإن كان معاملة عن معدوم لكثرة الحاجة إليها.

ومنه إجازة الأعيان ، فإن المنافع معدومة حال العقد.

ومنه جواز تزويج المرأة من غير نظر ولا وصف دفعا للمشقة اللاحقة للأقارب بذلك ، وإيثارا للحياء وسد باب التبرج على النساء ، بخلاف المبيع وإن كان أمة لعدم المشقة فيه.

ومن ذلك شرعية الطلاق والخلع دفعا لمشقة المقام على الشقاق وسوء الأخلاق ، وشرعت الرجعة في العدة غالبا ليتروى كما قال تعالى « لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً » (١). ولم شرع في الزيادة على المرتين دفعا للمشقة على الزوجات.

ومنه شرعية الكفارة في الظهار والحنث تيسرا من الإلزام بالمشقة ، لاستعقابه الندم غالبا.

__________________

والمضامين ما في أصلاب الفحول ، وكانوا يبيعون الجنين في بطن أمه وما يضرب الفحل في عام أو في أعوام ونهي عنه.

(١) سورة الطلاق : ١.

٧٩

ومنه التخفيف عن الرقيق بسقوط كثير من العبادات لئلا يجتمع عليه ( مع ) شغل العبودية أصر.

ومنه شرعية الدية لا عن القصاص مع التراضي كما قال تعالى « ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ » (١) ، فقد ورد أن القصاص كان حتما في شرع موسى عليه‌السلام كما أن الدية كانت حتما في شرع عيسى على نبينا وآله وعليه‌السلام ، فجاءت الحنيفة الشريفة بتسويغ الأمرين طلبا للتخفيف ووضعا للإصار وصيانة للدماء عن أيدي المؤسرين الفجار (٢).

( الثالثة ) التخفيف على المجتهدين ، إما اجتهادا جزئيا كفي‌ء الوقت والقبلة والتوخي (٣) في الأشهر عند الصوم واجتهاد الحجيج في الوقوف فيخطون بالتأخير دفعا للحرج في ذلك ، وقيل بالقضاء. أما لو غلطوا بالتقديم فالقضاء لندوره ، إذ يندر (٤) فيه الشهادة زورا في هلال رمضان وهلال شوال وذلك قليل الوقوع. وإما اجتهادا كليا كالعلماء في الأحكام الشرعية فلا إثم على غير المقصر وإن أخطأ ، ويكفيهم الظن الغالب المستند إلى أمارة معتبرة شرعا. وذلك تسهيل.

ومنه اكتفاء الحكام بالظنون في العدالة والأمانة.

( الرابعة ) الحاجة قد تقوم سببا مبيحا في المحرم لولاها كالمشقة ، كما قلنا في نظر المخطوبة ، ومحله الوجه والكفان والجسد من وراء الثياب. ونظر المستأمة (٥) من الإماء ، فينظر إلى ما يرى من العبيد ، وقيل ينظر إلى ما يبدو حال المهنة ،

__________________

(١) سورة البقرة : ١٧٨.

(٢) في ص : التجار.

(٣) يقال توخيت الأمر أي تحريته في الطلب.

(٤) في ص وهامش ك : إذ يتكرر فيه.

(٥) أي التي عرضت على البيع.

٨٠