نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي

نضد القواعد الفقهيّة على مذهب الاماميّة

المؤلف:

جمال الدين مقداد بن عبد الله السيوري الحلّي


المحقق: السيد عبد اللطيف الحسيني الكوه‌كمري الخوئي
الموضوع : أصول الفقه
الناشر: منشورات مكتبة آية الله العظمى المرعشي النجفي
المطبعة: مطبعة الخيام
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٦٢

العبادة كالوضوء والغسل ـ فإنه كما يقع كل منهما عبادة يقع عادة ، كالتنظيف والتبرد والتداوي ، وتارة لتمييز أفراد العبادة كالفرض عن النفل والأداء عن القضاء والقربة عن الرياء.

وربما جعل التميز الحاصل بالقربة من قبيل امتياز العبادة عن العبادة ، لأن الرياء المقصود في العبادة يخرجها عن حقيقة العبادة ، فهو كالفعل المعتاد.

ولا بد من استيعاب المميزات في النية وإن كثرت تحصيلا للغرض منها.

( الثانية عشر ) كلما يعتبر في صحة العبادة لا يخرج عن الشرطية والجزئية وإزالة المانع من قبيل الشروط. وقد اختلف في النية هل هي من قبيل الشروط باعتبار تقدمها على العبادة ومصاحبتها مجموع الصلاة مثلا وهذا هو حقيقة الشرط ، ويقابله الجزء وهو ما يقارن العبادة أو ما لا يصاحب المجموع؟

ويحتمل الفرق بين نية الصوم وباقي العبادات ، فتجعل شرطا في الصوم وركنا في باقي العبادات ، لأن تقدم نية الصوم على وجه لا يشتبه بالمقارنة. نعم لو قارن بها الصوم فإنه جائز على الأصح ، ( و ) انسحب فيها الخلاف.

وربما قيل : إن جعلنا اسم العبادة ينطلق عليها من حين النية فهي جزء على الإطلاق وإلا فهي شرط.

وقيل أيضا : كلما اعتبرت النية في صحته فهي ركن فيه كالصلاة ، وكلما اعتبرت في استحقاق الثواب به فهي شرط فيه كالجهاد والكلف عن المعاصي وفعل المباح أو تركه إذا قصد به وجه راجح شرعيا.

ولا ثمرة مهمة في تحقيق هذا ، فإن الإجماع على أن النية معتبرة في العبادة ومقارنة لها غالبا وإن فواتها مخل بصحتها ، فيبقى النزاع في مجرد التسمية. وإن كان قد يترتب على ذلك أحكام نادرة ذكرناها في الذكرى ، كصحة صلاة من تقدمت نيته على الوقت ونية وضوئه المنوي به الوجوب.

١٨١

فإن قلت : ما تقول في التيمم ، فإنه غير معتاد فلم افتقر إلى النية المميزة؟

قلت : ليس التمييز بين العبادة والعادة ما يتمحض شرعية النية لأجلها ، بل الركن الأعظم فيها التقرب ، فلا بد من قصده في التيمم كغيره ، ولأن التمييز فيه بالنسبة إلى الفرض والنفل والبدل عن الأصغر والأكبر.

( الثالثة عشر ) قضية الأصل وجوب استحضار النية فعلا في كل جزء من أجزاء العبادة لقيام دليل الكل في الإجزاء ، فإنها عبادة أيضا ، ولكن لما تعذر ذلك في العبادة البعيدة المسافة أو تعسر في القريبة المسافة اكتفى بالاستمرار الحكمي ، وفسر بتجديد العزم كلما ذكر ، ومنهم من فسره بعدم الإتيان بالمنافي ، وقد قلناه في رسالة الحج.

قلت : ذكر في رسالة الحج هكذا : واستدامتها حكما لا فعلا ، وفسر بأمر عدمي. وفيه دقيقة كلامية يريد بالأمر العدمي هو ما ذكر من عدم الإتيان بالمنافي. وأما الدقيقة فهي أن الممكن حال بقائه هل هو مفتقر إلى المؤثر أم لا؟ فعلى الثاني ـ وهو رأي المتكلمين ـ فسر بالأمر العدمي ، إذ لا احتياج إلى المؤثر حتى يكون وجوديا ، وعلى الأول فسر بالوجودي ، وهو تجديد العزم هنا (١). فلو نوى القطع فإن كان المنوي إحراما لم يفسد إجماعا ، لأن محللاته معلومة ، ولأنه لا يبطل بفعل المفسد بأن لا يبطل بنية القطع أحرى. وإن كان صوما ففيه وجهان : من تغليب شبه الفعل أو شبه الترك [ عليه ]. وإن كان صلاة فوجهان مرتبان ، وأولى بالبطلان لأنها أفعال محضة ، فكان من حقها استصحاب النية فعلا في كل جزء منها ، فلا أقل من الاستصحاب الحكمي ، وظاهر أن نية القطع تنافي الاستصحاب الحكمي.

ووجه عدم التأثير النظر إلى قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحريمها التكبير

__________________

(١) في ص وهامش ك : هذا.

١٨٢

وتحليلها التسليم (١). ومقتضاهما الحصر ، ولأن الصلاة عبادة واحدة وكل جزء منها العبادة فيه إنما هو بالنظر إلى المجموع ، فإذا تحقق انعقادها بالتكبير بعد النية لم تؤثر القصود اللاحقة لذلك لأنها لم تصادف ما تجب فيه النية فعلا.

أما الوضوء والغسل فإن نية القطع تبطل بالنسبة إلى ما بقي لا إلى ما مضى ، لأنه أفعال منفصلة ، وخصوصا الغسل. نعم لو خرج الوضوء عن الموالاة أثر ذلك باعتبار فوات الشرط لا باعتبار النية في الماضي (٢).

( الرابعة عشر ) التردد في قطع العبادة ، فيه وجهان مبنيان على تأثير نية الخروج أو نية فعل المنافي وأولى بالصحة ، لأن المنافاة غير متحققة بالنظر إلى كون التردد ليس على طرف النقيض بالنسبة إلى النية المصححة للعبادة.

والوجه أنهما سواء ، لأن أقل أحوال الاستصحاب الحكمي الجزم بالبقاء على ما مضى والشك ينافي الجزم. وأما نية فعل المنافي فهي كنية الخروج من العبادة تؤثر حيث تؤثر وتنتفي حيث ينتفي التأثير ، فلو نوى الصائم الإفطار فهو كنية القطع. ويقوى عدم تأثير النية في الصوم ، لأن الصوم لا تبطل حقيقته بنفس فعل المنافي ، ولهذا وجبت الكفارة لو أفطر ثانيا فلأن لا يبطل بنيته أولى فإن منع وجوب الكفارة الثانية.

فلنا : أن نستدل بأن نية المنافي لو أبطلت الصوم لما وجبت كفارة أصلا ،

__________________

(١) الوسائل ٤ / ٧١٥ ، الفقيه ١ / ٢٣ ذكره عن أمير المؤمنين عليه‌السلام.

(٢) في حاشية ص : قلت : وأما التيمم فإن أوجبنا فيه الموالاة مطلقا ونوى قطعه فلو مضى زمان يخرجه عن الموالاة بطل كالوضوء ، وإن أوجبنا الموالاة فيما إذا كان بدلا عن الوضوء خاصة دون ما إذا كان بدلا عن الغسل فالأول هو الحكم الأول والثاني هو حكم الغسل فيبطل فيما بقي لا فيما مضى فلو رجع تممه من غير استئناف.

١٨٣

لأن الأكل والجماع مثلا مسبوقان بنية فعلهما ، فإذا أفسدت النية الصوم صادفا (١) صوما فاسدا ، فلا يتحقق به كفارة. والإجماع على خلافه ، إلا أن نقول بقول الشيخ أبي الصلاح الحلبي رحمه‌الله وقول شيخنا الإمام فخر الدين ابن المطهر رحمه‌الله من أن ترك النية في الصوم يوجب الكفارة. فإن سياق هذا القول يقتضي أن نية المنافي أو نية الخروج توجبان الكفارة ، إما لمجردهما أو بشرط انضمام المنافي إليهما. إلا أنه يلزم من الأول ارتكاب وجوب كفارتين بالجماع إحداهما على نيته والأخرى على فعله ، ولم يقل به أحد من العلماء.

( الخامسة عشر ) يمكن اجتماع نية عبادة في أثناء أخرى ، كنية الزكاة والصيام في أثناء الصلاة. وقد تضمن الكتاب العزيز إيتاء الزكاة في حال الركوع على ما دل عليه النقل من تصدق علي عليه‌السلام بخاتمه في ركوعه فأنزلت فيه الآية (٢).

أما لو كانت العبادة الثانية منافية (٣) للأولى ـ كما لو نوى في أثناء الصلاة طوافا ـ فهو كنية القطع ، ولو نوى (٤) المسافر في أثناء الصلاة المقام وجب الإتمام ولا يكون ذلك تغييرا مفسدا. والسر فيه أن النية السابقة اشتملت على أبعاض الصلاة والمنافي (٥) كالمكرر ، فلا يقدح عدم تقدم نيته. على أن الملتزم أن يلتزم بوجوب النية لما زاد على المقدار المنوي أولا ، ولا استبعاد فيه وإن لم يصاحبه تكبيرة الإحرام ، لانعقاد أصل الصلاة بها.

ولو نوى المقيم في أثناء الصلاة السفر قبل أن يصلي على التمام ففي جواز

__________________

(١) في ك : صادف.

(٢) وهي « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعُونَ » سورة المائدة : ٥٥.

(٣) في ص وهامش ك : مباينة.

(٤) في ك : أو نوى.

(٥) في ك والقواعد : والباقي.

١٨٤

رجوعه إلى القصر ثلاثة أوجه ، ثالثها الفرق بين من تجاوز التقصير وبين من لم يتجاوز. وهنا لا قادح ، لعدم زيادة شي‌ء عن العبادة إنما هو حذف شي‌ء منها.

نعم وجه الإتمام قوي ، لقولهم صلى الله عليهم الصلاة على ما افتتحت عليه ، ولوجوب إتمام العبادة الواجبة بالشروع فيها.

( السادسة عشر ) العدول من الصلاة المعينة إلى صلاة أخرى أو من الصوم فريضة إلى الصوم نافلة أو بالعكس ليس من باب نية فعل المنافي ، إذ لا تغير فاحشا فيه. وكذا في العدول من نسك إلى آخر ومن نسك التمتع إلى قسيميه وبالعكس.

ويجب في هذه المواضع إحداث نية العدول إليه ، ويحرم التلفظ بها في أثناء الصلاة ، فلو فعله بطل ، بخلاف باقي العبادات. أما التلفظ بها في أول الصلاة فإنه جائز ولكن الأولى تركه ، لأن مسمى النية هو الإرادة القلبية وهو حاصل ، فلا معنى للتلفظ. ولأن السلف لم يؤثر عنهم ذلك.

ومن زعم استحباب التلفظ ليجمع بين التعبد بالقلب وباللسان ، فقد أبعد ، لأنا نمنع كون اللفظ باللسان عبادة وليس النزاع إلا فيه.

( السابعة عشر ) اقتران عبادتين في نية واحدة جائز إذا لم يتنافيا ، فتارة تكون إحداهما منفكة عن الأخرى كنية دفع الزكاة والخمس ، وتارة مصاحبة لها كنية الصوم والاعتكاف أو تابعة لها. وتتحقق التبعية في أمور :

منها ـ لو نوى النظافة في الأغسال المسنونة ، فإن النظافة تابعة للغسل على وجه التقرب ، بل هي المقصود من شرعية الغسل.

ومنها ـ نية تحسين القراءة في الصلاة ، ونية تحسين الركوع والسجود ليقتدى به لا لاستجلاب نفع ولا لدفع ضرر.

١٨٥

ومنها ـ أن يزيد الإمام في ركوعه انتظارا للمسبوق ليفيده ثواب الجماعة ويستفيد الإمام زيادة عدد الجماعة المقتضي لزيادة الثواب ، فإنه إعانة للمأموم على الطاعة ، والإعانة على الطاعة طاعة ، لأن وسيلة الشي‌ء يلحق به حكمه.

وتوهم بعض العامة منعه ، لأنه شرك في العبادة. وهو مدفوع بما قررناه ، ولأنه لو كان شركا في العبادة لكان لاحقا بالأذان والإقامة والأمر بالمعروف بل بتعليم العلوم ، وليس كذلك بالإجماع.

ومنها ـ رفع الإمام صوته بالقراءة في الجهرية ليسمعه المأموم ، ورفع الخطيب صوته في الخطبة ، ورفع القارئ صوته بالقراءة وتحسينه لاستجلاب الأسماع (١) المستتبع للطف (٢) لا لاستجلاب التعظيم ودفع الضرر.

ومنها ـ إذا وجد منفردا يصلي استحب له أن يؤمه أو يأتم به ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقد رأى رجلا يصلي منفردا : من يتصدق على هذا. فقام رجل فصلى خلفه.

( الثامنة عشر ) لا يجب عندنا النفل بالشروع فيه إلا الحج والاعتمار ، وفي الاعتكاف للأصحاب ثلاثة أوجه : الوجوب بالشروع فيه ، والوجوب بمضي يومين ، وعدم الوجوب. وأوسطها وسطها.

نعم يكره قطع العبادة المندوبة بالشروع فيها ، وتتأكد الكراهية في الصلاة وفي الصوم بعد الزوال.

( التاسعة عشر ) جوز بعض الأصحاب الإبهام في نية الزكاة بالنسبة إلى خصوصيات الأموال ، فلو وجب عليه شاة في الغنم وشاة في الإبل ونوى إخراج

__________________

(١) في ص والقواعد : الاستماع.

(٢) في القواعد : لللطف.

١٨٦

شاة برئت الذمة وإن لم يعين إحداها. نعم يشترط قصد الزكاة المالية. ولا يخلو من إشكال ، لأن البراءة إن نسبت إلى أحد المالين بعينه فهو تحكم بغير دليل ، وإن نسبت إليهما بمعنى التوزيع (١) فهو غير منوي وإنما لكل امرئ ما نوى.

وتظهر الفائدة فيما لو تلف أحد النصابين قبل التمكن من الدفع بعد أن دفع عن الأول.

فإن قلت : كيف يتصور عدم التمكن وقد كان يمكنه دفع الشاتين إلى من دفع إليه إحداهما.

قلت : يتصور ذلك في ابن السبيل لا يعوزه إلا شاة وشبهه ، وأما الإبهام في العتق عن الكفارة ففيه خلاف مشهور ، والأقرب المنع سواء اتحدت الكفارة جنسا أو اختلفت.

وأما الإبهام في النسك فقد صرح الأصحاب بمنعه ، حيث يكون المكلف مخاطبا بأحدهما ، كالحج والعمرة لو لم يجب عليه أحدهما والزمان غير صالح للحج وجبت العمرة ، وإن صلح لهما ـ كأشهر الحج ففيه وجهان التخيير والبطلان ، لعدم التميز الذي هو ركن في النية.

( العشرون ) روى عن النبي « صلى‌الله‌عليه‌وآله » أن نية المؤمن خير من عمله (٢). وربما روي ونية الكافر شر من عمله (٢).

فورد سؤالان :

أحدهما : أنه روي أن أفضل العبادة (٣) أحمزها. ولا ريب أن العمل أحمز

__________________

(١) في ص : تعين التوزيع.

(٢) المحاسن : ٢٠٦ ، الكافي ٢ / ٨٤ ، وسائل الشيعة ١ / ٣٥. في المحاسن : نية الفاجر شر من عمله.

(٣) في ص : الأعمال.

١٨٧

من النية فكيف يكون مفضولا. وروي أيضا أن المؤمن إذا هم بحسنة كتبت بواحدة وإذا فعلها كتبت عشرا (١) وهذا صريح في أن العمل أفضل من النية وخير.

السؤال الثاني : أنه روي أن النية المجردة لا عقاب فيها ، فكيف يكون شرا من العمل.

وأجيب بوجوه :

الأول ـ أن النية يمكن فيها الدوام بخلاف العمل فإنه يتعطل عنه المكلف أحيانا ، فإذا نسبت هذه النية الدائمة إلى العمل المنقطع كانت خيرا منه ، وكذا نقول في نية الكافر.

الثاني ـ أن النية لا يكاد يدخلها الرياء ولا العجب ، لأنا نتكلم على تقدير النية المعتبرة شرعا ، بخلاف العمل فإنه يعرضه ذينك (٢). ويرد على هذا أن العمل وإن كان معرضا لهما إلا أن المراد به العمل الخالي عنهما وإلا لم يقع تفضيل.

الثالث ـ أن المؤمن يراد به الخاص ، أي المؤمن المغمور بمعاشرة أهل الخلاف ، فإن غالب أفعاله جارية على التقية ومداراة أهل الباطل ، وهذه الأفعال المفعولة تقية منها ما يقطع فيه بالثواب كالعبادات الواجبة ومنها ما لا ثواب فيه ولا عقاب كالباقي. وأما نيته فإنها خالية عن التقية ، وهو وإن أظهر موافقتهم بأركانه ونطق بها بلسانه إلا أنه غير معتقد لها بجنانه بل آب عنها ونافر منها. وإلى هذا الإشارة بقول أبي عبد الله الصادق عليه‌السلام وقد سأله أبو عمرو الشامي عن الغزو مع غير الإمام العادل إن الله يحشر الناس على نياتهم يوم القيامة (٣) وروي مرفوعا

__________________

(١) الكافي ٢ / ٤٢٨.

(٢) في هامش ك : ذانك.

(٣) المحاسن : ٢٠٨ ، الوسائل ١ / ٣٤. رواه عن أبي عروة السلمي عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

١٨٨

عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله. قال شيخنا وهذه الثلاثة من السوانح (١).

الرابع ـ ما قاله بعض العلماء أن خلود المؤمن في الجنة إنما هو بنيته أنه لو عاش أبدا لأطاع الله أبدا ، وخلود الكافر في النار بنيته أنه لو بقي أبدا لكفر أبدا.

الخامس ـ ما حكاه المرتضى رحمه‌الله أن المراد أن نية المؤمن بغير عمل خير من عمله بغير نية. وأجاب عنه بأن أفعل التفضيل يقتضي المشاركة ، والعمل بغير نية لا خير فيه فكيف يكون داخلا في باب التفضيل ، ولهذا لا يقال « العسل أحلى من الخل ».

السادس ـ أنه عام مخصوص أو مطلق مقيد ، أي نية بعض الأعمال الكبار كنية الجهاد خير من بعض الأعمال الخفيفة كتسبيحة أو تحميدة أو قراءة آية ، لما في تلك النية من تحمل النفس المشقة الشديدة والتعرض للغم والهم الذي لا يوازيه تلك الأفعال. وبمعناه قال المرتضى نضر الله وجهه ، قال : وأتى بذلك لئلا يظن (٢) أن ثواب النية لا يجوز أن يساوي أو يزيد على ثواب بعض الأعمال. ثمَّ أجاب بأنه خلاف الظاهر ، لأن فيه إدخال زيادة ليست في الظاهر. قال شيخنا المصنف : المصير إلى خلاف الظاهر متعين عند وجود ما يصرف (٣) اللفظ إليه وهو هنا حاصل ، وهو معارضة الخبرين السالفين ، فيجعل ذلك جمعا بين هذا الخبر وبينهما.

السابع ـ للمرتضى أيضا أن النية لا يراد بها التي مع العمل ، والمفضل عليه هو العمل الخالي من النية. وهذا الجواب يرد عليه النقض السالف مع أنه قد ذكره كما حكيناه عنه.

__________________

(١) أي قال شيخنا الشهيد : هذه الثلاثة من عوارض فكري.

(٢) أي أتى بذلك النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لئلا يظن.

(٣) وكذا في القواعد. وفي ص : عند وجود ما لا يصرف.

١٨٩

الثامن ـ له أيضا أن لفظه « خير » ليست التي بمعنى أفعل التفضيل ، بل التي هي موضوعة لما فيه منفعة ، ويكون معنى الكلام أن نية المؤمن من جملة الخير من أعماله ، حتى لا يقدر مقدر أن النية لا يدخلها الخير والشر كما يدخل ذلك في الأعمال. وحكي عن بعض الوزراء استحسانه ، لأنه لا يرد عليه شي‌ء من الاعتراضات.

التاسع ـ له أيضا أن لفظة أفعل التفضيل قد تكون مجردة عن الترجيح ، كما في قوله تعالى « وَمَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَأَضَلُّ سَبِيلاً » (١) وقول المتنبي :

أبعد بعدت بياضا لا بياض له

لأنت أسود في عيني من الظلم

قال ابن جني : أراد أنك أسود من جملة الظلم كما يقال : حر من أحرار ولئيم من لئام ، فيكون الكلام قد تمَّ عند قوله « لأنت أسود » ، ومثله قول الآخر :

وأبيض من ماء الحديد كأنه

شهاب بدا والليل داج عساكره

كأنه يقول : وأبيض كائن من ماء الحديد. وقول الآخر :

يا ليتني مثلك في البياض

أبيض من أخت بني إباض

أي أبيض من جملة أخت بني إباض ومن عشيرتها.

فإن قلت : فقضية هذا الكلام أن يكون في قوة قوله : النية من جملة عمله ، والنية من أفعال القلوب فكيف يكون عملا ، لأنه يختص بالعلاج.

قلت : جاز أن يسمى عملا كما جاز أن يسمى فعلا ، أو يكون إطلاق العمل عليه مجازا.

__________________

(١) سورة الإسراء : ٧٢.

١٩٠

العاشر ـ ما أجاب به ابن دريد ، وهو أن المؤمن ينوي الأشياء من أبواب الخير كالصدقة والصوم والحج ، ولعله يعجز عنها أو عن بعضها ، ويؤجر على ذلك لأنه معقود النية عليه.

الحادي عشر ـ جواب الغزالي بأن النية سر لا يطلع عليه إلا الله تعالى ، وعمل السر أفضل من عمل الظاهر.

الثاني عشر ـ أن وجه تفضيل النية على العمل أنها تدوم إلى آخره حقيقة أو حكما ، وآخر العمل لا يتصور فيها الدوام بل يتصرم شيئا فشيئا.

الثالث عشر ـ لشيخنا رحمه‌الله أن النية لما كانت لا تقف عند حد بل هي مستمرة بالنسبة إلى جميع الأوقات وجميع الأعمال وجميع التروك فكانت خيرا من العمل الذي يقع حينا ما ، ولهذا قال الصادق عليه‌السلام يحشر الناس يوم القيامة على نياتهم (١) ، قال : وهذا أجود الوجوه. والله أعلم.

الرابع عشر ـ ما خطر لهذا الضعيف ، وتقريره : أن العمل مع النية وإن اشتركا في حصول الثواب والفوز برضاء الرب تعالى ، لكن العمل بدون نية كالجهاد الذي لا حراك (٢) به ، بل كالصورة المنقوشة على الجدار التي لا حقيقة لها ، والنية كالروح السارية في الأعضاء والقوى وكأن كمال العمل بها فكانت أكثر خيرية. ولا ينافي ذلك حديث أفضل العبادة أحمزها ، فإن حظوظ النفس وميولها كثيرة لا تكاد تحصر ، فحصول النية المشتملة على كمال الإخلاص خالصة من تلك الحظوظ والميول تفتقر إلى مجاهدات توجب لها الأحمزية فكانت أفضل فاستحقت اسم الخيرية. وعلى ذلك يخرج جواب : إذا هم بحسنة كتبت له.

الخامس عشر ـ ما خطر للضعيف أيضا ، وتقريره : أن النية لما كانت حقيقتها

__________________

(١) المحاسن : ٢٠٨ ، الوسائل ١ / ٣٤.

(٢) الحراك كسلام : الحركة.

١٩١

كمال الإخلاص كان حصولها يستلزم حصول المعارف الحقيقية ، واستحضار صفات الجمال ونعوت الجلال التي هي كالأسباب لذلك الإخلاص ، بخلاف العمل فكانت أفضل. وخلوصها أيضا عن الشبهات والمعارضات يفتقر أيضا إلى مجاهدات فكرية توجب لها وصف الأحمزية فكانت أفضل.

السادس عشر ـ أن النية لما كان لازمة لتعظيم مقام الربوبية وشكر إنعامه وكانت من لوازم الإيمان الذي هو واجب الدوام والبقاء ببقاء النفس الإنسانية ويستحيل تطرق النسخ والتغيير إليه فحكمها حكمه ، بخلاف العمل الذي يجوز تغيره ونسخه فكانت أفضل. وهذا أيضا من خواطر الضعيف.

( الحادية والعشرون ) يعتبر مقارنة النية لأول العمل ، فما سبق منه لا يعتد به. وإن سبقت النية سميت عزما ، وهو غير معتد به أيضا على الإطلاق الأعلى القول بجواز تقديم نية شهر رمضان عليه.

وقد اغتفرت المقارنة في الصيام ، فجاز تقديمها وتوسطها كما جاز مقارنتها وإن كان فعلها في النهار إنما جاء في مواضع الضرورة كنسيان النية ، أو عدم العلم بتعلق التكليف بذلك اليوم ، أو عدم حصول شرط الكمال عند طلوع فجره. ثمَّ إذا وقعت مؤثرة في صحة الصوم استفاد ثوابه بأجمعه ، سواء فعلها بعد الزوال إذا جوزناه في الندب أو قبله.

وإن وقعت على سبيل التمرين كنية الصبي المميز استحق آمره الثواب واستحق هو العوض ، وإن وقعت على طريق التأديب كنية الكافر والمجنون والمغمى عليه والصبي بزوال أعذارهم في أثناء النهار استحق ثوابا على ذلك العمل وإن لم يسم صوما.

( الثانية والعشرون ) ينبغي المحافظة على النية في كبير الأعمال وصغيرها ، ويجب إذا كان واجبة فينوي عند قراءة القرآن العزيز قراءته وتدبره وسماعه

١٩٢

واستماعه وحفظه وتجويده وترتيله ، وغير ذلك من الغايات المجتمعة فيه.

وينوي للسعي إلى مجلس العلم والحضور فيه ودخول المسجد والاستماع والسؤال والتفهم والتفهيم والتعلم والتعليم والتسبيح والفكر والصلاة على النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والرضا عن الصحابة والتابعين والترحم على العلماء والمؤمنين.

ولعيادة المريض والجلوس عنده والدعاء له ، وزيارة الإخوان والسلام عليهم ورد السلام ، وحضور الجنائز وزيارة المقابر والسعي في حاجة أخيه وفي حاجة عياله والنفقة عليهم والدخول إليهم.

وينوي عند الضيافة وإجابة السؤال في الضيافة.

بل ينوي عند المباحات كالأكل والشرب والنوم قاصدا حفظ نفسه إلى الحال الذي ضمن له من الأجل وقاصدا التقوي على عبادة الله تعالى ، والمؤمن التقي خليق بأن يصرف جميع أعماله إلى الطاعة ، فإن الوسيلة إلى الطاعة طاعة وكل ذلك يحصل بالنية.

وينوي عند المباضعة والمقدمات التحصن والتحصين وحصول الألفة المقتضية للمودة والرحمة والتعرض للنسل.

والضابط في ذلك كله إرادة الطاعة الواجبة أو المستحبة تقربا إلى الله تعالى عند بعض العلماء لو قال في أول نهاره « اللهم ما عملت في يومي هذا من خير فهو لابتغاء وجهك ، وما تركت فيه من شر فتركه لنهيك » عد ناويا ، وإن ذهل عن النية في بعض الأعمال أو التروك وكذا يقول في أول ليلته.

ويجزي نية أعمال متصلة في أولها ، ولا يحتاج إلى تجديد نية لأفرادها ، وإن كان كل واحد منها مباينا لصاحبه ، كالتعقيب الواقع بعد [ الفرض ] (١).

__________________

(١) ليس في ص ، وفي هامش القواعد بدله بـ الصلاة.

١٩٣

( الثالثة والعشرون ) ينبغي للثاقب البصيرة (١) في الخيرات أن يستحضر الوجوه الحاصلة في العمل الواحد ويقصد قصدها بأجمعها لينفرد كل واحد منها بنفسه وتصير حسنة مستقلة أجرها عشرا إلى أضعاف كثيرة وبحسب التوقيف تتكثر تلك الوجوه ، مثاله : الجلوس في المسجد ، فإنه يمكن اشتماله على نحو من عشرين وجها لأنه في نفسه طاعة ، وهو بيت الله وداخله زائر الله ، ومنتظر للصلاة ومشغول بالذكر والتلاوة أو سماع العلم ، ومشغول عن المعاصي ، والمباحات والمكروهات بكونه فيه ، والتأهب بكف السمع والبصر والأعضاء عن الحركات في غير طاعة الله تعالى ، وعلوق (٢) الهمة على الله ولزوم الفكر في أمر الآخرة حيث يسكت عن الذكر ، وإفادة العلم واستفادته والمجالسة لأهله والاستماع له ومحبته ومحبة أهله ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والمكروه.

وقد نبه على ذلك كلام أمير المؤمنين عليه‌السلام من اختلف إلى المساجد أصاب إحدى الثمان : أخا مستفادا في الله ، أو علما مستطرفا ، أو آية محكمة ، أو رحمة منتظرة ، أو يسمع كلمة تدله على هدى ، أو كلمة ترده عن ردى ، أو يترك ذنبا خشية أو حياء ٩٩٩ (٣).

فإذا استحضر العارف هذه الأمور إجمالا أو تفصيلا وقصدها تعدد بذلك عمله فتضاعف جزاؤه فبلغ بذلك أعمال المتقين وتصاعد في درجات المقربين وعلى ذلك يحمل أشباهه من الطاعات.

__________________

(١) التاء للمبالغة ، أي الماضي في الخيرات البصير عين قلبه لمشاهدة الحقائق.

(٢) في هامش ك : عكوف الهم.

(٣) الفقيه ١ / ١٥٣ وفيه تقديم وتأخير في جملة « أو يسمع ... » و « أو كلمة ترده ... ».

١٩٤

تنبيه (١) :

ينبغي أن ينوي في الأشياء المحتملة الوجوب كتلاوة القرآن ، إذ حفظه واجب على الكفاية. وربما يعين على الحافظ له حذرا من النسيان ، وكطلب العلم فإنه فريضة على كل مسلم ، وكالأمر بالمعروف وإن قام غيره مقامه. وبالجملة فروض الكفايات كلها.

وتجب نية الوجوب حيث يتعين عليه ، وفي ترك الحرام ينوي الوجوب وفي فعل المستحب وترك المكروه ينوي الندب. والله الموفق.

( الرابعة والعشرون ) لما كانت الأفعال تقع على وجوه واعتبارات أمكن أن يكون الفعل الواحد واجبا وندبا وحراما ومباحا على البدل ، وإنما يتخصص ذلك بالنية ، كضربة اليتيم فإنها تجب في تعزيره وتستحب في تأديبه وتحرم لإهانته ، وكالأكل فإنه مباح بالنظر إلى ماهيته ومستحب أو واجب أحيانا.

وكالتطيب والجماع فإنهما من حظوظ النفس ، وقد ورد في فضائل الأعمال لهما ثواب كثير ، ما ذاك إلا بحسب النية ، فلا يقصد المباضع والمتطيب بذلك إبقاء حظ النفس بل حق الله في ذلك. ولا فرق في حظ النفس أن يقصد بذلك مجرد اللذة والتنعم أو إظهار التجمل بالطيب واللباس للتفاخر والرياء واستجلاب المعاملين ، بل إذا تطيبت لغير الزوج فعلت حراما فاحشا ، وكذلك إذا خرجت متطيبة للتعرض للفجور أو مقدماته ، أو قصد الرجل بذلك التردد إلى النساء المحرمات ، فكل ما فيه حظ النفس يتصور فيه الأحكام الخمسة غالبا ولا ينصرف إلى أحدها إلا بالنية.

ومن الخسران المبين أن يجعل المباح حراما فكيف الواجب والمستحب ،

__________________

(١) كذا في نسختين وفي القواعد : الفائدة الخامسة والعشرون.

١٩٥

بل معدود (١) من الخسران صرف الزمان في المباح وإن قل ، لأنه ينقص من الثواب ويخفض من الدرجات.

وناهيك خسرانا بأن يتعجل ما يفنى (٢) ويخسر زيادة نعيم يبقى ، فمن حق المتطيب يوم الجمعة أن يقصد (٣) أمورا :

الأول ـ التأسي بالنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم الصلاة والسلام.

الثاني ـ إكرام الملائكة الكاتبين.

الثالث ـ تعظيم المسجد واحترام ملائكته.

الرابع ـ ترويح مجاوريه في الجلوس في المسجد.

الخامس ـ رفع ما عساه يعرض من رائحة كريهة في نفسه وغيره.

السادس ـ حسم باب الغيبة عن المغتابين لو نسبوه إلى الرائحة الكريهة ، فالمتعرض للغيبة كالشريك فيها ، قال الله تعالى « وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَسُبُّوا اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ » (٤).

السابع ـ زيادة العقل بالطيب ، كما جاء في الأخبار « من تطيب في أول نهاره صائما لم يفقد عقله ».

تنبيه :

لا تظن أن النية هي التلفظ بقولك « اجلس في هذا المسجد أو أسمع (٥)

__________________

(١) في ص : بل تعدد.

(٢) في ص : ما ينفي.

(٣) في ص : أن يعد أمورا.

(٤) سورة الأنعام : ١٠٨.

(٥) في ص « استمع » بصيغة المتكلم الوحدة.

١٩٦

العلم أو أدرسه تقربا إلى الله تعالى » ، فإن ذلك لا عبرة به ، بل المراد الهمة على ذلك وبعث النفس وتوجهها وميلها إلى تحصيل ما فيه ثواب عاجل أو آجل تلفظ بذلك أو لا ، ولو قدر تلفظه بذلك والوجه (١) غيره فهو لغو.

( الخامسة والعشرون ) يجب التحرز من الرياء فإنه يلحق العمل بالمعاصي. وهو قسمان جلي وخفي ، والجلي ظاهر ، والخفي إنما يطلع عليه أولو المكاشفة والمعاملة لله ، كما يروى عن بعضهم أنه طلب الغزو وتاقت (٢) نفسه إليه فتفقدها فإذا هو يحب المدح بقولهم « فلان غاز » فتركه ، فتاقت نفسه إليه فأقبل يعرض على ذلك الرياء حتى أزاله ، ولم يزل يتفقدها شيئا فشيئا [ بعد شي‌ء ] حتى وجد الإخلاص مع بقاء الانبعاث ، فاتهم نفسه وتفقد أحوالها فإذا هو يحب أن يقال « مات فلان شهيدا » لتحسن سمعته في الناس بعد موته.

وقد يكون ابتداء النية إخلاصا ، وفي الأثناء يحصل الرياء فيجب التحرز منه ، فإنه مفسد للعمل.

لا يكلف بضبط هواجس النفس وخواطرها بعد إيقاع النية في الابتداء خالصة ، فإن ذلك معفو عنه كما جاء في الحديث أن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها (٣).

وهنا تذنيبات (٤) ثلاثة :

( الأول ) ذهب بعض العامة إلى أن كل عبادة لا تلتبس بعبادة لا تفتقر إلى النية ،

__________________

(١) في ص والقواعد : والهمة.

(٢) تاقت نفسه إلى الشي‌ء أي اشتاقت ونازعت إليه ، ونفس تائقة وتواقة أي مشتاقة.

(٣) أخرجه في البحار ٧٢ / ١٢٨ ، ط الكمپاني ١٥ / ٢٢٤. ورواه عن تفسير الرازي في تفسير الآية : ٢٨٥ و ٢٨٦ من سورة البقرة ، عن ابن عباس. راجعنا التفسير ولم نجده هناك.

(٤) في ص : تنبيهات.

١٩٧

كالإيمان بالله ورسله واليوم الآخر والتعظيم والإجلال لله والخوف والرجاء والتوكل والحياء والمحبة والمهابة ، فإنها متميزة في أنفسها بصورها التي لا يشاركها فيها غيرها.

وألحق بذلك الأذكار كلها والثناء على الله عزوجل بما لا يشاركه فيه غيره والأذان والإقامة وتلاوة القرآن.

وهذا بالإعراض عنه حقيق ، فإن أكثر هذه يمكن صدورها على وجه الرياء والعبث والسهو والنسيان ، فلا تتخصص بالعبادة إلا بالنية. أما الإيمان المذكور فإنه لا يقع إلا على وجه واحد فلم تجب فيه النية.

على أن استحضار أدلة الإيمان في كل وقت يمكن أن يتصور فيه النية ، وكذا في عقد القلب على ذلك والاستدامة عليه ، وقد جاء في الحديث جددوا إسلامكم بقول لا إله إلا الله (١).

( الثاني ) اعتبر بعض الأصحاب النية في الاعتداد استخراجا من أن مبدأ العدة في الوفاة من حين علم الزوجة لا من حين موته ، وبعضهم جعل العلة في ذلك الإحداد. وربما رجح الأول بأن المرأة قد توجد صورة الإحداد في هذه المدة مع أنه غير كاف ، مع أن باقي العدد لا يشترط فيها القصد ، فإن المطلقة تعتد من حين الطلاق وإن تأخر الخبر ، وكذلك المنكوحة بالفاسد إذا لحقه الوطء ووطئت بالشبهة.

وقد قيل : إن مبدأ عدة الشبهة لا من آخر وطء بل من حين (٢) الخلاء بها. وهذا يمكن استناده إلى اعتبار النية وإلى أنها في الظاهر عصمة نكاح فلا يجامع العدة.

__________________

(١) الجامع الصغير : ١٤٣ ، عن مسند أحمد وفيه : جددوا أيمانكم أكثروا من قول لا إله إلا الله.

(٢) في ص : بل من انجلائها.

١٩٨

( الثالث ) الأصل أن النية فعل المكلف ولا أثر لنية غيره.

وتجوز النية من غير المباشر في الصبي غير المميز والمجنون إذا حج بهما الولي.

وقد تؤثر نية الإنسان في فعل غير المكلف ، وله صور :

١ ـ أخذ الإمام الزكاة قهرا من الممتنع ، فيمتنع أن تعرى عن النية ، فيمكن أن يقال : تجب النية من الإمام وإن كان الدافع المكلف.

٢ ـ إذا أخذ من المماطل قهرا ، فإنه يملك ما أخذه إذا نوى المقاصة. وحينئذ لو كان له على مماطل دينان فالتعيين يفوض إلى الأخذ ، فلو أخبر المقهور أنه نوى فالأقرب سماعه وترجحه على نية القابض.

٣ ـ إذا استحلف الغريم وكان الحالف مبطلا فإن النية نية المدعي ، فلا يخرج الحالف بالتورية به عن إثم الكذب ووبال اليمين الكاذبة.

الثانية (١) :

الواجب أفضل من الندب غالبا ، لاختصاصه بمصلحة زائدة ولقوله في الحديث القدسي ما يقرب إلي عبدي بمثل أداء ما افترضت عليه.

وقد يتخلف ذلك في صور :

( الأولى ) الإبراء من الدين ندب وإنظار المعسر واجب.

( الثانية ) إعادة المنفرد صلاته جماعة ، فإن الجماعة مطلقا تفضل صلاة الفرد بسبع وعشرين درجة ، وصلاة الجماعة مستحبة مع أنها أفضل من السابقة وهي واجبة.

__________________

(١) أي القاعدة الثانية من المرصد الأول من المقصد الأول من القطب الثاني.

١٩٩

( الثالثة ) الصلاة في الأماكن الشريفة ، فإنها مستحبة وهي أفضل من غيرها من مائة ألف إلى اثنتي عشرة صلاة.

( الرابعة ) الصلاة بالسواك والخشوع مستحبة ، ويترك لأجله [ سرعة ] (١) المبادرة إلى الجمعة وإن فات بعضها مع أنها واجبة ، لأنه إذا اشتد سعيه شغله الانتهاز عن الخشوع.

وكل ذلك في الحقيقة غير معارض لأصل الواجب وزيادته ، لاشتماله على مصلحة أزيد من فعل الواجب لا بذلك القيد.

( وهنا فائدة ) قد ظهر أن النافلة وإن كان فيها وجه يترجح به على الفريضة وأنه جاز أن يترتب عليه حكم زائد على الفريضة لكن لا يلزم من ذلك أفضليتها عليها ، لاشتمال الفرائض على مزايا تنغمر تلك المزية في جملتها وليست حاصلة في النوافل.

ومن هذا ترتب تفضيل الأنبياء على الملائكة ، وإن كان للملائكة مزية دوام العبادة بغير فتور ، وكما ورد في الخبر عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله إذا أذن المؤذن أدبر الشيطان وله ضراط ـ إلى قوله ـ فإذا أحرم العبد بالصلاة جاءه الشيطان فيقول له : اذكر كذا اذكر كذا ، حتى يضل الرجل أن يدري كم صلى (٢). مع أن الأذان والإقامة من وسائل الصلاة المستحبة والمقاصد أفضل من الوسائل خصوصا الواجبة.

الثالثة :

الأغلب أن الثواب في الكثرة والقلة تابع للعمل في الزيادة والنقصان ، لأن

__________________

(١) ليس في ص.

(٢) أخرجه البخاري في الصحيح في باب فضل التأذين من أبواب كتاب الأذان.

٢٠٠