الكافي في الفقه

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

الكافي في الفقه

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام العامّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

علمنا أنه لا وجه للنهي عن نفس المأمور به أو الأمر بالمنهي عنه الا الجهل بالعاقبة.

الثاني : أن أمره بالشي‌ء دلالة حسنة ونهيه دلالة قبحه ، والنهي عن الحسن والأمر بالقبيح لا يجوز عليه سبحانه.

ومتى اختل شرط واحد خرج عن حد البداء ، لعلمنا بصحة أمره تعالى المكلف بشي‌ء ونهيه عن غيره ، ونهى مكلف آخر عن نفس ما أمر به ، وتكليفه شيئا زمانا معينا ونهيه عن مثله في زمان آخر ، وأمر (١) بالفعل في وقت على وجه ونهيه عن إيقاع مثله على وجه آخر. واتفاق العلماء على حسن ماله هذه الصفة وخروجه عن صفة البداء.

وأما النسخ فهو كل دليل سمعي دل على رفعه مثل الحكم الثابت بالنص الأول على وجه لولاه لكان ثابتا مع تراخيه عنه.

واشترطنا كون الناسخ دليلا لان رفع التعبد الثابت بمطلق نصه تعالى لا يجوز بغير دلالة.

واشترطنا كونه سمعا لان النسخ لا يتعلق بما ثبت عقلا ولا يرتفع الأحكام الشرعية به.

واشترطنا كونه رافعا لان ما ليس برافع من الأدلة لتعبد ثابت لا يكون ناسخا.

وقلنا : مثل الحكم ، لان رفع نفس الحكم المتعبد به لا يكون الا بداء.

واشترطنا التراخي ، لان المقارن لا يكون ناسخا وانما هو بيان لمدة التكليف ، وبيان المدة لا يكون نسخا.

والدلالة على صحة هذا الحد ، أنه متى تكاملت هذه الشروط وصف الدليل بأنه ناسخ والمرفوع منسوخ ، ومتى اختل شرط واحد فليس بناسخ ولا منسوخ.

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر : وامره.

٨١

وإذا تقرر هذا في حد البداء والنسخ ، صح فرقان ما بينهما وجهل الجامع.

والدلالة على حسن النسخ كون الشرائع مبنية على المصالح التي تصح أن تختص بزمان دون زمان ، وبمثل دون مثل ، ومكلف دون مكلف ، وبوجه دون وجه ، لولا ذلك لم يكن السبت أولى بالإمساك من الأحد ، ولا فعل الصلاة في وقت وعلى صفة أولى من وقت وصفة أخرى ، ولا تحريم الشحم المتميز أولى من المختلط. وإذا كانت الشرائع مقررة على المصالح ، جاز أن يكون صلاح المكلف مختصا بفعل العبادة في زمان معين ويكون مفسدة في آخر ، ولمكلف صلاح في شي‌ء هو مفسدة لمن يتجدد بعده ، وعلى وجه صلاح وعلى وجه آخر فساد.

وإذا صح ذلك وعلمه مكلف المصالح سبحانه وجب في حكمته سبحانه بيان ذلك حسب ما وجب مثله في ابتداء التكليف ، وجرى ذلك مجرى لو قرن بيان المدة بالتكليف ، فكما قال سبحانه لبعض المكلفين : صلوا كل يوم خمس صلوات وصوموا كل سنة شهر رجب ، مدة عشر سنين ، لكان ذلك مفيدا للزوم الصلاة والصوم المعينين تلك المدة المذكورة وقبحهما فيما بعدها باتفاق ، فكذلك يجب الحكم إذا قال سبحانه : صلوا كل يوم خمس صلوات وصوموا كل سنة شهر رجب ، ثم قال سبحانه بعد عشر سنين : لا تصلوا ولا تصوموا ما كنتم أمرتم بمثله ، لتماثلهما في بيان المدة وان تقدم أحد البيانين وتأخر الأخر.

والكلام على الفرقة الثانية :

أن يقال لهم دلوا على أن موسى عليه‌السلام قال ما ذكرتموه مانعا من النسخ ، فإنهم لا يجدون إلى إثباته سبيلا ، لعدم التواتر به ، بل كونه من أخبار الآحاد ، لحصول العلم لكل مخالط بفقد من يعرف بنقل الاخبار في شي‌ء من طبقاتهم التي تلينا ، وانما يضيفون ذلك الى اعتقادات متواترة عن السلف ، وصحة الاعتقادات فرع لصحة ما تستنده اليه ، وإذا تعذر إثبات

٨٢

ما تستند اليه هذه الاعتقادات وجب الحكم عليها بالبطلان.

وبعد فلو قال موسى ذلك لم يخل أن يريد المنع من نسخ شرعه على كل حال وان اقترن دعوى ناسخه بالمعجز أو من دون ذلك ، والثاني لا ينازع فيه لأنه يقتضي رفع الشرائع الثابتة بالأدلة بمجرد الدعوى العرية من الحجة ، والأول يقتضي القدح في نبوته الموقوف صحتها على المعجز مع أمره بتكذيب من معه المعجز ، وذلك مأمون منه عليه‌السلام ، فثبت تعلق منعه عليه‌السلام من النسخ بالوجه الأول.

وليس لهم أن يقولوا ان كلام موسى عليه‌السلام المتضمن للمنع من النسخ متعلق بالتأبيد من غير تقييد ، لأنه لو كان كذلك لوجب تقييد مطلقة وتخصيص عامه بالبرهان كصحته بقول موسى عليه‌السلام إذ لا فرق بين أن يقول موسى عليه‌السلام شريعتي لا تنسخ أبدا وألزموها أبدا و [ أو. ظ ] ما دامت السموات والأرض الا أن يأتيكم بشي‌ء بالنسخ ، في وجوب تقييد مطلق قوله ونسخ شرعه بمن يأتي بعده من الأنبياء ، وبين أن يختص ذلك بقول من ثبتت نبوته من هارون عليه‌السلام أو عيسى عليه‌السلام أو رسول الله محمد بن عبد الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، لاشتراك الكل في الصدق على مرسلهم سبحانه لبيان المصالح والمفاسد ، وفساد القول بتصديق أحدهم دون الأخر مع ثبوت البرهان بنبوة كل منهم فليتأمل هذا فإنه يأتي على مذهبهم ويوجب عليهم الرجوع الى القول الثالث.

والكلام على الفرقة الثالثة : أن يقال لهم لم زعمتم أنه لم يقم دليل على نبوة مدعي النسخ أبضرورة علمتم ذلك أم باستدلال؟ ودعوى الضرورة مرتفعة بغير اشكال ، والدلالة على نفي النبوة من جهة العقل منتفية ، ومن جهة السمع وقد بينا ما يظنونه نافيا من جهته. وإذا لم يكن لهم طريق الى العلم بتكذيب مدعي النسخ ، وجب عليهم النظر في دعوته ، لحصول الخوف من صدقه ،

٨٣

فمتى يفعلوا بشروطه يعلموا من ذلك ما جهلوه ويلزمهم الدخول فيما أنكروه لوضوح الحجة بنبوة عيسى عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وان يقيموا على الأغراض [ الاعراض. ظ ] يقيموا محجوجين ويفقدوا علم ما يلزمهم معرفته من النبوات لسوء نظرهم لأنفسهم وقبح عنادهم.

ثم يقال لهم دلوا بأي دليل شئتم على نبوة موسى ، فاذا فعلوا قوبلوا بمثله في نبوة المسيح عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لأنهم إنما يفرغون [ يفزعون. ظ ] (١) في ذلك الى دعوى التواتر بظهور المعجزات عقيب دعوى موسى عليه‌السلام ومثل هذه الدعوى حاصل في النصارى ومعجزات تلاميذ المسيح عليه‌السلام ، بل للنصارى عليهم أعظم المزية ، لحصول العلم باتصال مملكة الروم الى زمان دعوة المسيح عليه‌السلام ، وتعذر ذلك فيهم.

وليس لهم أن يقولوا ضلال النصارى في المسيح ، ودعواهم له الإلهية أو النبوة مانع من سماع نقلهم ، لان النقل المتواتر لا يفتقر إلى صحة الاعتقاد بغير نزاع بين العلماء فيه لانفصال كل منهما من صاحبه ، فاذا ثبت تواتر النصارى بالمعجزات وفهم شرط التواتر ، وجب الحكم بصدقهم فيها وصدق من ظهر عليه لحصول الأمان من كذب المؤيد بالمعجز على الله تعالى ، ولا يقدح في ذلك ضلال النصارى عندها (٢) لما بيناه ألا ترى أنا نعلم تدين عالم عظيم بإلهية موسى ومن قبله ومن بعده

ممن ثبت نبوته بالمعجزات لأجلها ولم يقدح ذلك في نبوتهم عليهم‌السلام ، ولا أثر في نقلهم ، لانفصال أحد الأمرين من الأخر.

على أن هذا الاعتذار غير مقتدر (٣) في تواتر المسلمين بمعجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله

__________________

(١) في بعض النسخ : يفرعون.

(٢) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : عندنا.

(٣) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : معتذر.

٨٤

فينبغي أن يقتصر بهم على إلزامه (١) على موجب اعتبارهم ، لا سيما وحجة ثبوتها بتغير الأزمان المتصلة إلى زمان دعوته صلى‌الله‌عليه‌وآله مشتملة على متواترين بها واضحة ومتعذرة في نقلهم فيلزمهم مع تسليم نقلهم القول بنبوة المسيح عليه‌السلام ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله كلزومه في موسى أو التشكك في نبوة الثلاث (٢) فخرجوا عن اليهودية الى البرهمية ويكلموا بما تكلم به البراهمة.

فأما القول بنبوة موسى وتكذيب عيسى ورسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله مع تساوى الكل في ظهور المعجزات فمناقضة ظاهرة ، وعناد للحق لا شبهة فيه ثم يبتدى إيضاح الحجج السالفة على نبوة نبينا يلزمهم لذلك النظر فيها ومتى يفعلوه بشروطه يعلموا من صحة نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ما علمه كل ناظر في آياته والا يفعلوا يجب الحكم عليهم بعناد الحق والركون الى الباطل ولزوم حجة نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله (٣).

الكلام في الإمامة(٤)

والوجه في الرئاسة كونها لطفا للخلق ، لقبح تكليفهم العقلي من دونها ، لأنا نعلم ضرورة أن وجود الرؤساء المهيبين النافذى الأمر المرهوبي السطوة مقلل للقبيح ومكثر للحسن وأن فقدهم بل ضعفهم بعكس هذه القضية.

وإذا علم كون الرئاسة بهذه الصفة ثبت كونها لطفا فوجبت كسائر الألطاف ، والمخالف في هذا لا يعدوا خلافه أربعة مواضع ، اما أن ينازع فيما ذكرنا من تأثير الرئاسة في الصلاح وحصول الفساد بفقدها ، أو يقدح بما لعله يقع من فساد

__________________

(١) في بعض النسخ : على الراحة ، والظاهر انه تصحيف.

(٢) كان في النسخ : في نبوة الشك.

(٣) هذه الصفحة من قوله : على ان هذا الاعتذار ، الى هنا تحتاج الى تصحيح ، وهو فرع الظفر بنسخة مصححة ان شاء الله تعالى.

(٤) العنوان من المصحح.

٨٥

عند وجود الرؤساء ، أو بإيثار بعض العقلاء رئيسا دون رئيس ، أو اعتقاد بعض العقلاء حصول الصلاح بفقد الرئاسة.

فان نازع على الوجه الأول قضت المشاهدة عليه ، وحكم بفساد نزاعه عموم العلم للعقلاء بصلاح الخلق بعد الرؤساء وقهرهم المفسدين في الأرض وارهابهم ، وأنه لو خلا مصر واحد من رئيس لم يتوهم صلاحه أبدا وحال المكلفين حالهم من جواز القبيح منهم.

وان نازع على الوجه الثاني لم يقدح في وجوب الرئاسة ، لتعلقه بكونها لطفا في فعل الواجب واجتناب القبيح وليس بملجئ ، لصحة التكليف معه وفساده مع الإلجاء ، فوقوع القبيح عندها لا يمنع من كونها لطفا في اجتنابه كالعلم بالثواب والعقاب المعلوم عموم كونه لطفا لكل مكلف مع وقوع القبائح من العالمين [ بها ] على أن الواقع من القبيح عند وجود الرئاسة لولاها لوقع أضعافه حسب ما يعلمه كل عاقل بمجرى [ يجرى. خ ] العادة ، وما أثر رفع قبيح واحد أو يبعد منه (١) لطف واجب في حكمته سبحانه كوجوب ما أثر رفع سائر القبائح بغير نزاع بين أهل العدل.

وان نازع على الوجه الثالث ، لم يقدح أيضا ، لأن صلاح بعض المكلفين برئيس دون رئيس لا يقدح في جهة وجوب الرئاسة في الجملة ، وانما اختص صلاحه لأمر يرجع اليه لا إلى الرئاسة ، يوضح ذلك أنه لم يصلح الا برئاسة.

وان نازع على الوجه الرابع ، لم يقدح أيضا لأن اعتقاد بعض العقلاء حصول صلاحه بعدم الرئاسة ، لا يمنع من وجوبها من الوجه الذي بينا ثبوته

__________________

(١) في جميع النسخ : يعد منه ، والصحيح ما أثبتناه.

٨٦

في أوائل العقول لأنه (١) يخص هذا المعتقد وان كان عالما بما للخلق من الصلاح بها ، كما أن اعتقاد المودع والغريم ان عليه ضررا في رد الوديعة وقضاء الدين وله صلاح في الامتناع من ذلك ، وله نفع في الظلم وفي الكذب وعليه ضرر في الإنصاف والصدق (٢) لا يخرج رد الوديعة وقضاء الدين عن الوجوب ولا يقتضي حسن الظلم والكذب ، وكذلك حكم الرئاسة وهذا المعتقد.

يوضح ذلك حصول العلم لكل عاقل باختصاص هذا الاعتقاد بالمفسدين في الأرض ، ليتم لهم ما يؤثرونه من الفساد لعدم الرؤساء الذين يصح منهم (٣) مع وجودهم ، ولا شبهة في قبح هذا الاعتقاد.

والاعتراض علينا به أو بمن يعلم فسادا في رئاسة فهو يؤثر عدمها لما فيها من الفساد ، ومن هذه حاله غير منكر لرئاسة العادل ، ولذلك يعلمه كل عاقل متمنيا لها ، أو بمن ينكر رئاسة يؤدي ثبوتها الى فساد رئاسته كالمتقدمين على أئمة الهدى عليهم‌السلام جهة إنكارهم لرئاستهم اعتقادهم صلاح أمرهم لعدمها لما يعلمونه من زوال سلطانهم بها وفوت المنافع بثبوتها ولا شبهة في قبح هذا الاعتقاد ، فلا قدح به في وجوب الرئاسة.

يوضح ذلك علمنا به لا أحد (٤) من هؤلاء الا وهو متدين (٥) بالرئاسة وعاقد أمره وما يرومه من الصلاح بها ، وانما أنكر رئاسة من يعتقد فوت أمانية

__________________

(١) في بعض النسخ : لأمر يخص.

(٢) في النسخ :

(٣) منعهم. ظ

(٤) كذا في النسخ ، والظاهر : انه لا أحد.

(٥) في بعض النسخ : وهو مستدبر.

٨٧

بها ، وهذا خارج عن مقصودنا.

ولا بد من أن يكون الرئيس معصوما ، لأن جهة وجوب الرئاسة كونها لطفا في وقوع الحسن وارتفاع القبيح ، ويعلق هذا اللطف بكون المرؤس غير معصوم فوجب لذلك عصمة الرئيس أو من ينتهي اليه الرئاسات. (١) يقتضي أحد الأمرين كل واحد منهما فاسد ، اما وجود مكلف غير معصوم ولا رئيس عليه وذلك إخلال بواجب ، أو وجود رئيس لرئيس الى ما لا يتناهى ، وكلا الأمرين فاسد ، فثبت ما قلناه.

ولا بد من كونه أفضل الرعية ، لكونه رئيسا لهم في جميع الأشياء ، وحصول العلم الأول بقبح تقديم المفضول على الفاضل فيما هو أفضل منه فيه.

وأيضا فالمعلوم وجوب تعظيم الرئيس على كافة الرعية على وجه لا يستحقه أحد منهم عليه ولا بعض على بعض ، لكونه مفترض الطاعة عليهم ، والتعظيم كاشف عن استحقاق الثواب ، وإذا علمنا استحقاقه منه أعلى المراتب علمنا كونه أكثرهم ثوابا ، وهذا معنى قولنا أفضل.

ان قيل : إذا كان فرض الطاعة عندكم كيفية لشكر نعمة ، فما هي نعمة الرئيس التي لها وجبت طاعته وما وجه تعظيمه في الغاية ، والتعظيم لا يحسن الابتداء به ، قبل (٢) الشكر ، وان اقتضى في بعض النعم طاعة فقد يجب الطاعة لا من هذا الوجه بأن يكون المطاع مبينا لمصالح ومفاسد لا تتم الا بطاعته أو

__________________

(١) هنا بياض في بعض النسخ ، قال المؤلف في كتابه تقريب المعارف : ولا يكون كذلك الا بكونه معصوما. فاقتضى ذلك وجوب رجوع الرئاسات إلى رئيس معلوم والا اقتضى وجود ما لا يتناهى من الرؤساء والإخلال بالواجب في عدله تعالى وكلاهما فاسد.

(٢) كذا في النسخ ، والصحيح : قيل : الشكر.

٨٨

رئيسا مستصلحا به الرعية لا يتم صلاحهم الا بطاعته فيجب الطاعة ههنا في حق صلاح المطيع وانتفاء مفاسده وان لم يتقدم له نعمة يقتضي ذلك.

على أن الرئيس يتحمل من كلفة النظر في مصالح الرعية ومعارضهم [ معرضهم. خ ] لما يوجب شكره المقتضى تعظيمه لعظيم ما أوجب طاعته (١) ، فأما تعظيمه فكاشف عن استحقاقه من الثواب ما لا يستحقه أحد من رعيته حسب ما قدمناه ، وذلك يقتضي ثبوت طاعات للرئيس ، استحق بها ذلك لما قبل النصبة أو بها إذا كان تكلفه بأعباء الرئاسة وصبره على تحمل مشاقها من أعظم الطاعات.

ولا بد من كونه أعلمهم بالسياسة ، لكونها اماما فيها ، وقد علمنا قبح تقليد الجاهل ما لا يعلمه وجعله إماما في شي‌ء يفتقر فيه الى من هو امام عليه فيه.

فأما علمه بالأحكام ففرع لكونه حاكما فيها ، وقد علمنا من جهة السمع كون الامام حاكما في جميع المسألة (٢) ، فيجب كونه عالما [ بها ] لقبح تكليف الحكيم (٣) بما لا يعلمه مكلفة.

وعلمنا من جهة كونه منصوبا للأمر بكل معروف والنهي عن كل منكر ، وذلك يقتضي علمه بالجميع ، لأن الأمر بالشي‌ء والحمل عليه بالقهر فرع العلم بوجوبه ، والنهي عن الشي‌ء والمنع منه بالقهر فرع للعلم بقبحه ، لعلم كل عاقل بقبح الحمل على ما لا يعلم وجوبه ، والمنع مما لا يعلم قبحه.

وليس لأحد أن يقول : فهذا يوجب كون حكام الإمام في البلاد مساوين له في العلم.

لأن ولاية الحكام خاصة فيما علموه ، وما لم يعلموه مردود الى الامام ليحكم

__________________

(١) تعظيما أوجب طاعته. ظ.

(٢) في بعض النسخ : الملة.

(٣) الحكم ، كذا في بعض النسخ.

٨٩

فيه أو ينص على الحكم ، وليست هذه حال الامام لكونه إماما في جميع الأحكام وأما كونه أشجع ، ففرع لكونه إماما في الحرب ، وقد علمنا من جهة السمع كون الإمام إماما في الجهاد ، فيجب كونه أشجع الرعية بل شجاعا لا يجوز عليه الجبن ، لكونه فئة يفزع اليه ، فلو جاز عليه الجبن (١) ولم يؤمن من هزيمة (٢) فيؤدي إلى فساد لا يتلافى ، ألا ترى ثبوت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله يومي أحد وحنين مع انهزام جميع أصحابه الا نفرا يسيرا على وجه لم يجر العادة بمثله ، ولو فرضنا هزيمته ـ والعياذ بالله ـ لاقتضى ذلك فسادا في الدين لا يستدرك ، وهذه حال أمير المؤمنين والحسنين عليهم‌السلام في بلواهم بحروب يقتضي هزيمة الجمع العظيم من الشجعان ، ثبتوا فيها حتى نصروا أو استشهد من استشهد منهم.

ويجب كونه أزهدهم وأعبدهم لكونه قدوة في الأمرين.

وإذا أوجب كون الرئيس بهذه الصفات فلا بد من تميزه بإظهار المعجز على يديه ، أو النص على عينه بقول من قد علم صدقه بالمعجز ، من حيث علمنا تعذر العلم بمن هذه صفاته بشي‌ء غير نص علام الغيوب سبحانه بالمعجز أو ما يستند اليه من نص الصادق عليه سبحانه ، فبطل لذلك مذهب القائلين بالاختيار والدعوة والميراث.

ويبطل هذه المذاهب أن تعليق الإمامة بالاختيار يقتضي بطلان الإمامة أو وجود عدة أئمة أو فسادا لا يتلافى ، من حيث كان اتفاق أهل الاختيار على اجتماع أهل الأقاليم في مكان واحد واتفاقهم على اختيار واحد كالمتعذر ، لعدم الداعي اليه والباعث عليه ، ووقوف الاختيار على أهل كل إقليم ، يقتضي وجود عدة

__________________

(١) في بعض النسخ : الخوف.

(٢) هزيمته.

٩٠

أئمة ، والإجماع بخلاف ذلك ، وفساد الجميع يسقط الإمامة ، وثبوت إمامة أحد المختارين إثبات ما لا حجة يقتضي صحته ، وهو مع ذلك مؤد إلى فساد لا يتوهم صلاحه ، بأن يعتقد أهل كل إقليم ان الذي اختاروه هو أحق بالإمامة من كل مختار ، وأنه يجب على كل مكلف الانقياد له والا يفعل فهو خارج عن الواجب يجب جهاده ، وفي هذا من الفساد ما لا يتلافى ، فبطل كون الاختيار طريقا إلى الإمامة.

وبمثل هذا بعينه يبطل كون الدعوة طريقا إلى الإمامة دعوى جماعة من بني فاطمة عليها‌السلام يتكامل لهم الصفات في وقت واحد فاما القول بامامة الكل أو إطراح دعوى الكل مع فساد الأمرين (١) أو [ وظ ] القول بامامة مدع دون مدع مع عدم الدلالة المميزة له من غيره ظاهر الفساد ، وهو مقتض لما بيناه من اعتقاد أهل كل إقليم صحة امامة من يليهم دون من عداه مع ما في ذلك من الفساد الذي لا يتوهم صلاحه.

ويبطل الدعوة أيضا كون الإمامة موقوفة على مجرد الدعوى العرية من برهان ومعلوم فساد هذا بأوائل العقول.

ولان مثبت هذا المذهب لا يسنده الى دليل عقلي ولا سمعي ولا شبهة في فساد ما لا دليل عليه.

وأما الميراث فعرى من حجة على كونه طريقا إلى الإمامة عقلية ولا سمعية ، ولأنه يقتضي اشتراك النساء والرجال والعقلاء والأطفال والعدول والفساق في الإمامة كاشتراكهم في الإرث ، والإجماع بخلاف ذلك.

وإذا بطلت الطرق المدعاة عدا النص والمعجز ثبت تخصيص معرفة الإمام بهما.

__________________

(١) في بعض النسخ هكذا : مع تساوى الأمرين.

٩١

ولان القول بأن الدعوة أو الميراث طريق إلى الإمامة حادث بعد انقراض زمن الصحابة والتابعين وأزمان بعدها خالية منه ، ولا شبهة في فساد ما هذه حاله من المذاهب.

وأيضا وكل من قطع بوجوب ما بيناه من الصفات للإمام قطع بفساد الاختيار والدعوة والميراث ، وإذا كانت الصفات المعتبرة ثابتة بالبرهان لحقت هذه الفتيا بها في الصفة (١) ، إذ كان الفرق بينهما خروجا عن مقتضى الأدلة وخارقا للإجماع.

وهذه الصفات متكاملة لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه‌السلام وللأئمة من ذريته الحسن والحسين والتسعة المعينين من ولد الحسين صلوات الله عليهم أجمعين ، لأن كل من أثبتها للإمام خص بها هؤلاء المذكورين ، وإذا كانت ثابتة بالبرهان لحق الثاني بالأول.

وأيضا فلا أحد قطع ثبوتها لأحد عداهم ممن ادعيت إمامته بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله والى الان ، فوجب لذلك القطع بفساد إمامتهم أجمع ، لارتفاع القطع بثبوت مالا يكون الإمام إماما من دونه لواحد منهم ، كما يجب مثله لو لم يقطع بثبوت عدالتهم من حيث كانت العصمة شرطا في الإمامة كالعدالة ، فإذا بطلت امامة من عداهم وجب لذلك القول بإمامتهم أو فساد مدلول الأدلة.

وأيضا فلا أحد ادعيت إمامته دونهم الا وقعت منه القبائح أو قرفته (٢) الأمة بها أو بعضها ، وحال من ذكرناه بخلاف ذلك ، لأنه لم يتمكن أحد ممن والاهم أو عاداهم من عيبهم بشي‌ء بغير (٣) ثابتا ولا متحرصا (٤) وهذا معنى

__________________

(١) في بعض النسخ : في الصحة.

(٢) في جميع النسخ : فرقته ، والظاهر ما أثبتناه.

(٣) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : يعير.

(٤) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : متخرصا.

٩٢

المعصوم ، إذ لا مشارك لهم في ذلك إلا الأنبياء ، فوجب لذلك القول بإمامتهم ، ولا يقدح فيما اعتبرناه ما تدين به الخوارج فيهم ، لان الخوارج تقدح في عدالتهم بما وضح برهان حسنه ، وأجمع المسلمون على ذلك فيه ، وكلامنا مختص بتنزيههم عما يثبت قبحه. يوضح ذلك تدين كثير من العقلاء بضلال الأنبياء عليهم‌السلام وكذبهم في دعويهم ولم يقدح هذا الاعتقاد في صدقهم وعلو منزلتهم من حيث أسند إلى مجرد الاعتقاد المعلوم فساده بالحجة.

ومما يدل على إمامتهم صلوات الله عليهم قوله تعالى ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٥) فأمر من لا يعلم بسؤال أهل الذكر ليعلم ، ولم يخص ذلك بشي‌ء ، دون شي‌ء ، وذلك مقتض لعلم المسئولين بكل شي‌ء يسئلون عنه معصومين فيما يفتون به ، لقبح الأمر بمسألة من لا يعلم ما يسئل عنه ، وعدم العلم لفتيا من يجوز عليه الخطاء عن قصد أو سهو ، وإذا ثبت كون أهل الذكر المأمور بمسألتهم في الآية بهاتين الصفتين ثبت تخصيصهما بالمذكورين ، لأنه لا أحد قال بذلك في الآية الأخص بها المذكورين.

وان شئت قل : لا أحد أثبت الصفتين لأحد عداهم ، وكل من أثبتها للمذكورين قال بإمامتهم.

ولان فتياهم إذا كان موجبا للعلم وجب الاقتداء بهم فيه ، لحصول الأمان من زللهم ، دون من لا يوجبه فتياه ولا يؤمن فيه الضلال ، ووجوب الاقتداء بهم برهان إمامتهم ، وبهذا الاعتبار يسقط قول من زعم أن أهل الذكر في الآية هم اليهود والنصارى ، أو القراء ، أو الفقهاء ، لانتفاء الصفتين الثابتتين لأهل الذكر عن كل واحد من هؤلاء باتفاق.

ويدل أيضا على إمامتهم قوله تعالى : ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللهَ

__________________

(٥) سورة النحل ، الاية : ٤٣ وسورة الأنبياء ، الاية : ٧.

٩٣

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ ) (١) فأوجب سبحانه طاعة أولى الأمر على الوجه الذي أوجب طاعته تعالى ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله على كل مكلف حاضر لنزول الاية وناشى‌ء الى انقضاء التكليف وفي كل أمر ، فيجب عموم طاعة اولى الأمر كذلك ، لوجوب إلحاق المعطوف بحكم المعطوف عليه ، وذلك مقتض لامامتهم ، إذ لا أحد وجبت طاعته على هذا الوجه الا من ثبتت إمامته بعد الرسول ، ولا أحد قال بذلك في الآية الأخص بها عليا والحسن والحسين والتسعة من ولد الحسين عليهم‌السلام ، ولان عموم طاعتهم مقتض لعصمتهم ، لأنه لو جاز عليهم القبيح مع إطلاق الأمر بطاعتهم في كل شي‌ء لكان ذلك أمرا بالقبيح المتعذر منه تعالى ، وإذا ثبتت عصمة اولى الأمر ثبت توجه الآية الى من عيناه ، لأنه لم تثبت هذه الصفة لأحد ولا ادعيت له عداهم.

وان شئت قلت : لا أحد قال بذلك في الآية الأخص بها من ذكرناه.

ولأن الأمة في الآية رجلان : قائل انها في أمراء (٢) السرايا عن ولاية أبي بكر وعمر وعثمان وعلي عليه‌السلام خاصة ، وقائل انها في أئمة الهدى عليهم‌السلام ، وقد علمنا اختصاص طاعة اولى الأمر بمن ولو عليه ، وبما كانوا أمراء فيه ، وبالزمان الذي اختصت به ولايتهم ، وطاعتهم كما ترى خاصة من كل وجه ، فطاعة [ وطاعة ظ ] اولى الأمر في الآية عامة من كل وجه ، فيجب لفساد أحد القولين صحة الأخر ، وصحته تقتضي امامة المذكورين عليهم‌السلام.

وقد كان بعض من لا بصيرة له قدح في عموم طاعة اولى الأمر ، بأن قال : عموم طاعته سبحانه ورسوله غير مستفاد من الآية ، وانما يعلم بدليل غيرها ، فيجب اقامة دليل من غير الظاهر على عموم طاعة اولى الأمر.

__________________

(١) سورة النساء ، الاية : ٥٩.

(٢) أمر ، كذا في النسخ. ولعل الصحيح ما أثبتناه.

٩٤

فأجبنا أن مطلق الأمر بالطاعة يقتضي تناوله لكل مخاطب في كل زمان وأمر ، وانما يفتقر التخصيص إلى دلالة ، وإذا كان هذا معلوما من مطلق كل خطاب ، وعطف بأولى الأمر على ما تقدمت دلالة الخطاب على عمومه ، وجب إلحاقهم به. وبأنا لو سلمنا أن عموم طاعته سبحانه ورسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله معلوم بدليل غير الآية ، لم يقدح ذلك في مقصودنا ، من حيث كان المخاطب العالم بعموم الطاعتين إذا قيل له أطع الله ورسوله فهم بما تقدم له من الدلالة عموم الطاعة ، فإذا عطف على هذه الطاعة بأولى الأمر وجب عليه إلحاقهم في عموم الطاعة بما تقدم له العلم بعمومه وخوطب به.

ويدل أيضا على إمامتهم عليهم‌السلام قوله تعالى ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (١) فأخبر سبحانه قاطعاً بأن الرد الى اولى الأمر يقتضي العلم بما يستنبطه الراد إليهم ، كاقتضائه مع الرد الى الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وذلك يقتضي صفتي العلم والعصمة لأولي الأمر حسب ما أوجبناه في أية أهل الذكر ، وذلك يقتضي تخصيص الآية بأئمتنا ، ووجوب الاقتداء بهم ، وثبوت إمامتهم حسب ما رتبناه فيما سلف.

ويدل على ذلك أيضا قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ) (٢) يعني الاقتداء بهم ، إذ الأمر بالكون معهم في المكان لا فائدة فيه ، وذلك يقتضي وجوب الاقتداء بهم في كل شي‌ء ، لأنه سبحانه يخص (٣)

__________________

(١) سورة النساء ، الاية : ٨٣.

(٢) سورة التوبة ، الاية : ١١٩.

(٣) كذا في النسخ. ولكن قال في تقريب المعارف : ومنها قوله تعالى ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصّادِقِينَ ) فأمر باتباع المذكورين ولم يخص جهة الكون بشي‌ء دون شي‌ء فيجب اتباعهم في كل شي‌ء.

٩٥

شيئا من شي‌ء ، ولا يحسن الأمر بالاقتداء على هذا الوجه مع جواز القبيح على المقتدى به ، وإذا ثبت عصمة الصادقين ثبت توجه الخطاب الى ما ذكرناه لما بيناه من الاعتبار.

ولأنه تعالى وصف المأمور بأتباعهم بالصدق عنده سبحانه ، وذلك مانع من توجهه الى من يجوز عليه الكذب ، لان جوازه يمنع من القطع بالصدق عند الله ، وإذا ثبت عصمتهم بهذا الاعتبار أيضا ثبت تخصيص الذكر في الآية بأئمتنا عليهم‌السلام.

ولأنه سبحانه وصفهم بالصدق فمنع ذلك من كذبهم ، من حيث كان حصوله منهم يقتضي وصفهم به وذلك مناف لخبره تعالى.

فكأنه سبحانه فيما أمر به من مسألة أهل الذكر وطاعة اولى الأمر والرد إليهم والاقتداء بالصادقين ، أمر بمسألة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد وجعفر وموسى وعلي ومحمد وعلي والحسن والحجة المهدي عليهم‌السلام وطاعتهم والرد إليهم والاقتداء بهم بأسمائهم وأعيانهم ، إذ لا فرق بين أن ينص على الأسماء المخصوصة ، أو على الصفات المختصة بالمسمين ، بل النص على الصفات أظهر في الحجة ، لحصول الاشتراك في الأسماء ، وانتفائه في الصفات المختصة ، وإذا كان لو نص على إمامتهم والاقتداء بهم بأسمائهم وأنسابهم لم يحصل على قلب مكلف ريب في أمرهم ، وكان النص على الصفة المختصة أظهر في الحجة ، وجب لنصه عليها ارتفاع الشك في إمامتهم.

ويدل على ذلك من جهة السنة ما اتفق عليه نقلة (١) الشيعة وفي نقلهم الحجة ، ورواه أصحاب الحديث من غيرهم ، ان النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله قال في غير موطن : « اني

__________________

(١) اتفق على نقله الشيعة.

٩٦

مخلف فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي أهل بيتي ما ان تمسكتم بهما لن تضلوا ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض » وقال في مقامات : « مثل أهل بيتي مثل سفينة نوح من ركبها نجا ومن تخلف عنها وقع في النار » وفي رواية « هلك » وفي رواية « غرق » وقال في مواضع أخر : « مثل أهل بيتي فيكم كباب حطة من دخله كان آمنا ».

ووجه الحديث الأول ، أنه صلى‌الله‌عليه‌وآله أمر على جهة الاخبار بالتمسك بكتاب الله وعترته ، وخص المرادين من العترة بصفة يقتضي عصمتهم ، هي أمان المتمسك بهم من الضلال ، إذ لو كان الخطاء جائزا على المتمسك لم يكن المتمسك آمنا من الضلال ، ولأنه صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع بينهم وبين الكتاب المهيمن على كل حجة في وجوب التمسك ، وذلك مقتض لكونهم حججا يجب الاقتداء بهم كالكتاب ، ولأنه صلوات الله عليه وعليهم أوجب التمسك بهم في كل شي‌ء ببرهان إطلاق التمسك من غير تخصيص ، ولمساواته في ذلك بينهم وبين الكتاب الذي يجب التمسك بجميعه ، وذلك مقتض للاقتداء بأقوالهم وأفعالهم المتعلقة بالتكليف ، وهذا معنى فرض الطاعة الذي لا يستحقه إلا الامام وهو دال أيضا على عصمتهم لما بيناه من ان عموم الاقتداء يقتضي عصمة المقتدى به.

ووجه عموم الحديثين (١) الثاني والثالث ، انه صلى‌الله‌عليه‌وآله نص على نجاة متبع أهل بيته وأمانه من الضلال ، وذلك برهان عصمتهم ، إذ لو جاز عليهم الخطاء لم يكن القطع بنجاة متبعهم وأمانه من الضلال ، وثبوت عصمتهم مقتض لامامتهم لأنه لا أحدا فرق بين الأمرين ، وثبوت هذه الأمور فيمن تعلق به مقتضى الاخبار دليل على تخصيصها بمن عيناه من الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم دون سائر الذرية ، لأنها لم يثبت لأحد عداهم ولا ادعيت له.

__________________

(١) في بعض النسخ هكذا : ووجوب جهة عموم الحديثين.

٩٧

ويدل أيضا على إمامتهم عليهم‌السلام عموم العلم لكل مخالط بنباهة (١) قدرهم في البأس ، وعظم [ قدر. خ ] منزلتهم عند الولي والعدو ، وتعظيم الشيعة لهم ، وترشيحهم لامامة الأنام ، وتدين أوليائهم بذلك فيهم ، وكثرة أعدائهم له (٢) من قريش المتغلبين أولا وآخرا على خلافة الإسلام وأعوانهم عليها ، واجتهاد الكل في الغض منهم ، واضافة وصمة إليهم ، ثابتة أو متخرصة ، وسلامة أعراضهم من ذلك ، وبراءة ذمتهم منه عند الكل ، وشهادة الجميع بضلالة من قرفهم بشي‌ء من القبائح ، وهذا برهان عصمتهم وكونهم حججا حبس الله الألسن عن التحرز (٣) عليهم ما يقدح في وقارهم ارادة منه سبحانه وتعالى للاحتجاج بهم على خلقه.

ومما يدل على إمامتهم عليهم‌السلام بظهور (٤) علمهم في العقليات والشرعيات والآداب وتبريزهم في ذلك على أهل الأعصار ، وحاجة الكل إليهم واستغنائهم عنهم ، وثبوت حجتهم فيه على كل مشار اليه من علماء مخالفيهم ، واستمرار ذلك في الأزمان والأعيان ، وسلامته من التقصير عند المعضلات ، والعجز عند المشكلات ، مع فقد العلم والظن بأحد يضافون اليه بتعليم ، أو ينسبون اليه بتفهيم ، مع دعوى شيعتهم بنبوتهم (٥) بذلك (٦) من جميع الأيام (٧).

__________________

(١) بنهاية.

(٢) كذا في نسخ.

(٣) كذا في بعض النسخ وفي بعضها الأخر التحرض ، ولعل الصحيح : التخرص.

(٤) كذا.

(٥) كذا في النسخ.

(٦) في بعض النسخ : وبذلك.

(٧) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : الأنام.

٩٨

واجتهاد ملوك الأزمنة من أعدائهم في تكذيبهم ، وتوفر دواعيهم إلى إظهار تخرصهم ، لما في ثبوته من فساد أمرهم ، ولزوم الحجة لهم ، وتعذر ذلك على مر الزمان والى الان ، برهان واضح على كونهم حججا لله تعالى وحفظة لدينه ، لوقوف ذلك التخصيص عليه سبحانه كالأنبياء عليهم‌السلام ، إذ لم تجر العادة في أحد تقدم في علم وبرز فيه ، الا ومن يضاف اليه معروف ، ومن ينسب تعلمه منه مشهور ، ومع ذلك فقصوره عن كثير من الأجوبة ظاهر وعجزه عند المعضلات حاصل ، وانقطاعه حين المناظرة ثابت.

ويدل على إمامتهم عليهم‌السلام ما حصل من تعظيمهم بعد الوفاة من الدائن بإمامتهم والمخالف فيها ، وقصد مشاهدهم من أطراف البلاد ، والخضوع لتربهم ، والتوسل الى الله بحقهم ، والعياذ بها من جبابرة الزمان ، والامتناع بذمتها من أهل الطغيان ، مع ارتفاع الرجاء والخوف عاجلا بشي‌ء من ذلك ، وحصول ضد هذه القضية في المتغلبين عليهم في إمامة الأيام (١) مع علو سلطانهم وكثرة أعوانهم ، وخمول ذكرهم بعد الوفاة واندراس قبورهم بعد الممات ، من الولي الدائن بخلافتهم فضلا عن العالم بضلالتهم ، وهذا برهان واضح على منزلتهم عند الله وثبوت حجتهم لديه.

ومما يدل على إمامتهم عليهم‌السلام ثبوت النص من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن كل منهم على الذي يليه في الحجة وهو على ضربين :

أحدهما نص على العدد المخصوص كقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله للحسين عليه‌السلام : « أنت إمام ، ابن إمام ، أخو إمام ، أبو أئمة حجج تسع ، تاسعهم قائمهم أعلمهم أحلمهم أفضلهم » وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « عدد الأئمة بعدي عدد نقباء موسى ». وحديث اللوح ، وحديث الصحائف وحديث الخضر عليه‌السلام ، وأمثال ذلك مما نقله محدثوا العامة ، وأطبق

__________________

(١) الأنام

٩٩

عليه ناقلوا الإمامية ، ولا أحد قال بهذا العدد المخصوص الا خصه بما ذكرنا.

والضرب الثاني نص كل امام منهم على ولده من بعده ، وورود هذا الضرب من النص في نفس (١) الإمامية متواتر يقتضي ثبوته.

من أراد الوقوف على ذين الضربين من النص فليتأمل ظرف ( كنا ) النقل وما أورده من ذلك شيوخنا رضي‌الله‌عنه.

ويدل على إمامتهم عليهم‌السلام ظهور المعجزات على أيديهم كظهورها على أيدي الأنبياء عليهم‌السلام ، وطريق العلم بها تواتر الشيعة الإمامية بظهورها على يد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وأعيان الأئمة من ذريته صلوات الله عليهم ، كتواتر الناقلين لمعجزات النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، يعلم ذلك من حالهم كل متأمل لنقلهم ، فاذا ظهرت المعجزات على أيديهم مقترنة بدعواهم للإمامة ، وثبت النص من الله تعالى بها عليهم زال الريب في ثبوتها لهم.

ويدل أيضا على إمامتهم صلوات الله عليهم حصول العلم لكل مخالط لهم وسامع لأخبارهم ، بدعواهم الإمامة في أنفسهم ، وكونهم حججا لا يسع أحدا مخالفتهم ، وتدينهم بضلال المتقدم عليهم ومن اتبعه ، وظهور هذه الدعوى من (٢) شيعتهم فيهم وفي (٣) من خالفهم ، وصريح فتياهم بذلك واحتجاجهم له مع اختصاصهم بهم ، وحمل حقوق الأموال إليهم ، وأخذ معالم الدين عنهم وتدينهم بتخصيص الحق بفتياهم ، وضلال من خالفها ، مقتض لثبوت هذه الدعوى ، والحكم بصحتها ، إذ لو كانوا كاذبين فيها أوجب الحكم بضلالهم ، ولا أحد من الأمة يعتد بقوله يذهب الى ذلك فيهم ، وخلاف الخوارج قد بيّنا

__________________

(١) في بعض النسخ : نفوس.

(٢) في بعض النسخ : وشيعتهم.

(٣) في بعض النسخ : ومن مخالفيهم.

١٠٠