نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد عبد اللطيف الحسيني الكوه‌كمري الخوئي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٢

تنبيهات :

( الأول ) إذا عفا عن الدية فهي دية المقتول لا القاتل ، لأن العافي أحيا المقتول (١) بإسقاط حقه من مورثه ، ومن أحيا غيره ببذل شي‌ء استحق بدل المبذول كمن أطعم مضطرا في مخمصة فإنه يستحق عليه بدل الطعام.

ولو مات الجاني قبل العفو والقصاص أو قتل ظلما أو بحق وأوجبنا الدية في تركته فهي أيضا دية المقتول عندنا لا القاتل ، لأنه الفائت على الورثة بالأصالة (٢).

( الثاني ) قد يعرض ما يمنع من أخذ الدية ، كمن عفا عن القصاص إليها على المذهبين ، وله صور :

الأولى : لو قطع من الجاني ما فيه ديته كاليدين أو الرجلين قيل يكون مضمونا عليه بالدية ، فليس له القصاص في النفس حتى يؤدي إليه الدية. ولو عفا عن القصاص لم يكن له أخذ الدية لاستيفاء ما يوازنها (٣).

الثانية : لو قطع يدي رجل فقطع يدي القاطع قصاصا ثمَّ سرى القطع في المقتص فمات فللولي قتل الجاني ، ولو عفا لم يكن له دية لاستيفائه (٤) ما قابلها.

الثالثة : الصورة بحالها ولكنه أخذ دية اليدين ثمَّ سرت فللولي قتله قصاصا بجز الرقبة ، ولو عفا فلا دية لأن دية الطرف تدخل في دية النفس وقد استوفاها المجني عليه كاملة.

الرابعة : لو قطع ذمي يدي مسلم فاقتص منه ثمَّ سرت إلى المسلم فلوليه

__________________

(١) في القواعد وهامش ص : القاتل.

(٢) في ص : وهامش ك : بالإصابة.

(٣) في ص والقواعد وهامش ك : يوازيها.

(٤) في ص : لاستيفاء.

٤٨١

القصاص ، وإن عفا إلى الدية فلا دية ينقص دية الذمي. وقال بعضهم لا دية ، ويضعف بعدم استيفاء ما قابل دية المسلم.

الخامسة : لو قطعت امرأة يدي رجل فاقتص منها ثمَّ سرت إليها فليس له مع العفو سوى [ نصف ] الدية (١).

السادس : لو قطع يديه فسرى إلى نفسه فقطع الولي يدي الجاني فلم يمت فله قتله تحقيقا للمماثلة. ولو مات قبل جز الرقبة لم يؤخذ من تركته شي‌ء ، لأنه لما فات المحل ثبت له دية واحدة وقد استوفى ما قابلها.

وأورد الشيخ المحقق نجم الدين رحمه‌الله على هذه الأحكام أن للنفس دية بانفرادها وما استوفى (٢) وقع قصاصا عن الجناية ، فلا يكون مانعا من القصاص ولا الدية.

السابع : لو قطع يدي عبد يساوي ألف دينار ثمَّ أعتقه السيد ومات بالسراية فللورثة القصاص والعفو عنه مجانا ، لأن أرش الجناية كان ملك السيد فيكون له ، ولا يمكن تعدده بتعدد المستحقين فليس لهم مال هنا أيضا.

السادسة :

كل من لم يباشر القتل لم يقتص منه إلا في نحو تقديم الطعام المسموم إلى الضيف وأمره بالأكل منه أو سكوته ، وكذا لو دعاه إلى بئر لا يعلمها ، وكذا لو شهدا عليه بالقتل فقتل ثمَّ رجعا وقالا تعمدنا فإنه يقتص منهما ، وكذا لو ثبت أنهما شهدا زورا وقالا تعمدنا.

__________________

(١) في ص : سوى الدية.

(٢) في ص وهامش ك : وما استوفاه.

٤٨٢

السابعة :

اعتبر بعضهم في القود تكافئ المجني عليه والجاني في جميع أزمنة الجرح إلى الموت ، فلو تخلل رده بين الإسلامين فلا قصاص لأنها شبهة.

وفصل الشيخ رحمة الله عليه في المبسوط : بأنه إن كان لم يحصل سراية في زمان الردة فالقود وإن حصلت فلا قود ، لأن وجوبه مستند إلى الجناية وكل السراية وبعضها هدر.

وقوى المحقق نجم الدين تبعا لابن الجنيد والشيخ في الخلاف ثبوت القصاص ، لأن الاعتبار في الجناية بحال استقرارها ، وهو حينئذ مسلم.

قلت : ربما دخلت المناقشة في التفصيل ، لأن أزمنة الجرح القاتل لا ينفك عن سراية غالبا وإن خفيت. وكذا يعتبر في حل أكل الصيد ذلك حتى لو رمى إلى صيد فارتد ثمَّ أسلم ثمَّ أصابه لا يحل ، لأن الأصل في الميتات الحرمة. وكذا في تحمل العاقلة يعتبر الطرفان والواسطة ، لأنها جارية (١) على خلاف الأصل من حيث إنها مؤاخذة بجناية الغير ، فاحتيط فيها بطريق الأولى كما احتيط في القود. وفيها كلام يأتي.

وقطع المحقق بتضمن العاقلة ولم يفصل ، وكأنه أحاله على ما ذكره في العمد. وقد قيل إذا رمى حال إسلامه طائرا ثمَّ ارتد ثمَّ أسلم ثمَّ أصاب السهم إنسانا إن الدية على عاقلته المسلمين وتكتفي بإسلامه في الطرفين. وهذا بناء على أن المرتد يرثه بيت المال ، وعندنا أن ميراثه لورثته المسلمين. فعلى هذا لو أصاب مرتدا لعقله المسلمون من أقاربه ، أما الدية فالاعتبار بها حال التلف فلو رمى حربيا أو مرتدا ثمَّ أسلم فأصابه السهم في حال إسلامه وجبت الدية.

__________________

(١) في ص : لأنها جاءت.

٤٨٣

الثامنة :

كل جناية تلزم جانيها إلا في ضمان الخطأ على العاقلة ، وضمان جناية الصبي على الأنفس مطلقا ، لأن عمده خطأ. وقيل في الأعمى كذلك ولم يثبت ، وإلا جناية الصبي على صيد في الإحرام أو فعل بعض محظوراته فإنه يلزم الولي.

التاسعة :

تحمل العاقلة الدية عن أنفسها ، وعلى قول الشيخ المفيد بضمان العاقلة ثمَّ إن لهم الرجوع على الجاني يكون الوجوب قد لاقى الجاني قضية إلزام كل متلف بجنايته.

وتزول شناعة ابن إدريس رحمه‌الله على المفيد ونبسته إلى خلاف الأمة ، فإن كثيرا من علماء العامة يجعلون الوجوب ملاقيا للجاني ، أولا ثمَّ تتحمله العاقلة ويفرعون عليه أنه إذا انتهى التحمل إلى بيت المال وهو خال يؤخذ (١) من الجاني وأنه لو أقر الجاني بجناية الخطأ ولم يصدقه العاقلة وحلفوا على نفي العلم يحتمل أن لا يؤاخذ بإقراره ، بناء على أن الجناية في الخطأ تجب على العاقلة ابتداء فكأنه مقر على غيره فلا يلزمه شي‌ء ، وإن قلنا بملاقاته الوجوب نفذ إقراره إلى نفسه (٢). وأنه لو غرم الجاني ثمَّ اعترفت العاقلة فإن قلنا بملاقاة (٣) الوجوب رجع على العاقلة ولا يرد الولي ما قبض ، وإن قلنا بعدمه رد الولي ما قبض ثمَّ يرجع على العاقلة.

__________________

(١) في ص : يوجد.

(٢) في ص : فقد أقر على نفسه.

(٣) في ك : بملاقاته.

٤٨٤

العاشرة :

كل جناية لا مقدر لها ففيها الأرش تحقيقا كما في الرقيق وتقديرا كما في الحر ، والتقدير غالبا أنه يتبع العدد ، ففي جميع ما في البدن منه واحد عينا كان أو منفعة الدية وتوزع الدية على ما زاد بالسوية غالبا ، ففي الاثنين الدية وكذا في الثلاثة والأربعة والعشرة.

واستثنى من الاثنين الحاجبان والترقوتان ، ومن العشرة الأظفار ، وفي الشجاج في الرأس والوجه من عشر عشر الدية إلى ثلثها ، وفي البدن بنسبتها إلى الرأس ، وفي كسر عظم من عضو خمس دية العضو ، فإن صلح بغير عيب فأربعة أخماس دية كسره ، وفي موضحته ربع دية كسره ، وفي رضه ثلث دية العضو فإن برأ بغير عيب فأربعة أخماس دية رضه ، وفي فكه من العضو بحيث يتعطل العضو ثلثا دية العضو ، فإن صلح بغير عيب فأربعة أخماس دية فكه ، وفي أحداث شلل في العضو ثلثا ديته ، وفي قطعه كل عضو أشل ثلث ديته ، وفي الزائد ثلث دية الأصلي من الأسنان والأصابع.

٤٨٥

المقصد الخامس

( في الأحكام )

وفيه فصلان :

( الأول ـ في الاجتهاد )

قاعدة :

إذا لم يعثر المجتهد على وجه مرجح لأحد الاحتمالات ففيه صور :

( الأولى ) أن يكون ذلك في الأمارات ، ففيه وجهان التوقف والتخيير. وقيل إن كانا دليلين تساقطا ويرجع إلى البراءة الأصلية.

( الثانية ) أن يكون في الأواني فيطرحها ويستعمل غيرها وإلا تيمم.

( الثالثة ) أن يكون في الثياب فيصلي في كل واحد مرة ويزيد على عدد النجس بواحد. وقيل يصلي عاريا ولا إعادة عندنا.

( الرابعة ) أن يكون الشك في الوقت فعليه الصبر حتى يتحقق (١) دخوله.

__________________

(١) في ص : حتى يتيقن.

٤٨٦

( الخامسة ) الشك في جهة القبلة ، فيصلي إلى أربع جهات. وقيل يتخير ولا إعادة عندنا على كل حال.

( السادسة ) يتخير (١) الأسير والمحبوس في شهر رمضان ، فإنه يتوخى فإن صادف أو تأخر أجزأ وإلا أعاد.

قاعدة :

القادر على اليقين لا يعمل بالظن إلا نادرا ، كالمتوضئ من ماء قليل على شاطئ بحر أو نهر عظيم.

وهذه القاعدة مأخوذة من اختلاف الأصوليين من جواز الاجتهاد بحضرة الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ووقوعه ، ومن قال من الأصحاب بجواز تقليد المؤذن للقادر على العلم بالوقت فهو من باب النادر.

وعد بعض العامة مواضع مدخولة عندنا ، كالاجتهاد في الثوبين مع وجود ثوب طاهر يقينا ، وفي دخول الوقت للقادر على العلم ، وفي استقبال الحجر مع قدرته على الكعبة بناء منهم على أن كون الحجر من الكعبة غير معلوم ، إذ رووا أنه من البيت ، ورووا أنه سبع أذرع منه أو ستا (٢) أو خمس ، ووجوب الطواف به يدرأ هذه الاحتمالات إلا أن يقال الطواف يجب به تأسيا وإن لم يكن من البيت. وهو بعيد.

قاعدة :

هل يتكرر الاجتهاد بتكرر الواقعة؟ فيه خلاف أصولي ، وفي الفروع

__________________

(١) في ص : يتحرى ، في القواعد : تحرى

(٢) في ص : أو ست.

٤٨٧

مسائل كطلب المتيمم عند دخول وقت الثانية أو عند تضيقه والاجتهاد في القبلة للصلاة الثانية أو الثالثة.

أقول : والوجه في ذلك كله أنه مع ظهور أمارة يوجب نقيض الحكم الأول يجب التكرار وإلا فلا ، أما طلب التزكية فيمن زكى أو لا وإن طالت المدة فليس منه ، لأغلبية حمل أفعال المسلم على الصحة إلا مع تيقن الخارج.

قاعدة :

كل مجتهدين اختلفا في ما يرجع إلى الحس كالقبلة وطهارة الإناء والثوب لا يأتم أحدهما بصاحبه ، وإن اختلفا في فروع شرعية لاحقة بالصلاة ، كترك الوضوء من بعض جزئيات النوم ، ومن مس الفرج والتحريم بأكبر معرفا (١) ، وإسقاط السورة ، والاجتزاء بالذكر المطلق ، ووجوب القنوت وتكبيرات الركوع والسجود لم يصح اقتداء المعتقد بطلان صلاة نفسه لو فعل ما فعل إمامه. وربما قيل بالصحة.

وفرق بينهما ، فإن الأول يعتقد المأموم بطلان صلاته بسبب إن كان واقعا ، فهو إجماعي في البطلان ، بخلاف الثاني فإن الواقع ليس بإجماعي بل يجوز أن يكون صلاته هي الفاسدة في بعض الصور.

ويشكل بأن الظن واقع في الطريق ، فبطلان الصلاة بالإجماع ليس بحاصل إلا بعد صدق ظنه وكذب ظن صاحبه.

وقيل في الفرق : إن ذلك يؤدي إلى تعطيل الائتمام لكثرة المخالفة في الفروع ، بخلاف مسألة الأواني والقبلة فإنها نادرة.

__________________

(١) في هامش : بالكثير معروفا.

٤٨٨

قاعدة :

لا يجوز التقليد في العقليات ولا في الأصول الضرورية من السمعيات ، ويجوز التقليد في غيرها للعاجز عن درك الدليل إذا تعلق به عمل.

وكلما لا يتعلق فيه عمل : فإن كان المطلوب فيه العلم لا يجوز التقليد فيه كالتفاضل بين الأنبياء السالفة أو الأنبياء والملائكة ، وإلا جاز كسيرة الأنبياء التي لا يتعلق بها العمل كتقدم غزاة على غزاة وتأمير زيد أو عمرو.

قاعدة :

لو تعارضت الأمارتان عند المجتهد فالحكم إما التخيير أو الوقف ، وقد ذكر مواضع يقع فيها التخيير عند التعارض وقد يكون التخيير مجزوما به تحصيلا لمصلحة لا تتم إلا به ، كتخيير المصلي داخل الكعبة إلى أي جدرانها شاء ، وكتخيير من ملك مائتين بين الحقاق وبنات اللبون.

فرع :

لو ابتلع خيطا قبل الفجر وأصبح صائما متعينا وطرفه خارج من فيه والآخر ملاصق لنجاسة المعدة واعتبرنا وجوب اجتناب مثله ، فهو متردد بين أن يبقيه فيلزمه إبطال ثلاث صلوات وهي النهارية ، وبين أن يقطعه فيفسد صومه أو يقلعه (١) فكذلك ، إذ هو كالمتعمد للقي‌ء.

فيحتمل التخيير ، ويحتمل مراعاة الصلاة لتأكدها وأفضليتها على الصوم ومراعاة الصوم لشروعه فيه قبل الصلاة.

__________________

(١) في ص : أو يبتلعه.

٤٨٩

قاعدة :

الفرق بين الفتوى والحكم مع أن كلا منهما إخبار عن حكم الله تعالى يلزم المكلف اعتقاده من حيث الجملة : أن الفتوى مجرد إخبار عن الله تعالى بأن حكمه في هذه القضية كذا ، والحكم إنشاء إطلاق أو إلزام في المسائل الاجتهادية وغيرها مع تفاوت المدارك فيها مما يتنازع فيه الخصمان لمصالح المعاش ، فبالإنشاء تخرج الفتوى لأنها إخبار والإطلاق والإلزام نوعا الحكم ، وغالب الأحكام إلزام.

وبيان الإطلاق فيها الحكم بإطلاق مسجون لعدم ثبوت الحق عليه ، ورجوع أرض تحجرها شخص ثمَّ أعرض عنها وعطلها ، وبإطلاق حر من يد من ادعى رقه ولم يكن له بينة.

وبتقارب المدارك في مسائل الاجتهاد يخرج ما ضعف مدركه جدا ، كالعول والتعصيب وقتل المسلم بالكافر ، فإنه لو حكم به حاكم وجب نقضه.

وبمصالح المعاش يخرج العبادات ، فإن لا مدخل للحكم فيها ، فلو حكم الحاكم بصحة صلاة زيد لم يلزم صحتها ، بل إن كانت صحيحة في نفس الأمر فذاك وإلا فهي فاسدة ، وكذا الحكم بأن مال التجارة لا زكاة فيه أو أن الميراث لا خمس فيه ، فإن الحكم فيه لا يرفع الخلاف بل للحاكم غيره أن يخالفه في ذلك. نعم لو اتصل بما أخذ الحاكم ممن حكم عليه بالوجوب مثلا لم يجز نقضه ، فالحكم المجرد عن اتصال الأخذ إخبار كالفتوى وأخذه للفقراء حكم باستحقاقهم فلا ينقض إذا كان في محل الاجتهاد.

ولو اشتملت الواقعة على أمرين أحدهما من مصالح المعاد والآخر من مصالح المعاش ـ كما لو حكم بصحة حج من أدرك اضطراري المشعر وكان نائبا ـ فإنه لا أثر له في براءة النائب في نفس الأمر لكن يؤثر في عدم رجوعهم

٤٩٠

عليه بالأجرة.

وبالجملة فالفتوى ليس فيها منع الغير عن مخالفة مقتضاها من المفتين ولا مستفتين : أما من المفتين فظاهر ، وأما من المستفتين فلأن المستفتي له أن يستفتي آخر ، وإذا اختلفا عمل بقول الأعلم ثمَّ الأورع ثمَّ يتخير مع التساوي. والحكم لما كان إنشاء خاصا في مواقع خاصة وقع الخلاف في تلك الواقعة بحيث لا يجوز لغيره نقضها ، كما لو حكم حاكم بتوريث ابن العم ومنع العم للأب وفي المسألة خال فإنه يقتضي بخصوصه منع حاكم آخر بتوريث العم أو الخال في هذه المادة ، لأنه لو جاز له نقضها لجاز لآخر نقض الثانية وهلم جرا ، فيؤدي إلى عدم استقرار الأحكام ، وهو مناف للمصلحة التي لأجلها شرع نصب الحكام من نظم أمور أهل الإسلام ولا يكون ذلك رفعا للخلاف في سائر الواقعة (١) المشتملة على مثل هذه الواقعة.

( الفصل الثاني ـ في القضاء ومتعلقاته )

وفيه قواعد :

الأولى : في ضبط ما يحتاج إليه الحاكم

كل قضية وقع التنازع فيه بين اثنين فصاعدا في إثبات شي‌ء لأحدهم أو نفيه أو كيفيته وكل أمر مجمع على ثبوته وتعين الحق فيه ولا يؤدي انتزاعه إلى فتنة يجوز انتزاعه من غير إذن الحاكم (٢) ، ولو لم يتعين جاز في صورة المقاصة ، ومن المرفوع إلى الحاكم كل أمر فيه اختلاف بين العلماء كثبوت الشفعة مع الكثرة

__________________

(١) في ص : في نهاية الواقعة. وفي القواعد : في سائر الواقعات.

(٢) في ك والقواعد : من دون الحاكم.

٤٩١

أو احتيج فيه إلى التقويم كالأرش وتقدير النفقات ، أو إلى ضرب المدة كالإيلاء والظهار أو إلى الألفاظ كاللعان والقصاص طرفا أو نفسا والحدود والتعزيرات مطلقا. وقد يقيد القصاص بخوف فتنة أو فساد وحفظ مال الغياب كالوديعة واللقطات.

الثانية :

يجوز عزل الحاكم في مواضع :

( الأول ) إذا ارتاب به الإمام ، فإنه يعزله لحصول خشية المفسدة مع بقائه.

( الثاني ) إذا وجد أكمل منه تقديما للأصلح على المصلحة ، قال النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من ولي من أمور المسلمين شيئا ثمَّ لم يجتهد لهم وينصح لم يدخل الجنة معهم.

( الثالث ) مع كراهية الرعية وانقيادهم إلى غيره وإن لم يكن أكمل إذا كان أهلا ، لأن نصبه لمصلحتهم فكلما كان الصلاح أتم كان أولى.

ولا يجوز عزله لتولية الأنقص لمنافاته المصلحة ، وفي جوازه بالمساوي وجهان نعم كما يتخير بينهما ابتداء أولا وهو الأقرب لما فيه من إدخال الغضاضة (١) عليه بغير سبب.

ولا يعارض بأن فيه نفعا للمولى ، لأن دفع الضرر أقدم من جلب المنفعة وحفظ الموجود أولى من تحصيل المفقود ، وأولى بالمنع جواز عزله اقتراحا مع قطع النظر عن البدل ، لأن ولايته ثبتت شرعا فلا تزول تشهيا.

__________________

(١) الغضاضة : التنقص.

٤٩٢

الثالثة :

يجوز للآحاد مع تعذر الحكام تولية آحاد التصرفات الحكمية على الأصح كدفع ضرورة اليتيم لعموم « وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى » (١) وقوله عليه‌السلام والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه (٢). وقوله عليه‌السلام كل معروف صدقة (٣).

وهل يجوز قبض الزكوات والأخماس من الممتنع وتفرقها في أربابها وكذا بقية وظائف الحكام غير ما يتعلق بالدعاوي؟ فيه وجهان. ووجه الجواز ما ذكرناه ولأنه لو منع ذلك لفاتت مصالح صرف تلك الأموال وهي مطلوبة لله سبحانه.

قال بعض متأخري العامة : لا شك أن القيام بهذه المصالح أتم من ترك هذه الأموال بأيدي الظلمة يأكلونها بغير حقها ويصرفونها إلى غير مستحقها ، فإن توقع إمام يصرف ذلك في وجهه حفظ المتمكن تلك الأموال إلى حين تمكنه من صرفها إليه ، وإن آيس من ذلك ـ كما في هذا الزمان ـ تعين صرفه على الفور في مصارفه ، لما في إبقائه من التغرير وحرمان مستحقيه من تعجيل أخذه مع مسيس حاجتهم إليه.

ولو ظفر بأموال مغصوبة حفظها لأربابها حتى تصل إليهم ، ومع اليأس يتصدق بها عنهم ويضمن. وعند العامة تصرف في المصالح العامة.

__________________

(١) سورة المائدة : ٢.

(٢) كتاب قضاء حقوق المؤمنين حديث : ١ ، البحار ٧٤ / ٣١٢.

(٣) الخصال : ١ / ١٤٧.

٤٩٣

الرابعة :

إنما تجوز المقاصة أو أخذ العين المدعى بها مع قطع المدعي بالاستحقاق فلو كان ظانا أو متهما لم يجز ، وكذا إذا كانت المسألة من المختلف فيها والغريم مقلد ، كمن وهب منجزا في مرض موته ولا يخرج من الثلث أو عليه دين مستوعب أو وهب ولم يقبض أو باع صرفا أو افترقا قبل القبض.

نعم لو حكم له بذلك حاكم ترتبت المقاصة والاستقلال بأخذ العين مع الشروط المعلومة ولا يجوز الاستقلال بالتعزير ، لأن تقديره بنظر الحاكم.

ولو أدى إلى انتهاك العرض وخوف سوء العاقبة ـ كما لو وجد عين ماله وخاف أن ينسب إلى السرقة بأخذها فعرض نفسه لسوء القالة (١) ووخامة العاقبة ـ أمكن القول بالتحريم.

أما الوديعة ففيها قولان مستندان إلى روايتين ، وقد روي عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أد الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك (٢).

وروي أنه قال لهند خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف (٣). ومال الرجل كالوديعة عند المرأة.

الخامسة :

الفرق بين الثبوت والحكم : أن الثبوت هو نهوض الحجة كالبينة وشبهها

__________________

(١) في ك : المقالة.

(٢) الجامع الصغير : ١٤ نقلا عن تاريخ البخاري وعن أبي داود وعن الحاكم وعن الترمذي.

(٣) البخاري في صحيحه « باب القضاء إلى الغائب » من أبواب كتاب الأحكام. وراجع كتاب النفقات من الكتاب.

٤٩٤

السالمة عن المطاعن ، والحكم إنشاء كلام هو إلزام أو إطلاق ترتب على هذا الثبوت.

وبينهما عموم من وجه ، لوجود الثبوت بدون الحكم في نهوض الحجة قبل إنشاء الحكم ، وكثبوت هلال شوال وطهارة الماء ونجاسته ، وثبوت التحريم بين الزوجين برضاع ونحوه والتحليل بعقد أو ملك. ويوجد الحكم بدون الثبوت كالحكم بالاجتهاد. ويوجدان معا في نهوض الحجة والحكم بعدها. أقول : في وجود الحكم بدون الثبوت نظر.

السادسة :

الموارد التي عنها الحكم : الإقرار ، وعلى الحاكم ، والشاهدان فقط ، والشاهدان واليمين ، والشاهد والمرأة فقط ، والمرأة فقط ، والمرأتان فقط ، والثلاث فقط ، والأربع فقط ، والمرأتان واليمين ، والأربعة الرجال ، والثلاثة ، والمرأتان والرجلان ، وأربع نسوة ، والنكول مع رد اليمين ، ورد اليمين فيحلف المدعى والقسامة ، وأيمان اللعان ، واليمين وحدها في صورة التحالف ، وشهادة الصبيان في الجراح بالشروط ، والمعاقد في الخص (١) ، واليد والتصرف.

مسألة :

الاستفاضة طريق إلى ثبوت أحكام ، وضبطها كثير من الأصحاب بما يتآخم العلم ، وبعضهم بمحصل العلم. وهو مأخوذ من الخبر المستفيض عند الأصوليين وهو المشهور بحيث تزيد نقلته على ثلاثة.

__________________

(١) الخص بضم الخاء وتشديد الصاد : البيت من القصب. ومنه الحديث الخص لمن إليه القمط ، يعني شد الحبل.

٤٩٥

ثمَّ إن بعضهم قال : يثبت بالاستفاضة اثنان وعشرون : النسب إلى الأبوين والموت ، والنكاح ، والولايات ، والعزل ، والولاء ، والرضاع ، وتضرر الزوجة ، والوقوف ، والصدقات ، والملك المطلق ، والتعديل ، والجرح ، والإسلام ، والكفر ، والرشد والسفه ، والحمل والولادة والوصاية ، والحرية ، واللوث. قيل والغصب والدين والإعسار والعتق.

فرع (١) :

إن اعتبرنا فيها العلم جاز للحاكم أن يحكمه بعلمه المستفاد منها ، وإلا ففيه نظر. وقد نصوا على أن الحاكم يحكم بعلمه في التعديل والجرح ، مع أنه من الاستفاضة.

وقد يفرق : بأن التعديل كالرواية العامة لجميع الناس ، لأن نصبه عدلا يعم كل مشهود عليه ، فهو كالرواية التي لا يشترط في ثبوتها (٢) العلم بخلاف باقي الأحكام الثابتة بالاستفاضة ، فإنها أحكام على أشخاص بعينهم ، فاعتبر فيها العلم القطعي.

السابعة :

اليد تقبل الشدة والضعف إذ هي عبارة عن القرب والاتصال ، فكلما زاد تأكدت اليد ، فأبلغها : ما قبض بيده ، ثمَّ ما عليه من الثياب ، والمنطقة والنعل ، ثمَّ البساط تحته أو الدابة تحته ، ثمَّ تحت حمله ، ثمَّ ما هو سائقها أو قائدها ، ثمَّ

__________________

(١) في ك : تنبيه ـ بدل فرع. وفيه إن اعتبرنا في الاستفاضة العلم.

(٢) في ك : في قبولها.

٤٩٦

الدار التي هو ساكنها إذ هي دون الدابة لاستيلائه في الدابة على جميعها ، ثمَّ الملك الذي يتصرف فيه.

ولو تنازع ذو يد ضعيفة وقوية ـ كالراكب مع السائق أو قابض اللجام أو تنازع ذو الحمل مع غيره ـ قدمنا ذا اليد القوية. ويمكن أن يقال : الترجيح هنا ليس بقوة اليد بل بإضافة التصرف إليها.

فرع :

لو كانت دابة في يد اثنين وعبد أحدهما (١) فهي نصفان مع التنازع ، ولا عبرة بيد العبد ، سواء كان مأذونا له في التجارة أو لا ، لأن الملك منتف عنه والعبرة بيد المولى.

الثامنة :

لا تكلف المدعى بينة في مواضع : دعوى الدم لتأيده باللوث ، واللعان لتعذر إقامة البينة هنا غالبا ، وتلطيخ الفراش فالاستتار (٢) أمر مهم فاكتفي فيه بقول الزوج ليصون نفسه عن هذه الوصمة (٣) العظيمة ، ولأن العادة درأ (٤) الفاحشة عن الزوجة مهما أمكن فحيث أقدم على ذلك مع أيمانه قدمه الشرع.

وتقديم قول الأمناء في دعوى التلف لئلا يقل قبول الأمانة مع إمساس

__________________

(١) في ك : وعند أحدهما.

(٢) في ص : بالاستتار.

(٣) في ص : الوضيمة بفتح الواو وسكون الصاد المهملة : العيب والعار والوضيمة بالضاد المعجمة : طعام المأتم.

(٤) درأ الشي‌ء أي دفعه شديدا.

٤٩٧

الضرورة إليها ، سواء كانت أمانتهم من جهة يستحق الأمانة كالوديعة أو من قبل الشرع كالوصي والملتقط.

ومن ألقت الريح ثوبا إلى داره.

ويقبل قول الحكام في الأحكام والجرح التعديل لئلا يفوت المصالح المترتبة على الولاية والحكم.

ويقدم يمين الغاصب في دعوى التلف للضرورة ، إذ لو لم يسمع لخلد السجن فيستضر أو أطلق مع إلزام العين ، وهو متعذر مع إنكاره أو لا مع إلزام العين فيضيع حتى المالك.

ودعوى الودعي في الرد ، لئلا يزهد الناس في قبول الوديعة.

ودعوى من ثبت صدقه كالمعصومين عليهم‌السلام. والكل محتاجون إلى اليمين إلا هذا.

التاسعة :

إذا ادعي إلى الحاكم ويعلم براءة ذمته لا تجب الإجابة إلا أن يخاف الفتنة ولو كان المدعى به عينا وسلمها لم تجب الإجابة ، وكذا لو كان معسرا أو علم أنه يحكم عليه يجوز بل ربما حرم كما في القصاص والحد لأنه تعرض بالنفس إلى الإتلاف.

ولو كان الحق موقوفا على الحاكم كأجل المولى والمظاهر والعنين ، تخير الزوج بين الطلاق فيسقط الإجابة وبين الحضور.

أما الحكم (١) المختلف فيه فتجب الإجابة إن دعاه الحاكم ولا تجب بدعاء

__________________

(١) في ك : أما الحاكم.

٤٩٨

الخصم.

ومن عليه دين أو عين وجب تسليمه إلى المدعى ولا يكلفه إثباته عند الحاكم لأن المطل (١) ظلم والمحاكم ربما يسقط محله عند معامليه (٢) وتجلب إليه التهمة. ولا يجب الترافع إلى الحاكم في النفقات ، إذ هي عندنا مقدرة بما يسد الخلفة ولا عبرة بتقدير الحاكم فيها.

العاشرة :

ظابطا الحبس توقف استخراج الحق عليه ، ويثبت في مواضع :

( الأول ) الجاني إذا كان المجني عليه غائبا أو وليه ، حفظا لمحل القصاص.

( الثاني ) الممتنع من أداء الحق مع قدرته عليه.

( الثالث ) المشكل أمره في العسر واليسر إذا كانت الدعوى مالا أو علم له أصل مال ولم يثبت إعساره ، فيحبس ليعلم أحد الأمرين.

( الرابع ) السارق بعد قطع يده ورجله في مرتين أو سرق ولا يد له ولا رجل.

( الخامس ) من امتنع من التصرف الواجب عليه الذي لا يدخله النيابة ، كتعيين (٣) المختارة والمطلقة وتعيين المقر به من العينين أو الأعيان وقدر المقر به عينا أو ذمة وتعيين المقر له والمتهم بالدم ستة أيام.

فإن قلت : القواعد تقتضي أن العقوبة بقدر الجناية ومن امتنع عن أداء درهم يحبس حتى يؤديه ، فربما طال الحبس وهذا عقوبة عظيمة في مقابلة جناية

__________________

(١) مطله حقه : سوفه بوعد إلا وفاء مرة بعد الأخرى.

(٢) في ص : عند معاملة. وفي ك : عند معاملة.

(٣) في ص : لتعين

٤٩٩

حقيرة.

قلت : لما استمر امتناعه قوبل كل ساعة من ساعات الامتناع بساعة من ساعات الحبس ، فهي جناية متكرر ، وعقوبات مكررة.

الحادية عشر :

كل من ادعى على غيره سمعت دعواه وطالب باليمين مع عدم البينة ، سواء علم بينهما خلطة أو لا ، لعموم قوله عليه‌السلام البينة على المدعي واليمين على من أنكر « (١) وقوله عليه‌السلام » شاهداك أو يمينه « (٢).

ولإمكان ثبوت الحق بدون الخلطة فاشتراطها يؤدي إلى ضياعها ، ولأنها واقعة يعم بها البلوى ، فلو كانت الخلطة شرطا لعلمت ونقلت.

ولا يعارض بأنها لو لم يكن شرطا لعلمت ، لأن النقل إنما يكون إلى مخرج (٣) عن الأصل لا لما يقرر على الأصل.

احتج مشترط الخلطة : بأن بعض الرواة أورد في الحديث بعد قوله عليه‌السلام » واليمين على من أنكر « إذا كان بينهما خلطة ».

قلنا : هذه الزيادة لم يثبت كيف والحديث من المشاهير وليس فيه هذه الزيادة ، وإنما هي شي‌ء اختص به مشترط الخلطة وهو مجنون (٤).

__________________

(١) الفقيه ـ روضة المتقين ـ ٦ / ٩١ ، الكافي ٧ / ٤١٥ ، التهذيب ٦ / ٢٢٩. والحديث في هذه المصادر هكذا : عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله البينة على من ادعى واليمين على من ادعى عليه.

(٢) أخرجه البخاري في صحيحه في « باب اليمين » من أبواب كتاب الشهادات.

(٣) في ك : لما يخرج.

(٤) النسخ مختلفة. في ص : سحنون. وفي القواعد : سحنون ، مخون ، شخنون ، مختون.

٥٠٠