نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد عبد اللطيف الحسيني الكوه‌كمري الخوئي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٢

١
٢

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ربنا آتنا من لدنك رحمة وهيئ لنا من أمرنا رشدا ، وأفض علينا من سجال (١) جودك ما يزيل عن قلوبنا الصدأ (٢) ، وصيرنا في محفوظ لوحك ممن جعلته في القول مؤيدا والفعل مسددا.

وصل اللهم على من أرسلته بشيرا ونذيرا وشاهدا ، ومنحته (٣) من مواد مواهبك وزلال عذب مناهلك موردا ، وأتممت به نظام الوجود ومصالح خلقك بعد أن كانت ، محمد وآله الذين بهم اندفعت مهالك الردى ، وارتفعت أعلام الحجى (٤) ،

__________________

(١) السجل : الدلو العظيمة إذا كان فيها ماء قل أو كثر ، وسجال عطيتك من هذا المعنى.

(٢) صدأ الحديد : وسخه ، وفي الخبر : إن هذا القلب يصدأ كما يصدأ الحديد ، أي يركبه الرين بمباشرة المعاصي.

(٣) المنحة بالكسر في الأصل : الشاة أو الناقة يعطيها صاحبها رجلا يشرب لبنها ثمَّ يردها إذا انقطع اللبن ، ثمَّ كثر استعماله حتى أطلق على كل عطاء ، منحة أي أعطيته.

(٤) الحجى : العقل.

٣

وخفقت (١) رايات الهدى ، ما برق بارق وغدا ودر شارق وبدا.

أما بعد : فإن اتباع الحسنة الحسبة (٢) في العمر الذي سنه منه سنة من أعظم الرغائب وأسنى المواهب ، ولما وفق الله لزبر كتاب « اللوامع الإلهية في المباحث الكلامية » رأيت اتباعه بكتاب في المسائل الفقهية والمباحث الفروعية إحدى الحسنيين وإحدى الموهبتين ، وكان شيخنا الشهيد قدس الله سره قد جمع كتابا يشتمل على قواعد وفوائد في الفقه تأنيسا للطلبة بكيفية استخراج المعقول من المنقول وتدريبا لهم في اقتناص الفروع من الأصول ، لكنه غير مرتب ترتيبا يحصله كل طالب وينتهز فرصة كل راغب ، فصرفت عنان العزم إلى ترتيبه وتهذيبه وتقريبه ، وسميته (٣) ( نضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية ) وما توفيقي إلا بالله ، عليه توكلت وإليه أنيب (٤).

وهو مرتب على مقدمة وقطبين :

__________________

(١) خفق قلب الرجل : إذا اضطرب ، ومنه خفقت الراية.

(٢) الحسبة بالكسر : الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. قال الأصمعي : وفلان حسن الحسبة في الأمر أي حسن التدبير والنظر فيه.

(٣) نضد متاعه ينضده : جعل بعضه فوق بعض.

(٤) في ص : « أنبت » من أناب ينيب إنابة : إذا رجع.

٤

أما المقدمة

( ففي تعريف الفقه وما يتعلق بذلك )

وفيها قواعد :

[ القاعدة ] الأولى :

« الفقه » لغة الفهم ، واصطلاحا هو العلم بالأحكام الشرعية الفرعية عن أدلتها التفصيلية.

فالعلم جنس ، وقولنا بالأحكام يخرج العلم بالذوات والصفات ، وبالشرعية يخرج العقلية ، وبالفرعية يخرج أصول الشريعة الضرورية ، وكونها عن أدلتها يخرج علم واجب الوجود ، وكونها تفصيلية يخرج علم المقلد فإنه بما استدل على المسألة إجمالا بأنه « أفتاني به المفتي وكلما أفتاني به المفتي فهو حكم الله في حقي ».

وموضوعه أحوال المكلفين من حيث هي متعلق الاقتضاء أو التخيير.

٥

ومسائله المطالب المثبتة فيه.

ومبادئه : إما تصورية ، وهي معرفة الموضوع وأقسامه ومعرفة الأحكام وأقسامها ومتعلقاتها. وإما تصديقية ، وهي ما يرجع إليها الاستدلال ، وهي الكتاب والسنة والإجماع والعقل ، وأقسام ذلك وما يتعلق به.

لطيفة :

قد يطلق « الفقه » أيضا على علم طريق الآخرة ، وحصول ملكة يفيد الإحاطة بحقائق (١) الأمور الدنيوية ومعرفة دقائق آفات النفوس ، بحيث يستولي الخوف عليها فتعرض عن الأمور الفانية وتقبل على الأمور الباقية.

ولعل ذلك هو المراد من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ألا أنبئكم بالفقيه كل الفقيه؟ قالوا : بلى يا رسول الله. قال : من لم يقنط الناس من رحمة الله ، ولم يؤمنهم من مكر الله ، ولم يؤيسهم من روح الله ، ولم يدع القرآن رغبة عنه إلى ما سواه (٢).

وقول الصادق عليه‌السلام لا يكون الرجل فقيها حتى لا يبالي أي ثوبيه ابتذل وبما سد فورة (٣) الجوع.

والأول هو المصطلح عليه ، وعليه مباني قطبي هذا الكتاب وغيره من كتب الفقه.

__________________

(١) في كب : بحقارة.

(٢) أخرجه الكليني رحمه‌الله عليه في الكافي ١ / ٣٦ عن علي أمير المؤمنين عليه‌السلام مع إضافات واختلافات في اللفظ.

(٣) فارت القدر فورا وفورانا : غلت.

٦

[ القاعدة ] الثانية :

لما تقرر في علم الكلام كون أفعاله تعالى معللة بالأغراض واستحالة عود الغرض إليه وجب كونه لمصالح عبيده ، وهو إما جلب نفع أو دفع ضرر ، وكلاهما إما دنيوي أو أخروي. فالأحكام الشرعية لا تخلو من أحد هذه الأربعة ، وهي تنظم (١) كتب الفقه.

وقد قررها الأصحاب بأن غرض الحكم الشرعي أما أخروي وهو العبادات أو دنيوي لا يفتقر إلى عبارة وهو الأحكام ، أو يفتقر إلى عبارة إما من الطرفين وهو العقود ، أو من طرف وهو الإيقاعات.

وإن ، شئت قلت : الشرائع كلها لحفظ المقاصد الخمسة ، وهي : الدين ، والنفس ، والمال ، والنسب ، والعقل التي يجب تقريرها في كل شريعة ، فالدين يقتسم العبادات ، وحفظه بالجهاد وتوابعه (٢). وحفظ النفس بشرع القصاص ، وحافظة الحياة وما يتعلق بهما (٣). وحفظ النسب بالنكاح وتوابعه والحدود والتعزيرات ، وحفظ المال بأكثر العقود والتمليكات وحرمة الغصب والسرقة وغيرها. وحفظ العقل بتحريم المسكرات وما في معناها والحدود والتعزير وحفظ الجميع بالقضاء والشهادات وتوابعهما.

فائدة :

قد يجتمع في الحكم الواحد غرضان فما زاد ، فإن المكتسب لقوته وقوت عياله الواجبي النفقة إذا انحصر وجه التكسب في جهة وقصد به التقرب إلى الله

__________________

(١) في ص : وبقي تنظم.

(٢) ومنها قتل المرتد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

(٣) كالدية والكفارة.

٧

تعالى ، فإن الأغراض الأربعة تجتمع فيه ، فالنفع الدنيوي بحفظ النفس والأخروي بأداء الفريضة المقصود بها القربة ، وأما دفع الضرر الدنيوي فهو إزالة الألم الحاصل للنفس بترك القوت ، وأما الأخروي فهو العقاب اللاحق بترك الواجب.

أخرى :

العبادة تنتظم ما عدا المباح كما يجي‌ء ، وأما العقود والإيقاعات فهي أسباب يترتب عليها الأحكام كما يجي‌ء أيضا.

وأما المسمى بالأحكام فالغرض منها : إما بيان الإباحة كالصيد والأطعمة والأشربة والأخذ بالشفعة ، وإما بيان التحريم كموجبات الحدود والجنايات وغصب الأموال ، وإما بيان الوجوب كنصب القاضي ونفوذ حكمه ووجوب إقامة الشهادة عند التعيين ووجوب الحكم على القاضي عند الوضوح ، وإما بيان الاستحباب كالطعمة (١) في الميراث وبيان آداب الأطعمة والأشربة والذبائح والعفو في حدود الآدميين وقصاصهم ودياتهم ، وإما الكراهة ففي كثير من الأطعمة والأشربة وآداب القاضي.

[القاعدة] الثالثة :

كل حكم شرعي يكون الغرض الأهم منه الدنيا ، سواء كان لجلب نفع أو دفع ضرر : فإما أن يكون مقصودا بالأصالة ، أو بالتبع.

__________________

(١) الطعمة : الرزق ، وجمعها الطعم مثل غرفة وغرف ، ومنه « لا ميراث للجدات إنما هي طعمة ».

٨

فالأول إما لجلب النفع ، وهو ما يدرك (١) بالحواس الخمس ، فإن كل حاسة لها حظ من الأحكام الشرعية ، فللسمع الوجوب كما في القراءة الجهرية والتحريم كما في سماع الغناء وآلات اللهو ، وللبصر الوجود كما في الاطلاع على العيوب وإرادة التقويم (٢) ، والتحريم كما في تحريم النظر إلى المحرمات ، وللمس (٣) أحكام الوطء ومقدماته بل المناكحات كلها الغرض الأهم منها اللمس ، ويتعلق باللمس أيضا اللباس والأواني وإزالة النجاسات وتحصيل الطهارات ، ويتعلق بالذوق أحكام الأطعمة والأشربة والصيد والذبائح. وإما لدفع الضرر ، وهو حفظ المقاصد الخمس.

والثاني وهو الذي يكون مقصودا بالتبع ، فهو كل وسيلة إلى المدرك بالحواس أو إلى حفظ المقاصد ، ويجي‌ء مفصلا.

[القاعدة] الرابعة :

الحكم خطاب الشرع المتعلق بالأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع.

فالاقتضاء هو الطلب ، إما للوجود مع المنع من النقيض وهو الوجوب أو لا معه هو الندب وإما للعدم مع المنع من النقيض وهو التحريم أو لا معه وهو الكراهة.

والتخيير الإباحة ، والوضع هو الحكم على الشي‌ء بكونه سببا أو شرطا

__________________

(١) أي هو حكم يتعلق بما يدرك بالحواس الخمس ، وإلا فالحكم لا يدرك بالحواس الخمس.

(٢) أي تقويم المبيع ، فإن تقويمه موقوف على الرؤية فتجب.

(٣) أي يجري في اللمس الذي هو أحد الحواس أحكام الوطء والمناكحات من الوجوب والحرمة وغيرهما من الأحكام الخمسة. وفي بعض النسخ : إذ الغرض الأهم منها اللمس.

٩

أو مانعا.

وأضاف بعضهم الصحة والبطلان والعزيمة والرخصة والتقدير والحجة.

والأربعة الأول ظاهرة المثال ، وأما التقدير فإما بجعل الموجود معدوما كالماء بالنسبة إلى مريض يتضرر باستعماله أو إلى عاجز عن ثمنه يقدر (١) معدوما ، أو بجعل المعدوم موجودا ، وله أمثلة :

( الأول ) الدية ، تقدر داخلة في ملك المقتول قبل موته بآن يتورث عنه ويقضى منها ديونه ، فإنه يقدر الملك المعدوم موجودا للضرورة.

( الثاني ) تجديد النية في الصوم قبل الزوال ، فتنعطف هذه النية تقديرا إلى الفجر ، مع أن الواقع عدم النية.

( الثالث ) تقدير الملك قبل العتق في قوله « أعتق عبدك عني » ، وليس ذلك كله من باب الكشف ، للقطع بعدم هذه المقدرات.

وأما الحجة فهي مستند قضاء الحاكم ، كالإقرار والبينة واليمين والنكول. والحق أن هذه يمكن ردها إلى أقسام الوضع الثلاثة (٢).

هداية :

ظهر أن الخطاب إما تكليفي أو وضعي ، وليس بينهما منع جمع (٣) ، بل ينقسمان أقساما :

« أ » ما اجتمعا فيه : كالطهارة عن الحدث والخبث وأسباب الحدث التي من فعل العبد ، والصلاة فإنها واجبة وسبب لعصمة الدم ، وغسل الميت واجب

__________________

(١) في ص : فقدر.

(٢) وهي السبب والشرط والمانع.

(٣) بل بينهما عموم وخصوص من وجه

١٠

وشرط في صحة الصلاة عليه ، وباقي أحكامه واجبة وسبب في سقوط الفرض عن الباقين ، والاعتكاف ندب وسبب في تحريم محرماته ، والنكاح ندب وسبب في أشياء تأتي ، والطلاق مكروه أو واجب وسبب في التحريم ، والرضاع مستحب أو واجب وسبب للتحريم ، والزنا وأمثاله محرمة وسبب في الحد والتعزير والقصاص ، والعتق ندب وسبب للحرية.

« ب » وضعي لا غير ، كأسباب الحدث ، وليست من فعل العبد كالنوم والحلم (١) والحيض وأوقات الصلاة ورؤية الهلال ، فإنها أسباب محضة ، وحول الحول شرط لوجوب الزكاة (٢) ، والحيض مانع من الصلاة والصوم.

وجعل بعضهم ضابط هذا ما لا فعل فيه للمكلف ، ومنه الإرث فإنه تملك محض بعد وقوع السبب.

« ج » تكليفي لا غير ، كالتطوعات فإنها تكليف وليس فيها سببية ولا شرطية ولا مانعية ، وكذا الزكاة والصوم والحج والالتقاط بنية الحفظ (٣).

هذا إذا لم تلحظ اعتبار براءة الذمة أو سقوط الخطاب أو استحقاق الثواب أما مع ملاحظتها فإنه يزول هذا القسم (٤) ، لأن السببية حاصلة بالنسبة إلى ما ذكرناه.

« د » مبدأه تكليفي وعقباه وضعي ، فإن وجوب النفقة سبب لملك الزوجة والحضانة سبب للحفظ ، واستيفاء الحد والتعزير سبب للزجر عن المعصية ، والقضاء سبب في تسلط المقضي له.

__________________

(١) الحلم بضمتين وإسكان الثاني من باب قتل ، واحتلم : رأى في منامه رؤيا.

(٢) في ك : شرط أداء الزكاة.

(٣) لأن الالتقاط بنية التملك سبب في التملك فيكون من خطاب الوضع.

(٤) أي مع ملاحظة هذه الأشياء يزول قسم خطاب التكليف.

١١

ومن هذا القسم البيع والرهن والحوالة والضمان والشركة والوكالة والشفعة والإجارة والمزارعة والمساقاة والقراض والجعالة والوصية والهبة والمسابقة والعارية والوديعة إذا فرط ، فإن ذلك كله مباح.

وقد يستحب أو يجب ، ويترتب عليه بعد وقوعه أحكامه.

« هـ » مدارك الأحكام عندنا أربعة : الكتاب ، والسنة ، والإجماع ، ودليل العقل.

أما الكتاب فدليل حجيته كونه كلام الله الذي يستحيل عليه الكذب والقبح.

وأدلته قسمان نص وظاهر ، فالنص هو ما لم يحتمل خلاف ما فهم منه ، والظاهر هو ما احتمل خلاف ما فهم منه لكن دلالته على المفهوم منه راجحة.

ويقابل النص المجمل ، وهو ما يحتمل خلاف ما فهم منه ، لكن لا رجحان معه لأحد الطرفين. ويقابل الظاهر المؤول ، وهو ما في دلالته احتمال لكن مع مرجوحية المحتمل.

ويشترك النص والظاهر في المحكم والمجمل ، والمؤول في المتشابه.

وأما السنة فهي : إما نبوية ودليل حجتيها الكتاب نحو ( ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ) (١) وقوله تعالى ( لِتُبَيِّنَ لِلنّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ ) (٢) ، وإما إمامية ودليل حجيتها قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي (٣) وآية الطهارة (٤) نص في الباب.

__________________

(١) سورة الحشر : ٧.

(٢) سورة النحل : ٤٤.

(٣) كمال الدين وتمام النعمة ١ / ٣٣٤ ، ومعاني الأخبار ٩٠ ، العيون ١ / ٥٧

(٤) سورة الأحزاب : ٣٣.

١٢

واشتراط وجوب وجود المعصوم في كل وقت دليل جلي أيضا.

وكلاهما إما قول وأقسامه كما تقدم ، أو فعل فأما بيان فتابع للمبين في وجهه وأما ابتدائي فلا حجة فيه إلا مع علم الوجه ، أو تقرير فإن كان نبويا فحجة لاستحالة التقية عليه ، وإن كان إماميا فمحتمل.

وأما الإجماع فلوجوب دخول المعصوم الذي يستحيل عليه الخطأ.

وأما العقل فقد يكون مع استقلاله ضرورة أو نظرا ، وقد يكون لا مع استقلاله.

وله أقسام كثيرة من مفهوم موافقة أو مخالفة أو علة منصوصة أو اتحاد طريق كما هو مذكور مفصلا في الأصول.

وفي حجية هذا القسم الثاني خلاف ، يقوى في بعضه الحجية كالعلة المنصوصة ومتحد الطريق وبعض المفهوم الموافق وهو ما يكون ثبوت الحكم في المسكوت أولى.

والأحكام المأخوذة عن هذه الأدلة كثيرة ، ينتظمها كتب الفقه والأحاديث.

« و » استنبط العلماء من المدارك المذكورة قواعد خمسا ردوا إليها كثيرا من الأحكام ، سيأتي بيانها إن شاء الله تعالى :

( الأول ) البناء على الأصل ، ويعبر عنها بأن اليقين لا يرفع بالشك ، وهو راجع إلى الدليل العقلي ، أعني أصالة عدم الحكم السابق.

وينبه عليه قول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إن الشيطان ليأتي أحدكم وهو في الصلاة فيقول له أحدثت أحدثت ، فلا ينصرفن حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا (١). رواه عبد الله وأبو هريرة. ومثله رويناه عن أئمتنا عليهم‌السلام (٢).

__________________

(١) البخاري أخرج حديثا في كتاب الوضوء في هذا المعنى.

(٢) التهذيب ١ / ٣٤٧ ، فروع الكافي. ٣ / ٣٦.

١٣

( الثاني ) أن العمل بحسب النية ، لقوله تعالى ( وَما أُمِرُوا إِلّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ) (١). ولقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى (٢). والتقدير إنما صحة الأعمال بالنيات أو اعتبارها وتقدير الثاني (٣) أن كل من نوى شيئا حصل له وإن لم ينو شيئا لم يحصل له لقضية الحصر.

( تبصرة ) قيل (٤) : النية إرادة إيجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا أورد عليه إرادته تعالى ، لما تقرر من كونه مريدا للطاعات عندنا أو للكائنات عند الخصم ، مع أنها لا تسمى نية ، فيزيد مقارنة قلنا : لا يخرجها بناء على افتقار الممكن حال بقائه إلى المؤثر. فقيل : حادثة. قلنا : تدخل أيضا على قول السيد. فقيل : تفعل بالقلب فاستقام ، فهي إذن إرادة قلبية لإيجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا.

__________________

(١) سورة البينة : ٥.

(٢) أخرجه البخاري في باب « بدء الوحي » وفي باب « إن الأعمال بالنيات » ، التهذيب ١ / ٨٣ خرجه مرفوعا عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله.

(٣) في ك : ويفيد الثاني.

(٤) قال العلامة رحمه‌الله في قواعد الأحكام في بحث الوضوء : النية وهي إرادة إيجاد الفعل على الوجه المأمور به شرعا.

قال الشيخ الفقيه الكامل بهاء الدين العاملي في شرح الحديث السابع والثلاثين من كتاب الأربعين بعد نقل كلام العلامة : وأراد بالإرادة إرادة الفاعل وبالفعل ما يعم توطين النفس على الترك ، فخرجت إرادة الله تعالى لأفعالنا ودخلت نية الصوم والإحرام وأمثالها. والجار متعلق بالإرادة لا بالإيجاد ، فخرج العزم.

ثمَّ أورد اعتراض شيخه الشيخ علي قدس‌سره عليه ورده. من أحب زيادة الاطلاع فليراجع الكتاب.

١٤

( الثالث ) أن المشقة سبب في التيسير ، لقوله تعالى ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ ) (١) ولقوله ( وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ) (٢). ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعثت بالحنيفية السمحة السهلة (٣) ، وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفروا (٤).

( الرابع ) تحكيم (٥) العرف والعادة إذا فرض انتفاء النص اللغوي والشرعيفإنه يحمل الخطاب على الحقيقة العرفية وإلا لزم الخطاب بما لا يفهم.

وينبه على اعتبار العادة « ما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن » ، وهو من المراسيل ، ووقفه بعضهم على عبد الله بن مسعود.

وربما احتج على اعتبار العادة بفحوى قوله تعالى ( لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ ) (٦) الآيات ، فإن هذه الأوقات جرت العادة فيها بالابتذال (٧) ووضع الثياب. وقول النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله لحمنة بنت جحش (٨) تحيض في علم الله ستا أو سبعا كما تحيض النساء. وقوله المكيال مكيال المدينة والوزن وزن أهل مكة ،

__________________

(١) سورة البقرة : ١٨٥.

(٢) سورة الحج : ٧٨.

(٣) الجامع الصغير : ١٢٦ ، وفيه : بعثت للحنيفية السمحة ومن خالف سنتي فليس مني.

(٤) الجامع الصغير : ٢٠٥.

(٥) في ص : حكم العرف. وفيه : يحتمل الخطاب.

(٦) سورة النور : ٥٨.

(٧) ( في ص وهامش ك : بالابتدال.

(٨) في ص : لزينب. في « أسد الغابة في معرفة الصحابة » قال أبو عمر : حمنة بنت جحش كانت تستحاض وهي أخت زينب بنت جحش زوج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ إلى أن قال ـ روى عنها ابنها عمران بن طلحة قال : قالت : كنت أستحاض حيضة كثيرة شديدة ، فأتيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أستفتيه وأخبره ، فوجدته في بيت أختي زينب ـ إلخ.

١٥

فإن أهل المدينة اعتادوا الكيل لمكان النخل وأهل مكة الوزن لمكان متاجرهم ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وسلم قضى في ناقة البراء بن عازب لما أفسدت حائطا أن على أهل الحوائط حفظها نهارا وعلى أهل الماشية حفظها ليلا (١). وهو ظاهر في اعتبار العادة.

وأما قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد (٢) ، فيحتمل أن يقال : المراد ما عليه المسلمون ، وهو يشمل ما هم عليه من حيث الشرع أو العادة ، أو يقال : اعتبار العوائد حيث هو عن أمره فعليه أمره.

( الخامس ) نفي الضرر ، مستنده قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله في خبر أبي سعيد لا ضرر ولا ضرار (٣) بكسر الضاد وحذف الهمزة ، أسنده ابن ماجه والدار قطني وصححه الحاكم في المستدرك وفسرا بوجوه :

أ ـ ما كان من فعل واحد فهو ضرر ومن اثنين فهو ضرار ، لأنه فعال من المضارة الصادرة من اثنين ، وإن كان مضارة الثاني غير منهي عنها لوقوعها مجازاة. وسماها ضرارا تبعا للصورة ، كقوله تعالى « وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها » (٤).

أو نقول : الثاني منهي عنه أيضا ، لأنه عدول عن طريق العفو والإحسان كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك (٥).

ب ـ إن الضرار ما يتضرر به صاحبك ولا تنتفع به ، والضرر ما تضره به

__________________

(١) راجع الكافي ٥ / ٣٠١ ، التهذيب ٧ / ٢٢٤.

(٢) الجامع الصغير : ١٧٦.

(٣) الكافي ٥ / ٢٩٢.

(٤) سورة الشورى : ٤٠.

(٥) الجامع الصغير : ١٤٣.

١٦

وينفعك.

ح ـ إن الضرر اسم والضرار مصدر ، فالنهي عن الفعل الذي هو المصدر وعن إيصال (١) الضرر إلى الغير الذي هو الاسم.

وهذا خبر معناه النهي ، وسيأتي في فصل مفرد جملة مما يتفرع على هذه الخمس من الأحكام.

__________________

(١) في هامش ك : وهو إيصال.

١٧

القطب الأول

( في القواعد العامة المترتبة على المقدمات السابقة )

( وما يتفرع عليها من المسائل )

وفيه مطالب :

المطلب الأول

( في تفصيل أقسام الحكم )

وفيه فصلان :

الفصل الأول : في الاقتضاء

وفيه قواعد وفوائد :

قاعدة :

الواجب ما يذم تاركه لا إلى بدل (١) ، ويطلق أيضا على ما لا بد منه وإن لم يتعقبه

__________________

(١) أي يذم تاركه إن لم يأت بدله كتارك الجمعة مع إتيان الظهر ، وهذا يكون في الواجب التخييري فقط.

١٨

ذم. ويتفرع على ذلك أمور :

١ ـ نية الصبي في تمرينه الوجوب.

٢ ـ أن يستعمله في الطهارة الكبرى هل يلحقه حكم الاستعمال أم لا؟

٣ ـ إن طهارته الواقعة في الصبا مجزية حتى إنه لو بلغ لم تجب إعادتها.

٤ ـ أن صلاته في أول الوقت صحيحة ، فلو بلغ لم يعدها ، والأصح وجوب الإعادة في الموضعين.

٥ ـ إنه لو غسل ميتا أو صلى عليه هل يعتد به؟ إلا صح عدم الاعتداد به. ويتفرع حينئذ فرعان :

الأول : لو سلم على المصلي فرد صبي لا يكون ذلك مسقطا للفرض عن المصلي ، فتبطل صلاته لو استمر على الترك ، على قول قوي عندي خلافا لشيخنا.

الثاني : أنه لو سلم الصبي على المصلي هل يجب عليه الرد؟ فيه نظر ، من عموم الآية (١) المقتضية للوجوب مطلقا ، ومن عدم التكليف وعدم قصده استتباع الوجوب.

ويتفرع بطلان الصلاة بترك الرد وعدمه ، والحق الوجوب ، لأن أفعاله التمرينية توصفه بصفات ما يمرن به ، ولهذا ينوي الوجوب في الواجب والندب فيه ، فيتبع ذلك أحكام فعله ، ومن جملته هنا وجوب الرد ، وهو المطلوب.

تقسيم :

الواجب ينقسم أقساما :

__________________

(١) يريد قوله تعالى « وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ‌ءٍ حَسِيباً » سورة النساء : ٨٥.

١٩

« الأول » الواجب إما على الأعيان ، وهو ما أراد الشارع إيقاعه من كل واحد من المكلفين. وإما على الكفاية ، وهو ما أراد إيقاعه في الخارج لا عن مباشر بعينه.

« الثاني » الواجب إما مضيق ، وهو ما لا يفضل وقته عنه ، أو ما لا يسوغ تأخيره عنه. وإما موسع ، وهو مقابله فيهما.

« الثالث » الواجب أن لا يجزي عنه غيره وهو المعين ، أو يجزي وهو المخير. وقد يتركب بعض هذه مع بعض.

فائدة :

الواجب العيني شرعيته للحكمة في تكراره كالمكتوبة ، وإن مصلحتها الخضوع لله عزوجل تعظيمه ومناجاته والتذلل لله والمثول (١) بين يديه والتفهم لخطابه والتأدب بآدابه ، وكلما تكررت الصلاة تكررت هذه المصالح الحكمية.

والواجب الكفائي الغرض منه إبراز الفعل إلى الوجود ، وما بعده خال عن الحكمة كإنقاذ الغريق (٢) من الهلكة. ومن ثمَّ لا تكرر صلاة الجنازة وجوبا ، لأن الغرض الدعاء له ، وبالمرة يحصل ظن الإجابة ، والقطع غير مراد ، فلا تبقى حكمة في الدعاء بعد ذلك بخصوصية هذا الميت.

وإنما قيدنا بالخصوصية لأن الإحياء على الدوام يدعون للأموات لا على وجه الصلاة.

__________________

(١) المثول : الانتصاب قائما.

(٢) في ص وهامش ك : كإنقاذ الغير.

٢٠