الحاشية على الروضة البهيّة

الشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي

الحاشية على الروضة البهيّة

المؤلف:

الشيخ أحمد بن محمّد مهدي النراقي


الموضوع : الفقه
الناشر: مؤسسة النشر الإسلامي
المطبعة: مؤسسة النشر الإسلامي
الطبعة: ١
ISBN: 964-470-632-3
الصفحات: ٨٤٨

الثاني بمثل الشركة المشروطة في ضمن العقد اللازم ؛ فإنها تصير لازمة مع عدم اشتراط اللفظيّة والمقارنة.

إذا عرفت ذلك فاعلم أنّ مطلق الوصية لما كانت جائزة في بعض الأوقات ، ولازمة في بعض ، ومع ذلك اجري عليه حكم الجائز مطلقا ، وقالوا بعدم اشتراط شي‌ء من الأمرين ، فاعتذروا له بوجهين :

أحدهما : أنّ أصل الوصيّة من العقود الجائزة ، وصيرورتها لازمة في بعض الأوقات عارضية يعرض لها اللزوم بأمر خارجي ، هو وقوع القبول بعد فوت الموصي.

وثانيهما : ما ذكره الشارح ، ومآله أيضا يرجع إلى الأوّل ، وهو وقوع القبول بعد فوت الموصي ، وهو أن مطلق الوصية لما كانت جائزة في بعض ولازمة في بعض ، فلا محالة يكون أحد الأمرين عارضيا ؛ إذ لا يكون عقد واحد من حيث ذاته لازما في بعض وجائزا في بعض ولمّا كان تعيينه غير معلوم ، وكان الغالب على الوصية هو حكم الجواز بسبب كون أكثر أفرادها من العقود الجائزة ويلحق الشي‌ء بالأعمّ الأغلب ، الحق مطلق الوصيّة بالعقود الجائزة ، ولم يشترط فيها القبول اللفظي ومقارنته للإيجاب. وبهذا يظهر توضيح العبارة واندفع ما يمكن أن يقال من أنّ غلبة حكم الجواز لا يوجب عدم اشتراط شي‌ء من الأمرين مطلقا ، بل كان اللازم اشتراطهما فيما كان لازما من أفراد الوصية ، وعدمه فيما لم يكن كذلك منها ، فتأمّل.

قوله : ومقارنته للوفاة.

يمكن أن يكون المقارنة معطوفة على المجرور في قوله : « بتأخّره » وحينئذ يكون المفعول محذوفا ، وأن تكون معطوفة على المفعول أي : « تأخّر » ، ويكون المتعلّق للفعل محذوفا. وهذا أظهر.

والمراد على التقديرين : أن يكون بعد الوفاة ، فيحمل المتأخّر على مضي زمان من الوفاة ، والمقارنة على الاتّصال للزمان بالموت.

قوله : والأوّل أوفق بمذهب المصنّف إلى آخره.

الوجه في ذلك أنّ المصنّف لما كان مذهبه أنّه يجوز القبول في حال الحياة ، فيمكن

٧٢١

مقارنة القبول للإيجاب ، بخلاف المذهب المشهور ، فإنّه لا يمكن فيه هذه المقارنة ، بل لا بدّ أن يحمل التأخّر والمقارنة بناء عليه على التأخّر من الحياة والمقارنة للوفاة.

ثمّ النكتة في الإتيان بـ « الباء » في قوله : « أوفق بمذهب المصنّف » ، وب « اللام » في قوله :« والثاني للمشهور » كأنّه للإشارة إلى أنّ الثاني أيضا يوافق مذهب المصنّف ، إلّا أنّ الأوّل أوفق ، والأوّل لا يوافق مذهب المشهور أصلا. فأتى بالثاني في « اللام » ليعلم أنّ المقدّر هو الموافق ، دون الأوفق المشعر بموافقة الأوّل أيضا ؛ فإنّ متعلّق الموافق مدخول « اللام » ، ومتعلّق الأوفق مدخول « الباء » فافهم.

قوله : ومستنده رواية.

وهي رواية محمّد بن قيس عن الباقر عليه‌السلام قال : « قضى أمير المؤمنين عليه‌السلام في رجل أوصى لآخر ، والموصى له غائب ، فتوفي الذي أوصى له قبل الموصي. قال : الوصيّة لوارث الذي أوصى له ، إلّا أن يرجع في وصيته قبل موته ». (١)

ووجه كون دلالتها على المطلوب بالإطلاق : أنّ المطلوب إنّما هو كون موت الموصى له قبل القبول ، فهو مقيّد بتقدّم الموت على القبول ، والمذكور في الرواية هو مجرّد الموت من غير تقييد بكونه مقدّما على القبول أو مؤخّرا عنه ، فتكون دلالتها على المطلوب بالإطلاق.

ولكن لا يخفى أن هذا إنّما يصحّ على مذهب المصنّف حيث يقول بجواز تقدّم القبول على موت الموصي. وأمّا على المذهب المشهور ـ أي : عدم جواز تقدّم القبول على موته ـ فلا يصحّ ذلك ؛ لتصريح الرواية بتقدّم موت الموصى له على موت الموصي ، فيكون موته قبل القبول لا محالة ، فتكون دلالة الرواية على المطلوب بالتنصيص ، دون الإطلاق ؛ ولهذا قال المحقّق الشيخ علي : « إنّها نصّ في الباب ».

ويمكن أن يكون مراده من كون دلالتها بالإطلاق : أنّها مطلقة من حيث تعلّق غرض الموصي بالمورث وعدمه ، فإنّ المطلوب انتقال حق القبول إلى الوارث مطلقا سواء علم عدم تعلّق غرضه بالمورث أم لا ، ودلالة الرواية على ذلك لأجل إطلاقها ، وإلّا فيمكن أن تكون مقيّدة في الواقع بما إذا علم عدم تعلّق غرضه بالمورث.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٣٣٤ ، مع تلخيص.

٧٢٢

قوله : ويمكن الجمع به إلى آخره.

وبهذا القول يمكن الجمع بين الأخبار الدالة على الانتقال إلى الوارث مطلقا كرواية محمّد بن قيس والدالّة على بطلان الوصيّة كصحيحة محمّد بن مسلم (١) ، وموثّقة منصور بن حازم (٢) : بأن يحمل الثاني على ما إذا كان غرض الموصي متعلّقا بالمورث أي :الموصى له. والأول على ما إذا لم يتعلّق به.

وقوله : « لو وجب » إشارة إلى أنّه لا حاجة إلى هذا الجمع ؛ لأنّ الجمع إنّما يكون بعد المعارضة ، ولا تعارض هنا ؛ لضعف الرواية الاولى بمحمّد بن قيس المشترك بين الثقة وغيرها. وهذه الإشارة هو فائدة الشرط.

فلا يرد : أنّ مفهومه أنّه لو لم يجب الجمع لم يمكن هذا الجمع ، مع أنّه ممكن سواء وجب أم لا.

قوله : واستلزامه الترجيح من غير مرجّح إن اريد من البعض.

أي : واستلزام القبول الترجيح من غير مرجّح إن اريد القبول من البعض.

ولا يخفى أنّ لقائل أن يقول : إرادة القبول من البعض إنّما يستلزم الترجيح من غير مرجّح لو اريد من بعض معيّن بأن يقال : إنّه يلزم القبول من هذا البعض المعيّن ، فيكون حينئذ ترجيحا من غير مرجّح ، وأمّا إن اريد من بعض منهم أيّ بعض اتفق بمعنى : أنّه يلزم قبول بعض من الجميع من غير تعيين ، وإن تعيّن بعد القبول من دون إرادة هذا البعض أو ذاك ، فلا يلزم ترجيح بلا مرجّح أصلا ؛ إذ لم يرجّح بعض ، بل نسبة الإرادة إلى كلّ بعض على السواء ، وذلك كما في الواجب الكفائي ، فإنّه اريد من بعض من غير تعيين ولا يلزم ترجيح بلا مرجّح. على أنّه يمكن لنا أن نلتزم إرادة القبول من بعض معين في الجملة ، مع عدم لزوم الترجيح من غير مرجّح بأن نقول : إنّه اريد من البعض الذي يمكن قبولهم بسهولة ولا يتعذّر منهم ، والمرجّح فيهم سهولة القبول وعدم التعذّر.

قوله : لا ناقل له.

الظاهر لزوم ارتكاب الاستخدام هنا ، لأنّ الضمير المجرور راجع إلى الملك ، والمراد

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٣٣٥.

(٢) وسائل الشيعة : ١٩ / ٣٣٥.

٧٢٣

بالملك في قوله : « سبق الملك » هو معناه المصدري أي : المالكية ؛ إذ لا محصل لغيره. وفي الضمير هو معنى المفعول ، وهو المملوك أي : الموصى به عينا كان أو منفعة ؛ إذ المصطلح المتعارف هو إضافة النقل إلى المملوك ، دون المالكيّة ؛ إذ يقال : « نقل العين » ، ولا يقال : « نقل المالكية ».

هذا على ما يقتضيه الظاهر ، وأمّا بعد تدقيق النظر فيعلم أنّه لا حاجة إلى الاستخدام ؛ لأنّ وصف الأعيان والمنافع بالانتقال إنّما هو في الحقيقة ( كذا ) ، بل المنقول بعض أوصافها ومتعلّقاتها ، كمالكيّتها ، وإباحة التصرف فيها ، والانتفاع بها ، وأمثالها ، فيصح إضافة النقل إلى المالكيّة أيضا ، ولا استخدام.

نعم وصف المالكيّة ونحوها بالانتقال أيضا إنّما هو على سبيل التجوّز من باب تسمية الشي‌ء باسم ما يشابهه ، لأنّ المالكيّة ونحوها من مقولة الأعراض ، ويستحيل انتقال العرض ، بل هو في الحقيقة إزالة وصف من موضوع ومحل ، وإحداثه في موضوع ومحلّ آخر ، ولمشابهة ذلك الإزالة والإحداث للنقل سمّي مجازا.

قوله : وانتقال ماله عنه.

عطف على « خروجه » ، فهو تعليل لأنّ الميّت لا يملك.

فإن قلت : إنّ إثبات وجود العام بوجود الخاص ، وإن كان صحيحا ، ولكنّه لا يصحّ نفي وجود العام بانتفاء وجود الخاص كما أنّ الأمر في إثبات الخاص ونفيه على عكس ذلك ، فنفي [ المالكية المطلقة بنفي ] مالكيته لماله وانتقال ماله عنه غير صحيح.

قلنا : هذا وإن كان صحيحا في نفسه ، ولكن يمكن أن يكون لوجود الخاص أولويّة بالنسبة إلى بعض المواضع عن سائر أفراد العام بحيث يحصل الظن بانتفاء سائر الأفراد بالطريق الأولى لو حصل العلم بانتفاء هذا الخاص.

وفي مثل هذا المقام يجوز الاستدلال في نفي العام بانتفاء الخاص ، سيّما إذا كان المقام ممّا يكتفى فيه بالظن ، وما نحن فيه من هذا القبيل ؛ لأنّ مالكيّة الميّت لماله السابق [ و ] إن كانت خاصّة بالنظر إلى المالكيّة المطلقة ، ولكن لا شك أنّ وجود هذه المالكيّة المخصوصة أولى وأحق بالنسبة إلى كلّ أحد من وجود سائر أفراد المالكيّة فإذا انتفت

٧٢٤

هذه ، فينتفي غيرها بالطريق الأولى ، فيصحّ نفي المالكيّة المطلقة بانتفاء هذا الفرد المخصوص.

ولكن لا يخفى أنّه يرد شي‌ء آخر على كلام الشارح وهو : أنّه وإن صحّ التمسك في نفي العام بانتفاء الخاصّ على ما ذكرنا ، ولكنّه إنّما يفيد إذا كان المراد منحصرا ابتداء في نفي العام ، وأمّا إذا كان نفي العام دليلا وتعليلا لنفي خاص مخصوص ، فلا يصح إثبات نفى العام بنفي هذا الخاص ، أو ما يشمله ، وإن كان انتفاء العام أولى من انتفائه.

وهاهنا قد تمسّك الشارح في نفي مالكيّة الميّت للموصى به الذي هو مال الميت بنفي المالكيّة المطلقة ، وفى نفي المالكيّة المطلقة بانتفاء مالكيته لماله الذي يشمل الموصى به أيضا ، فلا يصحّ التعليل ، فتأمّل.

قوله : وسبيل الاحتياط.

لا يقال : إنّه إذا أوصى صبي بوصيّة فكما أنّ العمل بها مخالف لسبيل الاحتياط ، فكذا ترك العمل بها أيضا مخالف له ، بل لا فرق بينهما أيضا ، لأنّ في الأوّل كما يحتمل منع المالك ، وهو وارث الصبي عن ملكه ، فكذا في الثاني سيّما [ إذا ] كانت الوصية لشخص أو أشخاص ، بل يمكن أن يقال : إن ارتكاب خلاف الاحتياط في ترك العمل بالوصية أشدّ.

لأنا نقول : إنّ هذا إنّما يصحّ لو كان عنوان المسألة أنّه إذا أوصى صبي فهل يجب العمل بوصيته أم لا ، وليس كذلك ، بل عنوانها أنّ الوصيّة المقرّرة في الشريعة ، جوازه هل يختصّ بالبالغ أم يجوز للصبيّ أيضا شرعا؟ ولا شك أنّ القول بعدم الجواز أوفق للاحتياط ، إذ لو قلنا بعدم جوازها له لا يلزم محذور سوى احتمال ترك الصبي الوصية التي هي فعل مستحب ، ولو قلنا بجوازها له ، فيترتّب عليه وجوب العمل بوصيّته لو أوصى بشي‌ء ، فيلزم منع الوارث ممّا يحتمل عدم جواز منعه عنه ، فتأمّل.

قوله : ورفع القلم.

أي : رفع قلم التكليف وقلم الأحكام الشرعية عن المجنون والسكران كما هو صريح الحديث والقول بجواز وصيتها لما كان موجبا للقول باستحبابها لهما لكونها من الأفعال المستحبّة ، والاستحباب أيضا حكم شرعي يوجب ثبوت القلم الشرعي لهما أيضا ، فرفعه

٧٢٥

يستلزم رفعه ، بل لو كانت الوصية من الامور المباحة الشرعية أيضا لكان رفع القلم عنهما أيضا موجبا لعدم كونها مباحة شرعيّة لهما أيضا ؛ لأنّ الإباحة الشرعيّة حكم شرعي فلا يتّصف بها إلّا أفعال المكلّفين ، والاباحة التي يتصف بها أفعال الصبيان والمجانين ، فإنّما هي إباحة عقلية لا شرعيّة كما بيّنا ذلك في كتبنا الاصولية.

قوله : بعد ما أحدث في نفسه إلى آخره.

لفظة « ما » يحتمل أن تكون موصولة ، أو مصدرية ، أو توقيتية. فعلى الأوّل تكون لفظة « من » لبيان الموصول ، وعلى الثانيين تكون لفظة « من » إمّا زائدة أو لبيان الجنس كما في قوله تعالى : ( ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ ) (١) وكونها بعد لفظة « بعد » يؤكّد الأخير.

والمراد بالقتل : إمّا ما كان موجبا للقتل غير الجراحة كشرب السموم القاتلة ونحوه ، أو يكون المراد منه : أعمّ ممّا ذكر ومن الجراحة ، ولكن يكون المراد من الجراحة المندرجة تحته : ما كانت أقرب إلى موت المجروح من الجراحة المذكورة أوّلا.

وكيف كان فاستعمال لفظة القتل هاهنا من باب إطلاق اسم المسبّب على السبب ، أو من باب مجاز المشارفة. ولفظة « لعل » هاهنا للتعليل كما في قوله تعالى : ( فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى ). (٢)

والمراد : أنّه لو كان إحداثه الجراحة أو القتل في نفسه لأجل أن يموت لم يجز وصيّته ، وأمّا إذا كان إحداثه له ، لا لأجل ذلك بل كان خطأ أو سهوا ، أو لغرض آخر وإن انجرّ إلى الموت جاز وصيّته ، ولم يمنع كما هو فتوى القوم.

قوله : والمعيّن.

المراد بالمعيّن هنا : ما ليس جزء مشاعا في الشركة حتّى يدخل فيه جزء من العبد أيضا ، وإن كان مشاعا من معيّن كنصف دار أو فرس أو نحوهما.

قوله : ويحتمل اختصاصه.

الضمير في « اختصاصه » راجع إلى الحكم المفهوم من الكلام ، أو إلى صرف الوصية إلى العتق. والمراد بالأوّل : المال المشاع. ومرجع الضمير في قوله : « لشيوعه » هو « الموصى

__________________

(١) البقرة : ١٠٦.

(٢) طه : ٤٤.

٧٢٦

به » أو « المال » في قوله : « وإن زاد المال » وفي قوله : « هو » العبد وفي « جملته » جميع المال. والمستتر في قوله : « فيكون » هو الوصية.

وحاصل الكلام : أنّ الوصية إذا كانت بجزء مشاع من التركة كالثلث ـ مثلا ـ يكون الموصى به للعبد شائعا في جميع التركة ، والعبد أيضا من جملة التركة ، فالموصي أوصى بجزء من نفس العبد للعبد ، ولما لم يمكن مالكية أحد لنفسه ، بل يعتق لو ملك نفسه ، أو جزء من نفسه ، فكان الموصي أوصى بعتق جزء من العبد. وهذا صحيح وفاقا ، فيعتق هذا الجزء منه بموت الموصي ، ويسري في الباقى ، فيصير أهلا للمالكيّة فتصحّ الوصية له ، ويملك الموصى به ، ويدفع ثمن باقيه منه.

وهذا بخلاف ما إذا كانت الوصية بجزء معيّن ، فإنّ عتق العبد أو جزء منه تبديل للوصية ، وعمل بخلاف مقتضاها ، فلا يجوز ، وتنفيذ الوصية بالعين محال ، لامتناع تملّك العبد ، لعموم « لا وصيّة لمملوك » فيبطل الوصيّة من رأسها.

وفي هذه التفرقة نظر ليس هنا موضع ذكره.

قوله : إلى رواية ضعيفة.

الرواية هي ما رواه الحسن بن صالح بن حي ، عن أبى عبد الله عليه‌السلام في رجل أوصى لمملوك له بثلث ماله. فقال : « يقوّم المملوك بقيمة عادلة ، ثمّ ينظر ما ثلث الميّت ، فإن كان أقل من قيمة العبد بقدر ربع القيمة استسعي العبد في ربع القيمة وإن كان الثلث أكثر من قيمة العبد اعتق العبد [ الى آخر الحديث ] ». (١)

ووجه ضعفها : أمّا أوّلا فمن حيث السند ؛ لاشتماله على الحسن المذكور. وأمّا ثانيا ، فمن حيث الدلالة ؛ لأنّهم إنّما تمسّكوا بمفهوم الشرط فيها في قوله : « فإن كان الثلث أقل من قيمة العبد بقدر ربع قيمة العبد ». وهو إن تمّ لدلّ على عدم الاستسعاء إذا كان الثلث أقل من قيمة العبد [ بزيادة على الربع ] ، وهم لا يقولون به.

والتحديد بالضعف لا دليل عليه ، على أنّا نمنع كون المفهوم ذلك ، بل المفهوم عدم كون الاستسعاء في ربع القيمة إن كان الثلث أقل بزيادة على الربع ، ونحن نقول بموجبه ، ودعواهم عدم الاستسعاء حينئذ مطلقا لا عدم الاستسعاء على هذا الوجه.

__________________

(١) وسائل الشيعة : ١٩ / ٤١٢.

٧٢٧

قوله : من عرف بنسبه عادة.

الضمير المجرور راجع إلى الموصي. والمستتر في « عرف » إلى الموصول. ويحتمل العكس.

وقوله : « عادة » قيد للنسب أو المعرفة.

قوله : لتناول الاسم لهما إلى آخره.

أي : يصدق اسم المولى على العتيق والمعتق ، وصلاحيّته لاستعماله فيهما وإطلاقه عليهما.

ولا يخفى أنّ مراد المصنّف من قوله : « يحمل على العتيق والمعتق » : إمّا أنّه يحمل عليهما جميعا ويصرف الوصية فيهما معا ، كما هو ظاهر العبارة ، أو مراده : أنّه يحمل على أحدهما على سبيل التخيير بمعنى : أنّ اللفظ يصلح لكليهما فيصحّ أن يصرف الوصية في أيّهما اتفق ، ولا يجب الصرف في واحد معين منهما خاصّة.

وعلى الأوّل فليس قول الشارح : « لتناول الاسم لهما » في موقعه ؛ لأنّ تناول الاسم لهما معا بدون ضمّ إفادة العموم لا يوجب حمله عليهما معا كما أنّ اسم الرقبة متناول للمؤمنة والكافرة ، ولا يوجب ذلك حملها عليهما عند الإطلاق ، ولا يصحّ أن يراد من التناول : الشمول باعتبار الجمعيّة ؛ لإيجابه اتحاد الدليلين.

وعلى الثاني فليس قوله : « ولأنّ الجمع المضاف » إلى آخره صحيحا كما لا يخفى.

والصواب أن يجعل الدليل الأوّل جزء للثاني حتّى يثبت بالجزء الأوّل صلاحيّة الاسم المفرد لهما معا ، وبالجزء الثاني إفادة جمعه للعموم.

قوله : على معنييه مجاز.

بل يمكن القول بالبطلان عند بعض من يقول بكون حمل المشترك على معنييه حقيقيا أيضا ؛ لأنّ القائلين بكون استعماله فيهما حقيقة بين قائل ( كذا ) بأنّه عند عدم القرينة ظاهر فيهما معا ، فيجب الحمل عليهما على ما يقتضيه القرينة.

ولا شك أنّ عند الطائفة الأخيرة تكون لفظة « الموالى » حينئذ مجملا وباجماله تبطل الوصية.

٧٢٨

قوله : مطلقا.

أي : سواء كانا متساويين ، أو كون الفقراء أسوأ حالا ، أو بالعكس. والمراد بقوله : « هنا » الوصية لأحدهما.

الفصل الثاني فى متعلق الوصية

قوله : لتطابق اللغة.

التعليل للتعميم الذي ذكره المصنّف بقوله : « جمع قلّة كان » إلى آخره وحاصله : أنّه لا يفرق في الحمل على الثلاثة بين جمعي القلّة والكثرة ؛ لأنّ اللفظ إذا كان له حقيقتان من الحقائق الأربع ، فقيل : إنّه يحمل على الشرعيّة ، ثمّ على العرفيّة العامّة ، ثمّ على الخاصّة ، ثمّ على اللغويّة. وقيل : بتقديم اللغوية على غير الشرعيّة ، والجمع ليست له حقيقة شرعيّة وحقيقته العرفية العامة واللغوية هي الثلاثة فصاعدا سواء كان جمع قلة أو كثرة.

فعلى القولين يجب عدم الفرق بين الجمعين لتطابق اللغة والعرف العام. وأمّا استعمال جمع الكثرة فيما فوق العشرة فلا نسلّم أنّه على سبيل الحقيقة ، بل هو استعمال طار على أصل الوضع اللغوي أعني : كون أقل الجمع مطلقا ثلاثة ولم يبلغ ذلك حدّ الحقيقة ؛ ليتحقق النقل.

ولو سلّم كونه حقيقة ، فهو ليس إلّا في العرف الخاص ـ أعني : اصطلاح النحاة ـ وأمّا أهل الاستعمالات العرفية والمحاورات العامية فلا يعرفون هذا الاستعمال ، ولا شعور لهم به.

ولا شك أنّ العرفية العامّة مقدّمة على الخاصّة ، ولا فرق في ذلك بين أن يكون المتكلّم من أهل هذا العرف الخاص ، أو لا ؛ لدخوله في أهل العرف العام قطعا.

نعم لو كان للفظ حقيقتين ( كذا ) عرفيتين خاصّتين ، فيحمل على الحقيقي في عرف المتكلّم. هذا ثمّ إنّ علّة حمل مطلق الجمع على الثلاثة دون الأقل ؛ لأن صدقة على الأقل إنّما هو بالمجاز ، فلا يصار إليه إلّا مع القرينة ودون الأكثر ؛ لعدم اليقين بالزائد ؛ للشك في إرادته ، واللفظ لا يقتضيه ، والأصل براءة الذمّة.

٧٢٩

قوله : ولا فرق في ذلك إلى آخره.

توضيح المقام : أنّه إذا أوصى بصيغة الجمع فإمّا أن يكون بصيغة جمع القلّة أو جمع الكثرة ، وعلى التقديرين : فإمّا يقدّر للوصية ما لا أو لا ، فالصور أربع. فإن أوصى بصيغة جمع القلّة أجزأت الثلاثة سواء قدّر لها مالا بأن يقول : اعتقوا عنّي أعبدا بالف أولا ، بأن يقول : اعتقوا عني اعبدا فلو أمكن في الاولى شراء ثلاثة نفيسة من الأعبد بألف ، أو أربعة خسيسة به تخيّر. وإن أوصى بجمع الكثرة فإمّا أن يطلق أو يقيّد بمقدار من المال ، فإن أطلق أجزأ الثلاثة ؛ لأنّها أقلّ محتملات الجمع ، وإن قيّد بمقدار من المال كأن يقول : اعتقوا عبيدا عنّي بألف فإمّا أن لا يصلح الألف إلّا لأقل الجمع بأن يشتري الخسيس فيقتصر عليه ، أو يصلح لشراء ما يوافق جمع الكثرة بأن يشتري خسيسه وما يوافق الأقل منه. فذهب العلّامة في القواعد في هذه الصورة إلى وجوب شراء الموافق لجمع الكثرة ولا يجوز للوارث إلّا شراء الخسيس ، واستدل : بأنّ جمع الكثرة لما فوق العشرة ، وتعيين قدر المال مع احتماله الزائد مؤكّد لمفاد الجمع ، ودليل على إرادة الزائد ، بل قال بوجوب شراء أكثر ما يصلح له ، وإن كان أقل ممّا يوافق جمع الكثرة ؛ لوجوب التوصل إلى ما يقرب الحقيقة مهما أمكن. فقول الشارح : « ولا فرق » إلى آخره إشارة إلى الرد على العلّامة ، وإبطال هذه التفرقة. ووجهه : أنّ استعمال جمع الكثرة فيما فوق العشرة إن كان حقيقة ، فيجب أن لا يفرق إذا أوصى بصيغة جمع الكثرة بين ما إذا قدّر للوصية مالا ، وعدمه في وجوب تحرّي ما زاد على الثلاثة وإن لم يكن حقيقة فيجب أن لا يصار إليه ، إلّا مع القرينة الصارفة ، وصلاحيّة المال له بعد صلاحيته لما دونه أيضا ليست قرينة دالّة على إرادة ما فوق العشرة أصلا.

قوله : من جميع التركة ثلثه.

لفظة « من » إمّا تبعيضية ـ أي : الفاضل عن الدين الذي هو بعض جميع التركة ـ أو بيانية يبين الموصول في الفاضل أي : الفاضل عن الدين الذي هو جميع التركة ، فعلى الأوّل يكون المراد بجميع التركة : جميع ما خلفه قبل أداء الدين. وعلى الثاني ينظر إلى أن ما قابل الدين ليس حقيقة من التركة.

٧٣٠

وقوله : « ثلثه » إمّا مجرور بدلا عن الفاضل ، فالضمير فيه للفاضل ، أو مرفوع نائبا لفاعل عتق والضمير للمملوك. والشارح حمله على الأخير كما يدلّ عليه : « إن لم يزد على المملوك » أي : لم يزد الفاضل عليه.

قوله : هو الاكتفاء بعتق أيّ عدد إلى آخره.

لا يخفى ما في العبارة من القصور والمسامحة بيان ذلك : أنّه قد ظهر من تمثيل الشارح بقوله : « كثلاثة » أنّ المراد بالعدد المبهم : ما كان معدوده مبهما ، لا أصل العدد ، فإنّ إبهام أصل العدد أن لا يعين مقداره ، ولا شك أنّ الثلاثة ليست من هذا القبيل. وعلى هذا فلا معنى للقول بأن المتبادر من اللفظ هو الاكتفاء بعتق أيّ عدد كان من الجميع ، وتجويز الاكتفاء به. نعم لو كان العدد مبهما بأن لم يعيّن الموصي الثلاثة ولا الأربعة ـ مثلا ـ ولا غيرهما يكون له وجه. على أنّ الظاهر أنّه يجب حينئذ الاكتفاء بأقل ما يصلح له اللفظ ، فإن كان ممّا يصلح للواحد وغيره يكتفى به ، وهكذا.

ويمكن [ ان يكون ] مراده بالعدد هنا أيضا : المعدود ، فيكون المراد بقوله : « الاكتفاء بأيّ عدد » الاكتفاء بأيّ معدود بهذا العدد أي : أيّ ثلاثة ـ مثلا ـ وكأنّ الشارح حمل أيضا لفظ العدد في قول المصنّف : « أو عدد مبهم » على هذا المعنى ، وإلّا فلا معنى لتمثيله بالثلاثة ؛ لتعيين أصل العدد فيها.

قوله : أو بغيره اتبع لفظه الأخير.

يعني : لا يلاحظ الترتيب الذكري ، بل يتبع ما قاله أخيرا من قوله : « ابدءوا بالأخير ». فيبدأ بما أمر بالابتداء به سواء كان الأخير ، أو غيره ، لأنّ قوله هذا بمنزله نسخ ما يستفاد من الوصية الاولى. وفي حكم التصريح بالبدء بالأخير ، أو بغيره ما إذا كانت قرينة دالّة على أنّ [ نظر ] الموصي البدأة بغير ما بدأ به. ثمّ بعد البدأة بالأخير لو بقي من الشك شي‌ء فالظاهر وجوب البدأة بالأوّل ذكرا فالأوّل وملاحظة الترتيب الذكري.

قوله : بأن ذكر الجميع دفعة إلى آخره.

قد يتوهّم تحقّق الترتيب هاهنا أيضا حيث إنّ زيدا في قوله : اعطوا زيدا وعمروا وبكرا مائة مقدّم على عمرو ، وعمرو على بكر ؛ وهو خطأ ؛ لأنّ المراد بالترتيب الذكري

٧٣١

المتّبع : هو الترتيب في الوصية بأن يقدّم وصيّة على اخرى لا الترتيب في الذكر مطلقا ، وتقديم وصيّة على اخرى إنّما يتحقّق بعد تعقيب وصيّة بوصيّة غيرها ، ولا يتحقّق هنا وصية إلّا بعد تمام الكلام ، فزيد في القول المذكور وإن كان مقدّما على عمرو ولكن لم يتمّ الوصية له ، وهي إنّما تتمّ بعد قوله : « مائة » فلا ترتيب في الوصية أصلا ، بل إنّما يقع الوصية للجميع دفعة واحدة.

قوله : وبطل من كلّ وصيّة بحسابها.

أي : بعض من كلّ وصيّة بحساب هذه الوصية بمعنى : أنّه يلاحظ كلّ وصية مع غيرها من الوصايا ، وتبطل منها بقدر كانت نسبته إلى ما بطل من غيرها كنسبتها إليه ، فما كان من الوصايا نصف الوصية الاخرى يبطل منه نصف ما بطل منها ، وما كان ثلثا يبطل منه ثلث ما بطل منها ، وما كان مساويا لها يبطل منه بقدر ما بطل منها ، فإذا قال : اعطوا زيدا وعمروا وبكرا وخالدا مائة بالسوية وكان ثلثه خمسين يبطل من كلّ منهم اثنا عشر ونصف ، وإذا قال : اعطوا زيدا خمسة ، وعمروا عشرة ، وبكرا خمسة عشر ، ولا تقدّموا واحدا منهم على آخر وكان الثلث عشرين بطل من زيد نصف ما بطل من عمرو ، ومن عمرو ثلثا ما بطل من بكر ، كما أنّ الوصية لزيد نصف الوصية لعمرو ، والوصية لعمرو ثلثا الوصية لبكر.

هذا ، ولك أن تنسب الزائد من الثلث إلى مجموع الثلث والزائد ثلث المجموع ، فينقص من زيد ثلث خمسة ، ومن عمرو ثلث عشرة ، ومن بكر ثلث خمسة عشر.

ومآل هذا مع الأوّل واحد ، ولكنّه أسهل ، ويمكن تنزيل كلام الشارح عليه مع تكلّف ، فتأمّل.

قوله : واشتبه الأوّل.

أي : علم تحقّق الترتيب ونسي كيفيته.

ولا يخفى أنّ الصور المتصوّرة حينئذ ثلاث ؛ فإنّه إمّا لا يعلم كيفيّة الترتيب أصلا أي :لا يعلم شي‌ء من الأوّل والثاني والثالث وهكذا حتّى لا يبقى إلّا واحدا ، أو يعلم الترتيب في بعض الوصايا ونسي في بعض. وحينئذ فإمّا يعلم الأوّل ، والنسيان إنما هو في غيره ،

٧٣٢

كما إذا علم الأوّل واشتبه الثاني بالثالث أو غيره ، وحينئذ يحتاج إلى القرعة فيما وقع الاشتباه ، أو لا يعلم الأوّل ووقع الاشتباه بينه وبين غيره من الوصايا كالثاني أو الثالث أو غيرهما ، وحينئذ يحتاج [ الى ] القرعة في إخراج الأوّل.

وقول الشارح : « واشتبه الأوّل اقرع » يبيّن حكم الصور الثلاث ؛ فإنّه ليس المراد بالأوّل فيه : أوّل جميع الوصايا ، بل الأوّل من المشتبهين كما في قوله : الأوّل فالأوّل ففي الصورة الأولى ـ مثلا ـ اشتبه أوّلا أوّل جميع الوصايا ، فإذا اخرج بالقرعة ، يكون المشتبه أوّل البواقي ، وهكذا ، ويقرع في الجميع.

قوله : ويشكل إلى آخره.

توضيح مراد الشارح : أنّ ظاهر القوم في صورة اشتباه الترتيب وعدمه أنّه يجب التقديم بالقرعة. وهذا يشكل بأنّ القرعة لإخراج المشكل ، والمشكل هنا هو أنّه هل يتحقّق الترتيب أم لا ؛ لاحتمال عدمه ، وإخراج هذا المشكل لم يحصل بالقرعة ، فقوله :« ولم يحصل » أي : لم يحصل إخراج المشكل.

ثمّ أراد بيان طريق لا يرد عليه هذا الإشكال فقال : « فينبغي الإخراج » إلى آخره أي :فيجب أوّلا إخراج القرعة على الترتيب وعدمه بأن يقرع أوّلا على أنّه هل وقع الترتيب أم لا ، فإن خرج الترتيب بالقرعة يجب التقديم بقرعة اخرى لا أن يحكم بالتقديم بالقرعة أوّلا ؛ لاحتمال أن يكون غير مرتّب ، فيكون حينئذ تقديم كلّ واحد منهم خرج بالقرعة ظلما ؛ فإنّه اذا اقرع فلا محالة يخرج واحد منهم مقدّما ، ولاحتمال عدم الترتيب في الواقع يكون تقديمه ظلما.

قوله : لشمول اسمه.

المراد بكون اسمه شاملا لهما : كونهما جزءين من مسمّاه بالعرف. والحكم بشموله لهما على الإطلاق محل تأمّل ؛ لأنّ الوصية إمّا بسيف معيّن أو غير معيّن ، وعلى الأوّل إمّا يكون السيف الموصى به في غمده أو لا ، وعلى الأخير إمّا يكون له غمد وحلية أم لا ، وعلى الثاني إما ان يكون للموصي سيف أم لا يكون ، وعلى الأوّل إمّا يتّحد أو يتعدّد ، وعلى الأخير إما يكون للجميع غمد وحلية أم لا. فهذه صور يختلف فيها شمول الاسم و

٧٣٣

عدمه عرفا ؛ فإنّ في بعضها يحكم العرف بشمول الاسم للغمد والحلية ، وفي بعضها يحكم بعدم شموله ، وفي بعضها لا يحكم بالشمول ولا بعدم الشمول.

بل يمكن أن يقال بعدم شمول الاسم لهما مطلقا ، وأمّا دخولهما في بعض الصور فإنّما هو بالقرائن الخارجية ، وإن أمكن القول بالشمول مطلقا ، وكون خروجهما في بعض الصور إنّما هو بالقرائن ، إلّا أنّ الأوّل أظهر ، كما لا يخفى على المتأمّل ، وبالجملة فالظاهر تفاوت الدخول وعدمه بتفاوت الشمول وعدمه.

الفصل الرابع في الوصاية

قوله : قسمة المال.

أي : قسمة المال الذي لهما التصرف بينهما بأن يختصّ كلّ منهما بالتصرف في طائفة من المال.

٧٣٤

كتاب النكاح

قوله : مستحبّ مؤكّد لمن يمكنه فعله.

مقتضى الإطلاق أنّه مستحب سواء اشتاق إليه أم لا ، كما هو المشهور ، ويقتضيه العمومات. وقيل : [ يختصّ ] استحبابه بالاوّل. وإنّما اضاف قوله : « فعله » مع أنّ نفسه فعل ، فيكفي أن يقول : لمن يمكنه أي : النكاح ؛ للإشارة إلى ردّ قول ابن حمزة ؛ فإنّه اشترط في استحبابه إمكان تهيئة أسبابه ولوازمه والقدرة على اهبته. والتوضيح : أنّه لا شك في اشتراط القدرة على أصل النكاح أي : إيقاعه بوجود امرأة راضية به ، والقدرة على الإيجاب والقبول بنفسهما أو توكيلهما ، وقد اختلفوا في اشتراط الاقتدار على اهبة النكاح ، فصرّح جماعة منهم المحقّق الشيخ علي بعدم اشتراطه ، وقال ابن حمزة باشتراطه.

ولما كان إمكان النكاح محتملا للأمرين ، وإن كان ظاهرا في الأوّل ، فدفع توهّم إرادة الثاني باضافة فعله أي : إيقاعه ، وتكون الاضافة الى المفعول أو تكون بيانية وتكون النكتة في زيادة المضاف دفع التوهم المذكور ويمكن بعيدا ان تكون الاضافة بمعنى ؛ « اللام » وتكون زيادته ؛ لاختيار مذهب ابن حمزة أي : يستحبّ لمن يمكنه الفعل الذي للنكاح اي يتبعه ويلزمه عادة أي : تهيئة أسبابه والوصول إلى مقتضاه.

قوله : ولا يخاف الوقوع بتركه في محرّم.

أطلق المحرّم ولم يختص بالزنا كما فعله جمع آخر ؛ ليشمل مثل اللواط والاستمناء باليد ونحوهما. و « الباء » في قوله « بتركه » سببيّة أي ؛ لا يخاف الوقوع بسبب الترك. وأمّا خوف الوقوع بسبب آخر كشقاوة النفس ونحوها ، ولو كانت له زوجة ، فلا يوجب وجوبه.

٧٣٥

ويحتمل أن تكون « الباء » بمعنى « مع » ، وتستفاد السببيّة أيضا من التعليق عليه حيث إنّه مشعر بالعلّية. وعلى التقديرين يمكن تعلّق المجرور بقوله : « ولا يخاف » ، وبقوله :« الوقوع » والمفاد واحد.

قوله : قال الله تعالى : ( فَانْكِحُوا ).(١)

ذكر الآيتين لبيان الاستحباب دون الوجوب بقرينة قوله فيما بعد ؛ « وأقلّ الأمر الاستحباب » ، صدر الآية : ( وَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ ) وذيلها ( مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ). المعنى ـ والله أعلم ـ : إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء ، بل تجوروا عليهن ليتمهن وضعفهن ، فزوّجوا غيرهنّ ممّا طاب لكم من النساء اللاتي لا تقدرون على عدم العدل لعشيرتهن وآبائهنّ ونحوها ، فتعدلوا بينهنّ ولا تقصروا في حقّهنّ من المهر والنفقة وغيرهما. روي أنّهم كانوا إذا وجدوا يتيمة ذات مال وجمال تزوجوها ، فربّما يجتمع عند واحد منهم عدّة منهنّ فيقصرون فيما هو واجب عليهم فنزلت الآية ، ثمّ قال الله تعالى : فإن كان لكم قوّة وخفتم أن لا تعدلوا في غير اليتامى أيضا فاكتفوا بالواحدة من النساء أو بما ملكت أيمانكم اللاتي لا حقوق لهنّ.

وقد ورد في الآية وجه آخر وهو أنّه روي أنهم لما سمعوا عظم أمر اليتامى كانوا يتحرجون عنهم ذكورا واناثا وعن التصرّف في أموالهم خوفا من عقاب الله سبحانه ، ولكن كانوا لا يتحرزون عن الجور في امور النساء من عدم التعديل والتقصير في المهر والنفقة ، فنزلت هذه الآية أي : إن كنتم بهذه المثابة وخفتم من عقاب الله وتحرجتم عن اليتامى لذلك فينبغي أن تتحرزوا في امور النساء أيضا ، فانكحوا منهنّ ما تقدرون على أداء حقوقهن من اللاتي تطيب لكم وتميلوا إليهنّ بهذا العدد ، وإن خفتم في ذلك العدد أيضا فاكتفوا بالواحدة.

وقيل : كانوا يتحرجون من اليتامى ، ولا يتحرجون من الزنا ، فنزلت الآية.

__________________

(١) النساء : ٣.

٧٣٦

وإنما لم يذكر الواحدة قبل قوله : « مثنى » ؛ لأنّ المقام مقام التعديل ، أو لأنّها كانت معلومة مرخّصة فيها ، والمطلوب من الآية ترخيص التعدّد.

ثمّ اعلم أنّ التعبير عنهنّ بـ « ما » للاشارة إلى قلّة عقولهنّ. وأنّ قوله : مثنى وثلاث ورباع منصوبات على الحال من مفعول « فانكحوا » أى ؛ حالكونهنّ معدودات بهذا العدد ثنتين ثنتين ، أو ثلاثا ثلاثا ، أو أربعا أربعا ، فهذه الألفاظ الثلاثة معدولات منها ، .. والخطاب للجمع أي : خذوا كلّ واحد منكم ثنتين أو ثلاثا أو أربعا ، أو مختلفا كما يقال : اقسموا هذا المال اثنتين اثنتين ، ثلاثة ثلاثة ، أربعة أربعة ، ويراد قسمة المال على الوجه المذكور سواء كانت القسمة متفقة أو مختلفة.

قوله : وانكحوا الايامى منكم إلى آخره.

الأيامى جمع الأيّم ، وأصله أيائم ، فقدّم وأخّر كيتامى جمع يتيم. والأيّم من الرجل :

من لا امرأة له ومن المرأة من لا زوج لها بكرا أو ثيبا. وأحد مفعولي « انكحوا » محذوف أي انكحوا الأيامى من الرجال منكم النساء ومن النساء الرجال. أو المعنى : وانكحوا الايامى منكم من الرجال والنساء بعضهم من بعض. والمراد هنا ؛ الأيّم من الأحرار والحرائر بقرينة ما بعده من الأمر بتزويج الصالحين من العباد والإماء ، وإنّما خصّ الصالحين ؛ لشدّة الاهتمام بشأنهم ، وللترغيب إلى الصلاح ، فإنّهم إن رأوا أمر الأولياء بتزويج الصالحين يميلون إلى الصلاح.

قوله : وأقلّ مراتب الأمر الاستحباب.

تتميم لدلالة الآيتين على استحباب النكاح. وهنا إشكالات ثلاثة :

الأوّل : أنّ المراد إما أنّ أقلّ مراتب الأمر في الاستعمال الاستحباب ، أو أقلّ المراتب التي اختلف فيها في كونه حقيقة الامر الاستحباب ، وشي‌ء منهما ليس كذلك ؛ إذ استعمال الأمر في الاباحة والرخصة والإرشاد كثير غاية الكثرة ، والقول بكونه حقيقة في الإباحة أيضا موجود ، وهي أدنى من الاستحباب ، فلا يكون الاستحباب أقل المراتب.

الثاني : أنّ كونه أقلّ المراتب لا يفيد في إثبات الاستحباب ؛ إذ لا يقول أحد بوجوب حمل اللفظ على أقلّ المراتب ، بل الواجب حمله على الحقيقة سواء كانت الأقل أو الأكثر ،

٧٣٧

والحقيقة هنا هي الأكثر الذي هو الوجوب ، نعم يحسن الحمل على أقلّ المراتب ، لو تردد المعنى الحقيقي بين المرتبتين ، والثابت حينئذ أيضا هو مطلق الرجحان ، دون الاستحباب.

والثالث : أنّ الأمر في الآية الاولى ليس محمولا على أقلّ مراتبه الذي هو الاستحباب لعدم استحباب مثنى وثلاث ورباع ، فالأمر فيها للرخصة والإرشاد. وفي الثانية للأولياء ، فلا يفيد المطلوب.

ويمكن دفع الأوّل : بأن المراد : أقلّ مراتب الأوامر الواردة في الشرع وبحسب عرف الشارع أو المتشرّعة ؛ فإنّ من يقول بكون الأمر حقيقة في الاباحة ونحوها إنّما يقول بحسب اللغة ، وأمّا في الشرع فهم يقولون بكونه حقيقة في أحد الطلبين ، ولم يقل بغيره أحد إلّا شاذ لا يعبأ بقوله. فالمعنى ؛ أن أقلّ مراتب الأمر شرعا الاستحباب ، أو المعنى : أنّ أقل ما يحمل عليه الأوامر الشرعية بلا قرينة الاستحباب.

ودفع الثاني : بأنّ الحمل على الحقيقة إنّما هو مع عدم تعذرها ، وأمّا معه فيحمل على المجاز المعيّن إن كان واحدا ، أو كانت عليه قرينة معيّنة ، وعلى الأقل بدون الأمرين ، والحقيقة هنا متعذّرة للإجماع على عدم الوجوب ، فيحمل على أقل المراتب شرعا ، وهو الاستحباب. ويمكن أن يكون مراده من الاستحباب : معناه اللغوي أي ؛ مطلق الرجحان ، دون الاصطلاحى ، وهو الندب ، ويكون الاستدلال لاثبات الرجحان في مقابل من ينفيه ، فالمعنى هو راجح للأمر الذي لا ينقص عن إفادة الرجحان قطعا ؛ لأنّه أقل المراتب ، ويشترك فيه الاستحباب والوجوب.

ودفع الثالث : بمنع عدم استحباب تعدّد الزوجات ، وإذا استحبّ المتعدّد استحبّت الواحدة بالطريق الأولى ، أو المراد بالأمر فيها : الأمر المقدّر في قوله : « فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة » ، ويتم المطلوب من الآية الثانية بعدم القول بالفصل.

قوله : بين المسلمين.

قيّد به لشهرة أفضلية تركه بين النصارى.

قوله : محقّق.

٧٣٨

ذكره بعد قوله : « مشهور » ؛ لئلا يتوهم كونه من باب « رب شهرة لا أصل لها »

قوله : أو الباقي.

هذا الترديد [ ليس في ] عبارة الحديث المروي في الكافي ، ولعلّه كان متردّدا في لفظ الحديث ، أو أشار إلى ورود اللفظين في حديثين.

قوله : وهو من أعظم الفوائد إلى آخره.

أي : أعظم ما يحصل منه الفوائد الدينية بعد الإسلام أي الاسلام أعظم منه ، أو النكاح بعد الإسلام من أعظم الفوائد ، لا مطلق النكاح.

قوله : بطريق أهل البيت.

هذه الرواية رواها الكليني باسناده المتصل عن أبى عبد الله عليه‌السلام عن آبائه عليهم‌السلام قال :

« قال رسول الله ». الحديث. والرواية اللاحقة لها رواه أيضا باسناده المتصل عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : قال رسول الله ( صلى‌الله‌عليه‌وآله ) ، وإنّما زاد في الاولى قوله : « بطريق أهل البيت » دون الثانية ، مع أنّها أيضا روي عن أبى جعفر ، وكذا الرواية السابقة عليهما التي ذكرها بقوله : « رواه في الكافي » فإنّها أيضا مروية عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ». لأنّ الاولى مروية عن الصادق عن آبائه ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله فرواها أهل البيت متصلا عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله بخلاف السابقة واللاحقة ؛ فإنّهما مرويتان عن الباقر عليه‌السلام والصادق عليه‌السلام عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله فيحتمل أن يكون روايتهما بواسطة رواية الصحابة عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله.

قوله : وانشفه أرحاما وادرشي أخلافا

يقال : نشف الثوب العرق والحوض الماء إذا شربه ، ولعلّ نشف كناية عن قلّة رطوبة فرجها ، وشدّة قبوله النطفة. والدر اللبن إذا كثر وسال. والأخلاف جمع خلف ـ بالكسر ـ وهو الضرع. وأفتخ شي‌ء أرحاما بالخاء المعجمة أي : ألين وأنعم. ذكره في السرائر ، ويمكن أن يكون بـ « الحاء » المهملة ، ويكون كناية عن أوسعيّتها لقبول النطف. ويمكن أن يكون الاخلاف جمع خلف بفتح « الخاء » و « اللام » بمعنى : الولد أي : أكثر ولدا. ويمكن أن يكون بـ « القاف » أي : أنفع أخلاقا وأحسنها. وقوله : « أطيب شي‌ء أفواها » يمكن ان يكون كناية عن حسن الكلام ؛ لحياء البكر وبعدها عن الكلمات الخشنة القبيحة ، وهو أولى من

٧٣٩

الحمل على الظاهر ؛ لأنّه لا يلائم المشاهدة والعيان والتجربة. وهاهنا سؤال وهو : أنّه ما النكتة في إضمار المضاف إليه في قوله : « أنشفه » وإظهاره في جميع ما قبله وما بعده؟ ولبيانها نقول : إنّ الحديث في الكافي هكذا : عن أبى عبد الله ، انّه قال : « قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله تزوجوا الأبكار ؛ فإنهنّ أطيب شي‌ء أفواها ». وفي حديث آخر : « وأنشفه ارحاما وادر شي‌ء اخلافا وافتح شي‌ء أرحاما أما علمتم أنّي أباهي بكم الامم » الحديث. والظاهر أنّ قوله : « أنشفه أرحاما » جزء من حديث أقحمه ثقة الإسلام بين ذلك الحديث ، وهو كان إمّا مضمرا ، أو نقله هكذا بالمعنى ، والباقي من تتمّة الحديث الأوّل ، فنقل الشارح ما في الكافي بألفاظه ، فتأمّل.

قوله : العفيفة عن الزنا.

التقييد بذلك ؛ لإخراج العفة عن الزوج فإن « العف » في اللغة : مطلق الكف.

قوله : أي : ما من شأنها.

المشار إليه هو الولادة المستفادة من لفظ « الولود ».

قوله : محبنطئا.

بـ « الحاء » و « الطاء » المهملتين ، وتقديم « الباء » الموحدة على « النون » بهمز ، ولا بهمز : هو المتعصّب الممتلئ غيظا المستبطئ للشي‌ء. وقيل : هو الممتنع امتناع طلبة ، لا امتناع إباء.

قوله : « انكحوا الأكفاء ».

هذا يصلح دليلا لإرادة المؤمن من الكفؤ حيث إنّ غير المؤمن ليس كفؤا للمؤمن ، والمؤمن كفؤ للمؤمن. وقوله : « واختاروا لنطفكم » أي : اطلبوا الخير ، يصلح دليلا لإرادة الصالح المؤمن.

قوله : ولا يقتصر على الجمال والثروة.

إنّما زاد قوله : « يقتصر » ؛ للإشارة إلى عدم البأس بعدم الاقتصار ، واختيار ذات المال أو الجمال العفيفة مثلا.

قوله : خضراء الدمن.

٧٤٠