الكافي في الفقه

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

الكافي في الفقه

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام العامّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

وقال في الإباحة ( كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ ) (١) ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَالطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (٢) ( فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللهِ ) (٣) ، وذلك مانع من كون الحرام رزقا ، إذ من المحال أن يكون ما تمدح سبحانه بفعله ومدح على التصرف فيه وأباح تناوله ، وهو (٤) ما كرهه ونهى عنه وتوعد عليه وتبعد عقلا وسمعا بالمنع من التصرف فيه ، وكل شي‌ء يوصف بأنه رزق يوصف بأنه ملك وما لا يوصف بأنه رزق لا يصح أن يوصف بملك ، لا يصح أن يقال فلان مالك لكذا مع العلم بأنه غاصب له ، وانما يوصف بملك ما يصح أن يتصرف فيه من غير منع وذلك معنى الرزق.

والرخص من قبله تعالى إذا كانت أسبابه من فعله تعالى بتكثير الغلات أو الثمار أو اماتة الخلق أو تقليل شهواتهم الى المبيع ، لاختصاص هذه الأمور به تعالى فاذا وقع الرخص لهذه الوجوه فهو إحسان منه تعالى ، ويجوز أن يكون لطف للمحسن إليهم أو لغيرهم ، وان كان سببه تسعير الظالم وجبر أرباب السلع على بيعها بيسير الثمن فالرخص مضاف الى فعل أسبابه ، وهو قبيح لإسناده الى تعدى المتغلب على ذوي الاملاك ، وان كان سببه إخراج ما يملكه من الغلات وغيرها إلى أسواق المسلمين ، وأخذ المحتكرين بذلك فكثرت لذلك فحصل الرخص فهو مضاف اليه وهو حسن يستحق فيه الشكر بكونه إحسانا.

وانما يكون الغلاء من قبله إذا كانت أسبابه من فعله سبحانه بمنع الغيث

__________________

(١) سورة طه ، الاية : ٨١.

(٢) سورة الأعراف ، الاية : ٣٣.

(٣) سورة الجمعة ، الاية : ١٠.

(٤) في جميع النسخ : « وهو » والظاهر زيادة الواو.

٦١

وحصول الجدب لذلك (١) إهلاكه الغلات أو الثمار ببعض الآفات أو تكثير الخلق أو تقليل شهواتهم الى المنهيات ، لاختصاص هذه الأمور به سبحانه دون خلقه ، فلا شبهة في كون هذه الغلاء لطفا أو عقابا ، وان كان سبب الغلاء احتكار الظلمة الأقوات وغيرها أو منع المسافرة أو جبرهم على البيع بأعلى السعرين فهو مضاف الى من فعل أسبابه دونه تعالى ، والغلاء على هذا الوجه قبيح لاستناده الى وجه قبيح.

وأما الأجل فهو الوقت ، يقال : دين مؤجل أى موقت ، ومنه قوله تعالى : ( فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ ) (٢) أي آخر وقت عدتهن ، وإذا صح هذا فأجل الموت وقت حدوثه ، وأجل القتل وقت حدوثه ، فكما لا يصح أن يقال ان للموت أو القتل الحادث وقتين ، كذلك لا يجوز أن يقال أجلان.

فأما الموت فلا يكون الا من فعله لكونه عبارة عن انتفاء الحيوة بغير سبب ظاهر ، بل بأحد أمرين مختصين بمقدوره تعالى ، اما بأن (٣) يفعل سبحانه ضدا للحيوة يسمى موتا متى وجد انتفت الحيوة ، أو نقض باطن البنية بنفي تأليفها بضد ، أو نفى بعض ما يحتاج إليه الحيوة من المعاني ، أو تكثيره على الحاجة اليه أو تقليله فتنتفي الحيوة ، وبخروج محلها عن الصفة التي لا يصح حلولها فيه من دونها ، وبهذا يعلم خروج الذات عن كونها حية متى زادت الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة أو نقصت عن مقدار الحاجة كما يعلم انتفاء الحيوة بقطع الرأس والتوسط (٤) ، وكل من هذه الأمور خارج عن مقدور

__________________

(١) وإهلاكه. ظ.

(٢) سورة الطلاق ، الاية : ٢.

(٣) في بعض النسخ هكذا : اما بما يفعل سبحانه ضدا للحيوة.

(٤) في بعض النسخ : التوسيط.

٦٢

العباد (١).

وأما القتل ففعل القاتل لكونه عبارة عن نقض ظاهر البينة كقطع الرأس أو التوسط أو الجراحة في القتل وتعلق ذلك أجمع بفاعله.

والموت لا يكون الا حسنا لاختصاص فعله به سبحانه ، والقتل قد يكون حسنا إذا كان بأمره وقبيحا إذا عرى من اذنه سبحانه.

وقد كان جائزا في مقدوره تعالى أن يعيش من مات أو قتل أكثر مما عاش وأقل منه لولا حدوث الموت أو القتل في الوقت الذي حدثا فيه ، لكونه تعالى قادرا على كل من تبقيته واخترامه على ما أراد منهما ، فمحيل ذلك جاهل بكونه تعالى قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا.

فأما إذا وقع الموت أو القتل في وقت معين قد علم الله سبحانه وقوعه فيه بفعله تعالى أو فعل غيره فلا يجوز أن يقال قد كان جائزا لو لم يمت أو يقتل أن يعيش زمانا آخر أو يخترم قبل ذلك ، أو لو لم يقتل لمات أو عاش ، لان وقوع الموت أو القتل في وقت مخصوص يقتضي تقدم العلم به سبحانه (٢) والعلم يتعلق بالشي‌ء على ما هو به فلا يجوز خلافه ولا ارتفاع معلومة.

وكونه تعالى عالما بذلك لا يقتضي وجوب وقوعه به تعالى ولا بغيره ولا عذر للظالم فيه ، لان العلم كاشف عن كون المعلوم على ما هو عليه وليس بجاهل (٣) له كذلك ولا موجب.

الا ترى أن علمنا بكون زيد مؤمنا أو عمرو كافرا وهذا الشخص بشرا

__________________

(١) في بعض النسخ : مقدر العباد.

(٢) تقدم علمه سبحانه به. ظ.

(٣) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : بجاعل له.

٦٣

وهذا فرسا وهذا حملا (١) وهذا حيا ليس بموجب لكون هذه المعلومات على الصفة التي تعلق العلم بها ، بل بعضها بإيثار المكلف والبعض الأخر بفعله تعالى ، كشف العلم بها للعالم ما هي عليه في أنفسها ، وان استحال أن يكون الكافر في حال كفره مؤمنا والمؤمن كافرا والإنسان في حال تعلق العلم به فرسا والفرس إنسانا والحي جمادا والجماد حيا ، لان متعلق (٢) العلم يقتضي كون معلومة على ما تعلق به ، وبهذا الحكم فارق سائر الاعتقادات.

[ الوجه في بعثة الرسل بالشرائع ](٣)

والوجه في بعثة الرسل بالشرائع كونها بيانا لمصالح المبعوث إليهم من مفاسدهم ، وقد بينا وجوب ماله هذه الصفة ، لكونها لطفا من حيث كان [ اللطف ] لا يختص شيئا معينا ، فغير ممتنع أن يعلم سبحانه ان من جنس أفعال المكلفين أو بعضهم ما إذا فعلوه دعا الى الواجب العقلي وصرف عن القبيح ، وما إذا فعلوه أو اجتنبوه دعا الى القبيح وصرف عن الواجب ، وما إذا فعلوه أو اجتنبوه دعا الى المندوب.

وإذا علم ذلك وجب في حكمته سبحانه أعلام المكلف به ليفعل ما هو مصلحة له كصلاة الخمس وصوم الشهر ، ويجتنب ما هو مفسدة له كالزنا والربا (٤) وشرب الخمر ، لكون ذلك واجبا في حق كونه (٥) سبحانه مريدا (٦)

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر : جمادا.

(٢) كذا في النسخ.

(٣) هذا العنوان ليس في النسخ.

(٤) الريا. كذا في بعض النسخ.

(٥) كذا في النسخ.

(٦) في بعض النسخ : مزيدا.

٦٤

به صلاح المكلف حسب ما قدمناه.

ولا يعترض هذا الوجه ما تهذى به البراهمة (١) من قولهم : ان العاقل غنى بعقله عن البعثة ، لعلمه به حسن (٢) الحسن وقبح القبيح ، والبعثة لا يجوز أن تتضمن تقبيح حسن ولا تحسين قبيح فهي عبث.

لاتفاقنا وهم [ وإياهم ظ ] على وجوب اللطف في حكمته سبحانه ، وانه لا يختص شيئا معينا ، وانه غير ممتنع أن يكون وجود شجرة في فلاة أو صخرة في جبل لطفا لبعض المكلفين ، وذلك مسقط لشبهتهم لجواز تعلق اللطف بأفعال المكلف كتعلقه بالجماد ووجوب بيانه له.

فتسليم اللطف وأنه لا يختص شيئا معينا وإنكار البعثة مناقضة ظاهرة ، والمنازعة في اللطف وأحكامه جهل بحكمته سبحانه الذي لا يمكن معه كلام في النبوة ولما يرتفع بالنظر في أدلة عدله سبحانه.

على أن قسمتهم يقتضيه المعقول (٣) الى قبيح لا يحسن وحسن لا يقبح فاسدة بالضرورة ، لعلم كل عاقل بانقسام ما يقتضيه إلى أربعة أقسام :

واجب لا يقبح كالصدق والإنصاف ، وقبيح لا يحسن كالظلم والكذب ، ومندوب لا يقبح كالإحسان وحسن الخلق والأمر بالحسن والنهي عن القبيح ، ويجوز أن يجب إذا كان وصلة الى واجب ، ومباح كالأكل والشرب والتصرف في

__________________

(١) قيل : سموا براهمة لانتسابهم إلى إبراهيم عليهم‌السلام ، وذلك خطأ ، فإنهم المخصوصون بنفي النبوات أصلا فكيف يقولون بإبراهيم عليهم‌السلام ، وقيل لانتسابهم الى رجل يقال له براهم وقد مهد لهم نفى النبوات أصلا. راجع الملل والنحل للشهرستانى.

(٢) لعلمه بحسن الحسن ، كذا في بعض النسخ.

(٣) كذا في بعض النسخ ، ولعل الصحيح هكذا : ما يقتضيه العقول.

٦٥

الجهات المعلوم حسنه متى علم العاقل أو ظن كونه وصلة الى حسن ، ووجوبه متى كان وصلة الى واجب وقبحه متى كان وصلة الى قبيح.

وإذا كان هذا متقررا في العقول وعلم بأخبار الرسل عليهم‌السلام عن علام الغيوب سبحانه كون المندوب العقلي وبعض المباح داعيا الى الواجب العقلي وجب وكون بعض المباح داعيا الى القبيح قبح ، وكون بعض آخر داعيا الى المندوب العقلي علم كونه مسنونا ، كما تكون هذه حاله مع الظن.

وهذا قاضٍ بفساد معتمدهم وموجب للقول (١) بحسن البعثة ووجوبها متى كانت بيانا لما لا سبيل الى بيانه الا من قبلها لوقوف ذلك على علم مرسل الرسل سبحانه.

وبعد فلو لم يكن في العقول الا واجب وقبيح لم يمنع ذلك من حسن البعثة بالترغيب فيه وتقوية الدواعي اليه والزجر عن القبيح وتوفير الصوارف عنه ببيان المستحق على ذلك من الثواب والعقاب وكيفيتهما وصفة فعلهما ومبلغهما والحال التي يفعلان فيها إذا كان العلم بذلك غير مستدرك بالعقل.

وبهذا يسقط أيضا ما يتجاهلون به من دعواهم أن الأنبياء جاءت بما يقبح في العقول من الشرائع ، لأن ما جاءوا به من صلاة وزكاة وصوم وجهاد واجتناب الزنا والريا [ الربا ] والخمر وغير ذلك من العبادات والقبائح لا يجري في القبح مجرى الظلم والكذب بغير شبهة ، وانما يقبح إذا خلت من غرض مثله أو كان الغرض به قبيحا ، والشرائع خارجة عن الوجهين لعلمنا بكونها داعية وصارفة الى ما يستحق به الثواب ويتحرز له [ عنه ظ ] من العقاب بقول من ثبت صدقه على العالم بذلك سبحانه ، وثبوت كونها كذلك يخرجها من باب العبث ويوجب كون الغرض بها حكمه كسائر الأفعال والتروك الجارية هذا

__________________

(١) في بعض النسخ : للعقول.

٦٦

المجرى في الشاهد.

ومن حق المبعوث أن يكون معصوما فيما يؤديه من المصالح والمفاسد من حيث كان تجويز الخطأ عليه في شي‌ء من ذلك عن سهو أو عمد ترفع الثقة بشي‌ء مما جاء به ، ويمنع من امتثاله ، لوقوف الامتثال على علم المكلف كون ما أمر به صلاحا وما نهى عنه فساداً ، وتجويز الخطأ عليه يرفع الثقة بشي‌ء مما أتى به ، فوجب لذلك القطع على عصمته فيما يؤديه ، ولهذا الاعتبار أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء عليهم‌السلام في الأداء ، لعلمهم بان تجويز الخطاء فيه يسقط فرض الشرائع فعلا وتركاً.

ومن حقه أن يكون معصوما من جميع القبائح صغائرها وكبائرها ، لان تجويز القبيح عليه يقتضي التنفير عنه ، لان من علم مواقعا للقبيح أو جوز عليه ذلك تنفر النفوس عن اتباعه ولا تسكن اليه سكونها الى من لا يجوز منه القبيح ، إذا كان الغرض في بعثة النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله العمل بما يأتي به وكان ذلك فرعا لصدقه الموقوف على النظر في معجزة المتعلق بحصول داع اليه وجب تنزيهه عن كل شي‌ء نفر عنه.

ولهذا الاعتبار نزهة الكل الفظاظة والغلظة والجنون والجذام والبرص وان كان ذلك حسنا ، من حيث كان مقتضيا للتنفير عنه ، وله وجب تنزيهه عن كفر الإباء وخساستهم في الناس وعهر الأزواج من حيث كان المرء يعير بكفر آبائه وخساستهم وان رتبة من تسأله الفضلاء الأبرار في النفوس بخلاف رتبة من تسأله الفجار وذوو الدنائة.

ولذلك نجد العقلاء يتمدحون بفضل آبائهم وعلو قدرهم ويذمون من تسأله الأراذل ويصغرون به وان كان فاضلا ، وكذلك الحكم في عهر الأزواج وكونه غاضا من قدر أزواجهن بغير شبهة ، وإذا وجب تنزيههم عليهم‌السلام من كل

٦٧

منفر وان كان حسنا فأولى بالتنزيه المنفر القبيح.

وأيضا فإن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله يستحق التعظيم على الإطلاق والاستخفاف به كفر ، ولو كان ممن يصح منه القبيح لوجه ، توجه الاستخفاف اليه متى أوقعه ، وكونه مستحقا لمطلق التعظيم مانع من ذلك ، فاقتضى هذا الاعتبار أن لا يبعث الله تعالى من يعلم من حاله إيثار شي‌ء من القبيح ، لقبح تحريم الاستخفاف والحكم بكفر فاعله مع وجوب فعله.

ولا طريق الى معرفته الا ظهور المعجز عليه ، أو نص من علم صدقه عليه ، لتعلق دعوته بما لا يعلمه الا القديم سبحانه ، فيجب وقوف تصديقه عليه سبحانه ، ولا أمر يصح كونه برهانا من قبله تعالى على صدقه الا فعل مختص بمقدوره تعالى ينوب مناب قوله تعالى : صدق هذا على فيما يؤديه عنى ، مختص بدعوته أو دعوة من نص على نبوته ، إذ لا فرق في تصديق من ادعى الإرسال من بعض الملوك الحكماء بين أن يقول : صدق هذا المدعي ، أو يفعل ما يجعله دلالة على صدقه مما لم تجر عادته به ، وكذلك حكم النص المدلول على صدقه في كونه نائبا مناب التصديق بنفس القول أو الفعل الخارق للعادة.

ويفتقر المعجز الدال على صدق المدعي الى شروط ثلاثة : أحدها أن يكون خارقا للعادة ، وثانيها أن يكون مختصا بمقدوراته سبحانه ، وثالثها أن يكون متعلقا بدعواه.

واعتبرنا الشرط الأول ، لأن المعتاد وان كان مختصا به سبحانه كخلق الولد عند الوطي ونبات الحب عند الحرث والسقي وطلوع الشمس من المشرق ، لا يقف على مدع ولا يميز صادقا من كاذب ، ومن شرط المعجز الإبانة وطريق ذلك اعتبار ما جرت العادة به وكون الحادث خارجا عنها ، كفلق البحر وحمل الجبل وقلب العصا حيّة.

٦٨

واعتبرنا الشرط الثاني ، لان من عداه سبحانه يصح منه إيثار القبيح فلا يؤمن منه تصديق الكذاب وبعثة الصادق بالمفاسد ، وذلك مانع من اتباع الداعي ، وطريق العلم بذلك أن يكون الخارق للعادة مما يختص جنسه بمقدوره كالجواهر والحياة وغيرهما.

واعتبرنا الشرط الثالث لأنه لو تكامل الشرطان ولم يتعلق الحادث بدعوة مدع معين لم يكن مدع بالتصديق أولى من مدع ، من حيث علمنا أنه لو حدث في السماء أو في الأرض حادث لم تجر العادة به مما يختص القديم سبحانه بالقدرة عليه غير متعلق بدعوة مدع ، لم يصح من أحد أن يجعله دلالة لعدم التعلق بينه وبين كل مدع.

وطريق العلم بالمعجزة المشاهدة ، والخبر المعلوم صحته ، لاستناده الى قول صادق لا يجوز كذبه أو تواتر ، وهو على ضربين :

أحدهما : بسبق العلم بمخبره لحال النظر في صفات ناقله (١) كوجود بغداد والبصرة ووجود بدر وحنين وصفين والجمل ، وما هذه حاله يجرى مجرى العلم الحاصل بالمدرك في البعد عن الشبهة ، وان اختلف الطريقان.

والضرب الثاني : من التواتر هو ما يقف العلم به على العلم بصدق ناقلية وانما يعلم صدقهم لتعذر الكذب عليهم ، وانما يعلم ذلك من واحد وجهين :

أحدهما : بشاهد الحال كالجماعة التي تنقل ركوب الأمير أو قتل الوزير على صفة لا يصلح معها اتفاق ولا تواطؤ ، وهذا الضرب من التواتر لا يفتقر الى بلوغ الناقلين حدا متواترة (٢) من الكثرة وتنائى الديار ، بل كل من تأمله علم صحة المخبر عنه وان لم يبلغوا عشرة.

__________________

(١) العبارة ناقصة ظاهرا.

(٢) كذا في بعض النسخ. ولعل الصحيح : حده أو حد التواتر.

٦٩

الثاني : أن يبلغوا حدا (١) من الكثرة واختلاف الدواعي وتنائى الديار ينقلون لفظا واحدا عن معروف غير ملتبس كنقل الناقلين من المسلمين معجزات نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله ومن الشيعة النص الجلي ، من حيث علمنا أن مثل هذين الفريقين مع ما نجد كل فريق منها عليه من الكثرة وتنائى الديار وتباين الأغراض لا يصح فيهم افتعال لفظ واحد على جهة الاتفاق ، كما لا يصح لكل شاعر من إقليم واحد أن ينتظم بيتا من الشعر فيتفق ذلك لكل شاعر فيه ، والتواطؤ بالاجتماع في مكان واحد فرع لثبوت التعارف بينهم ، وقد علم ارتفاعه (٢) ممن ذكرناه من ناقلي الفريقين ، ولو وقع لارتفع الريب فيه ، لأن أهل البلاد المتباعدة وذوي الأغراض المتباينة إذا رحلوا من أماكنهم إلى مكان واحد ليبرموا أمرا لم يخف ذلك من حالهم على أحد عنى بالأخبار.

وكثرة هؤلاء الناقلين بعد قلة يجوز منهم لها الافتعال يمنع منه سببان :

أحدهما : أن النقل الذي بينا صدق ناقله يتضمن أمرين. أحدهما لفظ الخبر ، والثاني صفة المنقول عنه ، فماله آمنا الكذب في أحد الأمرين يجب أن نأمنه في الآخرة.

والثاني : عدم العلم بأعيان مفتعلة وزمانه كالعلم بابتداء الخوارج والقول بالمنزلة بين المنزلتين ، ونحلة النجار والأشعري وابن كرام (٣).

__________________

(١) حده. ظ.

(٢) في بعض النسخ : انتفاؤه.

(٣) النجارية أصحاب الحسين بن محمد النجار ، وأكثر معتزلة الري وما حواليها على مذهبه ، وقد مات في حدود سنة ٢٣٠.

والأشعرية أصحاب أبي الحسن على بن إسماعيل الأشعري ، توفي سنة ٣٣٤ والكرامية أصحاب أبى عبد الله محمد بن كرام ، مات سنة ٢٥٥.

وأول من قال بالمنزلة بين المنزلتين هو وأصل بن عطا المتوفى ١٣١ وتابعة على ذلك عمرو بن عبيد المتوفى ١٤٤. راجع الملل والنحل للشهرستانى.

٧٠

فمتى عرى النقل من الأوصاف المذكورة التي يصح معها الكذب والصدق ثبت صدق الناقلين ، وان كان الأمر بخلاف ذلك تعذر العلم بصدق الناقلين ووجب الحكم على خبرهم بكونه واحدا يصح دخول الصدق والكذب فيه وان كثر الناقلون ، فان كانوا ينقلون عن طبقة أخرى وجب أن يثبت لها ما ثبت لهذه من الصفة التي يتعذر معها الكذب ، ثم هكذا حال كل طبقة تنقل عن اخرى قلوا أم كثروا ، وذلك فرع العلم بأعيان الأزمنة المتصلة (١) بالمنقول حلله (٢) كل زمان فيه ناقلون لا يجوز عليهم الكذب. وقلنا ذلك لان الجهل بالزمان يقتضي الجهل بمن فيه ، والعلم بالزمان مع الجهل بمن فيه و (٣) من أعيان الناقلين يمنع من القطع باتصال الطبقات في النقل وتجويز انقطاعه يرفع الثقة بصحته.

فمتى علم ظهور المعجز على يد مدعى الإرسال من أحد الطرق المذكورة وجب النظر فيه لحصول الخوف الشديد بتركه ، ومتى يفعل مكلف النظر فيه ما يجب عليه منه بشروطه ينكشف له حال الصادق المصدق من الكاذب المخرق (٤)

ولا طريق الى نبوة أحد من الأنبياء الا من جهة نبينا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى‌الله‌عليه‌وآله لانسداد طريق العلم باتصال أعيان الأزمنة مشتملة على متواترين بمعجزاتهم من الان و (٥) الى حين دعوتهم ، وتعذر العلم بصحتها من دون ذلك حسب ما

__________________

(١) في بعض النسخ : الأزمنة المتعلقة بالمنقول.

(٢) كذا في أكثر النسخ ، وفي بعضها : كما حلله ، ولم نهتد إلى صحيحة.

(٣) الظاهر زيادة الواو.

(٤) كذا في بعض النسخ.

(٥) كذا في النسخ ، والظاهر زيادة الواو.

٧١

دللنا عليه.

وهذا برهان واضح على سقوط فرض العمل بشرائعهم ، إذ لو كان تكليفا (١) ثابتا لوجب أن يكون لمكلفها طريق الى العلم بها ، لقبح تكليف العمل مع تعذر العلم به.

والدلالة على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله من وجهين : أحدهما القرآن المعلوم ضرورة اختصاصه به ، والأخر المعجزات الخارجة عنه.

والقرآن دال على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله من وجوه :

منها : حصول العلم بتحديه الفصحاء ، وتقريعهم بالعجز عن الإتيان بمثله بقوله تعالى (فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ ) (٢) ، ثم اقتصر على واحدة فقال سبحانه :

( فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ ) (٣) ، ثم قطع على معينهم بتعذره فقال ( قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ) (٤) وهذا منه مع ما ضم اليه من المناقشة في رتبة الفصاحة ونظم كلمها ودعوى الرئاسة وتضليلهم وآبائهم ووعدهم ووعيدهم عاجلا وآجلا يقتضي توفير دواعيهم الى معارضته الى حد لم يبق لهم صارف عنها ، فلما لم يحصل والحال هذه ، ثبت كون القرآن خارقا للعادة من فعله تعالى عقيب دعواه صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فاقتضى ذلك كونه صادقا فيها.

وانما قلنا ان خرق العادة بالقرآن مختص به تعالى ، لأنه لا يخلو أن يكون تعذر المعارضة لأنه خرق العادة ، أو نظمه ، أو بمجموعهما ، أو لتعذر جنسه ،

__________________

(١) في بعض النسخ هكذا : تكليفها.

(٢) سورة هود ، الاية : ١٣.

(٣) سورة يونس ، الاية : ٣٨.

(٤) سورة الإسراء ، الاية : ٨٨.

٧٢

أو لأن الله تعالى سلبهم العادة [ العلوم ظ ] التي يتأتى معها المعارضة.

والأول ، ظاهر الفساد من حيث كنا وكل عارف برتب الكلام في الفصاحة يعلم فرق ما بين شعر الجاهلية وشعر المحدثين في زماننا هذا في الفصاحة على وجه لا لبس فيه ، ولا يحصل لنا مثل هذا الفرق بين قصارى سور القرآن وفصيح كلام العرب ، ولو كان خارقا للعادة بفصاحة لوجب أن يكون الفرق بينه وبين فصيح الكلام أضعاف الفرق الحاصل بين شعر المتقدمين والمتأخرين لكون هذا معتادا وذلك معجز ، وفي تعذر هذا الفرق دليل على خروج فصاحته عن جهة الإعجاز.

والثاني ، مقدور لكل أحد من حيث علمنا ارتفاع التفاوت في النظم بصحة وقوعه بركيك الكلام أو فصيحة من كل عاقل.

والثالث ، مقدور لأنا إذا علمنا كون الفصاحة والنظم مقدورين على الانفراد صح من القادر عليهما الجمع بينهما.

والرابع ، ظاهر البطلان لان القرآن من نوع الكلام ، والكلام من جنس الصوت ، والصوت مقدور لكل محدث بغير شبهة ، وصحة وقوعه على كل وجه من ضروب الكلام ، توضح (١) ذلك صحة النطق من كل قادر على الكلام بجميع ضروب (٢) المماثلة لصيغة القرآن وغيرها ، ولو كان القرآن متعذر الجنس لم يصح منا حكايته كما لا يصح منا حكاية شي‌ء من الأجناس الخارجة عن مقدورنا كالجواهر والحياة والقدر وغيرها.

فلم يبق لتعذر معارضته مع خلوص الدواعي إليها والقدرة عليها الا ان

__________________

(١) توضيح ذلك ، كذا في بعض النسخ.

(٢) ضروبه. ظ.

٧٣

الله تعالى سلبهم العلوم التي تصح معها المعارضة في كل حال تعاطوها (١).

وليس لأحد أن يدعي حصول معارضة مع (٢) الإسلام من ظهورها لان السلطان كالعرب (٣) المتحدين (٤) بالقرآن دون النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلو كان هناك معارضة لوجب بقضية العادة ظهورها في سائر الأقاليم على وجه لا يصح استتارها فيما بعد ، لا سيما وسلطان الإسلام لم يظهر حين ظهر والى الان على جميع الكفار ، بل كثير من الممالك المخالفة فيه باقية الى هذا الزمان ، فلو كان هناك معارضة لوجب على أقل الأحوال ظهورها في ممالك أهل الخلاف.

وبعد فلو كان هناك معارضة لوجب أن تكون هي الحجة والقرآن هو الشبهة وذلك يوجب في حكمته تعالى توفير الدواعي إلى نقلها وشياعها ليحصل لكل مكلف مدعو إلى الإسلام طريق الى العلم بها ليفرق بين الدليل (٥) والشبهة ، وفي عدم الظن بها فضلا عن العلم دليل واضح على عدمها.

وليس لأحد أن يقول : انما لم يعارضوا لأنهم رأوا أن الحرب أحسم لمادة هذا المدعى. لان الحرب لا حجة فيها لو اقترنت بالظفر ، وفيها عظيم المشقة وكبير الخطر ، والمعارضة بعيدة من ذلك وفيها الحجة ، والعاقل لا يعدل عن الأسهل وفيه الحجة ، إلى الخطر الأعظم مع تعريه منها ، وليست قريش وغيرها من عقلاء العرب المتحدين بالقرآن بهذه الصفة من السفه والغفلة.

وبعد فقد كان ينبغي لما حربوا الحرب ، فلم يبلغوا بها طائلا بل نهكهم

__________________

(١) في بعض النسخ : تواطؤها.

(٢) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : منع.

(٣) كذا في النسخ ولعل الصحيح : كان للعرب.

(٤) في النسخ : المتخذين ، والظاهر انه تصحيف.

(٥) في جميع النسخ : الدليلين.

٧٤

واصطلت (١) أماثلهم ، أن يرجعوا إلى المعارضة.

وأيضا فإن الحرب لم تحصل الا بعد مضى أزمان تصح في بعضها المعارضة

على أن المعلوم من حال القوم تعرضهم لها وقصورهم عنها وتصريحهم [ تخريصهم ظ ] لما عجزوا بأن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ساحر وكاهن ، وأن الجن تلقى اليه هذا الكلام ، فزال بهذا اللبس عن كل متأمل بعجزهم عن المعارضة ، وأنهم انما عدلوا الى هذا التحريص (٢) المقترن بالحرب ، لما أعيتهم الحيل ، فعل السفيه المنقطع العاجز عن مماثلة خصمه ، لأنا نعلم أن من تحدى أهل صناعة بشي‌ء منها وقرعهم (٣) بالعجز عن مماثلته ، فعدلوا بعد التأمل لما أتى به الى شتمه وضربه ، أنهم عاجزون عنها مستحقون اللوم والتوبيخ من كافة العقلاء.

وليس لهم أن يقولوا انه صلى‌الله‌عليه‌وآله شغلهم بالحرب عن المعارضة لأن الحرب لم تحصل الا بعد مضى أزمان يصح في بعضها المعارضة لو كانت مقدورة.

وأيضا فإن الحرب لم تكن مستمرة في الأزمان فألا عارضوا في الزمان الخالي منها.

وأيضا فإن الحرب لم يمنع من الروية والفكر لإيقاع الكلام الفصيح على الوجه المعارض بغير اشكال.

ومن وجوه الاعجاز قوله تعالى : ( فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً ) (٤) فقطع سبحانه مخبرا على أنهم لا يتمنونه اخبار قادر على منعهم منه متى أرادوا النطق به ، فكان كما أخبر سبحانه ، وذلك مختص بمقدوره تعالى

__________________

(١) كذا في النسخ.

(٢) كذا في النسخ. والظاهر : التخريص.

(٣) في جميع النسخ : وقوعهم ، والظاهر ما أثبتناه.

(٤) سورة البقرة الآية : ٩٥ ـ ٩٤.

٧٥

على جهة خرق العادة عقيب الدعوى فدل على صدق المدعى ، وهو جار مجرى من ادعى الإرسال إلى قوم قادرين على ضروب الكلام وجعل الدلالة على صدقه تعذر النطق منهم بكلام مخصوص مقدور لهم في أن تعذر ذلك من أوضح برهان على تخصيص سلب القدرة عليه بالقديم سبحانه.

ومنها : اخباره تعالى بحوادث مستقبلة فوقعت مطابقة لخبره كقوله تعالى : ( لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ ، فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً ) (١) فكان الأمر كما أخبر سبحانه من الفتح القريب قبل فتح مكة ، وهو فتح خيبر ، ثم تلاه دخول مكة محلقين ومقصرين آمنين.

وقوله سبحانه ( الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ ) (٢) فكان الأمر كما أخبر تعالى. وقوله سبحانه ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ ) (٣) فكان الأمر كذلك من هزيمة الجمع يوم بدر ، الى غير ذلك من اخبار القرآن بالكائنات (٤) المطابقة للمخبر (٥) بها. وذلك مختص به تعالى ، لوقوف العلم بالغائبات عليه سبحانه.

وأما دلالة المعجزات الخارجة عن القرآن على نبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله فهي انشقاق القمر ، ورجوع الشمس ، ونبوع الماء من أصابعه ، وحنين الجذع ، وتسبيح الحصى ، وكلام الذئب ، وشكوى البعير ، وحلب الشاة الحائل ، واحياء الشاة المأكولة

__________________

(١) سورة الفتح ، الاية : ٢٧.

(٢) سورة الروم ، الاية : ٢ ـ ١.

(٣) سورة القمر ، الاية : ٤٥.

(٤) كذا في جميع النسخ.

(٥) للخبر بها ، كذا في النسخ.

٧٦

وإشباع الخلق الكثير بيسير من الطعام ، الى غير ذلك.

فطريق العلم بها المشاهدة لمن حضره ، والنقل المتواتر لمن نأى عن داره وتأخر وجوده عن وجوده ، لأنا وكل مخالط لأهل الإسلام يعلم ضرورة اتصال الأزمان مشتملة على جماعات كثيرة معروفة بالنقل شيعة وعامة لا يجوز على بعضها الكذب لتنائي ديارهم واختلاف دواعيهم كل طبقة تنقل عن طبقة مثلها حتى يتصل النقل بمن شاهد هذه الآيات من الصحابة ، وقد بينا سالفا أن وقوع النقل على هذه الصفة يقتضي صدق الناقلين فيه.

وانما ثبت ظهور هذه الآيات عقيب دعواه صلى‌الله‌عليه‌وآله واعتبرنا حالها فوجدناها خارجة عن مقدور المحدثين ، اما لتعذر جنسها كنبوع الماء من الأصابع ، وإشباع الخلق الكثير بيسير الطعام ، وحلب الشاة ، لكونه مستندا إلى إيجاد الجواهر ، واحياء الشاة المأكولة ، لتعلقه بجنس [ بحس ] الحياة المعلوم بما سلف برهانه تعذر ذلك عن المحدث ، أو لوقوعها على وجه لا يصح تعلقه بمقدور محدث كرد الشمس وانشقاق القمر ، وإذا اختصت بمقدوره تعالى مع تعلقها بدعواه صلى‌الله‌عليه‌وآله ثبت كونه دلالة نبوته لتكامل شروط المعجز الدال على الصدق فيها.

وليس لأحد أن يقدح في ثبوت هذه الآيات وما بيناه من صدق ناقلتها بأن الأمر لو كان كذلك لم يختص نقلها بالدائن بصحتها مع اشتراك الكل في عموم الدعوة وحصول المشاهدة ، لأن المعتبر في كون النقل تواترا موجبا للعلم بالمنقول وقوعه على وجه يتعذر معه الكذب ، سواء كان الناقل مؤمنا أو كافرا دائنا بالمنقول أو مخالفا فيه ، وهذا الشرط حاصل في نقل المعجزات ، فيجب الحكم بصحتها وصدق رواتها وان كانوا بعض من كلف النظر فيها.

وبعد فالمعلوم من حال مخالفي الإسلام أنهم ليسوا أهل النقل ، من أنكر

٧٧

النبوات ومن أقر بها من اليهود والنصارى حسب ما بيناه ، ومن ليس من أهل النقل لما يدين به كيف يكون تركه لنقل ما قامت حجته بنقل غيره دلالة على بطلانه لولا جهل المعترض.

على انهم لو كانوا ذوي نقل لم يكن إخلالهم بنقل المعجزات قادحا في ثبوتها من حيث علمنا توفر صوارف المشاهدين [ الشاهدين ] للآيات منهم الى كتمانها لما يؤدي إليه ظهورها من فساد دياناتهم المألوفة ورئاساتهم المستقرة ، ولا شبهة في ارتفاع ما توفرت الصوارف عنه ولما كتم الاسلاف [ السلف ] ما شاهدوه للغرض الذي ذكرناه لم يجد الأخلاف شيئا ينقلوه ، فلذلك انقطع نقله منهم.

وبعد فهذا منقلب على كل من أثبت نبوة ، لأنه لا يجد أحدا ممن خالفه فيما يذهب اليه من النبوة ينقل معجزات من يدعى نبوته [ نبوة ظ ] ، لان البراهمة وغيرها من ضروب الكفار المنكرين للنبوات لم ينقلوا شيئا من معجزات الأنبياء عليهم‌السلام ، واليهود وان أثبت النبوات فغير ناقله لمعجزات المسيح عليه‌السلام وتلاميذه.

فمهما انفصلوا به ممن عارضهم بمثل ما عارضونا به فجوابنا لهم مثله وإذا ثبت نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بالبراهين الواضحة وجب القطع على كونه صلى‌الله‌عليه‌وآله على الصفات التي يجب كون النبي عليها من العصمة فيما يؤديه ، والعصمة من جميع القبائح ، وتنزيهه عن كل منفر حسب ما دللنا عليه.

ووجب لذلك القطع بنبوة من أخبر بنبوته على التفصيل كآدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وغيرهم ممن تضمن القرآن ذكره مفصلا ، ومجملا في قوله سبحانه ( وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ ) (١) وأن جميعهم بالصفات التي

__________________

(١) سورة النساء ، الاية : ١٦٤.

٧٨

يجب كون النبي عليها ، وأن اتباعهم والعمل بما جاءوا به واجب على كل من كلف ذاك ، قبيح ممن نسخ عنه وكلف غيره ، وأن الايمان بهم وبما جاءوا به ايمان ، والشك فيه كفر ، وأن محمد بن عبد الله بن عبد المطلب صلى‌الله‌عليه‌وآله سيدهم وأفضلهم وخاتمهم الناسخ لشرائعهم ببرهان ما نطق به القرآن وأجمع عليه المسلمون.

وثبوت ذلك يقتضي العمل بما جاء به وقبح ما خالفه من الشرائع ، ويوجب الشهادة بنسخها ، وكفر الدائن بها من اليهود والنصارى والمجوس وغيرهم من ضروب الكفار بشريعته ، لان قيام الدلالة بقدم فاعل العالم سبحانه وكونه واحدا لا ثاني له يقضي بفساد ما ذهب اليه النصارى والمجوس والصائبون من الشرك ، لتدينهم أجمع بإلهية الأجسام المحدثة ، ووقوف صحة الثالثة (١) على فاعل العالم سبحانه إذ كان معنى الإله من يحق له العبادة ، والعبادة كيفية لشكر نعم لا مزيد عليها ، واختصاص هذا الشكر بنعمة تعالى من الحياة وما يتبعها المعلوم انغمار كل نعمة سواه في جنب أحدها (٢) واستحالة تعذر (٣) نعمة من دونها لكونها أصولا لكل نعمة ، وبلوغها أقصى المبالغ.

وقيام الدلالة بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وحكمه بكفر من خالفه ، قاضٍ بضلال الدائن بهذه المذاهب أيضا ، ويلحق بها مذاهب اليهود.

ونحن نفصل الكلام عليهم وان كانت هذه الجملة كافية في فساد نحلتهم

__________________

(١) كذا في النسخ ولعل الصحيح : التأله. قال الشيخ الطوسي في الاقتصاد : والعبادة إنما تستحق بأصول النعم التي هي خلق الخلق وجعله حيا وقادرا وإكمال عقله وخلق الشهوة فيه. وكل ذلك لا يقدر عليه غير الله فيجب أن تقبح عبادته.

(٢) في بعض النسخ : أحدهما.

(٣) كذا في بعض النسخ والظاهر انه تصحيف.

٧٩

واليهود ثلاث فرق : فرقة تمنع من نبوة مدعي النسخ لظنها أن النسخ يؤدي الى البداء ، وفرقة يجيز النسخ عقلا ويمنع منه لظنها ثبوت السمع بخطأه ، وفرقة يجيز النسخ عقلا وسمعا ويمنع منه لدعواها أنه لم يقم برهان بنبوة أحد ادعى نسخ شرع موسى عليه‌السلام.

والكلام على الفرقة الاولى أن نبين حقيقة البداء والنسخ بمحصل [ يحصل ] العلم بفرقان ما بينهما فيسقط شبهة المماثل بينهما ، ثم نبين حسن النسخ فيرتفع الريب بفساد قولهم.

والبداء هو النهي عن نفس ما وقع الأمر به أو الأمر بنفس ما حصل النهي عنه ، وانما يكون كذلك بأن يكون ما تعلق به النهي والأمر واحدا والمأمور والمنهي واحدا والوقت واحدا والوجه واحدا كقول المكلف لشخص معين ألق زيدا عند طلوع الشمس مكرما له ولا يأكل (١) العسل يوم كذا طاعة ...(٢) عن لقاء زيد مكرما له قبل طلوع الشمس من غده ، ويأمره أو يبيحه أكل العسل قبل ذلك اليوم.

وقلنا انما (٣) جمع هذه الشروط بداء لأنه لا وجه له الا ظهور وجه الصلاح بعد خفائه ، وهو جائز من كل محدث وغير قبيح ، لكون جميعهم غير عالم بوجه الصلاح في المستقبل ، وانما يثبتون تكاليفهم على الظنون التي يجوز ان تحقق ، وغير جائز على القديم سبحانه من وجهين :

أحدهما : أنه يقتضي (٤) ما علمنا استحقاقه من كونه عالما لنفسه من حيث

__________________

(١) ولا تأكل. كذا في بعض النسخ.

(٢) هنا بياض في النسخ ، ولعل المحذوف هذه الجملة : ثم نهاه.

(٣) في بعض النسخ : انما ما جمع.

(٤) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : نقيض.

٨٠