الكافي في الفقه

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

الكافي في الفقه

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام العامّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

ولا اعترافا ولا مدحا ولا نفعا مدركا في الحقيقة كالقيام للغير في المجلس ، وتقبيل يده أو رجله ، والجلوس دونه ، وغض البصر والصوت له ، والقيام على رأسه ، وأعلاه السجود وتقبيل الأرض ، ولا تكون هذه الأفعال تعظيما الا بقصد ولا يحسن معه الا مستحقا ، وتحسن صورها من غير استحقاق خوفا أو رجاء أو مداراة ، ولا يجوز ان يقصد بها التعظيم لقبح فعله بغير استحقاق.

واما الذم فهو القول المنبئ عن اتضاع حال المذموم.

وخصصناه بالقول والإنباء عن خفوض رتبة المذموم ، لما قدمناه في المدح.

ويفتقر الى الوضع والقصد كالمدح وبرهانه. ويفتقر حسنة إلى العلم بما به يستحق ، لكونه خبرا عن حال المذموم وقبح الاخبار عن غير علم ، ولا شرط فيه.

وينقسم إلى أسماء ودعاء :

فالأسماء : فاسق وكافر وظالم وضال وفاجر وزان ولائط وأمثال ذلك.

والدعاء. الله وجدد عليه العذاب وأخزاه (١) وأشباه ذلك.

هذا متى تكاملت هذه الشروط وصف القول بأنه ذم وقائله ذام والمقول فيه مذموم.

وهو حقيقة في القول ومجاز في الفعل على ما ذكرناه في المدح.

وهو مستحق بفعل القبيح والإخلال بالواجب ، بشرط كون من تعلقا (٢) به عالما بهما أو متمكنا من العلم بكمال العقل ، بدليل عموم العلم باستحقاقه بهما لكل عاقل علم فاعلا لقبيح أو مخلا بواجب وفي كل حال.

وهذا برهان كون العلم بذلك ضروريا من أوائل العقول.

__________________

(١) في بعض النسخ : وأجزأه.

(٢) في بعض النسخ : تعلق به.

٤٦١

وهو مستحق على جهة الدوام ، ويجوز إسقاطه بالعفو عنه ابتداء وعند توبة أو شفاعة حسب ما نبينه.

واما العقاب فهو الضرر المستحق الواقع على جهة الاستخفاف والإهانة

وقلنا : ضرر ، لان النفع لا يكون عقابا من حيث كان النفع داعيا والعقاب صارفا ، و : مستحق ، لتميزه من ضروب المضار الحسنة ، وقيدناه بالاستخفاف بيانا ، إذ به يتميز من أقسام الضرر ، وأما الاستخفاف فكيفية للقول المعرب عن الذم والضرر المستحق ، ولا يكون كذلك الا بالقصد ، وقد ينفرد منهما فيقع بأفعال الجوارح كالتعظيم ، كرفع الصوت على الغير للاستعلاء عليه والاعراض عن حديثه وترك القيام لمن جرت العادة بالقيام له فما فوق ذلك ، لعلمنا بكون الفاعل مستخفا بكل واحد من هذه الأفعال كالقول.

والعقاب مستحق بفعل القبيح والإخلال بالواجب بشرط كونه لطفا.

وطريق حسنه العقول من حيث كان العلم باستحقاقه على فعل القبيح صارفا عنه وبالإخلال بالواجب داعيا اليه.

وكونه بهذه الصفة لا يقتضي القطع باستحقاقه ، لصحة قيام استحقاق الثواب بفعل الواجب واجتناب القبيح مقامه.

وطريق ثبوته السمع دون العقل ، وقد علم من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله ذلك ضرورة وهو على ضربين : دائم وهو مختص بالكفر ، ومنقطع وهو مستحق بما دونه من جميع القبائح فعلا وإخلالا.

وأيهما ثبت لم يزل عقلا ولا سمعا الا عن تفضل مبتدء أو عند توبة أو شفاعة دون ما تدعيه « الوعيدية » من سقوطه بندم أو زائد ثواب عليه.

والعفو المبتدء جائز من طريق العقل عن جميعه ، وقد منع السمع من الابتداء به عن الكفر وعند الشفاعة ، وورد بسقوطه عند التوبة ، وورد مؤكدا

٤٦٢

لسقوط عقاب ما عداه ابتداء وعند توبة أو شفاعة.

ونحن ندل على صحة ما ذهبنا اليه من هذه المسائل ونسقط شبهة المخالف.

أما الدلالة على خلو العقل من دليل بالقطع على العقاب فهي أنه لا يخلو أن يكون ذلك ضروريا أو مكتسبا وليس من قبيل الضروريات لحسن الخلاف فيه ، وقبحه فيما يعلم ضرورة ، وليس مكتسبا لأنه قد سبرنا أدلة العقل فلم نجد فيها ما يدل على استحقاقه.

ان قيل : ألسنا جميعا متفقين على أن العلم باستحقاق العقاب على فعل القبيح والإخلال بالواجب داع الى الواجب وصارف عن القبيح ، فكيف لا تكون العقول دالة على استحقاقه؟

قيل : العلم بذلك انما يقتضي حسن استحقاقه دون ثبوته الموقوف على عدم بدل منه في الاستغلاظ (١) وقد علمنا أن استحقاق الثواب بفعل الواجب واجتناب القبيح كاف للدعاء والصرف ، ولهذا اقتصر الكل من أهل العدل في الدلالة على حسن تكليف المشاق فعلا واجتنابا على استحقاق الثواب دون العقاب.

ولو كان شرطا في حسنه كالثواب. حسنه على إثباته (٢) والمعلوم خلاف ذلك واعتمادا به سبحانه. الفعل والاجتناب مع (٣) عظيم المشقة وكونه. على رفعها بتقوية الشهوة إلى الواجب والنفور عن القبيح لا. خوف الضرر لولا ذلك لوجبت النوافل والمكاسب ظاهر الفساد ، لاتفاقنا جميعا على ما وضح برهانه من القول بأن كل شي‌ء وجب فإنما وجب لأحد

__________________

(١) في بعض النسخ : في الاصطلاح.

(٢) في بعض النسخ : على الثانية.

(٣) من عظيم.

٤٦٣

أمرين : اما لما هو عليه كالصدق والإنصاف ، أو لكونه داعيا إليهما كالصلاة والزكاة ، واستحقاق الثواب والعقاب تابع لثبوت الوجه فيما به يستحقان ، فكيف يجعل من هذه أصوله استحقاقهما أو أحدهما وجها لما به استحقا لولا الغفلة عنها أو الجهل بوجه المناقضة فيها وأى شبهة على ذي بصيرة بالتكليف [ على ذا استحقاق العقاب دون غيره لا ] (١) يفرقان ما بين ماله وجب الواجب مما استحق به ، وأدنى ما في ذلك أن لا يعلم وجوب فعل الصدق والإنصاف واجتناب الظلم والكذب الا من يعلم استحقاق العقاب للإخلال بذين وفعل هذين والمعلوم خلاف ذلك.

وبعد فكان يجب عليهم أن يقتصروا في حسن التكليف على استحقاق العقاب دون غيره ، إذ هو الوجه عندهم ، وهم لم يفعلوا ذلك ، ولو فعلوه لنقض الأصول الثابتة بالأدلة.

فأما المشاق فشرط في التكليف ، وجهة تكليفها ما اتفقنا عليه وقاد اليه البرهان من التعريض للثواب من غير افتقار بنا الى استحقاق العقاب.

فأما النوافل والمكاسب فإنما لم تحب لأنه لا وجه لوجوبها ، وما لا وجه لوجوبه لا يجوز الحكم بإيجابه.

وتعلقه وأصحابه في ذلك أن العقاب لو لم يكن مستحقا لكان المكلف مغري بالقبيح من حيث كان النفع بالثواب المتأخر لا يقابل داعي الشهوة البطلان. (٢) لان علم المكلف باستحقاق الثواب بفعل الواجب. الدعاء والصرف (٣) ومجز في حسن تكليفها ، إذ لا. بالنفع العظيم في الفعل ومصروفا عن القبيح. العلم بكون العاقل ملجئا برجاء النفع العظيم وفوته

__________________

(١) ما بين [] ليس في بعض النسخ.

(٢) كذا في بعض النسخ ، ولعل الصحيح : واضح البطلان.

(٣) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : ادعى واصرف.

٤٦٤

حاصل كحصوله مع خوف الضرر.

وبعد فلو كان استحقاق العقاب شرطا في حسن التكليف للمشاق ، لم يصح أن يعتمد أحد منهم في حسن التكليف على مجرد التعريض للثواب ، إذ كان غير كاف في وجه الحسن ، وفي اتفاقهم على ذلك مع وضوح البرهان به دليل على سقوط هذه الشبهة.

فاما تأخير الثواب فغير قادح في كونه داعيا وصارفا لعلمنا بكون النفع المرجو داعيا وصارفا كالحاضر ، لولا ذلك لقبح التكليف ، إذ كان وجه حسنه بغير شبهة التعريض لثواب آجل.

على أن التأخير لو أثر في كون الثواب داعيا وزاجرا لأثر تأخير العقاب وكان اعتباره في الزجر مع التأخير جهلا منهم.

على انه لو سلم أن الزجر بالضرر شرط في حسن التكليف لكان التجويز كافيا دون القطع ، كسائر المضار المخوفة في الشاهد (١) ، الزجر حاصل بها وان كانت مجوزة غير مقطوع بها.

وإذا لم يكن في العقل دليل على استحقاق العقاب سقط ما يتعلقون به فيه من الاعتبار على دوامه ، إذ القول بذلك فرع لثبوت استحقاقه.

وإذا خلي العقل من دليل على الأمرين وجب الرجوع فيهما الى السمع ، وقد علم كل مخالط من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله استحقاق العقاب بكل قبيح واتفقت الأمة. انقطاع عقاب ما عداه الى زمان حدوث. (٢) الحادث بعد انقراض العصر بالإجماع لا. (٣) العقاب السمع الا قال بانقطاع عقاب لاقتضى اجتماع دائم

__________________

(١) كذا.

(٢) هنا بياض في بعض النسخ.

(٣) هنا بياض في بعض النسخ.

٤٦٥

ثواب المعارف ودائم عقاب القبيح أو منع الثواب أو انحطاط (١) أحدهما بالآخر.

واجتماعهما ومنع الثواب فاسد بإجماع ، والتحابط باطل على ما نبينه ، ولان طريق استحقاق العقاب السمع على ما وضحت حجته ، وليس في السمع ما يقتضي دوام عقاب ما ليس بكفر ، وسنورد ما يتعلقون به من السمع ونبين فساد متعلقهم منه.

وقلنا : ان المستحق لا يسقط بندم ولا زائد ثواب ، لانفصال أحد الأمرين من الأخر وعدم التنافي بينهما ، إذ لا تنافي بين عقاب المعصية والندم عليها ، لكون العقاب معدوما في حال وجود الندم والموجود لا ينافي المعدوم (٢) ، وان كان التنافي بين ثواب الندم وعقاب المعصية فأبعد ، لكونهما معا معدومين واستحالة التنافي بين المعدومات.

وبهذا يبطل قولهم ان إسقاط الزائد من الثواب أو العقاب لما نقص عنه من الأخر.

ولان (٣) الثواب من جنس العقاب وليس بضد له في الجنس فلا يصح بينهما تناف.

وبهذا الاعتبار يعلم فساد القول بسقوط ثواب الطاعة بالندم عليها أو زائد عقاب.

وقد استوفينا الكلام في التحابط في كتاب « التقريب » وبينا فساد ما يتعلقون به من الشبهة ، (٤) وفيما ذكرناه هاهنا بلغة.

__________________

(١) كذا.

(٢) في بعض النسخ : للمعدوم.

(٣) في بعض النسخ : « لان » بدون الواو.

(٤) في بعض النسخ : الشبه.

٤٦٦

وقلنا : ان التوبة وجه لسقوط العقاب عندها لإجماع الأمة على ذلك.

وقلنا : ان العقاب يسقط عندها تفضلا منه تعالى لأنه توبة منه ولأنها لو أسقطت عقاب ما هي توبة منه. الإحباط وقد أفسدناه ، ولأنها لو أسقطت العقاب على جهة. فيمن تاب من الكفر ان لا يضره عقاب شي‌ء من المعاصي. من حيث تزايد عقابه على عذاب ما عداه من العصيان ، فينبغي أن يكون ما زاد ثوابه من التوبة على عقابه أعظم من عقاب كل معصية دونه ، فيلزم على ذلك أن يمنع ثواب التوبة من الكفر من ثبوت عقاب ما دونه ، وذلك ينقض جملة ما يذهبون إليه في الوعيد ، وقد استوفينا الكلام في التوبة وما يتعلق بها بحيث ذكرناه من الكتاب.

وقلنا : ان العفو ابتداء جائز من طريق العقل وأن العقاب يسقط به لحصول العلم الضروري بكونه إحسانا كالابتداء بالنفع وانه حق مستحق اليه قبضه واستيفاؤه ، فيجب أن يسقط بإسقاطه كالدين ، ولا نزاع فيما ذكرناه بين العقلاء ، وانما يدعى « البغداديون » من المعتزلة أن هناك وجه قبح من كون ذلك اغراء ، ولان الزجر من فعل القبيح والإخلال بالواجب مع تجويزه غير واقع موقعه.

وتلك دعوى ظاهرة الفساد لما بيناه ودللنا عليه أولا من حسن التكليف من دون ثبوت العقاب فضلا عن تجويز زواله بعد ثبوته ، ولعلمنا ضرورة أن تجويز الضرر كاف في الزجر ، ولولا ذلك لم يكن في الشاهد أحد مزجورا لضرر لا يعلمه أو يعلمه ولا يقطع على نزوله به والمعلوم حصول الإلجاء (١) في أكثر المواضع مع التجويز فضلا عن الزجر.

وبعد فيلزم على قول هذا قبح قبول التوبة لحصول أعظم المزية لها على العفو للقطع على سقوط. وارتفاع ذلك في العفو فان كان تجويز العفو يقتضي. فأما

__________________

(١) في بعض النسخ : حصول الحياء وهو تصحيف.

٤٦٧

غاية الزجر فإن أرادوا به ما يقتضيه. مع التجويز كالقطع وان أرادوا كل ممكن لزم عليه. حتى يعلم المكلف انه لا طريق الى الخلاص من عقاب عصيانه فهو زجر بغير شبهة وحتى يكون العقاب عاجلا أو عقيب انقطاع التكليف ، والمعلوم فساد ذلك ، وان السمع ورد مؤكدا لجواز العفو عن الفساق لعلمنا بتمدحه سبحانه في غير موضع من كتابه بالعفو والغفران والرحمة المعلوم تخصصه بإسقاط المستحق من العقاب ، وفساد توجه ذلك الى الكفار والى ذوي الصغائر والتائبين ، لوجوب سقوط عقاب القبيلتين وقبح التمدح بالواجب ، ولان سقوط عقاب الصغيرة عندهم مؤثر عن زائد الثواب عليها ، وسقوط العقاب بالتوبة مؤثر بها دون فعله تعالى ، ودلالة صريح الظاهر يقتضي إضافة الغفران اليه تعالى وذلك يحيل تناوله لذوي الصغائر والتائبين بغير اشكال.

ومن ذلك قوله تعالى ( وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ ) (١) وهذا نص صريح بتمدحه بغفران ذنب الظالم في حال ظلمه.

وقوله تعالى ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ إِمّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) (٢).

وقوله تعالى ( رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ) (٣) وهذا خطاب لا يجوز توجهه الى الكفار ولا الى من لا ذنب له من المؤمنين ، لقبح التمدح بالغفران عن الفريقين ، فلم يبق الا توجهه الى من جمع بين طاعته ومعصيته.

وبهذا يسقط حملهم الآيات على ذوي الصغائر والتائبين ، لأن أولئك لا ذنب لهم يغفر ، ولما قدمناه من إضافتهم سقوط عقاب الصغائر بثواب الكبائر من الطاعات

__________________

(١) سورة الرعد ، الاية : ٦.

(٢) سورة التوبة ، الاية : ١٠٦.

(٣) سورة الإسراء ، الاية : ٥٤.

٤٦٨

وعقاب معاصي التوبة (١) بها دونه سبحانه وكون الآيات. الغفران اليه سبحانه.

وقلنا : ان الشفاعة وجه. (٢) عندها لإجماع الأمة على ثبوتها له صلى‌الله‌عليه‌وآله ومضى. (٣) الى زمان حدوث « المعتزلة » على الفتيا بتخصيصها بإسقاط العقاب فيجب الحكم بكونها حقيقة في ذلك لانعقاد الإجماع في الأزمان السابقة لحدوث هذه الفرقة.

ويدل على ذلك ما نقله محدثوا الشيعة وأصحاب الحديث ولم ينازع في صحته أحد من العلماء من قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « ادخرت شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » (٤) وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله : « لي اللواء الممدود ( كذا ) والحوض المورود والمقام المحمود واني اسجد أمام العرش فلا ارفع رأسي وفي النار أحد من أمتي ».

وهذان الحديثان صريحان بتخصيص الشفاعة بإسقاط العقاب ، ولا قدح بما يتأولون به الحديث الأول من حمله على التائبين من الكبائر ، لأنه رجوع عن الظاهر بغير دلالة ، ووصف التائبين من الكبائر بكونهم أهل كبائر ، والإجماع بخلاف ذلك ، ولإجماع آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله على ذلك وإجماعهم حجة.

وقد تعلقوا في تخصيص الشفاعة بزيادة المنافع لأهل الجنة بآيات لا دلالة لها على موضع الخلاف :

__________________

(١) كذا.

(٢) هنا بياض في بعض النسخ.

(٣) هنا بياض في بعض النسخ.

(٤) رواه الشيخ في التبيان ١ ـ ٢١٣ مرسلا ، وقال الطبرسي في مجمع البيان ١٠٤ ـ ١ تلقته الأمة بالقبول.

٤٦٩

منها قوله تعالى ( وَلا يَشْفَعُونَ إِلّا لِمَنِ ارْتَضى ) (١) قالوا : وهذا يدل على تخصيص الشفاعة بالمرتضين.

وقوله تعالى ( وَما لِلظّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ ) (٢) فنفى أن يكون للظالم ناصر.

وقوله تعالى ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ) (٣).

وقوله تعالى ( ما لِلظّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ ) (٤).

والجواب عن ذلك من وجوه :

أولها أن تكون محمولة على الكفار بدلالة إجماعنا على حصول الشفاعة لأهل. بتخصيصها بزيادة المنافع ولما قدمناه من. في مرتكبي الكبائر ولأنه لا دلالة في شي‌ء منها. فيها متعلق بمن لا يرتضى ولا يتم لهم ما يرمونه الا بتقدير ليس. من قولهم ارتضى أفعاله وليسوا بذلك بأولى منا إذا قدرنا لمن ارتضى أن يشفع له ، على أنا لو حملناها على ما قالوه لم يمنع من مقصودنا لها لأنا لا نجيز (٥) الشفاعة إلا لمن (٦) ارتضى ايمانه وطاعاته دون من لم يرتض شيئا من أفعاله إذ ذاك هو الكافر.

وأما الآية الثانية فمتعلقة بنفي النصرة دون الشفاعة ، وهما مختلفان ، لأن الشفاعة سؤال وطلب الى المشفوع اليه ، والنصرة مدافعة عن المنصور ، ولا شبهة في انه لا ناصر للظالمين منه تعالى ولا مدافع عنهم.

واما الآية الثالثة فصريح في الكفار لأنه تعالى قال : ( فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ

__________________

(١) سورة الأنبياء ، الاية : ٢٨.

(٢) سورة البقرة ، الاية : ٢٧٠.

(٣) سورة الشعراء ، الاية : ١٠١.

(٤) سورة الغافر ، الاية : ١٨.

(٥) نخير. خ.

(٦) فيمن. خ.

٤٧٠

وَلا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ) (١) فأخبر أن المذكورين غير مؤمنين إذ لو كانوا مؤمنين لم يتمنوا الرجعة ليؤمنوا ومن لا ايمان له لا يكون الا كافرا لا تصح الشفاعة فيه وسنبين أن الايمان قد يثبت مع ارتكاب الكبائر.

وأما الآية الرابعة فمختصة بنفي شفيع يطاع ولسنا نقول ان الشفيع يطاع ، وانما يطاع الأمر وليس بمأمور تعالى ، والشافع سائل وقبول شفاعته اجابة وانما كان ( كذا ) يكون في الآية حجة لو تضمنت : « ولا شفيع يجاب ».

ولا يمنع من تجويز العفو عن فساق المسلمين وسقوط عقاب المعفو عنه ما يتعلقون به من الآيات :

كقوله تعالى : ( وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها ) (٢).

وقوله سبحانه : ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً ) (٣).

[ وقوله تعالى ( مَنْ يَقْتُلْ ] مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها ) (٤) ونظائر ذلك.

قالوا : وهذه الآيات عامة في كل عاص وقاتل وزان وقد تضمنت. (٥) الوعيد للمذكورين فيها بالخلود ، لان التعلق بها في موضع الخلاف مبني على

__________________

(١) سورة الشعراء ، الاية : ١٠١ ـ ١٠٢.

(٢) سورة النساء ، الاية : ١٤.

(٣) سورة الفرقان ، الاية : ٦٨ ـ ٦٩.

(٤) سورة النساء ، الاية : ٩٣.

(٥) هنا بياض في بعض النسخ.

٤٧١

العموم وليس بصحيح على ما ذكرناه في غير موضع وذكره غيرنا.

وأيضا فإن ورودها عامة عندهم لم يمنع من خروج التائب وذي الصغيرة منها ، لتقدم العلم بسقوط عقابهما ، فكذلك لا يمنع من خروج المعفو عنه لتقدم العلم بجواز العفو وسقوط العقاب بتركهما لعدم الفرق بين الجميع.

وأيضا فعمومهما ( كذا ) معارض بعمومين : أحدهما آيات العفو التي ذكرناها وما لم نذكره ، الثاني عموم آيات الوعيد للمطيعين ، والعمومان إذا تعارضا وقف العمل بهما أو خص أحدهما بالآخر ، والوجه الأول لا يمكن في خطابه تعالى ، فلا بد من تخصيص أحدهما بالآخر ، وعموم آيات العفو لا يحتمل غير ما ذكرناه ولا يجوز تخصيصها بمن ذكروه ، فإنه [ مخالف ] لظواهرها فلم يبق الا حمل ما ذكروه من الآيات على الكفار ان كان وعيدها دائما ، أو انها عامة في كل عاص ووعيدها منقطع ، ويكون لفظ الخلود والتأبيد فيها مفيدا لطول المكث على ما يعهده المخاطبون لها من معاني لفظ الخلود والتأبيد.

وكذلك القول في معارضة عموم آيات الوعيد لها مع فساد التحابط وقبح المنع من الثواب وفساد اجتماع الثواب والعقاب الدائمين في اقتضائه توجه وعيدها ان كان. بانقطاعه ان كان عاما من حيث كان القول بدوامه. لكل مؤمن أو مطيع أو مضل أو مزل أو تائب. بدوام كلها فاسد اما اجتماع الثواب الدائم والعقاب الدائم. أو منعه سبحانه من الثواب وهو ظلم لا يجوز عليه سبحانه أو إحباط أحد المستحقين للآخر وقد بينا فساده وقد بلغنا من استيفاء (١) الكلام على متعلقهم في الآيات في الكتاب المذكور أبعد غاية لم ينته إليها غيرنا وفيما ذكرناه هاهنا مقنع.

وقدمنا الكلام في أسماء فاعلي الحسن والقبح وأحكامهم عاجلا وآجلا بحيث

__________________

(١) استقصاء.

٤٧٢

يجب ذكره من أبواب العبادات فلا وجه لإيراده هاهنا.

وإذا كانت الأمة متفقة على دوام ثواب الايمان وعقاب الكفر وانهما لا يجتمعان لمكلف وقبح منع الثواب وإسقاط عقاب الكفر وفسد التحابط ، فلا بد من القول بأن من ثبت ايمانه عند الله تعالى لا يكفر فيما بعد ، لما يؤدي إليه ذلك من اجتماع ثواب دائم وعقاب دائم أو المنع من الثواب أو إسقاط عقاب الكفر أو إحباط أحدهما الأخر مع فساد ذلك أجمع.

ولا يعترض هذا ظهور الكفر ممن كان مظهرا للايمان ، ولا ما تضمنه القرآن من الاخبار بالكفر بعد الايمان في قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ) (١) وأمثال ذلك ، لان الثواب انما يستحق بالايمان عنده تعالى دون الظاهر ، ولا مظهر له الا ويجوز خلافه ، وليست هذه حال الكفر لأنه لا باطن له ولا شك في ثبوته لمظهر شعاره بإجماع. على الايمان الصحيح اقتضى ذلك (٢) حملها على من كان مظهرا للايمان أو معتقدا له على الوجه المتعبد به (٣).

فصل

القطع على استحقاق المصدق بجملة المعارف الموصوف لذلك بالايمان حسب ما دل الدليل عليه وذكرناه العقاب الدائم والمنع من سقوطه تفضلا فرع لكون عقاب ما ليس بكفر من المعاصي دائما لا يجوز سقوطه بعفو ولا شفاعة وان هناك كبير يزيد عقابه على ثواب الايمان وما يقاربه من الطاعات وان زيادته عليه تقتضي سقوطه ، لان انقطاع عقاب ما ليس بكفر ، أو جواز

__________________

(١) سورة النساء ، الاية : ١٣٧.

(٢) العبارة ناقصة ظاهرا.

(٣) في بعض النسخ : المعتد به.

٤٧٣

إسقاطه تفضلا بعد ثبوته ، أو فقد العلم بتزايده على ثواب الايمان وما يضاهيه من الطاعات ، أو فساد إحباط هذا الثواب بالزائد عليه ، يمنع كل واحد من ذلك من القول بوعيد الفساق من المسلمين على ما يذهبون اليه فيه.

فاما فساد القول بدوامه فقد سلف برهانه وسقوط دعوى ثبوته عقلا وسمعا.

وأما سقوطه بالعفو فقد بينا جوازه عقلا وثبوته سمعا.

وأما طريق العلم بتزايد العقاب على ثواب الايمان فمتعذر عقلا وسمعا حسب ما بيناه في الكتاب المذكور.

واما إحباط العقاب لثواب الايمان فقد تقدم فساد دعوى صحته واستوفينا الكلام. واجتنب سائر الكبائر المعينة وأخل بما عدا ذلك من جميع الواجبات وارتكب سائر القبائح العقلية والسمعية بم تسمعون وتحكمون عليه؟ فان قالوا : نسميه فاسقا ونحكم عليه بعقاب الفساق من الخلود في النار قيل لهم : وأي يدلكم (١) مع قولكم بأن إطلاق هذا الاسم وإثبات حكمه مختص بذوي الكبائر وهذا قد اجتنبها ، وكيف يصح وصفه بالفسق والحكم عليه بما يقتضيه مع تجويز ثبوت ايمانه واجتنابه الكبائر وثبوت ثوابهما وسقوط عقاب جميع ما أتاه من القبح في جنب هذا الثواب.

وبعد فكلكم يذهب الى ان اجتناب الكبائر مقتض لتكفير ما عداها ويعتمد في ذلك على قوله تعالى ( إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ ) (٢) فكيف يتم لكم مع هذا المذهب وصف مجتنبها بالفسق والحكم عليه بحكمه؟

فان قالوا : تكفير السيئات وثبوت ثواب الايمان مشترط باجتناب سائر

__________________

(١) كذا.

(٢) سورة النساء ، الاية : ٣١.

٤٧٤

الكبائر ، وهذا قد أتى ببعضها وان لم يتميز لنا كتميز معاصي الحدود فلذلك سميناه فاسقا وحكمنا عليه بحكم الفساق.

قيل لهم : ومن أين لكم ان في جملة ما أتاه كبير ، مع تجويز كم أن تكون جملته صغائر مكفرة بثواب. ذلك انتقالا عن المعلوم بالظن وذلك معلوم الفساد وهم لا يذهبون فكفونا مؤنة الاحتجاج له وان كنا قد أوضحناه فتعذر عليهم وصفه بالفسق والحكم عليه بموجبه.

وبعد فاذا كان القديم تعالى قد نص عندهم على أن اجتناب الكبائر يكفر ما عداها من السيئات ودانوا به عقلا ودل عندهم الدليل بزعمهم على أن فعلها أو واحدة منها يسقط ثواب الايمان وسائر الطاعات الماضية والمستقبلة ويقتضي بعد ذلك تعذيب العاصي عذابا دائما لا آخر له ، وجب في عدله تعالى تعيينها كمعاصي الحدود ليجتنبها المكلف فيجوز بذلك ثواب طاعاته المقصود بالتكليف ويسقط عذاب معاصيه الخارجة عنها لأنه قد كلف اجتنابها ودل في الجملة على عظم عقابها وكونها مانعا من ثبوت ثواب شي‌ء من طاعاته ، إذ من القبيح أن يكلف ماله هذه الصفة مع تعذر العلم به.

الا ترى ان التوبة لما كانت عندهم مسقطة للعقاب كلفها ودل عليها بصفتها وشروطها ، فماله وجب تعيين التوبة قائم في كبائر الطاعات والمعاصي ، وماله قبح التكليف للتوبة من دون العلم بها له يقبح تكليف الكبائر من دون العلم.

وإذا وجبت هذه القضية وكانوا لا يعينون كبيرا الا ما أوجب حدا وجب القطع على انها كسائر الاثام حسب ... لا يوصف فاعلها بالفسق ولا يحكم ... عليه ... أو فساد ما يذهبون اليه ... مسقطا للعقاب وهم ... القطع على ان ما عدا ... فاسقا والحكم عليه ... لكان المكلف مغري بما عداها من القبائح والإغراء قبيح لا يجوز في حكمته.

٤٧٥

قيل : لا شبهة في أن تعيينها مع ثبوت التحابط يقتضي الإغراء بما عداها ، وكذلك تكليف اجتنابها مع ما هي عليه من الصفة مع تعذر العلم بها قبيح أيضا ، فلم يبق بعد هذا الا القول بنفي كبائر على ما يقولونه لما يؤدي إليه من الفساد.

وان قالوا : نسميه مسلما ومؤمنا ونحكم بالثواب الدائم.

قيل لهم : وكيف لكم بذلك ، وقد اتى بمعاصي تجيزون ان يكون معظمها كبائر تمنع من وصفه بالايمان وحكمه ويقتضي خلوده في النار مع ما تضمن التنزيل من وعيدها كمعاصي الحدود ، كأكل مال اليتيم والفرار من الزحف والحكم بغير ما انزل الله سبحانه والظلم والهمز واللمز والإخلال ببعض الفرائض ومن أي جهة أمنتم عذابه؟ وعلى اي وجه وصفتموه بالايمان وحكمتم له بثوابه مع تجويز كونه فاسقا مستحقا لدائم العقاب وورود النص من الله تعالى بذمة وعقابه مع قولكم باستحالة اجتماع الاسمين وما يستحق بهما مع مدح ذم ، وثواب عقاب؟.

وان قالوا : نسميه مسلما بشرط ان لا تكون فيما أتاه كبيرة.

قيل لهم : هذا أولا مخالف لأصولكم لان. على الإطلاق ومستحقا للثواب حسب اوقا. كافرا يزيد عقابه على عقابه. عن مذهبكم ودخول. يخلو ان يكون التعظيم. مؤمن على الإطلاق وقد بينا ما يلزمهم على القول بإيمانه. فهو فاسق على الإطلاق وقد بينا ما يلزمهم على القول بفسقه ، وسقوط فرض المدح والذم مع ثبوت تكليفه لا يجوز بإجماع ، فلم يبق الا القول باستحقاقه سمة الايمان بتصديقه وطاعاته واجتناب كبائر المعاصي والثواب على ذلك ، ووصفه بالفسق مقيدا بما فعله من القبائح واستحقاقه العقاب المنقطع المرجو سقوطه بعفو مبتدء أو شفاعة ، وسقط لذلك ما يذهبون اليه من القول بكبير مسقط وصغير ساقط وما تفرع على ذلك من التحابط والوعيد.

٤٧٦

وبعد فاذا كان وعيد من ثبت ايمانه على القبيح وسلبه سمة الايمان وحكمه فرعا لثبوت كبائر معينة يزيد عقابها على ثوابه وكانوا يجيزون فيما عدا معاصي الحدود كونه صغيرا وكنا ومن سبقنا من السلف رضي‌الله‌عنهم قد بينا في كتابنا وغيره وبينوا أن ثبوت الحد على المعصية لا يقتضي تزايد عقابها على ثواب الايمان لتجويز كون الحد امتحانا أو قسطا من عقابه أو جميعه مع ثبوت ثوابه ، تعذر طريق العلم بإثبات شي‌ء من المعاصي كبيرا ، واقتضى ذلك فساد ما يذهبون اليه من التحابط المتفرع عليه ، وسقط مذهبهم في الوعيد وأسماء العصاة اليه.

إلزام آخر يقال لهم : إذا كنتم. بوعيدها وحكم على فاعلها.

على معاصي الحدود دون سائرها. الفسق ونفى العدالة بفعلها. والقذف لأنه تعالى قد نص على عقاب أكل مال اليتيم والفرار من الزحف والحكم بغير ما أنزل الله تعالى وفعل الربا وسائر المحرمات وترك الصلاة والحج ومنع الزكاة وسائر الفرائض ، وأجمع المسلمون به وطابق إجماعها قوله تعالى : ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) (١) فعم بالجزاء كل شي‌ء ، وقوله تعالى : « وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ. الاية » (٢) فعم كل عاص بالوعيد ، وقوله تعالى ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ) (٣) وهذا متناول لقليل الظلم وكثيره ، وأمثال ذلك من وعيد القرآن الوارد مورد معاصي الحدود. واجمع المسلمون على تفسيق من وقع منه بعض القبائح وذمه ونفى عدالته ورد شهادته وكراهية مناكحته وإبطال عقد النكاح عند كثير منهم ، ومنع آخرون الصلاة خلفه كإجماعهم

__________________

(١) سورة النساء ، الاية ١٢٣.

(٢) سورة الجن ، الاية ٢٣.

(٣) سورة الفرقان ، الاية ١٩.

٤٧٧

على وصف الزاني والسارق والقاذف بذلك ، وأجروا الأحكام عليه ، فان صاروا الى مقتضى الحجة من هذا الإلزام سقط ما يذهبون اليه من كبير وصغير ، وفسد لذلك ما يتفرع عليه من التحابط ويبنى عليه من الوعيد ، ودخلوا في مذهبنا المحكوم فيه باستحقاق العقاب بكل معصية وثبوت ذلك الا ان يتفضل مالكه بإسقاطه ابتداء أو عند توبة أو شفاعة ، لأن كل من قال بأحد الأمرين قال بالآخر ، وان امتنعوا من ذلك نقضوا ما يذهبون اليه من ان القطع بوعيد المعصية وثبوت سمة الفسق بها.

فان قالوا : لم تنازع في استحقاق العقاب بكل معصية. الكبائر وان لم يتعين لنا منها. جهة الاستحقاق دلالة على انتفاء ما يقابله. اجتماعها فاما ما عداها فوعيدها مشترط بأن يكون. تفرقتكم بين الأمرين مع تناول الوعيد لهما على وجه واحد وثبوت سمة الفسق وأحكامه بكل منهما وتعلق الذم واللعن عليه لان قوله تعالى ( إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً ) (١) وقوله ( وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً ) (٢) « وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ ... الاية » (٣) و ( مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ ) الاية (٤) « يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا ... الاية » (٥) « وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ ... الاية » (٦) وأمثال ذلك من الوعيد

__________________

(١) سورة النساء ، الاية ١٠.

(٢) سورة الفرقان ، الاية ١٩.

(٣) سورة النساء ، الاية ١٤.

(٤) سورة النساء ، الاية ١٢٣.

(٥) سورة البقرة ، الاية ٢٧٨.

(٦) سورة التوبة ، الاية ٣٤.

٤٧٨

القاطع لكل فاعل قبيحا أو مخل بواجب مساو لقوله تعالى ( وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً ) (١) ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ) (٢) ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ) (٣) ( وَالسّارِقُ وَالسّارِقَةُ ) (٤). الآيات فان جاز لهم أن يشترطوا عند أحد الظاهرين جاز لنا اشتراط الأخر وتخصيصه بالمستحيل ( كذا ) من حيث كان تقييد بعض دون بعض اقتراحا.

فاما اقتران الحدود بالاستخفاف ومنافاته للتعظيم فقد استوفينا الكلام عليه في كتاب « التقريب » ونبهنا فيما سلف على ذلك ، وان الحد امتحان مساو للتنكيل ، ( للتكبيل خ ) وان وقوعه عقوبة لا يمنع من ثبوت الثواب لكونه بعض المستحق أو جملته ، وان اجتماع المدح والذم والثواب معلوم حسنه بشرط اختلاف الفعلين فبطل بذلك معتمدهم من الحدود على. قبيحا أو أخل بفرض بالفسق وإجراء أحكامه. مع قولهم أن ثبوت سمة الفسق علم. مساواة ذلك لمعاصي الحدود في الكبير. معاصي الحدود وليس لهم أن يقولوا. كافة أهل الوعيد لان المعلوم ضرورة من دين النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وكافة المسلمين تسمية من ترك الصلاة ومنع الزكاة أو أفطر من الصوم مختارا أو قعد عن الجهاد المتعين عليه أو فر من زحف يجب عليه فيه الثبوت أو أكل مال اليتيم أو عامل بربا أو أكل ميتة أو لحم خنزير الى غير ذلك من القبائح بالفسق ونفى العدالة ورد الشهادة الى غير ذلك من أحكامه كحصول العلم من دينه صلى‌الله‌عليه‌وآله ودينهم

__________________

(١) سورة النساء ، الاية ٩٣.

(٢) سورة الفرقان ، الاية ٦٨.

(٣) سورة النور ، الاية ٤ و ٢٣.

(٤) سورة المائدة ، الاية ٣٨.

٤٧٩

بوصف الزاني والقاذف بالفسق والحكم عليهما بأحكامه وأي مسلم يتحاسر (١) وعيدي أو مرجى‌ء تقدم وجوده أو تأخر يحكم بعدالة من اجتنب معاصي الحدود وأتى ما عداها من القبائح؟ وكل من الفريقين قد نص على ذلك في كتبه وصرح به في فتياه وعم العلم بتدين كافة المسلمين به من زمنه وصحابته والى الان ، فمنع ذلك من دعوى خلاف يعتد به.

وانما ذهبت « الوعيدية » الى اتفاق ( كذا ) سمة الفسق على مرتكب ما علموه كبيرا في كتب الكلام حسب ما اقتضته فيها أصولهم الفاسدة في الوعيد إطراحا لما عم العلم به من دين المسلمين عنادا للحق أو سهوا عنه مع بعده أو قلة تأمل.

وكيف لا يكون الأمر كذلك ونحن نجدهم أجمع يحكمون برد شهادة من علموه مرتكبا لبعض المعاصي وقد نصوا على ذلك في كتبهم المصنفة في أصول الفقه وتجاوزوه الى تفسيق من أخطأ فيما طريقته الاجتهاد من الولاية والعداوة في الدين. في الوعيد حين ذكروا أحكام العدالة في أصول الفقه. من ذلك فيها مع مطابقة المعلوم من دين الأمة من اتفاق. معاصي الحدود خاصة وليس لهم أن يقولوا انما لم يحكم بعد. لتجويزنا أن يكون ما أتاه كبيرا لان ذلك يوجب عليهم كما. بالعدالة لتجويزهم كون ما أتاه كبيرا الا يصفوه بالفسق لتجويزهم كونه صغيرا ويقفوا فيه والإجماع بخلاف ذلك وهم داخلون فيه ومذهبهم ينافيه لأنهم لا يقفون في مكلف بل يقطعون بكفره أو فسقه أو إيمانه ويبدعون ( كذا ) من شك أو قطع باجتماع الايمان والفسق.

وليس لهم ان يقولوا ان العدالة حكم شرعي منعت الشريعة من ثبوته

__________________

(١) كذا في أقدم نسخنا ، وفي بعض النسخ : يتجانب.

٤٨٠