الكافي في الفقه

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

الكافي في الفقه

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام العامّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

لا لوجه يعقل ، وكل شي‌ء تعذر لا لمانع معقول فإنها تعذر للاستحالة ، وإذا ثبت خلاف هذه الأجناس وتعذرها على كل محدث ، ثبت أن لها محدثا ليس بمحدث.

وقلنا ذلك لأنا قد علمنا أن هاهنا حوادث كالكتابة والبناء وعلمنا أن لها محدثا هو من تعلقت به ، بدليل وقوعها بحسب أحواله من قصوده وعلومه وقدره واستحقاقه المدح على حسنها والذم على قبيحها ، وعلمنا انها انما احتاجت إليه في حدوثها دون عدمها وبقائها لاستغنائها في حالتي العدم والبقاء عن مؤثر لصفتي العدم والبقاء ، فيجب الحكم بحاجة كل محدث في حدوثه الى محدث.

وقد ثبت حدوث الجواهر والأجناس المخصوصة من الاعراض وتعذرها على المحدثين ، فيجب أن يكون لها محدثا مخالفا لها.

ووقوع هذه التأثيرات من جهته سبحانه يقتضي كونه قادرا لحصول العلم بكون من صح منه الفعل على صفة ليست حاصلة لمن تعذر عليه من كان عليها وجب وصفه بقادر.

ووقوع الفعل مقتض للصحة وزيادة وحدوثها بحكمة (١) كالإنسان والفرس والبقر والفيل يقتضي كونه سبحانه عالما لافتقار صفة الأحكام الى حال زائدة على كون القادر قادرا لتعذره على أكثر القادرين ، ومن كان عليها وجب وصفه بكونه عالما.

وكونه تعالى قادرا عالما يقتضي كونه حيا موجودا بدليل تعلق المقدورات والمعلومات وصحة وقوعها من جهة واستحالة ذلك من معدوم أو موجود ليس بحي.

__________________

(١) محكمة.

٤١

واحداثه سبحانه ما يتعذر على كل محدث دليل على كونه قديما ، إذ لو كان سبحانه محدثا لتعذر عليه ما يتعذر على المحدث.

وهذه الصفات نفسية لوجوبها له وثبوت صفة الجواز في صفات المعاني والفاعل ، لان (١) طريق إثبات المعاني وصفات الفاعل متعذرة في صفاته تعالى فثبت أنها للنفس. ومعنى ذلك أنه تعالى قادر عالم حي قديم لما هو عليه سبحانه ، لا معنى هو غيره كسواد الجسم ولا بصفة بالفاعل ككون الصوت أمرا أو خبرا.

وإذا ثبت كونه تعالى قديما وان صفاته نفسية ، ثبت استحقاقه لها فيما لم يزل ، واستحالة خروجه عنها ، من حيث اقتضى قدمه وجوده في كل حال ماضية ومستقبلة ، وثبوت الصفة المستندة إلى النفس في جميع أحوال وجود الموصوف بها ، لكونها مقتضاة عما هو عليه واستحالة وجود المقتضى وانتفاء مقتضاه.

وكونه تعالى حيا لا آفة به يقتضي وصفه سبحانه بسميع بصير ، ويوجب إثباته مدركا متى وجدت المدركات ، بدليل وصف الحي الذي لا آفة به بسميع وبصير ، ووجوب حصول حكم الإدراك متى وجد المدرك وارتفعت الموانع.

ووقوع أفعاله تعالى على وجه دون وجه وفي حال دون حال دليل على انه سبحانه مريد ، لعلمنا بافتقار ذلك الى أمر زائد على كون الحي قادرا عالما لأنه قد يقدر على أشياء ، ويعلم أشياء كثيرة ، ويؤثر إيجاد بعضها دون بعض ، وفي حال دون اخرى ، وعلى وجه دون وجه ، كالقادر على التجارة والكتابة والعالم بضروبهما قد يؤثر الكتابة مرة ، والتجارة أخرى ، ويقصد الى نوع من إحديهما دون نوع ، وفي حال دون حال ، مع تساوي الكل في كونه مقدورا معلوما له ، فاقتضى ذلك ثبوت صفة له زائدة على كونه قادرا عالما ، تلك الصفة

__________________

(١) ولأن.

٤٢

هي كونه مريدا.

وإرادته تعالى فعله (١) لان كونه مريدا لنفسه أو لمعنى قديم يقتضي قدم المرادات ، أو كونه عازما ، وكلا الأمرين مستحيل. وكونها من فعل قديم غيره فاسد بما نذكره من فساد إثبات قديم ثان. والحدوث ( كذا ) (٢) لا يقدر على فعل الإرادة لغيره ، لأنها لا يقع الا مبتدءا ، وابتداء الفعل بالقدرة في غير محلها محال.

وهي موجودة لا في محل ، لان حلولها فيه تعالى لا يجوز ، لان المحل لا يكون الا متحيزا وقد دللنا على حدوث المتحيزات وقدمه سبحانه ، ولا يجوز حلولها في غيره من حي ولا جماد ، لأن حلولها في الجماد مستحيل من حيث كانت مما يوجب حالا لحى ، وحلولها في حي يوجب رجوع حكمها اليه دونه تعالى ، لان المحل بحكم ما حله أولى ، فثبت وجودها لا في محل ، ولوجودها على هذا الوجه الذي له ، انقطعت عن (٣) كل حي ما أوجب (٤) اختصاصها (٥) به تعالى. ولا يعجب من هذا ذو فطنة بهذا العلم ، لأنه إذا ثبت كونه تعالى مريدا وفسد أن يكون مريدا لنفسه أو لمعنى قديم ثبت انه مريد بإرادة يستحيل أن تحله أو تحل غيره ، اقتضى ذلك وجودها لا في محل ، وزال التعجب مما اقتضاه البرهان.

ولا صفة له سبحانه زائدة على ما أثبتناه ، من حيث كان طريق إثباته تعالى

__________________

(١) في بعض النسخ : فعلمه ، والظاهر أنه تصحيف.

(٢) قال في تقريب المعارف : وكونها من فعل غيره من المحدثين محال لان المحدث لا يقدر على فعل الإرادة في غيره لاختصاص احداثها بالابتداء وتعذر الابتداء من المحدث في غيره.

(٣) على.

(٤) ما وجب.

(٥) اختصاصه.

٤٣

الفعل ، فيجب أن يقف إثبات صفاته على صفات الفعل ، وليس الفعل ( للفعل ظ ) الا ثلاث صفات : مجرد وجوده وهو دال على كون فاعله قادرا ، وأحكامه وهو دال على كون محكمه عالما ، وترتبه على الوجوه وفي الأحوال وهو دال على أن مرتبة مريد ، وإثبات صفة لا يدل عليها الفعل بنفسه ولا بواسطة محال ، ولأنه لا حكم لصفة زائدة ، وإثبات ما لا حكم له كنفيه ، وإثبات ما لا فرق في إثباته ونفيه جهالة.

ان قيل : فقد أثبت له تعالى صفات زائدة على كونه تعالى قادرا عالما مريدا فما وجهها؟ قيل : لم نثبت الا ما له تعلق بهذه الصفات ، أما كونه تعالى حيا موجودا فلثبوت كونه قادرا عالما لاستحالة ثبوت حال القادر العالم لمن ليس بحي موجود. وأما كونه مدركا سميعا بصيرا فمن أحكام كونه حيا. وكون هذه الصفات نفسية (١) في استحقاقها وليس بأمر زائد على ثبوتها.

وثبوت كونه تعالى قديما مقتض لكونه سبحانه غنيا تستحيل عليه الحاجة لأن الحاجة لا تكون الا لاجتلاب نفع أو دفع ضرر من حيث علمنا استحالة الحاجة على من يستحيل عليه الضرر والنفع كالموات والجماد. والنفع والضرر لا يجوزان الا على من يلذ ويألم لان الحي إنما ينتفع بما يلذ به أو يسر له ويستضر بما يألم به أو يغتم لأجله ، واللذة والألم لا يجوزان الا على ذي شهوة ونفور إذ معنى ملتذ أنه أدرك ما يشتهيه ، ومعنى الم أنه أدرك ما ينفر عنه ، ومعنى مسرور أنه اعتقد أو ظن وصول نفع اليه أو الى من يجرى مجراه واندفاع ضرر ، ومعنى مغتم أنه اعتقد أو ظن وصول ضرر اليه أو الى من يجرى مجراه أو فوت نفع ، فعاد معنى السرور والغم الى النفع والضرر.

إذا تقرر هذا وكانت الشهوة والنفار معاني تفتقر الى محل استحال تخصيصها

__________________

(١) قال في تقريب المعارف : وكونها نفسية كيفية في استحقاقها.

٤٤

به تعالى ، لاستحالة كونه سبحانه محلا للاعراض ، ولأنه لا دليل من جهة الفعل ( كذا ) إلى إثباته تعالى مشتهيا ولا نافرا ، وإذا استحال عليه تعالى الشهوة والنفور استحال عليه اللذة والألم [ وإذا استحال عليه اللذة والألم (١) ] استحال الضرر والنفع ، وإذا استحال الضرر والنفع استحالت عليه تعالى الحاجة ، واستحالتها يقتضي كونه غنيا.

وثبوت قدمه وحدوث الجواهر والاعراض يحيل كونه تعالى مشتهيا لشي‌ء من الجنسين ، لان ذلك يقتضي حدوثه أو قدمهما ، وكلا الأمرين محال.

وكونه تعالى لا يشبه شيئا يحيل إدراكه سبحانه بشي‌ء من الحواس لاختصاص الإدراك المعقول بالجواهر وأجناس من الاعراض ، وليس هو من الجنسين ، فاستحال إدراكه تعالى.

ولأنه لو كان مما يصح أن يدرك بشي‌ء من الحواس لوجب أن ندركه (٢) الان لأنا على الصفة التي معها يجب أن يدرك كلما يصح إدراكه بشرط ارتفاع الموانع ، وهو سبحانه موجود والموانع مستحلية عليه لأنها اللطافة والرقة وتفاوت البعد والقرب والحجاب والكون في غير جهة المقابلة ، وذلك اجمع من صفات المتحيزات ، وقد دللنا على كونه سبحانه بخلافها ، فلو كان مما يصح أن يدرك لأدركناه الان ، ولو أدركناه لعلمناه ضرورة من حيث كان العلم بالمدرك من كمال العقل ، وفي عدم العلم به سبحانه ضرورة دليل على عدم إدراكه [ وعدم إدراكه ] (٣) مع وجوبه لو كان ممن يدرك تعالى دليل على استحالة الإدراك عليه.

__________________

(١) هذه الجملة زدناها بمقتضى السياق.

(٢) في بعض النسخ : يدرك.

(٣) هذه الجملة زدناها بمقتضى ترتيب العبارة.

٤٥

وثبوت كونه تعالى لا يشبه شيئا يحيل عليه التنقل والاختصاص بالحياة (١) والمجاورة لأن ذلك من أحكام المتحيزات وليس بمتحيز.

ويحيل عليه سبحانه الحلول وإيجاب الأحوال والأحكام ، لان ذلك من خواص الاعراض ، فيسقط لذلك مذاهب الثنوية والمجوس والصابئين وعباد الأصنام والمنجمين والنصارى والغلاة ، لإثبات هؤلاء أجمع إلهية الأجسام أو كونها مؤثرة ما يستحيل من الجسم تأثيره على ما سلف بيانه.

وكونه تعالى بهذه الصفات يقتضي تفرده سبحانه بها ويحيل إثبات ثان له فيها من حيث لو كان هناك قديم ثان لوجب أن يستحق جميع ما بيناه استحقاق فاعل العالم له من الصفات الواجبة والجائزة إثباتا ونفيا فيؤدى ذلك الى إثبات ذاتين لا حكم لهما يزيد على حكم الذات الواحدة وإثبات ذلك محال ، فثبت أنه سبحانه واحد لا ثاني له. وقلنا ذلك لان القدماء لو كانوا مائة فما زاد لم تزد حالهم عليه لو كان واحدا ، ولا يميز فعلهم من فعل قديم واحد ، من حيث كان كل ما تصح إضافته الى هذا العدد تصح إضافته إلى القديم الواحد سبحانه ، فصار إثبات ما زاد على واحد لا حكم له ، ولا سبيل الى تميزه ، ولا فرق بين إثباته ونفيه ، وما هذه حاله لا يصح إثباته ، لكون ذلك تجاهلا ومفضيا الى كل جهالة فثبت أن صانع العالم سبحانه واحد لا ثاني له.

وأيضا فلا دليل من جهة العقل على إثبات قديم ثان وقد ورد السمع المقطوع على إضافته إلى القديم سبحانه بنفي ثان له تعالى وهو مما لا يجوز عليه سبحانه الكذب فوجب لذلك القطع على كونه واحدا ، ودلالة السمع على التوحيد آكد من دلالة العقول لاحتمال جميعها لدخول الشبهة المشكلة في التوحيد وبعد ذلك عن برهان السمع.

__________________

(١) كذا في جميع النسخ ، ولعل الصحيح : بالجهات.

٤٦

فصل في مسائل العدل(١)

معنى قولنا : انه تعالى عادل هو أنه لا يخل (٢) بواجب في حكمته ولا يفعل قبيحا ، وإذا ثبت بالبرهان كونه تعالى عالما لا يجهل شيئا وغنيا لا يحتاج إلى شي‌ء ثبت كونه عادلا من حيث كان وقوع القبيح لا يصح الا لجهل به أو لسهو عنه أو حاجة اليه ، وكل ذلك مستحيل فيه تعالى ، فيجب القطع على كونه عادلا والحكم بجميع أفعاله وما يتعلق بها بالحسن.

وهذا القدر كاف في تنزيهه سبحانه عن القبيح على جهة الجملة ، وان فقدنا العلم بوجه الحسن في كل منها على جهة التفصيل ، غير أنا نسلك منهج السلف رضي‌الله‌عنه في بيان وجه الحكمة في جميع ما فعله سبحانه وأمر به وأباحه على جهة التفصيل لتكمل الفائدة وتسقط الشبهة في ذلك من كل وجه.

فأول ذلك إثبات العقل طريقا الى العلم بوجوب واجبات وقبح قبائح وجبت وقبحت لما هي عليه ليكون الكلام في العدل وفساد الجبر مبنيا على ذلك وقد سلف بيان ذلك وأوضحنا أن العلم بوجوب الصدق والإنصاف وسائر الواجبات الأولة وقبح الظلم والكذب وسائر القبائح الأولة ضروري من أوائل العقول لا تعلق للعبد به ، وأنه انما وجبت الأفعال لكونها صدقا وإنصافا وقبحت التروك لكونها ظلما وكذبا فأغني عن إعادتها ههنا.

وإذا ثبت ذلك وجب إثباته سبحانه قادرا على القبيح ليصح تنزيهه عنه ، والدالة على ذلك ثبوت كونه تعالى قادرا لنفسه ، وذلك يقتضي كونه سبحانه

__________________

(١) كلام في معنى العدل. كذا في بعض النسخ.

(٢) في النسخ : لا يحيل.

٤٧

قادرا على كل ما يصح كونه مقدورا ، والقبيح من جملة المقدورات بغير شبهة فيجب أن يكون قادرا عليه.

وأيضا فإن صفة القبح وجه للفعل كالحسن (١) وليس بجنس فيجب لكونه تعالى قادرا على سائر الأجناس أن يكون قادرا على وجوهها التي يحدث عليها.

ومنع النظام (٢) من كونه تعالى قادرا على القبيح لما يؤدي إليه من الجهل أو الحاجة المستحيلين عليه سبحانه أو انقلاب دلالة القبيح.

وذلك فاسد كاشف عن جهله بكون القديم سبحانه قادرا لنفسه ، إذ لو علم ذلك وكونه مقتضيا للقدرة على كل ما يصح كونه مقدورا مع علمه بكون القبيح مقدورا للعباد لم ينف كونه تعالى قادرا على القبيح.

وكذلك لو علم ان من حق القادر على الشي‌ء أن يكون قادرا على جنس ضده مع علمه بأنه قادر على الحسن (٣) لم ينف كونه قادرا على القبيح ، جنسا كان القبح (٤) أو وجها. وهذا يدل على جهله بالتوحيد والعدل.

فأما شبهته فمبنية على فرض وقوع القبيح ، وذلك بناء فاسد ، لأنه سبحانه لا يفعل شيئا إلا لداع مقصود ، لاستحالة السهو والعبث عليه ، ولا داع الى القبيح الا الحاجة وهي مستحيلة فيه سبحانه ، فلم يبق له داع اليه فاستحال منه فعله وان كان قادرا عليه ، وسقط لذلك تقدير النظام.

__________________

(١) في جميع النسخ : كالجنس ، والصحيح ما أثبتناه ، راجع تقريب المعارف للمؤلف باب العدل.

(٢) هو إبراهيم بن سيار بن هانئ النظام ، توفي سنة ٢٣١. ويطلق على أصحابه النظامية.

(٣) في جميع النسخ : الجنس ، والصحيح ما أثبتناه.

(٤) في جميع النسخ : القبيح.

٤٨

وهو سبحانه لا يفعل القبيح لما قدمناه من علمه بقبحه وبأنه غنى عنه لأن صفة القبح صارف قوى فلا يصح أن يفعله الا من جهل ثبوتها أودعته الحاجة الى الفعل أو الترك لينفى الصارف بالجهل أو يقابل داعي الحاجة لصارف القبح.

وكونه تعالى لا يفعل القبيح مقتضيا أن لا يريده ، من حيث لو أراده لم يرده إلا بإرادة يفعلها على ما سلف بيانه ، وارادة القبيح قبيحة ، لأن كل من علمها ارادة لقبيح علم قبحها ، وذلك مقتض لكونه تعالى فاعلا للقبيح وقد بينا فساده (١) فثبت أنه لا يريد القبيح ، وإذا ثبت أنه سبحانه لا يريد القبيح ثبت أنه كاره له ، لأنه لا يجوز أن يخلو ما كلفه تعالى من الإرادة والكراهة.

وكذلك وجب كونه تعالى مريدا لما فعله وكلفة ، لاستحالة فعله ما لا غرض فيه ، وتكليف ما لا يريده ولا يكرهه ، فما علمناه مرادا له سبحانه حكمنا بحسنة فإن علمناه كارها للإخلال به وجب الحكم بوجوبه ، وما علمناه مكروها له حكمنا بقبحه ووجوب اجتنابه.

وكونه تعالى مكلفا فعل المثلين والمختلفين والضدين واجتناب ما له هذا الحكم موجب إقدار المكلف على ذلك قبل وقوعه ومزيحا لعلته بالتمكين منه والعلم به واللطف فيه ، وكون ذلك شاقا مقتض لكونه وصلة الى ما لا يحسن الابتداء به من النفع ، لان خلاف ذلك ينقض كونه سبحانه عادلا.

ويحسن توضيح برهان ما أجملناه مفصلا :

أما برهان كون المكلف قادرا فهو أنا نعلم تعلق التأثيرات به ووقوعها من جهته وذلك مقتض لكونها من فعله على ما نبينه ، وكونه فاعلا فرع لكونه قادرا لاستحالة النظر ليس بقادر (٢).

__________________

(١) في جميع النسخ : وقد امناه ، والظاهر ما أثبتناه.

(٢) كذا في جميع النسخ ، والظاهر ان العبارة ناقصة.

٤٩

ولأنا نعلم حيا يصح منه التصرف في الجهات وحمل الثقيل وحيا لا يصح منه ذلك فيجب أن يكون من صح منه الفعل على صفة ليست حاصلة لمن تعذر عليه لو لا ثبوتها له وانتفاؤها عن الأخر لصح الفعل منهما معا أو تعذر عليهما ومن كان على تلك الصفة سماه أهل اللغة العربية قادرا ، وقلنا انه فاعل لعلمنا بوجوب وقوع التأثيرات المتعلقة به بحسب أحواله من قصوده وعلومه وقدره (١) ولو كانت فعلا لغيره لجاز أن يقصد الذهاب يمنة فيقع يسرة ، ويقصد إلى الكتابة فيقع البناء ، ويقع الكتابة من الأمي ويتعذر على القادر العالم بها ، ويصح حمل الثقيل في الضعيف ويتعذر الخفيف على الأيد القوى ، والمعلوم خلاف ذلك.

وأيضا فمن المعلوم توجه المدح والتعظيم الى من تعلق به التأثير الحسن ، والذم والاستخفاف الى من تعلق به التأثير القبيح ، والذم والاستخفاف والمدح والتعظيم توابع لحدوث الفعل على وجه الحسن أو القبح (٢) ، فيجب تعلق صفتي الحسن والقبح (٣) بمحدث الحسن والقبيح (٤) لاستحالة تعلقهما بغيره.

ولأنا نعلم قبح مدحه أو ذمة على خلقه وهيأته ، فلو كان حكم التأثيرات حكمها لقبح مدحه وذمه على شي‌ء منها كقبحه على صورة وبناء (٥) ، واختلاف (٦) الحال دليل واضح على تعلق التأثيرات بقدوره (٧) وتعلق خلقه بالقديم سبحانه.

__________________

(١) قدوره ظ.

(٢) في بعض النسخ : القبيح.

(٣) في بعض النسخ : القبيح.

(٤) في بعض النسخ : القبح.

(٥) كذا في جميع النسخ.

(٦) في بعض النسخ : « وبناء اختلاف » بدون الواو.

(٧) في بعض النسخ : بمقدوره.

٥٠

ومتى علمنا قادرا في الشاهد علمنا (١) تعلقه بالمتماثلات من مقدورات العباد كالأكوان في الجهة الواحدة والإرادة والكراهات والعلوم المتعلق كل منها بمتعلق واحد في وقت واحد على وجه واحد ، وبالمختلفات كالعلم والإرادة والعلوم المتعلقة بمعلومات مختلفة والإرادات المتعلقة بمرادات متغايرة أو بمعلوم أو مراد على وجوه مختلفة وبالضدين كأكوان في الجهات والعلوم وما يضاد كل واحد منها من الجهل والظن والإرادات وما يضادها من الكراهات (٢) ، فلا يخلو أن يكون ذلك لان كل قدرة توجب هذا التعلق أو لأن لكل متعلق قدرة تخصه ، والثاني باطل لأنه يؤدى الى وجوب عدة قادرين تصح منهم الإرادة دون الكراهة ، والجهل دون العلم ، والكون في جهة دون جهة ، والمعلوم فساد ذلك ، فثبت إيجاب كل قدرة حال التعلق بالأمثال والمختلفات والأضداد ، وتعلق القادر بالضدين يوجب تقدم كونه قادرا لكونه فاعلا لأن القدرة لو وجب مصاحبتها للفعل مع تعلقها بالضدين لاقتضى ذلك وجود الضدين مع استحالته.

وأيضا فإن حاجة المقدور إلى القدرة ليخرج بها من العدم الى الوجود ، فيجب متى وجد أن يستغنى عنها كاستغنائه في حال البقاء ، وذلك يوجب تقدم القدرة عليه في الوجود ، وتأثير القدرة إيجاب حال الحي لها (٣) يصح منه الفعل ، لأنها متى وجدت أوجبت هذه الحال ، وتأثير القادر يختص بالأحداث لان صفتي العدم والبقاء غير متعلق بقادر ، فلو لم يختص تأثيره بالأحداث لم يكن بين الفعل والفاعل تعلق.

وأما برهان تمكينه مما كلف فحكمة مكلفة سبحانه تقتضي تمكينه بصحة

__________________

(١) في بعض النسخ : علينا.

(٢) في بعض النسخ : المكروهات.

(٣) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح هكذا : حال للحي بها.

٥١

البنية فيما يحتاج من التكاليف إليها كاليد والرجل واللسان والاذن ، وأقداره على تحصيل ما يحتاج الفعل اليه من الآلات كالسيف والقوس ، وتبقيته الى أن يؤدى أو يمضى من الزمان ما يصح فيه الأداء كالحج ، أو تكميل العلم كالمعارف ، وفعل العلم فيه بحيث (١) لا مصلحة بكون العلم مكتسبا كالعلم الأول بوجوب الصدق والإنصاف وقبح الكذب والظلم ، وتكليفه تحصيل العلم بما لا يقوم فعله سبحانه فيه مقام اكتسابه في التوحيد والعدل ، وأقداره على فعل السبب المولد له وهو النظر ، وتبقيته الزمان الذي يصح فيه اكتساب العلوم ، ووقوف تكليفه على كونه مخيرا غير ممنوع ولا ملجأ ، واستصلاحه بما يدعوه الى الحسن ويصرفه عن القبيح من غنى أو فقر أو سقم ، وبيان ما له هذا الحكم من فعله كالرئاسة بالنبوة أو الإمامة والشرائع ، لأن تكليفه من دون التمكين تكليف ما لا يطاق ، ومن دون اللطف قبيح ، من حيث كانت علة المكلف غير مزاحة ، وقبح منعه كمنع التمكين.

يوضح ذلك أن من صنع طعاما لقوم يريد حضورهم إحسانا إليهم فعلم أو ظن أنهم لا يأتون الا برسوله فلم يرسل إليهم مع إقامته على ارادة الحضور يستحق الذم كما لو أغلق الباب من دونهم ، فاذا كان القديم سبحانه مريدا بالتكليف نفع المكلف وعلم سبحانه أنه لا يختاره الا أن يفعل فعلا أو يفعل هو فعلا وجب عليه أن يفعل سبحانه ما يختص به ويبين للمكلف ما يختص بمقدوره كما يجب في حق التكليف تمكين المكلف ، لثبوت صفة القبح في منع اللطف كثبوتها مع منع التمكين.

وبرهان حسن التكليف كونه تعريضا لنفع لا يحسن الابتداء به ، والتعريض

__________________

(١) حيث. ظ.

٥٢

للنفع في حكم إيصاله ، فما له حسن أحدهما يجب أن يحسن له الأخر ، ألا ترى أنه كما يحسن منا ابتداء الغير بالنفع فكذلك تعريضه له ، وكما يحسن منا نفع أنفسنا فكذلك التعريض له بضروب المشاق ، وقلنا ذلك لا يجوز (١) لأنه سبحانه لا يجوز أن يكلف لاجتلاب نفع ولا دفع ضرر لاستحالتهما عليه سبحانه ، ولا لغير غرض ، ولا لاغراء بالقبيح لقبحهما ، ولا ليدفع بالتكليف ضررا عن المكلف ، لان دفع الضرر بالضرر لا يحسن الا بحيث لا يندفع الا به ، وهو سبحانه قادر على دفع كل ضرر من غير إضرار ، فلا يحسن تكليف المشاق له ، ولا يحسن الاستحقاق (٢) لأمور :

منها ان ذلك يقتضي تقدم (٣) تكليف قبل تكليف الى ما لا يتناهى ، وذلك محال ، ولان الضرر المستحق مقترن بالاستخفاف ، وامتثال مشاق التكليف يقتضي المدح والتعظيم ، ولم يبق لحسنه الا كونه ضررا مبتدءا أو تعريضا لنفع ، والضرر المبتدء ظلم لا يجوز عليه سبحانه ، فثبت كونه تعريضا لنفع لا يجوز أن يكون مما يحسن الابتداء به ، لأنه سبحانه قادر على ضروب ما يحسن الابتداء به من المنافع ، فلا يجوز أن يكلف المشاق لها من حيث كان ذلك عبثا لا يجوز عليه سبحانه ، لكونه جاريا مجرى من أراد أن ينفع غيره فلم يفعل حتى كلفه نقل الرمل من جهة إلى أخرى لا لغرض الا ذلك النفع في كونه عابثا ، والنفع الذي لا يحسن الابتداء به هو الواقع على جهة الإعظام والإجلال ، لعلمنا بقبح التفضل بالتعظيم وأنه لا يحسن الا مستحقا.

وعلمه سبحانه بأن كثيرا من المكلفين يعصي فيما كلفه فيستحق العقاب

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر زيادة جملة « لا يجوز ».

(٢) للاستحقاق ظ.

(٣) في بعض النسخ : بقدم ، وفي بعضها الأخر : وقدم ، والظاهر ما أثبتناه.

٥٣

دون الثواب لا يقتضي قبح تكليفه ، لأنه محسن بالتكليف اليه من حيث كان تعريضا لنفع عظيم لا يوصل اليه الا به ، وانما فات المكلف هذا النفع بسوء اختياره وقبح نظره لنفسه. ولأنه سبحانه قد فعل به ما فعله بمن علم أنه يؤمن [ من ] الأقدار والتمكين والاستصلاح ، فما له حسن تكليف الطائع يجب أن يحسن له تكليف العاصي.

وأيضا فإن حقيقة التكليف ارادة المكلف على ما تقدم بيانه ، والإرادة انما تكون قبيحة إذا كان مرادها قبيحا كما أنها انما تكون حسنة إذا كان مرادها حسنا ، لا وجه له بحسن أو قبح الا ذلك ، وإذا كان هذا متقررا ببرهانه ، وكانت إرادته سبحانه من المكلف أن يفعل الحسن ويجتنب القبيح ليصل الى نفع عظيم لا يصل اليه الا به ، ثبت حسنها لتعلقها بما علم حسنه ، وكان ذلك إحسانا إلى المكلف في الحقيقة ، إذ لا فرق في ثبوت الإحسان بين أن يكون فعلا مقصودا به الانعام على الغير وبين تعريضه له ، بل التعريض أشرف.

وإذا ثبت حسن هذه الإرادة لم يؤثر في حسنها عصيان المكلف في الثاني ، لأنها قد وجدت على وجه يحسن ، وانتفت عن الوجود وهي على هذه الصفة فصارت معدومة ، ووجد عصيان المكلف وهي معدومة والعصيان الموجود لا يقتضي قبح الإرادة المعدومة ، لعدم التعلق بينهما ، فكيف يتوهم عاقل قبحها به لولا الجهل بهذا العلم.

وليس لأحد أن يقول ان علمه سبحانه بأنه سيعصي مقتض لقبح إرادة الطاعة ، لأن كل متعلق من الإرادات والكراهات انما يحس أو يقبح لحسن متعلقة أو قبحه دون شي‌ء غير ذلك ، من حيث كان الحسن والقبح وجهين لحدوث الحادث دون ما عداهما ، وهذا واضح ببرهانه ، ووضوحه يقتضي حسن إرادته من المكلف فعل الحسن واجتناب القبيح ، ويحيل قبحها لما يعلمه

٥٤

سبحانه في عصيان المكلف ، لانفصال حدوث إرادته سبحانه على الوجه المخصوص عن كونه عالما ، وعدم تأثير علمه في قبحها أو حسنها ، ويوضح ذلك أن علمنا أو ظننا بأن الغير لا يختار الحسن واجتناب القبيح لا يقتضي قبح ارادتنا منه أن يفعل الحسن ويجتنب القبيح ، ولذلك يحسن منا أن نعرض الطعام على الجائع مع ظننا بأنه لا يأكل ، وندلى الحبل الى الغريق مع الظن بأنه لا يعتصم به ، وندعو الى فعل الحسن واجتناب القبيح جميع العقلاء مع علمنا بأن أكثرهم لا يقبل ، ونريد من أهل الذمة وغيرهم من ضروب الكفار الايمان مع الظن بأن جميعهم لا يؤمن ، ومن العصاة المصرين التوبة مع العلم في أكثرهم والظن في الباقين بأنهم لا يختارونها ، ولا يقتضي هذا العلم أو الظن قبح هذه الإرادات عند أحد من العقلاء ، بل حسنها معلوم ضرورة (١) وكونه إحسانا الى من عرض بها للنفع العظيم الذي هو إحسان.

والوجه في توعد العاصي بالعقاب توفير دواعيه الى الواجبات وصوارفه عن القبائح ليصل بفعل ذلك واجتناب هذه الى ما عرض له (٢) من عظيم المنافع ، لكون الخوف من الضرر في الفعل (٣) والإخلال بالواجب داعيا وصارفا معلوما (٤) ضرورة.

[ الوجه في إنزال القرآن محكما ومتشابها ](٥)

والوجه في إنزال القرآن محكما ومتشابها أمور :

__________________

(١) كذا في النسخ ، والظاهر زيادة الواو.

(٢) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها الأخر : إلى أغراض له.

(٣) في بعض النسخ : في العقل.

(٤) في بعض النسخ : غير معلوم.

(٥) ليس في النسخ هذا العنوان.

٥٥

منها أنه تعالى خاطب العرب على عادتهم وهم يستعملون المجاز في كلامهم والتعريض واللحن ـ من قوله تعالى ( وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ ) ـ (١) كاستعمالهم الحقائق ، ولذلك لم يستفهم أحد منهم عن شي‌ء في متشابه القرآن ولا تعلق بمشتبهة (٢) فقدح به في حكمة منزله سبحانه ، وانما التبس الحال فيه على من لم يعرف اللسان الذي نزل به القرآن فصار متشابها في حقه واحتاج العلماء معه الى بيانه له.

ومنها ان القرآن لو كان جاريا في الأحكام وفهم المراد من ظاهره مجرى واحدا لسقط فرض النظر الواجب الان في متشابهه ليجمع الناظر بينه وبين محكمه ، وذلك وجه حكمي لجعل بعضه متشابها وغرض حسن (٣).

ومنها أنه لو كان كله محكما لم يكن فرق بين الحجة والمحجوج ، والعالم والمتعلم ، ولهذا قال سبحانه ( وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٤) وهو يعنى الحجج عليهم‌السلام الذين أمر سبحانه بالرد إليهم وقطع على حصول العلم بجوابهم في قوله تعالى ( وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ ) (٥) وهم الذين أمر من لا يعلم بمسألتهم ليعلم في قوله ( فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) (٦) وقد بينا في غير هذا الكتاب ونبينه فيه كون الأئمة الاثني عشر صلوات الله عليهم اولى الأمر وأهل الذكر دون غيرهم.

__________________

(١) سورة محمد ، الاية : ٣٠.

(٢) في بعض النسخ : مشتبهة.

(٣) في بعض النسخ : وغرض جزء.

(٤) سورة آل عمران ، الاية : ٧.

(٥) سورة النساء ، الاية : ٨٣.

(٦) سورة النحل ، الاية : ٤٣.

٥٦

وعلى هذا يجب أن يكون المتشابه على ضروب : ضرب متعلق باللغة ، وضرب متعلق بأحكام العقول ، وضرب متعلق بالأحكام الشرعية ، فما يتعلق منه باللغة ، العلم بها كاف للناظر في العلم لمراد الحكيم سبحانه منه ، وما يتعلق بالعقول ، العقول كافية لمن استعملها ونظر في أدلتها في فهم المراد منه ، وما يتعلق منه بالأحكام الشرعية ، الشرع (١) فيه الى تراجمته من الحجج عليهم‌السلام هو الطريق الى علمه دون غيره ، وكذلك القول في الألفاظ اللغة المشتركة كقرء. ويحتمل (٢) ما يتعلق بالعقول (٣) طريق العلم بمراد المخاطب سبحانه منه بيان الحجج المنصوبين عليهم‌السلام.

[ الوجه في خلق المؤذيات وما لا يظهر فيه وجه الانتفاع ] )

والوجه في خلق المؤذيات من السباع والهوام والسموم أمور :

منها أن فيها منافع للعلل وأمراض ينغمر في جنبها ضررها.

ومنها أنه سبحانه لما توعد العاصي بالمعاقبة بها جعلها في الشاهد تذكرة كالنار التي جعلها سبحانه مع ما فيها من النفع تذكرة للمزجورين بها.

ومنها أن العاقل إذا علم بأول رتبة وجوب التحرز من هذه المؤذيات فلان يتحرز من الضرر العظيم بالعقاب بالطاعة أولى.

والوجه فيما خلقه سبحانه من شجر ونبات وبر وبحر وسهل وجبل وحيوان لا يظهر فيه وجه الانتفاع ، أنه لا شي‌ء منه الا ويصح الانتفاع به ، ويصح

__________________

(١) في بعض النسخ هكذا : الفزع.

(٢) فيما ظ.

(٣) كون طريق ، ظ.

(٤) زدنا هذا العنوان لتمتاز هذه المسألة عما قبلها.

٥٧

أن يكون لطفا لبعض مكلفي البشر أو الجن أو الملائكة ، إذ كان اللطف يختص جنسا بعينه.

[ الكلام في الالام والأعواض والأرزاق والأسعار والآجال ](١)

والوجه في إيلام الأطفال والحمل على البهائم وذبح الحيوان واستخدام الرقيق ، ما في ذلك من الإحسان إلى المكلفين بالانتفاع بما يصح ذلك فيه ، ويجوز أن ينضم اليه أن يكون لطفا ، وما لا يقع فيه من إيلام الأطفال ، الوجه فيه كونه لطفا للمكلفين ، ولكل مؤلم من هؤلاء الأحياء عوض عظيم على إيلامه يخرجه عن صفته الى خير الإحسان كتعويض الملدوغ بالإبرة الضياع النفيسة والأموال العظيمة ، فيخرج إيلامهم بالغرض (٢) عن قبيل العبث ، وبالعوض عن صفة الظلم (٣) وقلنا ذلك ، لان فعل هذه الالام بغير عوض ظلم ، وبمجرد العوض عبث ، ولا يجوزان عليه سبحانه. وقلنا بتعاظم المستحق من العوض لعلمنا بحسن هذه الالام ، ولو كان مقابلا لها لم يحسن كالظلم الذي قد علمنا استحقاق العوض به مع ثبوت قبحه من حيث كان عوضه مقابلا له من غير زيادة.

والوجه في الغنى والصحة وحسن الصورة ووجود الأولاد وطول العمر والخصب ، كون ذلك إحسانا لا شبهة فيه ، ولا يلزمه عمومه من حيث كان المحسن مخيرا في التعميم والتخصيص غير ملوم على أحدهما ، ويجوز أن يكون فيه لطف للمفعول به أو لغيره.

__________________

(١) زدنا هذا العنوان لتمتاز هذه المسألة عما قبلها.

(٢) بالعوض.

(٣) في بعض النسخ هكذا : وبالصفة عن صفة الظلم.

٥٨

والوجه في الفقر والمرض وقبح الصورة واماتة الأولاد والأحباب وقصر العمر والجدب ، كونه صلاحا في الدين للمتعلق به أو لغيره ، لأنا نعلم أن الحكيم فيما بيننا قد يستصلح من يلي عليه تارة بالنفع وتارة بالضرر ، وحالة بالمسرة واخرى بالغم ، وعليه عوض متى كان لطفا لغير المؤلم ، ولا عوض عليه متى اختص صلاحه به ولا بدل منه من المنافع ، لان كونه لطفا له في فعل الواجب واجتناب القبيح الموصلين الى الثواب كاف في الغرض ومغن عن العوض ، لكون النفع بالثواب أعظم من العوض.

والوجه في تمكين الظالم مع القدرة على منعه أنه سبحانه مكنه ليعدل فظلم ، لأن القدرة على الإنصاف قدرة على الظلم (١) ومنعه من الظلم ينافي التكليف ، وتخليته لا يقتضي الرضا بظلمه ، لكونه سبحانه كارها للقبيح وقادرا على الانتصاف وعالما بأنه سيفعله.

ولذلك قلنا انه لا يجوز أن يمكن من الظلم الا من يمكن الانتصاف منه باستحقاق أعواض يقابل ما يستحق عليه المظلوم ، أو بأن يتكفل عنه العوض على ظلمه لمن ظلمه ، لأنه سبحانه على الوجه الأول عادل على الظالم ومنتصف للمظلوم ، وعلى الوجه الثاني منتصف للمظلوم ومحسن الى الظالم.

وليس لأحد أن يقول : فقد يقع الفساد على كثير مما بينتم كونه صلاحا ، لان كثيرا من ذلك قد يحصل لا من قبله تعالى كالغني من مكاسب محرمة ، والفقر لتفريط الفقير مما يكتسبه من المال أو في وجه التكسب أو لتعدي بعض الظالمين عليه بأخذ ماله أو منعه من الاكتساب ، وإذا خلصت اضافة الغنى والفقر اليه تعالى لم يقدح ما ذكروه في كونه صلاحا ، لان اللطف داع ومقرب الى

__________________

(١) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها الأخر هكذا : قدرة على ما سلف ، ولعل الصحيح : قدرة على الظلم على ما سلف.

٥٩

الحسن ومبعد عن القبيح وليس بملج [ بملجئ ] فسقط السؤال ، ويصح أن يكون تأثيرهما تقليل القبيح وتكثير الواجب دون رفع (١) سائر القبيح وحصول جميع الحسن ، ولا شبهة في وجوب ماله هذه الصفة ، وما قرب وبعد يجب كوجوب ما اقتضى ارتفاع جميع القبيح وحصول كل حسن ، ولتعذر العلم بعين من كانت هذه الأفعال لطفا له قطعا فتعذر لذلك العلم بتأثيرهما وانتفائه.

وعلى هذا يجري القول في جميع ما عددناه ولا وجه للتكرير بتفصيله.

وطريق العلم بكونه من فعله سبحانه هو أن يكون ما وصل إليه الغنى من الأموال أو الضياع أو المماليك على وجه يسوغ له ولا يحسن منعه منه فلذلك [ فذلك ظ ] المال من رزقه تعالى والتمليك من قبله ، لأنه وصل اليه باقداره وتمكينه واذنه ، وما يقبح التصرف فيه من الأموال وغيرها ويحسن المنع منه فليس برزق منه تعالى ولا يحسن إضافته إليه لقبحه واستحقاق الواصل اليه الذم والعقاب ، وما هذه حاله لا يصح وصفه بأنه رزقه ، لأنه تعالى تمدح بكونه رازقا ، ومدح على الإنفاق مما رزق ، وأباحه ، فقال سبحانه في التمدح :

( إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزّاقُ ) (٢) ( هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ ) (٣) ( أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ ) (٤).

وقال في المدح ( وَمِمّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ ) (٥).

__________________

(١) دفع.

(٢) سورة الذاريات ، الاية : ٥٨.

(٣) سورة الفاطر ، الاية : ٣.

(٤) سورة الملك ، الاية : ٢١.

(٥) سورة البقرة الآية : ٣.

٦٠