الكافي في الفقه

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

الكافي في الفقه

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام العامّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

وإذا قامت البينة بطلاق وتزوجت المرأة ورجع الشاهدان أو أحدهما اغرما أو أحدهما المهر للزوج الثاني ان كان دخل بها وردت إلى الأول ، ولا يقربها حتى تعتد من الثاني ، وان لم يقربها فرق بينهما ولا شي‌ء لها وهي زوجة الأول ولا عدة عليها.

وكذلك الحكم فيمن شهد بوفاة زوج [ و ] تزوجت امرأته.

وإذا قامت البينة على امرأة بالزنا فادعت أنها بكر فوجدت كذلك درئ عنها الحد.

وإذا قامت البينة بما يعلم الحاكم كذب الشهود فيه أو كون الأمر بخلافها أبطلهما لعلمه وعزر الشهود لتعمد الكذب ، مثال الأول أن تقوم بينة بما يوجب قودا أو قصاصا أو حدا على شخص معين في وقت معين يعلم الحاكم برائته منه في ذلك الوقت بكونه جليسا له فيه ، ومثال الثاني أن تقوم بينة بحق معين من جهة معينة يعلم الحاكم خروج المدعى عليه مما قامت به ، ولا تأديب على الشهود هاهنا لجواز كونهم عالمين بأصل الاستحقاق دون الخروج منه الا ان يقولوا تعمدنا كذبا فيؤدبوا.

٤٤١

فصل في الايمان

الايمان واجبة في حق كل دعوى عدا ما يوجب القصاص على المنكر ، وتأثيرها إسقاط الدعوى في الحال وما يليها ، فان حلف بري‌ء من حق الدعوى وان نكل عنها لزمه مقتضاها ، وله ردها على المدعى ومتى يفعل يجب عليه ، فان نكل عنها سقط حق (١) دعواه وان حلف ثبت حقه.

وأما دعوى القتل والجروح مع الإنكار وفقد البينة فموجبة لليمين على المدعي حسب ما بيناه من القسامة ، فمتى يفعل يجب له الحكم بصحة الدعوى ، وله أن يطالب المدعي عليه بها قسامة (٢) فمتى يفعل تبرأ ذمته من تهمة الدعوى ، وان تنكل ( كذا ) يلزم الحكم بمقتضاها.

ولا يمين الا بعد دعوى ولا يحل دعوى ولا يمين عليها الا عن يقين بصحة استحقاق ما تعلقت به.

ويكفي فيها اسم الله الأعظم كقوله « والله » متجردا عن (٣) الصفات ، والتأكيد بتكريرها « الذي لا إله الا هو الطالب الغالب المدرك المهلك الضار

__________________

(١) في بعض النسخ : حتى دعواه.

(٢) في بعض النسخ : قسامته.

(٣) في بعض النسخ : من الصفات.

٤٤٢

النافع عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم » أبلغ في الزجر.

ويجوز الاستحلاف بكل مكان ، وفي المسجد الجامع تجاه القبلة أولى.

ولا يحل لمن علم غريمه معسرا أن يحبسه مقرا ولا يستحلفه منكرا ، ويكره له استحلافه مع الإنكار واليسار (١) تعظيما لاسمه سبحانه ، وجزما في بقاء الاستحقاق وصحة الدعوى به ، فإن أحلفه أخل بالفضل وفرط بالجزم ، ولم تحل له مطالبته فيما بعد ، ولا اقامة بينة عليه وان أقامها لم تقبل ، فان ظفر له بمال لم يحل له أخذه غيلة ، وان جاءه بحقه بعد اليمين له نادما من عصيانه حل له أخذه والعفو عنه أفضل ، وان احتسبه عند الله تعالى قبل اليمين أو بعدها لم يجز له أخذه بحال.

والأولى بذي الدين والفضل إذا بلى بدعوى باطلة أن يخرج منها ولا يحلف ان كانت لا تؤثر في حاله ، وان رد غريمه اليمين عليه فيما يعلم صحته أن لا يحلف تنزها عن الحلف وتعظيما لأسماء الله تعالى ، ومحرم ذلك على المدعي عليه ، ويكره له ان يرد اليمين على ذي الدعوى الباطلة ليسلمها اليه بل يمينه هاهنا أولى. وأولى من الجميع ما قدمناه من الخروج عن موجبها ولا يحلف ولا يستحلف وان كان لو حلف صادقا أو استحلف من يعلمه كاذبا لم يأثم وانما يخل بفضل ويرغب عن نفل (٢).

ولا يجوز الاستحلاف عند قبر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله على ما لا يوجب مثله القطع.

__________________

(١) في بعض النسخ : الإيسار.

(٢) في بعض النسخ : نقل.

٤٤٣

الفصل الثالث من تنفيذ الأحكام

يلزم المؤهل لتنفيذ الأحكام أن يفرد (١) لنظره بين الناس وقتا لا يثبتونه (٢) بشي‌ء من الأغراض الدينية ولا الدنيوية سواه وينظر في ما عداه من الأوقات فيما يؤثره منهما (٣).

ولا يجلس وهو غضبان ولا جائع ولا عطشان ولا مهموم ولا ذا داع الى بعض المشتهيات ، وأولى المجالس به مسجد الجامع أو مسجد المحلة ولا حرج في الجلوس عليه في منزله.

فإذا عزم على ذلك فليتطهر ويلبس أجمل زيه ويمس طيبا ويصلى ركعتين يعقبهما بالتسبيح والرغبة الى الله تعالى في توفيقه وتسديده ومعونته على ما يبتلى به ، ثم ليجلس مستدبر القبلة ليكون وجوه الخصوم إليها ، وعليه السكينة والوقار ، وليتق في مجلسه المجون والدعابة بنفسه ولينزهه عنهما من غيره ، وليجلس شهوده ناحية عنه ، وليوطن نفسه على القوة في أمر الله تعالى وصحة العزيمة في تنفيذ حكمه.

ثم ليأمر أمينا أن يكتب أسماء كل خصمين في رقعة ويرفع الرقاع إليه

__________________

(١) في بعض النسخ : يفرده.

(٢) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : لا يشوبه.

(٣) منها.

٤٤٤

فيخلطها ثم يخرج منها رقعة فيقدم النظر بين من تضمنت ذكره من المتحاكمين اليه ، ثم كذلك ثانية وثالثة حتى يأتي على (١) جميعها ، وان لم يحضر الا خصمان أحضرهما بغير رقعة.

فاذا انتهى الخصمان اليه فليسو بينهما في المجلس واللحظ (٢) والإشارة ، فإن سلما أو أحدهما فليرد عليهما ، ولا يبدأهما بخطاب الا أن يصمتا فيقول : ان كنتما حضرتما لشي‌ء فاذكراه فان أمسكا أقامهما ونظر في حكومة غيرهما.

وان ادعى أحدهما شيئا مجهولا قال له حقق دعواك فان فعل والا أقامهما وان كان متميزا أقبل الحاكم على خصمه وقال له ما تقول في دعواه؟ فإن أقربها اعتبر حاله فان كان حرا عاقلا مختارا للإقرار ألزمه الخروج الى خصمه مما أقربه ، فإن امتنع أمره بملازمته ، (٣) وان سام (٤) حبسه حبسه وان سام إثبات اسمه في ديوان حكمه لم يجز له ذلك الا أن يكون عارفا بالمقر بعينه واسمه ونسبه أو يشهد بذلك عنده شاهدا عدل ، وان كان المقر عبدا أو أمة أو مئوف العقل أو صغيرا أو سفيها أو مكرها على الإقرار لم يعتد بإقراره.

وان أنكر فكان عالما بصدق المدعي أو المدعى عليه على كل حال وفي تلك القضية حكم بعلمه ولم يحتج الى بينة ولا يمين إلى صحة دعوى ولا إنكار الا أن تقوم بينة تمنع من استمرار العلم فيحكم بمقتضاها ، كعلمه بأن زيدا باع دارا من عمرو فالحكم بالعلم يقتضي تسليم الدار الى عمرو ، فان قامت بينة عادلة بأن زيدا ابتاع تلك الدار بعينها من عمرو بعد تاريخ علمه ، فالواجب

__________________

(١) في بعض النسخ : عليه بجميعها.

(٢) في بعض النسخ : واللفظ.

(٣) في بعض النسخ : بملازمة.

(٤) كان في النسخ : ان سام وحبسه حبسه.

٤٤٥

أن يحكم في ذلك بالبينة ، لأن العلم بالابتياع الأول لم يسلم استمراره ، ونظائر ذلك من المعلومات.

ولا يتوقع قيام بينة تكذب من علمنا صدقه بالبرهان في دعوى أو إنكار لعصمته أو لغير ذلك ، وان حصلت حكم ببطلانها.

وان لم يعلم صدق أحدهما قال للمدعي : قد أنكر دعواك فما تريد؟ فان قال : لي بينة ، قال : أحضرها ، فان حضرت بينة قد تقدم للحاكم العلم بتكامل شروطها حكم بمقتضاها كإقرار ، وان كان عالما باختلال الشروط فيها ردها ، وان كانت مجهولة أوقف الحكم حتى يكشف عن حالها ، فان وضح له تكامل الشروط المعتبرة في قبول الشهادة حكم بها ، وان ظهر له خلاف ذلك أو التبس الحال فيها ألغاها.

وان ادعى بينة غائبة ضرب له أجلا لإحضارها وفرق بينه وبين خصمه ، فان سام تضمين إحضاره متى حضرت البينة الزم خصمه بذلك ، فان قضت (١) المدة ولما يحضر بينة سقط تضمين (٢) خصمه فان لم يكن له الا شاهد واحد وامرأتان قال له : أتحلف مع بينتك على دعواك؟ فان حلف الزم خصمه بالخروج اليه من الدعوى وان امتنع أقامهما.

وليفرق بين الشهود في حال إقامة الشهادة فيسمع ما يشهد به كل واحد منهم منفردا ويكتبه ، فان اتفق معنى الشهادتين والدعوى حكم بها ، وان اختلفت أبطلها وان تعتع الشاهد أو تشكك لم يسدده فان تسدد وحقق الشهادة (٣) أثبتها والا أبطلها ، وكذلك يجب أن يصنع في الشهادات الموجبة للحدود والقصاص.

__________________

(١) فان انقضت.

(٢) في بعض النسخ : سقط تضمين ، إحضاره ومتى خصمه.

(٣) في بعض النسخ : وحقق الشهادة فليسمع ما يشهد به كل واحد منهم منفردا أثبتها.

٤٤٦

ولا يحتاج مع البينة إلى يمين الا فيما يثبت بها على ميت أو غائب.

وان لم تكن له بينة قال له : ما تريد؟ فإن أمسك أقامهما ، وان قال : يمينه ، أقبل على خصمه فقال له : أتحلف؟ فان قال : نعم ، خوفه الله تعالى وبالغ في تخويفه ، فإن أقر بالدعوى الزمه الخروج اليه منها ، وان أقام على الإنكار عرض عليهما الصلح ، فإن أجابا اليه رفعهما الى من يتوسط بينهما ولا يتولى ذلك بنفسه لان الحاكم نصب للقطع بالحكم وبت الحق والوسيط شافع ويجوز له في الاصطلاح ما يحرم على الحاكم. فإن أبيا الصلح اعلم المدعى أن استحلاف خصمك يسقط حق دعواك ويمنع من سماع بينة ان كانت لك ، فان رغب عن الاستحلاف أقامهما ، وان رضي استحلفه فاذا حلف بري‌ء من حق دعواه وتأثير بينة ان قامت له.

وان نكل عن اليمين ألزمه الخروج اليه من حق دعواه ، وان قال : يحلف ويأخذ ما ادعاه ، أقبل الحاكم على المدعى فقال له : أتحلف على دعواك؟

فان قال : لا ، أقامهما وان قال : نعم ، خوفه الله تعالى ، فان رجع عن اليمين أقامهما وان حلف الزم خصمه الخروج اليه مما حلف عليه ، وان قال لا احلف حتى يحضر حقي ألزم الحاكم خصمه بذلك.

فان عاد بعد رد اليمين على المدعى فقال : أنا أحلف ، لم يلتفت الحاكم الى قوله الا أن يختار خصمه.

وان امتنع المردود عليه اليمين منها سقط حق دعواه في المجلس ، فإن أقام بينة فيما بعد بصحة دعواه حكم بها.

وان ادعى المقر أو المشهود عليه إعسارا يعلمه الحاكم أو تقوم به بينة في الحال لم يحبسه ولكن يقرر عليه ما يفضل من مكسبه عن قوته وعياله لغريمه ، وان لم يعلم ذلك من حاله ولا قامت به البينة حبسه وكشف عن أمره ، فإن وضح

٤٤٧

له إعساره أخرجه من الحبس وصنع فيما عليه من الحق ما تقدم.

فان تجلد الغريم على الحبس وأصر على الامتناع من الخروج الى خصمه من الحق وله ذمة ضيق عليه أصر أخذ من ماله باليد وفي غريمه (١) وان لم يكن له مال باع عليه العقار والرقيق والانعام والدواب وغير ذلك حتى يستوفي غريمه ما ثبت له في الحكم.

وكذلك يصنع الحاكم في أموال المحجور عليهم وما يثبت عليهم من الحقوق.

ويلزم الحاكم إخراج المحبسين في الحقوق إلى الجمعة والعيدين فاذا قضيت الصلاة ردهم الحبس (٢).

فان ورد عليه ما لا يعلم وجه الحق فيه أوقفه الى أن يصح له (٣) ذلك ، فان حكم بما يظنه حقا أثم ، فان انكشف له أنه حق فهو ماض ، وان انكشف خطأه فيه عن الصواب أبطل ما حكم به ، فان لم يتمكن في استدراكه فهو ضامن لما أخذ بحكمه من مال ومطالب بما نفذ بقضائه من قتل أو جراح أو حد أو تأديب.

وان انكشف له أن المقر كان عبدا أو أمة أو مأوف العقل أو مكرها رجع في القضية ورد ما أخذ بحكمه من المحكوم له أن تمكن منه والا من ماله (٤) على سيد العبد أو الأمة وولي المحجور عليه والمكره.

وإذا انكشف له كذب الشهود أو فسقهم أو شهادتهم بما لا يعلمون أو رجوعهم عن الشهادة أبطل الحكم ورجع بما أخذ بشهادتهم حسب ما تقدم بيانه.

__________________

(١) كذا في النسخ.

(٢) المحبس.

(٣) كذا والظاهر : يتضح.

(٤) كان في النسخ : والأمر ماله.

٤٤٨

وإذا تقابلت عنده البينات حكم بما سلف ذكره.

فاذا تساوت الأيدي في التصرف وفقدت البينات حكم بالشركة ، أرضا كانت أم دارا أم سقفا أم حائطا لا عقد فيه الى أحد المتصرفين ولا تصرف خاص ، فان كان عقد الحائط إلى أحدهما أو التصرف مختص (١) به كالخشب وشبهه حكم له به دون الأخر.

ولا يجوز له أن يحكم بقول غيره من الحكام : ثبت عندي حق فلان على فلان بعلم أو إقرار أو بينة ، ولا بكتابة منفردا من بينة تشهد بضمنه لذوي الدعوى أو إقرار ، لخروج (٢) ذلك عن موجبات الحكم من العلم والإقرار والبينة واليمين.

فان شهد عنده بإقرار الخصم عنده بدعوى أو يمين وكان عدلا حكم بشهادته ويمين المدعى.

وان شهد عنده بقيام البينة عليه مع إنكاره لم يحكم الا أن يشهد عنده شاهد آخر بصفة الشهادة فيحكم بشهادتهما من غير يمين لقيام شهادة الاثنين مقامهما.

فان شهد عنده اثنان على شهادة واحد حكم بها مع يمين المدعى كشهادة الواحد المنفرد على ما سلف بيانه ، ولا مزية للحاكم العدل هاهنا [ على ] غيره.

وإذا علم عقدا أو إيقاعا أو تملكا مخالفا للمشروع فيه أو قامت بذلك بينة أو حصل به إقرار حكم بفساد مقتضاه.

وإذا ثبت عنده ردة (٣) بعض الناس حكم بها وان شهد عنده ألف بالبراءة منها ، وإذا ثبت عنده التسبب ( كذا ) لم يسمع بينة ولا إقرارا بنفيه ، ولا يحل لأحد

__________________

(١) يختص به.

(٢) في النسخ : الخروج ، والظاهر ما أثبتناه.

(٣) رده. كذا في النسخ. ظ.

٤٤٩

أن يدعى على غيره ما لا يعلم استحقاقه وان كانت هناك شبهة ظاهرة وظن قوي.

وإذا قال المدعى في مجلس الحكم : ادعى عليه ، أو اتهمه ، أو حدث ما يقتضي استناد دعواه إلى التهمة دون العلم أسقط دعواه ، ولا يقبل من الدعاوي إلا قوله : « استحق » وما أفاد معنى ذلك ، وليتق الله هذا المدعى من دعوى الكذب والمطالبة بالباطل ، وليتق الله هذا المنكر من الكذب ودفع الحق.

وإذا تحاكم اليه بعض كفار الأصل كاليهود والنصارى أو كفار الملة كالمجبرة والمشبهة والوعيدية فليحكم بينهم بما يقتضيه المشروع دون ما يرونه أولئك في دينهم وهؤلاء في مذهبهم.

وليعلم أن الحكم بين الناس رتبة عظيمة ومنزلة جليلة ورئاسة نبوية وخلافة إمامية لم يبق في أعصارنا هذه وما قبلها بأعصار من رئاسات الدين غيرها ، فبحسب قوة المأهول لها (١) في الدين وصحة عزيمته في تنفيذ الأحكام وصادق نيته في القيام بما جعل اليه واضطلاعه به وبصيرته فيه تعلوا كلمة الإسلام ويعز الدين ، وبحسب ضعفه عن ذلك أو جهله به يضمحل الحق وتندرس أعلامه.

فليتق الله من عرض لذلك ، فلا يتقلده الا بعد الثقة من نفسه بالقيام بما جعل اليه ، وإذا علم من نفسه تكامل الشروط فعرض للحكم وجب عليه تكلفه ، لكونه أمرا بمعروف ونهيا عن منكر ، فاذا تقلده فليصمد (٢) للنظر في مصالح المسلمين وما عاد بنظام الملة وقوى الحق ، وليجتهد في إحياء السنن واماتة البدع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإبطال ما يمكن منه من أحكام الجور وإنفاذ ما استطاعة من الحق.

وليتخير الحكام النائبين عنه في البلاد ، ولا يقلد الحكم من لا يتكامل له

__________________

(١) كذا يقرء ما في بعض النسخ.

(٢) في بعض النسخ : فليحمل.

٤٥٠

شروطه ، فان لم يجد فليجعل وسائط يمنعهم عن إنفاذ حكم من غير رأيه ، فليجتهد في تخيره المأهولين في الوساطة (١) بين الناس ، ولا يعدل شاهدا لم يتكامل شروط العدالة فيه ولا يجعل أمينا على أموال الناس الا بعد سبر (٢) حاله والاجتهاد في تخيره.

فان انكشف له أن من قلده الحكم أو جعل اليه الصلح أو أهله للشهادة أو تحمل الامانة (٣) غير متكامل الشروط فليعزل الحاكم وليستبدل بالوسيط والأمين ويسقط عدالة الشاهد.

فان وقع من بعضهم ما يتعدى ضرره الى غيره في الأنفس أو الأموال بغير حق فليرجع عليه بدركه حسب ما تقدم ذكره.

وليجعل لدرس العلم وادامة الفكر فيه وقتا خاليا له وللمذاكرة به والمناظرة وقتا ليكون ذلك عونا على ما يلي به من الحكم بين الناس ، وما لعله يحدث مما لم يتقدم له علمه.

__________________

(١) في بعض النسخ : للوساطة.

(٢) في بعض النسخ : سير.

(٣) في بعض النسخ : الإمامة.

٤٥١

فصل في الصلح

الصلح حكم جائز لا خيار لأحد الخصمين بعد مضيه سواء كان المصلح عالما بما يقع عليه أو جاهلا ، ولا يحل لأحد الخصمين أن يأخذ بالصلح ما لا يستحقه ولا يمنع له ما يستحق عليه كما لا يحل ببينة ولا يمين.

فان اقترن بالصلح تحليل في الحقيقة لم يصح الرجوع بشي‌ء منه على حال ، وان كان لضرورة دعت الى حفظ بعض الحق بالصلح فلذي الحق الباقي بعد مضيه أن يتوصل بغير الحكم إلى أخذه وان لم يأذن له غريمه ، ولا حق له بعده في الحكم.

ويلزم من أخذ بالصلح ما لا يستحقه أو أسقط به ما يستحق عليه أن يخرج منه الى مستحقه أو يستحله ، ولغريمه أخذه والعفو عنه.

ويجوز لمن اضطره غريمه الى ما لا يقدر عليه من جملة الحق أن يصالح على بعضه بشرط العزم على أداء ما يسقط بالصلح حين التمكن منه أو العفو عنه.

ومن كان عليه حق لغيره فمات قبل الخروج اليه منه لم يجز للغريم مصالحة الورثة على بعضه الا بعد علمهم بمبلغه وان كان لو صالحهم من دون ذلك لمضي الصلح في الظاهر وبقيت تبعته عند الله عزوجل الا أن تحلله الورثة.

ومن كان عليه دين إلى أجل فقال له صاحبه : عجل لي البعض واترك لك

٤٥٢

الباقي ، ففعل ، مضى (١) إسقاطه وحل للغريم ما أسقط ولم يصح رجوعه بشي‌ء منه.

وإذا تنازع اثنان شيئين في أيديهما أو لا يد لأحدهما فيهما فقال الواحد منهما : هما لي ، وقال الأخر : هما شركة بيننا ، فأحد الشيئين لمن قال : هما لي ، ويقسم الأخر بينهما صلحا ، وان قال كل واحد منهما : هما لي قسما بينهما.

ومن كان عليه سلف في ثوب عشرون درهما وفي ثوب ثلاثون درهما فعملهما وأنفذهما الى المسلمين فلم يتميزا ، فالحكم أن يباعا ويكون لصاحب الثلاثين ثلاثة أخماس الثمن وللآخر خمسان.

ومن كانت عنده وديعة ديناران لمودع ولآخر دينار فهلك من حرزه دينار لم يتميز فالحكم لصاحب الدينارين دينار خاص ويقسم الأخر بينهما.

تم التكليف السمعي بحمد الله تعالى.

__________________

(١) في بعض النسخ : ففعل ما مضى إسقاطه.

٤٥٣

المستحق بالتكليف وأحكامه

٤٥٤
٤٥٥

فصل في المستحق بالتكليف وأحكامه

إذا كنا قد أتينا على ذكر جملة التكليف عقلا وسمعا فينبغي أن نبين المستحق به وأحكامه وكيفية استحقاقه وشروط ثبوته وزواله وحال اتصاله ، إذ هو الغرض المجرى (١) بالتكليف اليه والباعث عليه وماله حسن تحمل (٢) مشاقة فعلا واجتنابا.

والمستحق بالتكليف مدح وثواب وشكر وذم وعقاب.

فأما المدح

فهو القول المنبئ عن عظم حال الممدوح.

وقلنا : القول ، لتميزه من سائر الأجناس عداه ، و : المنبئ ، ليخصه بنوع الاخبار ، ولهذا يحسن فيه التصديق أو التكذيب ، و : عن عظم حال الممدوح ، لتميزه من كل خبر لا يفيد ذلك.

ويفتقر الى شرطين : أحدهما أن يكون موضوعا في عرف المادح للمدح ، الثاني ان يقصد به تعظيم الممدوح.

واشترطناه بالوضع لوقوف الفائدة عليه ، واشترطناه بالقصد لأن الساهي والملجإ والخائف والراجي واللاهي لا يكون مادحا بما وضع من الألفاظ للممدوح

__________________

(١) كان في النسخ : المجرد.

(٢) في بعض النسخ : يحمل.

٤٥٦

من حيث تجرد قوله من القصد.

وينقسم في عرفنا إلى شيئين : أسماء ودعاء.

والأسماء : مؤمن وصالح وبر وتقى ومسلم وعابد وزاهد وأمثال ذلك.

والدعاء : رحمه‌الله ، ورضي‌الله‌عنه ، ورفع درجته ، وأعلاه ، وصلوات الله عليه ، وعليه‌السلام (١) وهذان اللفظان مختصان بالأنبياء ومن ضارعهم في الحجة من الأئمة.

والدليل على صحة هذا الحد أنه متى تكاملت هذه الشروط وصف القائل مادحا وقوله مدحا والمقول فيه ممدوحا.

وهو مستحق بفعل الندب والواجب واجتناب القبيح ، لعلم كل عاقل اختصاص استحقاقه بذلك.

ومن شرط حسنه أن يعلم المادح ثبوت ما يستحق به المدح ولا يكفي فيه الظن ، لان المادح مخبر والاخبار بما لا يعلمه المخبر قبيح ، فان علم الطاعة ووقوعها لوجهها أطلق المدح وان علمها دون الوجه اشترطه.

وطريق العلم باستحقاقه من الوجوه المذكورة الضرورة ، لعموم العلم بذلك لكل عاقل وحال (٢) على وجه لا يمكن دخول شبهة فيه.

وهو مستحق على جهة الدوام ، لوجوب فعله في كل حال ، وإذا ثبت لم يسقط بندم ولا زائد مستحق على ما نبينه.

ومن شرط استحقاقه أن يفعل الواجب والندب للوجه الذي له كانا كذلك ويتجنب القبيح لوجه قبحه ، لما بيناه من تخصيص التكليف في جميع ضروب الحسن والقبيح بالوجوه التي لها كانت كذلك.

__________________

(١) الجملتان الأخيرتان توجدان في بعض النسخ.

(٢) كذا.

٤٥٧

وأما الثواب فهو النفع المستحق الواقع على جهة التعظيم.

وقلنا : نفع ، لان الضرر لا يكون ثوابا ، و : مستحق ، لقبح التفضل بالثواب ، واشترطنا التعظيم لتميزه من العوض.

وهو مستحق من الوجوه التي استحق منها المدح بشرط اقتران المشقة به ، واشترطناها إذ لا وجه من دونها يجب له استحقاق الثواب ، ولأنه تعالى يستحق المدح بما يستحق به الثواب ولا يستحقه لفقد شرطه من المشقة ، وشرطنا ثبوته بشرط ثبوت المدح من اعتبار الوجوه في إيثار الحسن واجتناب القبيح.

وطريق العلم باستحقاقه العقل ، وسبب حصوله النظر حسب ما سلف لنا (١) في بيان الغرض بالتكليف ، والمعلوم من جهة العقل استحقاقه دون دوامه ، لعلمنا ضرورة بحسن تحمل المشاق لنفع منقطع ، ولو كان دوام المستحق شرطا في حسن تحمل المشاق لم يحسن منا في الشدائد تحمل شي‌ء من المشاق لنفع منقطع ، والمعلوم خلاف ذلك ، وقد ذكرنا ما يتعلق به من قال بدوامه في كتاب « التقريب » وبينا فساد متعلقة ، وانما نعلم دوامه بالسمع ، وهو العلم العام لكل مخالط من دين نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله بدوامه ، وإذا ثبت استحقاقه لم يزل بندم ولا زائد عقاب على ما نوضحه.

واستحقاقه مختص به تعالى ، لاختصاص شرط استحقاقه به سبحانه من المشاق المستندة إلى جعله تعالى الحي نافرا عن الحسن ومائلا إلى القبيح ، وهو مستحق عقيب الطاعة وفي كل حال مستقبلة أقساطا مخصوصة الى ما لا آخر له ، والتزايد بين ثوابي الطاعتين والمطيعين يرجع الى المقادير المفعولة في كل وقت من الكثرة والقلة وان كان الجميع لا آخر له.

ولا بد ان يكون المستحق منه بالغا مبلغا يحسن لمثله تحمل مشقته وخالصا

__________________

(١) راجع ص ٣٧ ـ ٣٨.

٤٥٨

من الشوائب حسب ما أخبر به تعالى.

وأما الشكر فهو الاعتراف بالنعمة على وجه التعظيم للمنعم.

وقلنا ذلك ، لأنه متى قرن بالتعظيم كان شكرا ومتى انفرد أحدهما من الأخر لم يكن شكرا.

وهو من أفعال القلوب ومن جنس الاعتقادات والعلوم ، ولذلك يوصف من علم معترفا خاضعا بأنه شاكر وان كان ساكتا أو أخرس ، وانما يفتقر الى القول المعرب عن حال الشاكر ليعلم أنه قد أدى ما يجب عليه منه ، فهو واجب لرفع الإبهام ، فإن زال اللبس سقط فرض النطق بما ينبئ عنه ، ولذلك لم يجب النطق به في حق شكره سبحانه في كل حال ذكر وان كان شكره فيها واجبا ، فأما ما يختص القلب في الاعتراف والخضوع فواجب في كل حال ذكر.

والحمد والشكر صيغتان وضعتا لمعنى واحد ، إذ لا فرق بين قولنا : حامد وشاكر.

وهو مستحق بالانعام خاصة ، وهو كل عمل قصد به نفع الغير أو من يتعدى اليه نفعه أو دفع ضرر عنه أو عن من يتعدى اليه ضرره ، أو ما أدى إليهما ، لأن كل من علم ما له هذه الصفات علمه نعمة ، وقد تقع النعمة على وجه فيكون شكرها عبادة ، وعلى وجه فيكون طاعة ، وعلى وجه فيكون اعترافا وخضوعا فقط.

فالأول أن تكون أصولا للنعم وبالغة مبلغا لا تبلغه نعمة منعم ولا يتقدر نعمة من دونها ، وذلك مختص بنعمة سبحانه ، لكونها أصولا للنعم من الحياة والعقل والحواس ومدركاتها والشهوة والمشتهيات ، وغاية في الأنعام لبلوغها مبلغا لا يوفى جميع نعم المنعمين بواحدها ولا يتقدر من دونها كالحياة والشهوة ، فلذلك استحق سبحانه من الشكر مبلغا لا يدانيه شكر منعم ، ووصف لذلك بعبادة ، لكونه غاية في الخضوع له تعالى ، وكون الخاضع عابدا ، ولذلك قلنا : ان

٤٥٩

العبادة لا يحق لغيره تعالى من حيث كانت كيفية لشكر لا يصح أن يستحقه سواه.

والثاني أن تكون النعمة مستغرقة جميع منافع المنعم عليه كنعمة الوالد على ولده والسيد على رقيقه وما يجرى مجرى ذلك من الانعام ، لعلمنا بوجوب طاعة من هذه حاله حسب ما سلف في أول الكتاب (١).

وما خرج عن ذين النعمتين فرض شكره مختص بالاعتراف والخضوع.

ويترتب في العظم والصغر بحسب تعاظم الانعام وصغره.

ومن شرط ثبوته علم المنعم عليه أو ظنه أو تمكنه من ذلك بأن المنعم قصد به الإحسان اليه على وجه يحسن ، لأنه متى لم يعلمه أو يظنه قاصدا نفعه لم يتعين عليه شكره ، ومتى علم أو ظن قبح ما قصده وان كان نفعا قبح شكره من حيث علمنا فساد استحقاق المدح والشكر بما يستحق الذم (٢).

وطريق العلم باستحقاقه أوائل العقول ، لعمومه لكل عاقل وحال على وجه لا مجال للشبهة فيه.

وهو مستحق على جهة الدوام وإذا ثبت لم يزل بندم ولا عظم إساءة على ما نوضحه.

وإذا تكاملت شروط الانعام استحق به المدح على من علمه والشكر على المنعم عليه خاصة ، واما التعظيم والتبجيل فكيفية للقول الموضوع للمدح للعبارة (٣) عن الشكر بالقلب والاعتراف بالنعمة وللنفع المقصود به الإثابة على ما تقدم بيانه ، فلذلك لم نفردهما بذكر.

وقد يفردان من ذلك أجمع فيقعان بأفعال الجوارح التي ليست قولا

__________________

(١) راجع ص ٣٣.

(٢) في بعض النسخ : للذم.

(٣) كذا في بعض النسخ.

٤٦٠