نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد عبد اللطيف الحسيني الكوه‌كمري الخوئي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٢

الثاني : ما لا اندراج فيه كالحيض والنفاس ومس الأموات والاستحاضة مع كثرة الدم ، فإنها توجب الوضوء والغسل ولا تداخل ، وكالقتل يوجب الفسق والقود والكفارة جمعا إن كان عمدا وإن كان خطأ أو شبيها يوجب الدية والكفارة المرتبة.

وإتلاف مال الغير عدوانا يوجب الضمان والتعزير والفسق ، وقذف المحصنة يوجب الجلد والفسق ، وزنا البكر يوجب الجلد والجز (١) والتغريب ، وسائر الحدود تجامع الفسق والسبب واحد.

والحدث الأصغر سبب لتحريم الصلاة والطواف ، وسجود السهو وسجود العزيمة على قول ، ومس المصحف والحدث الأكبر يزيد على ذلك قراءة العزيمة ، واللبث في المساجد مطلقا والجواز في المسجدين وتحريم الصوم ، وإذا كان حيضا أو نفاسا يزيد تحريم الوطء والطلاق إلى غير ذلك من الأحكام.

__________________

المجلسي في « روضة المتقين » في شرح الحديث الشريف : كما في كتب العامة ، أو « بسراقة » كما في بعض النسخ وفي التهذيب. أقول : الحديث في التهذيب ١٠ / ٤٧ ، روضة المتقين ١٠ / ١٦ وسائل الشيعة ١٨ / ٣٧٥. ولم يذكروا قول أمير المؤمنين عليه‌السلام جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(١) الجز : القطع ، يقال : جززت الشعر أي قطعته. قال في الشرائع : وأما الجلد والتغريب فيجبان على الذكر الحر غير المحصن يجلد مائة ويجز رأسه ويغرب عن مصره إلى آخر عاما مملكا كان أو غير مملك ، وقيل : يختص التغريب بمن أملك ولم يدخل ، وهو مبني على أن البكر ما هو ، والأشبه أنه عبارة عن غير المحصن وإن لم يكن مملكا.

وقال في المسالك : هذه الثلاثة ـ أي الجلد والجز والتغريب ـ يجب على البكر اتفاقا. ثمَّ ذكر اختلاف الفقهاء في البكر أنه المملك ، أي من عقد على امرأة دواما ولم يدخل بها ، أو أنه شامل عليه وعلى غيره ممن لم يكن له زوج.

٤١

وكذا الوطء في النكاح (١) ، إذ العقد وحده يوجب أشياء كثيرة تأتي في بابها إن شاء الله تعالى.

فائدة :

الفرق بين أجزاء السبب والأسباب المجتمعة أن الحكم إذا ورد بعد أوصاف فإن ترتب على كل واحد منها بانفراده فهي أسباب كأسباب الوضوء المشهورة وإجبار الكبر الصغيرة ، فإن الصغر كاف إجماعا والبكارة كافية على قول جماعة من الأصحاب.

وإن ترتب على الجميع لا على كل واحد فالسبب واحد مركب وتلك الأمور إجزاؤه ، كما في القتل العمد العداوني مع التكافؤ ، فإن كل واحد من هذه الأوصاف لو انفرد لم يترتب عليه الحكم وهو القصاص.

والفرق بين جزء العلة وجزء الشرط يعلم مما سبق.

قاعدة :

قد تقدم أن السبب قد يكون قوليا كالعقود والإيقاعات ، وقد يكون فعليا. والفعلي إما منصوب (٢) ابتداء كالقتل والزنا واللواط ، وإما غير منصوب (٢) بالأصالة من الشارع لكن مع القرائن المقالية أو الحالية ( مختصة بأدلة ) (٣) كتقديم الطعام إلى الضيف كما يجي‌ء.

__________________

(١) في ص : أو العقد وحده.

(٢) كذا في النسختين وبظني « منصوص » في المقامين.

(٣) ما بين القوسين ليس في ص.

٤٢

ثمَّ الفعلي أيضا قد يكون قلبيا كنيات الزكاة والخمس في التملك ونيات العبادات في ترتب أحكامها عليها ، وقد يكون الوقت سببا لحكم شرعي كأوقات الصلوات.

وهو أيضا ظرف لما كلف به ، فليس السببية مختصة بأدلة (١) الدلوك مثلا ، وإلا لم يجب الظهر على من أسلم أو بلغ في أثناء النهار بعد الدلوك بلحظة ، بل كل جزء من الوقت سبب للوجوب وظرف للإيقاع.

وكذا أجزاء أيام الأضاحي سبب للأمر بالأضحية وظرف لإيقاعها فيه ، ومن ثمَّ استحبت على من تجدد إسلامه وبلوغه.

أما شهر رمضان فإن كل يوم من أيامه سبب للتكليف لمن استقبله جامعا للشرائط ، وليس أجزاء اليوم سببا للوجوب ، ومن ثمَّ لم يجب على البالغ أو المسلم في أثناء الصوم.

فإن قيل : فينبغي في المريض والمسافر ألا يجب الصوم وقد زال العذر قبل الزوال.

قلنا : المرض والسفر ليسا مانعين للسبب ، وإنما منعا الحكم بالوجوب ، فإذا زال المانع ظهر أثر السبب.

فائدة :

الوقت قد يفضل عن الفعل كما يجي‌ء ، وقد لا يفضل كهذا ، (٢) فإنه لا فضل فيه عن الفعل ولا نقص (٢) ، وكزمان وقوف عرفة والمشعر الاختياريين ، أما

__________________

(١) في هامش ك : كالدلوك. وفي ص : فليس السببية مختصة بأوله كالدلوك.

(٢) في هامش ك : « فليس » مكان « كهذا » وفي ص : ولا نقض.

٤٣

الاضطراريين فالوقت أوسع من الفعل كأوقات الصلاة.

قاعدة :

ثمَّ الوقت قد يعرى عن السببية وإن كان لا يعرى عن الظرفية ، وهو واقع في كثير كالمنذورات المعلقة على أسباب مغايرة للأوقات فوقتها جميع العمر ، وكالسنة بكمالها في قضاء شهر رمضان فإنها ظرف للإيقاع وليست سببا ، إنما السبب هو الفوات لما كان قد أثر فيه السبب الموجب للأداء ، فإن موجب أداء شهر رمضان رؤية الهلال وموجب القضاء هو فوات الأداء.

وكذا جميع العمر ظرف للواجبات الموسعة كالنذر والكفارة ، وإن كانت أسبابها مغايرة للزمان.

وكذلك شهور العدد والأقراء ظروف للعدة والسبب الطلاق أو غيره.

وكذا سبب الفطرة دخول شوال على الأصح ، ومجموع الليلة ونصف النهار ظرف لا سبب ، فلا تجب على من كمل بعد دخول شوال.

قاعدة :

لو علق حكما على سبب متوقع وكان ذلك الحكم يختلف بحسب وقت التعليق ووقت الوقوع ، ففي اعتبار أيهما ، وجهان مأخذهما من الموصي بثلث ماله هل يعتبر يوم الوصية أو يوم الوفاة؟

والمشهور عندنا الثاني ، لأن بالموت يملك الموصى له ، وكذا الصفات المعتبرة في الوصي. ومن قال باعتبار يوم الوصية أجراه مجرى ما لو نذر الصدقة بثلث ماله ، فإنه معتبر عند النذر إن كان منجرا.

٤٤

ولو كان معلقا على شرط ففيه الوجهان.

وكذا لو أطلق العبد الوصية فتحرر ومات ، أو نذر العتق أو الصدقة فتحرر. أو علق الظهار على مشيئة زيد وكان ناطقا فخرس ، فهل تعتبر الإشارة حينئذ ـ كما لو كان أخرس ابتداء ( أو النطق اعتبارا بحال تعليقه؟ فيه الوجهان ) (١).

أو نذر عتق عبده عند شرط فوقع حال المرض ، ففيه الوجهان. إن اعتبرنا حال النذر فهو من الأصل ، وإلا فمن الثلث.

قاعدة :

لو شك في سبب الحكم بنى على أصل ، فهنا صورتان :

( الأولى ) أن يكون الأصل الحرمة ويشك في سبب الحل ، كالصيد المتردي بعد رميه فيوجد ميتا ، فإنه حرام إلا أن يقضي أن الضربة قاتلة ، إما لكونها في محل قاتل ، وإما لغلبة الظن بعدم عروض سبب آخر.

وكذا الجلد المطروح أو اللحم مع عدم قيام قرينة مغنية (٢).

( الثانية ) أن يكون الأصل الحل والشك في السبب المحرم ، كالطائر المقصوص (٣) والظبي المقرط (٣) ، فظاهر الأصحاب التحريم لقوة الأمارة.

__________________

(١) ما بين القوسين ليس في ص.

(٢) في ص وهامش ك : معينة. قيل : القرينة في اللحم وجدانه مقطعا بالسكين وشبهه وفي الجلد أن يكون مدبوغا.

(٣) القص : القطع ، والطائر المقصوص : المقطوع جناحه. والظبي المقرط : الذي في أذنه قرط ، فإنهما علامتان للملكية فيحرم الأخذ ولا يكونان مباحا. في ك : المقرطق. وقرطق كجعفر ملبوس يشبه القباء.

٤٥

أما لو علق أحد رجلين ظهار زوجته بكون الطائر عرابا وعلقه الآخر بكونه غير غراب ، فالأولى عدم وقوع الظهارين إذا امتنع استعلام حاله عملا بالأصل وإن كان الاجتناب أحوط.

ولو كان في زوجتين لواحد اجتنبا ، لأنه قد علم تحريم إحداهما في حقه لا بعينها.

ولو غلب الظن على تأثير السبب بني على التحريم ، كما لو بال كلب في الماء فوجده متغيرا. وإن كان بعيدا فلا أثر له ، كتوهم الحرمة في ماء الغير (١).

ولو تساوى الاحتمالان كطين الطريق ، وثياب مدمني الخمر وملامسي النجاسة والميتة مع المذكى غير المحصور ، والمرأة المحرمة مع نساء غير محصورات فالأقرب الحكم بالطهارة والحل ، وإن كان الاجتناب أحوط مع وجود غيره مما لا شبهة فيه.

ومن ذلك وقوع الثمرة (٢) المحلوف عليها في ثمر كثير (٣) ، فإنه يأكل ما عدا واحدة.

وكذا وجدان المال في أيدي الظلمة والسراق ومن لا يجتنب المحارم ، وإن كان الورع تركه ، بل من الورع ترك كل ما لا يتيقن حله ، كما روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إني لأجد الثمرة ساقطة على فراشي فلو لا أني أخشى أن تكون من الصدقة لأكلتها.

__________________

(١) في ص : في يد الغير.

(٢) في ص : التمرة ، في ثمر كثير.

(٣) أخرجه البخاري في اللقطة. وفيه : التمرة.

٤٦

ولو انحصر المشتبه فالأولى الحرمة ، لأنه من باب ما لا يتم الواجب إلا به.

ولو عم بلدة الحرام وندر فيها الحلال ، فالأولى التجنب مع الإمكان ، ولو لم يتمكن تناول ما لا بد منه من غير تبسط.

هذا لو علم المالك ، ولو جهل فعندنا الفرض الخمس ، فيمكن أن يقال : من تناول منه شيئا خمسه وعند العامة كل مال جهل مالكه ولا يتوقع معرفته فهو لبيت المال ، وقد نظم بعضهم وجوه بيت المال فقال :

جهات أموال بيت المال سبعتها

في بيت شعر حواها فيه لافظه

خمس وفي ، خراج جزية عشر

ميراث فرد ومال ضل حافظه

وظاهر كلام أصحابنا انحصار وجوه بيت المال في المأخوذ من الأرض المفتوحة عنوة خراجا أو مقاسمة ، ويمكن إلحاق سهم سبيل الله في الزكاة به على القول بعمومه. وقد ذكر الأصحاب أن مصرف الجزية عسكر البلد (١) ، والعشر لا أصل له عندنا ، وارث من لا وارث له للإمام ، والمال المأيوس من صاحبه يتصدق به.

نعم قال المرتضى في دية الجناية على الميت إنها لبيت المال.

ويجري في كلام بعض الأصحاب أن ميراث من لا وراث له لبيت المال ، والظاهر أن مراده بيت مال الإمام ، وأما الخمس فمصرفه معلوم عندنا.

قاعدة :

قد يكون الشك سببا في حكم شرعي ، وقد لا يكون والأول إن كان الحكم تحريما كمن شك في الشاة المذكاة أو الميتة وفي أخته وأجنبية فإن ذلك

__________________

(١) في ص : عسكر الإمام.

٤٧

سبب في تحرم الكل ، وإن كان الحكم وجوبا أتى بالمشكوك عنه ونوى جازما بوجوب الفعل المشكوك فيه وقاطعا بالتقرب به إلى بارئه للقطع بسببه.

ومن ثمَّ إذا نسي صلاة ولم يعلمها وقلنا بوجوب خمس أو ثلاث ، لا نقول إن الناوي متردد في النية فتبطل نيته ، بل هو جازم بحصول سبب الوجوب ، وهو الشك.

وبهذا يندفع قول من قال بتصور النية في النظر الأول الذي يعلم به وجود الصانع ، فإنه ينوي مع الشك كما نوى في هذه المواضع ، لأن الشك هنا غير حاصل للجزم بوجوب سببه فيجب مسببه.

وإن كنا لا نقول بأن جميع أقسام الشك سبب في الإيجاب ، لأن منها ما يلغى قطعا ، كمن شك هل طلق أم لا وهل سها في صلاته أم لا.

مع أن لقائل أن يقول : لا نسلم أن الشك سبب في شي‌ء مما ذكر ، أما في الطهارة فلأن الوجوب مستند إلى الحدث الحاصل بعد وجوب الصلاة والأصل عدم فعلها ، وكذلك الصلاة والزكاة. وأما التحريم فسببه أن اجتناب الحرام واجب ولا يتم إلا باجتنابهما ، فلا يكون الشك سببا في وجوب شي‌ء. وأما النظر المعرف فليس له أصل قبله يرجع إليه ليكون سببا في نيته الواقعة على طريقة التردد.

نعم قد عد من موجبات سجدتي السهو الشك بين الأربع والخمس ، ومن موجبات الاحتياط الشك بين الأعداد المشهورة ، ورتب على ذلك الشك وجوبه ، لقول الصادق عليه الصلاة والسلام إذا لم تدر أربعا صليت أو خمسا زدت أو نقصت فتشهد وسلم واسجد سجدتي السهو (١).

__________________

(١) التهذيب ٢ / ١٩٦ ، الكافي ٣ / ٣٥٥ ، الوسائل : ٣ / ٣٢٧.

٤٨

وقوله عليه‌السلام إذا لم تدر أثلاثا صليت أو أربعا ووقع رأيك على الأربع فسلم وانصرف وصل ركعتين وأنت جالس (١).

وإن قلت : الاحتياط خارج عن ذلك ، لأن الأصل عدم فعل ما شك فيه ، فيكون الوجوب مستندا إلى هذا الأصل.

فالجواب : لو كان الاستناد إلى هذا لما انفصل عن الصلاة بنية وتكبير وتشهد وتسليم ، ولما جاز فيه الجلوس والقيام والتعدد.

البحث الثالث

( في الشرط )

وفيه قواعد وفوائد :

قاعدة :

قد تقدم تعريفه على وجه مختصر ، فلنذكر هنا تعريفه مع السبب على وجه البسط ، فنقول :

السبب ما يلزم من وجوده الوجود ومن عدمه العدم لذاته ، فالتلازم في الوجود يخرج الشرط وفي العدم يخرج المانع ، فإنه لا يلزم من عدمه عدم شي‌ء ، إنما يؤثر وجوده في العدم.

وقوله « لذاته » احتراز من مقارنة وجود السبب عدم الشرط أو وجود المانع.

والشرط ما يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده الوجود ، ولا عدم لذاته ، ولا يشتمل على شي‌ء من المناسبة في ذاته بل في غيره. فاعتبرنا فيه أمورا :

__________________

(١) الكافي ٣ / ٣٥٣ ، التهذيب ٢ / ١٨٤ ، الوسائل : ٣ / ٣٢٠.

٤٩

الأول : يلزم من عدمه العدم ، وبه يخرج المانع ، فإنه يلزم من عدم الوجود.

الثاني : أنه لا يلزم من وجوده وجود ، وبه يخرج السبب.

الثالث : كونه لذاته احتراز من مقارنة وجوده لوجود السبب ، فيلزم الوجود ولكن ليس لذاته بل لأجل السبب ، أو مقارنة وجوده قيام المانع فيلزم العدم لأجل المانع لا لذاته.

الرابع : كونه لا يشتمل على مناسبة احترازا من جزء العلة ، فإنه يلزم من عدمه العدم ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم ، إلا أنه يشتمل على جزء المناسبة فإن جزء المناسب مناسب.

قاعدة : في أقسامه :

وهي أربعة :

الأول : يكون لغويا ، وهو مطلق التعليق على شي‌ء ، كتعلق الظهار على الدخول. وهو ملازم لنا في الشروط في الوجوب والعدم ، فهو سبب بهذا الاعتبار.

الثاني : يكون عرفيا ، كالسلم في صعود الدرج.

الثالث : يكون شرعيا ، كالطهارة مع الصلاة.

الرابع : يكون عقليا ، كالحياة مع العلم.

فإطلاق اسم الشرط عليها إما بطريق الاشتراك أو الحقيقة والمجاز ، بناء على أن المجاز خير من الاشتراك أو العكس. ويحتمل أن يكون بطريق المواطاة ، إذ القدر المشترك بينها توقف الوجود على الوجود مع قطع النظر عما عدا ذلك.

٥٠

قاعدة :

كل معلق على شرط إما في التأثير أو الوجود ، فإنه يشترط تقدم المعلق عليه ، كالظهار المعلق على الدخول يشترط فيه تقدم الدخول.

وقد يعلق الشرط على شرط آخر أيضا إلى مراتب كثيرة ، فيشترط تقدم تلك الشرائط مترتبة ، كما في قوله تعالى « و امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها » (١) وقوله تعالى « وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ » (٢).

وتسميه النحاة اعتراض الشرط على الشرط (٣) ، ومثل قول ابن دريد :

__________________

(١) سورة الأحزاب : ٥٠.

(٢) سورة هود : ٣٤.

(٣) قال في المغني : ذكروا أنه إذا اعترض شرط على آخر نحو « إن أكلت إن شربت فأنت طالق » فإن الجواب المذكور للسابق منهما وجواب الثاني محذوف مدلول عليه بالشرط الأول وجوابه ، كما قالوا في الجواب المتأخر عن الشرط والقسم.

ولهذا قال محققو الفقهاء في المثال المذكور : إنها لا تطلق حتى تقدم المؤخر وتؤخر المقدم ، وذلك لأن التقدير حينئذ إن شربت فإن أكلت فأنت طالق. وهذا كله حسن ، ولكنهم جعلوا منه قوله تعالى « وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ » وفيه نظر ، إذ لم يتوال شرطان وبعدهما كما في المثال وكما في قول الشاعر :

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا

منا معاقل عز زانها كرم

وقول ابن دريد :

فإن عثرت بعدها إن وألت

نفسي من هاتا فقولا لا لعا

إذ الآية الكريمة لم يذكر فيها جواب وإنما تقدم على الشرطين ما هو جواب في

٥١

فإن عثرت بعدها إن وألت

نفسي من هاتا فقولا لا لعا

وقال آخر :

إن تستغيثوا بنا إن تذعروا تجدوا

منا معاقل عز زانها الكرم

والمشهور بين النحاة والفقهاء أن كل شرط لاحق فإنه شرط في السابق ، فيجب تقدمه عليه ، والآيتان والشعر المذكور صريح في ذلك ، وإن كان في الآية الأولى احتمال أن تكون الإرادة متأخرة ، لأنها كالقبول لهبتها والقبول متأخر عن الإيجاب.

ويحتمل أن يقال : إن إرادة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله تعلقت بإرادة الهبة منها ، لعلمه ذلك من قصدها ، فلو قال : إن أعطيتك إن وعدتك إن سألتني فأنت علي كظهر أمي ، اشترط أن يبتدئ بالسؤال ثمَّ بعدتها ثمَّ يعطيها ، كأنه قال : سألتني فوعدتك فأعطيتك. فعلى هذا لو تقدم الشرط الأول في الوقوع على الثاني لم تكن مظاهرة.

وعن بعضهم أنه لا يبالي بذلك ، إذ المقصود هو اجتماع الشرطين ، وحرف العطف مراد هنا كما مراد في « جاء زيد جاء عمرو » ، ولو أنه أتى بالواو كان الغرض مطلق الاجتماع.

ويرد عليه : أن التقدير خلاف الأصل.

والشروط اللغوية أسباب يلزم من وجودها الوجود ومن عدمها العدم ، بخلاف الشروط العقلية والشرعية والعرفية فإنه يلزم من وجودها وجود شي‌ء

__________________

المعنى للشرط الأول ، فينبغي أن يقدر إلى جانبه ، ويكون الأصل : إن أردت أن أنصح لكم فلا ينفعكم نصحي إن كان الله يريد أن يغويكم وأما أن يقدر الجواب بعدهما ثمَّ يقدر بعد ذلك مقدما إلى جانب الشرط الأول ، فلا وجه له. والله أعلم.

٥٢

مما علق عليها وإن كان التأثير موقوفا عليها ، إذ لا يلزم من الحياة العلم ولا من الطهارة الصلاة ولا من نصب السلم الصعود. نعم هي متلازمة في العدم.

وإذا كانت الشروط اللغوية أسبابا فمن ضرورتها التقدم على مسبباتها ، وظاهر أنه قد جعل الظهار معلقا على الإعطاء ، فيجب تقدم الإعطاء عليه ، وجعل الإعطاء معلقا على الوعد فيجب تقديمه عليه ، وجعل الوعد معلقا على السؤال فيجب تقديمه أيضا ، لأن شأن الأسباب ذلك.

قاعدة :

التكاليف الشرعية بالنسبة إلى قبول الشرط والتعليق على الشرط أربعة :

( الأول ) ما لا يقبل شرطا ولا تعليقا ، كالإيمان بالله ورسوله والأئمة عليهم‌السلام ، ووجوب الواجبات القطعية وتحريم المحرمات القطعية (١).

( الثاني ) ما يقبل الشرط والتعليق على الشرط ، كالعتق فإنه يقبل الشرط في العتق المنجز مثل « أنت حر وعليك كذا » ، ويقبل التعليق على صورتي النذر وشبهه والتدبير (٢).

( الثالث ) ما يقبل الشرط ولا يقبل التعليق كالبيع والصلح والإجارة والرهن وسائر العقود ، لأن الانتقال يعتمد الرضا ، ولا رضا إلا مع الجزم ، ولا جزم مع التعليق ، لأنه يعرضه عدم الحصول ، ولو قدر علم حصوله كالمعلق على الوصف لأن الاعتبار بجنس الشرط دون أنواعه وأفراده ، فاعتبر المعنى العام دون

__________________

(١) لأن التعليق والشرط ينافي الجزم الذي لا بد منه فيها.

(٢) أي العهد واليمين ، كأن يقول « عاهدت الله عتق عبدي إن رزقني الله حج بيته » أو « لله علي عتق عبدي إن كان كذا » ومثال التدبير أن يقول لعبده « أنت حر بعد وفاتي ».

٥٣

خصوصيات الأفراد.

( الرابع ) ما يقبل التعليق ولا يقبل الشرط ، كالصلاة والصوم وسائر العبادات بالنذر وشبهه.

ولا يجوز أصلي على أن لي ترك سجدة أو أن لا احتياط (١) إن عرض لي الشك والاعتكاف من قبيل القابل للشرط والتعليق ، أما التعليق فبالنذر وشبهه ، وأما الشرط كأن ينوي أن له الرجوع متى شاء أو متى عرض له عارض.

البحث الرابع

( في المانع )

وهو ما يلزم من وجوده العدم ولا يلزم من عدمه الوجود ولا العدم لذاته. فبالأول خرج السبب ، وبالثاني خرج الشرط ، وبالثالث احتراز من مقارنة عدمه لعدم الشرط فيلزم العدم أو وجود السبب فيلزم الوجود ، بل بالنظر إلى ذاته لا يلزم شي‌ء من ذلك.

فظهر أن المعتبر من المانع وجوده ومن الشرط عدمه ومن السبب وجوده وعدمه.

وقد اجتمعت الثلاثة في الصلاة ، فإن الدلوك سبب في الوجوب ، والبلوغ شرط ، والحيض مانع. وفي الزكاة النصاب سبب ، والحول شرط ، والمنع من التصرف مانع.

__________________

(١) في ص : أو أن لا احتاط إن عرض لي شك.

٥٤

تقسيم :

المانع إما للسبب أو للحكم ، فالأول كل وصف وجودي ظاهر منضبط مستلزم لحكمة مقتضاها يقتضي حكمة (١) السبب مع بقاء حكمة السبب ، كالأبوة المانعة من القصاص في موضعه. والحكمة التي اشتملت الأبوة عليها هي كون الوالد سببا لوجود الولد ، وذلك يقتضي عدم القصاص لئلا يصير الولد سببا لعدمه.

والثاني فهو كل وصف وجودي يحل (٢) وجوده بحكمة السبب ، كالدين بالنسبة إلى خمس المكاسب ، فإنه مانع من وجوبه فيها.

تقسيم آخر له :

هو ينقسم إلى ثلاثة أنواع :

( الأول ) مانع في الابتداء والدوام ، كالرضاع المانع من صحة النكاح واستدامته.

( الثاني ) مانع ابتداء لا دواما ، كالعدة فإنها مانعة من ابتداء النكاح من غير صاحبها ولو طرأت على نكاح صحيح كما في الوطء بشبهة لم يقطع النكاح.

( الثالث ) ما اختلف فيه ، كالإحرام بالنسبة إلى ملك الصيد النائي عنه أو مطلقا (٣).

__________________

(١) في ص : يقتضي حكم السبب.

(٢) في ص وهامش ك : يخل وجوده.

(٣) قال في الشرائع : من كان معه صيد فأحرم زال ملكه عنه ووجب إرساله ، فلو مات

٥٥

قاعدة :

إذا كان المانع مختصا بالحكم كما في المريض والمسافر بالنسبة إلى الصوم فإجزاء النصف الأول من النهار سبب في الوجوب ، كما أن مجموع النهار سبب في الوجوب ، لأن السببية باقية فيهما وإنما حصل فيهما منع الحكم بالوجوب ، فإذا زالا ظهر أثر السبب. بخلاف مانع السبب كالصغر والجنون ، فإن السببية ليست حاصلة فيهما.

فإن قلت : فهلا يساوي آخر النهار أوله في السببية كما في ثبوت كونه من الشهر فإنه يجب الصوم ولو بقي من النهار لحظة.

قلت : معظم الشي‌ء يقوم مقام ذلك الشي‌ء في مواضع ، منها الصوم ، ولهذا أجزأ تجديد النية في النصف الأول لبقاء المعظم ، بخلاف ما إذا زالت الشمس لزوال المعظم. أما في اليوم الذي يظهر وجوب الصوم فيه فالسببية حاصلة في نفس الأمر ، وإنما جهل وجودها ، فإذا علم ذلك تبعه الحكم ، بخلاف المريض والمسافر ، فإن الوجوب ليس حاصلا فيهما في نفس الأمر وإنما تجدد بزوال العذر.

__________________

قبل إرساله لزمه ضمانه ، ولو كان الصيد نائيا عنه لم يزل ملكه.

وقال في المسالك في شرحه : هذا هو المشهور ، وعليه العمل ، وكما لا يمنع الإحرام استدامة ملك البعيد لا يمنع ابتداؤه ، فلو اشترى ثمة صيدا أو اتهبه أو ورثه انتقل إلى ملكه أيضا. انتهى كلامهما.

وقيل : يملك ولو كان قريبا عند عروض سبب الملكية كالإرث ثمَّ يجب عليه إرساله.

٥٦

المطلب الثاني

( في المقاصد والوسائل )

قاعدة :

متعلقات الأحكام كما عرفت قسمان : مقاصد بالذات وهي المتضمنة للمصالح والمفاسد في أنفسها ، ووسائل وهي الطرق المقضية إليها.

وحكمها في الأحكام الخمسة حكم المقاصد ، وتتفاوت في الفضائل بحسب المقاصد ، فالفضيلة (١) إلى الأفضل أفضل الوسائل ، وإلى الأقبح أقبح الوسائل.

وقد مدح الله سبحانه على الوسائل كما مدح على المقاصد ، قال تعالى « ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلا نَصَبٌ وَلا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللهِ » إلى آخر الآية (٢). فأثابهم عن ذلك وإن لم يكن بقصدهم ، لأنه إنما حصل بسبب التوسل إلى الجهاد الذي هو وسيلة إلى إعزاز الدين الذي هو وسيلة إلى رضوان الله تعالى.

قاعدة :

الوسائل ثلاثة :

( الأولى ) ما اجتمعت الأمة على منعه ، كحفر الآبار في طرق المسلمين وطرح المعاثر ، لأنه وسيلة إلى ضررهم الحرام.

__________________

(١) في ص : فالوسيلة إلى الأفضل. أي كلما كان الحكم أفضل فالوسيلة أفضل ، مثلا وسيلة الواجب أفضل من وسيلة المستحب ووسيلة أفضل من وسيلة المباح.

(٢) سورة التوبة : ١٢. وتمام الآية « ( وَلا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفّارَ وَلا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ ). »

٥٧

وكذلك إلقاء السم في مياههم ، وسب الأصنام ، وما في معناها عند من يعلم أنه ليسب الله تعالى أو أحدا من أوليائه ، كما قال تعالى « وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ » (١).

ومنه بيع العنب ليعمل خمرا ، والخشب ليعمل صنما. وكذا إجارة العين كالمسكن والعبد لعصره أو بيعه أو شربه ، فيحرم ويبطل العقد.

( الثاني ) ما أجمعت الأمة على عدم منعه كالمنع من غرس العنب خشية اعتصاره خمرا ومن عمل السيف خشية قتل مؤمن به ( ووضع الشبهة وحلها ، وإن كان قد يظفر بالشبهة من متمكن في قلبه ويعجز عن الحل ، ومع ذلك لو قصدت هذه الغايات كان الفعل حراما ). (٢)

( الثالث ) ما فيه خلاف ، كبيع العنب على من يعمله خمرا أو الخشب على من يعمله صنما ، وكالبيع بشرط الإقراض والنظرة ، أو بيع السلعة على غلامه ليخبر بالزائد ، أو شراء ما باعه نسيئة عند حلول الأجل بنقيصة عن الثمن أو مثله ، كما إذا باعه ثوبا بمائة إلى سنة ثمَّ اشتراه منه حالا بخمسين ، فإنه في المعنى عاوض على خمسين في الحال بمائة إلى سنة.

وألحق بعض العامة مسائل كثيرة جدا تكاد تبلغ الألف ، سموها بسد الذرائع منها تضمين الصناع ما تلف في أيديهم سدا لدعواهم التلف أو الاشتباه بسبب تغيرها بالعمل فيحلفون ، ومنها منع القضاء بالعلم سدا لتسلط قضاة السوء على قضاء باطل ، وكذلك تضمين حامل الطعام.

__________________

(١) سورة الأنعام : ١٠٨.

(٢) ما بين القوسين ليس في ص.

٥٨

فوائد :

( الأولى ) كلما كان وسيلة لشي‌ء فعدم ذلك الشي‌ء عدمت الوسيلة.

ويشكل : بإمرار المحرم الموسى على رأسه ، وبوقوف ناذر المشي في مواضع العبور.

ويجاب : بأنه خرج بقوله عليه‌السلام إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم.

( الثانية ) ربما كان المتوسل إليه حراما والوسيلة غير حرام ، كدفع المال إلى المحارب ليكف ، ودفع المال للحربي للكف عند العجز عن مقاومتهما ، أو في فك أسرى المسلمين. فإن انتفاعهم بذلك المال حرام ولكن لما لم يكن مقصودا للدافع لم يكن الدفع حراما.

ومن هذا الباب إذا دفع التاجر المتاع والباج على الظالم الذي يصرف ذلك في المعاصي قطعا أو غيرها ، فإن انتفاع الظالم بذلك المال حرام لكن ذلك ليس مقصودا للتاجر.

( الثالثة ) مما يحرم لكونه وسيلة إلى الحرام ترخص العاصي بسفره ، لأن ترتب الرخصة على المعصية سعي في تكثير تلك المعصية.

ولو قارنت المعاصي أسباب الرخص لم يحرم ، للإجماع على جواز التيمم للفاسق العاصي إذا عدم الماء. وكذلك الفطر إذا ضربه الصوم ، والقعود في الصلاة إذا عجز عن القيام ، لأن الأسباب هنا غير معصية بل هي عجزه عن الماء أو العبادة ، والعجز ليس معصية. فالمعصية هنا مقارنة للسبب لا سبب.

فإن قلت : على هذا العاصي بسفره تباح له الميتة ، لأن سبب أكله خوفه على نفسه لا سفره ، فالمعصية مقارنة لسبب الرخصة لا أنها هي السبب ، مع أنه لا تباح له الميتة إجماعا.

٥٩

قلت : لا نص فيه للأصحاب ، وهذا متجه وإلا لزم أن يباح للعاصي على ما ذكرناه ، وهو باطل (١).

قاعدة :

الوسائل خمس :

( الأولى ) أسباب تفيد الملك ، وهي ستة :

الأول : ما يفيد الملك للغير بعقد معاوضة ، كالبيع والصلح والمزارعة والمساقاة والمضاربة.

الثاني : ما يفيد ملك العين بعقد لا معاوضة فيه ، كالهبة والصدقة والوقف والوصية بالغير (٢) وقبض الزكاة والخمس والنذر.

الثالث : ما يفيد تملك العين لا بعقد ، كالحيازة والإرث وإحياء الموات والاغتنام والالتقاط.

الرابع : ما يفيد ملك المنفعة بعقد معاوضة ، كالإجارة.

الخامس : ما يفيد ملك المنفعة بعقد غير معاوضة ، كالوصية بالمنفعة والعمرى عند الشيخ وابن إدريس.

السادس : ما يفيد تملك المنفعة لا بعقد كإرث المنافع.

__________________

(١) عنون الشهيد الأول في قواعده هذا السؤال والجواب هكذا : فإن قلت : مساق هذا الكلام أن العاصي بسفره تباح له الميتة لأن سبب أكله خوفه على نفسه فالمعصية مقارنة لسبب الرخصة لا أنها هي السبب. قلت : هذا متجه ولا يجعل هذا من باب الباغي والعادي اللذين يحرم عليهما الميتة.

(٢) في ص وهامش ك : والوصية بالعين.

٦٠