الكافي في الفقه

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي

الكافي في الفقه

المؤلف:

أبي الصّلاح تقيّ بن نجم الحلبي


المحقق: رضا الاستادي
الموضوع : الفقه
الناشر: مكتبة الإمام أمير المؤمنين عليه السلام العامّة
الطبعة: ٠
الصفحات: ٥٤٤

أهلها.

وان آجرها من مسلم أو ذمي فعلى المستأجر خراجها ، ويرجع على المالك به ما لم يشترطه (١) في عقد الإجارة.

وإذا انتقلت بأحد الوجوه الى عبد مسلم أو ذمي أو مدبر أو مكاتب مشروط فحق الأرض يختص بالسيد ، وان كان مكاتبا قد عتق بعضه فعليه من حق الأرض بحساب ما عتق منه ، وعلى مكاتبه الباقي.

وخراج أرض الذمي لازم له وان يردها ( كذا ) أو عجز عن عمارتها وزراعتها.

وان كان شرط الصلح مختصا بما يخرج الأرض وصفته من جدب وخصب أخذت منه وسلمت الى من يعمرها من أهل دينه ويؤدى خراجها ، فان لم يجد من يأخذها من أهل دينه أعطيت لغيره ، فما فضل عن حق المزارع والخراج فهو للذمي ، ولا شي‌ء عليه فيما نقص.

وان كان شرط الأرض مختصا بمساحتها كان على كل ضريب (٢) درهم فهو مضاف إلى جزئه الرؤوس ، يلزم الذمي العاجز عن عمارتها أداؤه كجزية رأسه ويصنع بأرضه ما شاء.

فأما أرض الأنفال فقد تقدم بعينها (٣) فهي للإمام ليس لأحد من الذرية ولا غيرهم فيها نصيب ، يصنع بها بما يشاء مدة حياته ، فاذا مضى قام الإمام القائم بعده مقامه في الاستحقاق ، وهو بالخيار بين إمضاء ما قرره الماضي ونقضه.

ولا يحل لأحد أن يتصرف في شي‌ء من أرض الأنفال بغير اذن من يستحقها مع إمكانه ، وان تعذر الإيذان جاز التصرف فيها بشرط إخراج الخمس من

__________________

(١) يشترط.

(٢) جريب.

(٣) تعينها ـ تعيينها.

٢٦١

جميع ما يخرجه ، يصنع فيه ما رسمناه سالفا فيما يختص الامام من الحقوق الان (١).

وأما أرض الكفار والمتأولين والمرتدين وبغاة (٢) المحاربين ، فحكمها حكم الأصل ان كان ملكا أو صلحا أو فتحا أو نفلا. وحكم زرع هذه الأراضي حكمها. ولا يجوز لإمام ولا مأموم ان يحكم في شي‌ء منها بغير ما قرره الشرع فان فعل لم يمض ، وكان على المتمكن من الإنكار إبطاله ، ورد الأرض والمسكن الى حكم الأصل.

__________________

(١) كذا.

(٢) والبغاة.

٢٦٢

وأما الفسق

فمستحق بكل معصية ليست بكفر ، وهو مقتض لفرضين : أحدهما يختص الماضي ، والثاني يختص المستقبل.

فالفرض الأول مختص بسلطان الإسلام أو من تصح نيابته عنه وهو على خمسة أضرب :

منها ما يوجب الحد وهو الزنا واللواط والسحق والجمع بين أهل الفجور له والقذف والسرق والفساد في الأرض وشرب الخمر والفقاع.

ومنها ما يوجب التعزير وهو إتيان البهائم والاستمناء والتعريض بالسب ومواقعة (١) ما ذكرناه من القبائح والإخلال ببعض الواجبات العقلية أو السمعية.

ومنها ما يوجب القصاص بالقتل والجراح وهو مختص بتعمد ما يوجبهما.

ومنها ما يوجب الدية وهو مختص بما يقع عن خطأ من قتل أو جراح.

ومنها ما يوجب الأرش أو القيمة وهو مختص بما يحصل من إتلاف لملك الغير أو تنقص قيمته عن خطأ أو عمد.

وسيرد تفصيل أحكام هذه المستحقات الخمس ( كذا ) في مواضعه ان شاء الله تعالى.

__________________

(١) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها الأخر : موافقة.

٢٦٣

والفرض الثاني هو الأمر والنهى

وكل منهما على ضربين : واجب وندب.

فما وجب فعله عقلا أو سمعا ، الأمر به واجب ، وما ندب إليه ، الأمر به مندوب وما قبح عقلا أو (١) سمعا ، النهى عنه واجب ، وما كره منهما ، النهى عنه مندوب.

والأمر والنهى على مقتضى الأصول عبارة عن قول الأعلى للأدنى : افعل ، أو لا تفعل ، مقترنا بالإرادة والكراهة ، وفيما قصدناه عبارة عما أثر وقوع الحسن وارتفاع القبيح من الغير من الأقوال والأفعال.

وطريق وجوب ما له هذه الصفة السمع وهو الإجماع ، دون العقل ، إذ لو كان العقل طريقا لوجوبه لاشترك فيه القديم والمحدث ، وذلك يقتضي وقوع سائر الواجبات وارتفاع سائر القبائح ، لكونه سبحانه قادرا على حملهم على ذلك كما يجب مثل ذلك على كل متمكن منا ، والمعلوم بخلاف ذلك.

وأيضا وكل شي‌ء وجب عقلا فإنما وجب لما هو عليه كالصدق والإنصاف ، أو لكونه لطفا كالعلم بالثواب والعقاب ، فطريق العلم بوجوب حمل الغير على

__________________

(١) في بعض النسخ : وسمعا.

٢٦٤

الواجب ومنعه من القبيح لكونه كذلك أو لكونه لطفا متعذر ، وانما علم ذلك بعد التعبد بسائر الفرائض الشرعية.

فما يتعلق منه بأفعال القلوب من ارادة الواجب وكراهية القبيح فرض يعم كل مكلف علمهما ، وما عدا ذلك من الأقوال والأفعال المؤثرة في وقوع الحسن وارتفاع القبيح يقف وجوبه على شروط خمس :

منها العلم بحسن المأمور وقبح المنهي ، ومنها التمكن من الأمر والنهى ، ومنها غلبة الظن بوقوع القبيح والإخلال بالواجب مستقبلا ، ومنها تجويز تأثيرهما ، ومنها أن لا تكون فيها [ فيهما. ظ ] مفسدة.

واعتبرنا العلم ، لان الحمل على ما يجوز الحامل كونه قبيحا ، والمنع مما لا يقطع على قبحه ، بالقهر قبيح لا يحسن على حال فضلا عن وجوبه ، ولا سبيل الى القطع على الحسن والقبح الا بالعلم.

واعتبرنا قوة الظن بما يتوقع دون الماضي ، لأن الغرض بهذا التكليف وقوع الواجب وارتفاع القبيح ، والماضي لا يتقدر هذا فيه ، والتجويز لو كفى في الإيجاب لوجب الإنكار على كل من لا تعلم عصمته من أبرار الأمة وعبادها لتجويز وقوع القبيح منهم وذلك فاسد.

واعتبرنا التمكن ، لقبح التكليف من دونه عقلا وسمعا.

واقتصرنا في الإيجاب على التجويز دون غلبة الظن بالتأثير ، لأن أدلة إيجاب الأمر والنهى مطلقة غير مشترطة بظن التأثير ، وإثباته شرطا يقتضي إثبات ما لا دليل عليه ، ويؤدى الى تقييد مطلق الوجوب بغير حجة.

وأيضا فقد علمنا وجوب الجهاد مع قوة الظن بأن المجاهد لا يؤمن ، ومع حصول العلم بذلك يبطل اعتبار الظن في الوجوب.

ان قيل : إذا كان الغرض بالأمر والنهى حصول التأثير فينبغي إذا غلب

٢٦٥

الظن بعدمه أن يقبحا ، لكون ذلك عبثا ، ولهذا يقبح منا الإنكار على أهل الماصر ما يؤتونه [ يأتونه. خ ] فيه من أخذ الأعشار.

قيل : المقصود في هذا التكليف مصلحة من وجب عليه ، والتأثير تابع ، فجاز وجوبه وان علم انتفاء التأثير كسائر المصالح.

وبعد يحس تكليف من علم حاله سبحانه وعلمنا أو ظننا أنه لا يختار ما كلف (١) ظاهرا وهو مانع من اعتبارهم وقوف الحسن على التأثير.

وأيضا فجهاد الكفار واجب مع الإمكان وحصول العلم تارة والظن اخرى بعدم تأثيره الايمان.

واتفاق الكل على وجوب الإنكار على « أبى لهب » مع العلم بأنه لا يؤمن ، وعلى كثير من الكفار المعلوم أو المظنون كونهم ممن لا يختار الايمان ، وذلك يبطل ما ظنوه.

وأما أصحاب الماصر فإنما قبح الإنكار عليهم في كثير من الأحوال لحصول الخوف من ضررهم ، أو استهزائهم بالمنكر ، وذلك قبيح يحصل عند الإنكار لولاه لم يحصل ، ولا شبهة في سقوط فرض الأمر والنهى والحال هذه ، لكونه مفسدة ، ولهذا متى أمنا منهم الأمرين وجب الإنكار عليهم وان ظنننا ارتفاع التأثير ، فواضح أن قبح الإنكار عليهم انما كان للمفسدة ، لا لارتفاع الظن بالتأثير.

واشترطنا عدم المفسدة ، لعلمنا بوجوب اجتناب ما أثر وقوع قبيح أو كان لطفا فيه ، لقبحه كالقبيح المبتدأ ، فالأمر أو (٢) النهي متى كان سببا لوقوع قبيح من المأمور المنهي (٣) أو من غيره بالأمر الناهي ( كذا ) أو بغيره ، يزيد على المنكر

__________________

(١) ما كلفه.

(٢) والنهى.

(٣) كذا.

٢٦٦

أو ينقص ، لولاه لم يقع ، يجب الحكم بقبحه ووجوب اجتنابه ، لأنه لا يجوز عقلا ولا سمعا من المكلف أن يختار القبيح ليرتفع من غيره.

وإذا تكاملت هذه الشروط ففرضهما على الكفاية ، إذا قام به بعض من تعين عليه سقط عن الباقين ، لان الغرض منهما وقوع الحسن وارتفاع القبيح ، فاذا حصل المقصود ببعض من تعين عليه لم يكن لتكليف الباقين وجه ، وان لم يقم به أحد فكل مخاطب به ، ومستحق لذم الإخلال وعقابه.

والواجب من ذلك ما يغلب في الظن حصول الواجب وارتفاع القبيح معه فان ظن مكلفة أن الدعوة والتذكار والتنبيه على قبح الفعل والإخلال وعظيم المستحق بهما ، كاف اقتصر عليه ، فان أثر حصول المقصود والا انتقل الى اللعن والتغليظ في الزجر والتهديد فإن أثر والا انتقل الى الضرب والإيلام والى أن يقع الواجب ويرتفع القبيح.

فان غلب في الظن ابتداء عدم تأثير القول ، ابتدأ بما يظن كونه مؤثرا من الفعل وما زاد عليه ، حتى يحصل المقصود من وقوع الواجب وارتفاع القبيح فإن أدى ذلك الى فساد عضو أو تلف نفس فلا ضمان على المنكر.

وليس لأحد أن يقول : أي فائدة في وقوع الحسن وارتفاع القبيح عن إلجاء منافاته (١) للتكليف؟

لأن في ذلك وجوها حكمية :

منها كونه لطفا للأمر الناهي بغير شبهة.

ومنها أنه ليس كلما يقع من حسن عند الأمر وارتفع من قبيح عند النهى يحصل عن إلجاء.

ومنها أن الإلجاء يختص أفعال الجوارح ، فيصح أن يصحبها (٢) العزم على

__________________

(١) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : مع منافاته.

(٢) يصححها.

٢٦٧

تأدية الواجب واجتناب القبيح للوجه الذي له كانا كذلك.

ومنها كون ذلك لطفا في المستقبل للمأمور المنهي ولغيره من المكلفين من حيث كان علم العاقل انه (١) متى دام القبيح منع منه ومتى عزم على الإخلال بالواجب حمل عليه ، يبعثه بغير شبهة على فعل الواجب ابتداء واجتناب القبيح.

يوضح هذا علمنا بكثرة الواجبات وقلة القبائح في أزمنة التمكن من الأمر والنهى وفي الأمكنة.

ولهذا قال أهل العدل : انه متى علم القديم سبحانه أن إلجاء المكلف الى فعل حسن واجتناب قبيح يبعثه الى اختيار مثله من الحسن واجتناب مثله من القبيح أو خلافهما (٢) وجب في حكمته سبحانه فعل ذلك الإلجاء كوجوب مثله علينا مع الأمر والنهى.

__________________

(١) بأنه. ظ.

(٢) كذا.

٢٦٨

فصل في ذكر الإكراه وأحكامه

ما قدمناه من أحكام الكفار والفساق وما يتعلق بهم ولهم من التعبد يختص المختارين ، وللمكرهين أحكام أخر يجب بيانها ، وما يقع به الإكراه ، وما يكون به اكراها مؤثرا ، وما يؤثر فيه الإكراه ، وما لا يؤثر.

فأما ما يقع به الإكراه ، فالخوف على النفس متى فعل الحسن واجتنب القبيح ، لحصول الإجماع بكون ذلك اكراها ، وعدم دليل بما دونه من ضروب الخوف ، فلا يجوز الانتقال عن لزوم فعل الواجب واجتناب القبيح المعلوم وجوبهما الا بدليل قاطع.

وأيضا فلو كان ما دون الخوف على النفس اكراها لم يقف على كثير من يسير ، فيؤدي ذلك الى أن من خاف ضياع درهم واحد من كثير ماله أو لطمه ولده ، أن يترك سائر الواجبات ويفعل جميع القبائح ، والمعلوم خلاف ذلك ، فثبت اختصاصه بالخوف على النفس.

مع ارتفاع الظن من التمكن من فعل الواجب واجتناب القبيح من دون ذلك.

فاذا حصل شرطا الإكراه المذكوران فما اكره عليه المكلف من فعل القبيح

٢٦٩

والإخلال بالواجب على ضربين : أحدهما لا يصح فيه الإكراه وحكمه معه حكم الإيثار ، والثاني يصح فيه الإكراه.

فالأول أفعال القلوب كلها لان المكره لا سبيل له الى علمها ، فلا يصح الإلجاء إلى شي‌ء منها ، وما يصح فيه الإكراه أفعال الجوارح ، وهي على ضربين : أحدهما لا يؤثر فيه الإكراه ، والثاني يؤثر فيه.

فالأول القبائح الفعلية كلها كالظلم والكذب ، لأنها انما قبحت لما عليه ، ولا تعلق لها بغيرها ، فلا يجوز أن يؤثر فيها الإكراه حسنا ، ومن السمعيات الزنا بإجماع الأمة وشرب الخمر بإجماع الفرقة المحقة.

والثاني الواجبات العقلية والسمعية وما عدا ما ذكرناه من المحرمات.

فأما الواجبات فيؤثر فيها التأخير عن أوقاتها ، وتغير كيفياتها ، والنيابة فيها ، وسقوط ما لا يصح ذلك فيه (١).

وأما المحرمات فيؤثر إباحتها كالميتة ولحم الخنزير والصيد في الحرم أو الإحرام وغير ذلك.

وقلنا بتغير الوجوب في العقليات بالإكراه لأن كل شي‌ء حسن أو واجب فمشترط بانتفاء وجوه القبح ، فاذا حصل في رد الوديعة أو قضاء الدين الخوف على النفس فذلك وجه قبيح يقتضي تأخير الرد والقضاء.

وأما الشرعيات فمبنية على المصالح والمفاسد التي يصح تغيرها فاذا قرر الشرع تأثير الإكراه في بعضها حصل العلم للمكلف بتغير المصلحة والمفسدة كتغيرهما في كثير من الأحوال متى اختل شرط من شروط الإيجاب أو التحريم.

فأما إظهار كلمة الكفر أو إنكار الايمان أو كتمان كلمته مع الخوف على النفس مع الإمساك عن الأولة وإظهار الثانية فيختلف الحال فيه.

__________________

(١) كذا.

٢٧٠

فان كان مظهر الايمان والحجة به ومنكر الكفر والممتنع من إظهار شعاره في رتبة من يكون ذلك منه إعزازا للدين كرؤساء المسلمين في العلم والدين والعبادة وتنفيذ الأحكام ، فالأولى به إظهار الايمان والامتناع من كلمة الكفر ، فان قتل على ذلك فهو شهيد ، ويجوز له ما اكره عليه.

وان كان من أطراف الناس وممن لا يؤثر فعله ما اكره عليه أو اجتنابه عزا (١) في الدين ففرضه ما دعي اليه فليور في كلامه ما يخرج به عن الكذب ، ولا يحل له ما جاز لمن ذكرناه من رؤساء الملة على حال.

فإما الإكراه على مكان معين فحكمه حكم ما لا ينفك الإقامة منه ، فان كان ما يؤثر فيه الإكراه كتأخير الصلاة وأكل الميتة حل له المقام مع الإكراه وتعذر التخلص ، وان كان مما. (٢) بل أفحشها فما له قبحت الإقامة مع القبيح له يقبح معه (٣).

ولأنه مقتض لإجراء أحكام الكفر على مظهره (٤) فلا يجوز له ذلك مع الاختيار على حال.

الثاني ألا يكون الإقامة مؤثرة لوقوع قبيح ولإشعار كفر لولاها لم يقعا ، فيحل وان لم يتمكن المقيم من الإنكار بلسانه ولا يده ، فيقتصر على ما يختص القلب من كراهية القبيح والعزم على إنكاره متى تمكن منه.

وقلنا ذلك لان الإقامة لو قبحت بحيث يقع الكفر المتعذر إنكاره مع كراهية ، لقبحت الإقامة في كل دار وقع فيها كفر ما أو فسق لا يتمكن المقيم من

__________________

(١) كان في الأصل : عصا. والظاهر ما أثبتناه.

(٢) هنا بياض في النسخ.

(٣) كذا في النسخ.

(٤) كذا.

٢٧١

إنكاره بيده ولسانه ، وقد أجمع المسلمون على خلاف ذلك.

يوضحه علمنا بإقامة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله بمكة وهي دار كفر مع تعذر الإنكار وكذلك حال أمير المؤمنين عليه‌السلام في المدينة في خلافة المتقدمين عليه في مقام الإمامة ، وحال ذريته بكل دار دخلوها من دور أهل الضلال وحال جميع علماء القبلة وعبادها. وذلك برهان على أن الإقامة بدار الكفر لا يقبح من حيث كانت اقامة بها وانما يقبح إذا كانت مقيدة (١) وان كان الاولى تجنبها الا أن يكون المقيم متمكنا من المظاهرة بالحق ونصرته بالحجة ، فيكون الإقامة أفضل.

وليس لأحد أن يقول : ان الإقامة مع الإمساك عن النكير إبهام. (٢) وصية (٣) من وراء ذلك لأنه أقام بها لمصلحة دينية أو دنيوية لإنكارها (٤) للكفر لولا هذا لقبحت الإقامة بكل دار يقع فيها شي‌ء منكر لغير الإنكار لأنه لا وجه لحضورها الا الرضا بالقبيح فلذلك قبحت وليست هذه حال الإقامة بدار الكفر على ما سلف بيانه.

ان قيل : أليس العاقل يعلم وجوب التحرز من الضرر فكيف يحسن منه مع هذا أن يتعرض لضرر التلف باجتناب ما لا يؤثر فيه الإكراه من القبائح ولا يحسن منه التحرز بما اكره عليه من القبيح من ضرر القتل.

قيل التحرز من الضرر وان كان واجبا فقد بينا أن كل شي‌ء وجب فيشترط انتفاء (٥) وجوه القبح ، وهاهنا وجه قبح يخرج التحرز عن صفة الحسن فضلا عن الوجوب.

__________________

(١) كذا.

(٢) هنا بياض في النسخ.

(٣) كذا.

(٤) في بعض النسخ : لاكارها.

(٥) فمشترط بانتفاء.

٢٧٢

وأيضا فإن وجوب التحرز من الضرر يقتضي وجوب التحرز من الأعظم بالأقل ، وذلك يقتضي صبره على ضرر القتل ليدفع به عظيم ضرر عقاب القبيح لانغماره في جنبه.

وأيضا فكما نعلم وجوب التحرز من الضرر نعلم وجوب تحمل الضرر لاجتلاب ما زاد عليه من النفع ، فالقتل وان كان ضررا ففي مقابلته نفع يوازيه وهو العوض المستحق على القاتل ، ونفع عظيم وهو الثواب على اجتناب القبيح وتحمل ألم القتل وذلك مقتض لوجوبهما.

ان قيل : تراكم قد فصلتم بين فرض الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وبين سائر الشرعيات لسقوط فرضهما بخوف أدنى ضرر ولزوم فرض الشرعيات مع كل ضرر دون النفس ، فما الوجه في ذلك؟

قيل : لا يجوز حمل الفرائض الشرعية بعض (١) على بعض في لزوم أو سقوط ، لكونها معلقة بما يعلم (٢) سبحانه للمكلف من الصلاح المختص بزمان دون زمان ، وبشرط دون شرط ، وبمكلف دون مكلف ، بل يجب الحكم لكل منها بحسب ما قرره الشرع ، وقد علمنا بإجماع الأمة وقوف فرض الأمر والنهى على الشروط التي بيناها وتميز الشرعيات منه ووجوبها من دون ذلك ، فلا يصح الجمع بين التكليفين مع وضوح التعبد بفرقان ما بينهما.

وأيضا فإن المقصود من الأمر والنهى مع ما فيه من لطف الأمر والناهي وقوع الواجب من الغير وارتفاع القبيح ، فاذا صار سببا لوقوع القبيح منه قبح فعلهما من حيث قبح من المكلف إيثار القبيح لان لا يختاره غيره ، كما يقبح دفع الضرر عن الغير بإدخاله على أنفسنا.

__________________

(١) كذا.

(٢) كان في الأصل : بما يعظم ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٧٣

وليست هذه حال ما كلفه العاقل من فعل الفرائض واجتناب المحرمات الشرعيات ابتداء لأنه غير ممتنع لزومها له وان خاف على نفسه ، ولا يكون ما يفعله من واجب أو يجتنبه من قبيح مفسدة لأجل ما يختاره غيره من القبيح بظلمه ، من حيث كان علمه بوجوب الفرائض عليه وقبح القبائح على كل حال ومع كل خوف دون القتل ومع خوفه في القبائح المخصوصة يؤمنه من كون شي‌ء منها مفسدة ويكون ذلك دلالة له (١) أن هذا المختار للقبيح ، عند امتثاله ما كلفه فعلا واجتنابا لا بد أن يختاره ، وقع منه الامتثال أم لا ، لو لا هذا لسقطت سائر العبادات وحسنت جميع القبائح الشرعيات عند ظن مكلفها إيثار غيره بعض القبائح ، والمعلوم خلاف ذلك.

يوضح ذلك من امتثل ما كلفه من فعل الواجب واجتناب القبائح مع خوف الضرر لا يخلو أن يقع به ذلك الضرر أم لا فان لم يقع فقد تجرد تكليفه من المفسدة بغير شبهة ، وان وقع فباختيار الظالم وقع ، ووقوعه في الوقت الذي وقع فيه كاشف عن كونه معلوما له تعالى ، وما تعلق العلم بوقوعه في وقت معين لا بد من وقوعه فيه ، وذلك برهان واضح على أن طاعة هذا المظلوم ليست لطفا في ظلم غيره ، ولا يلزم مثل ذلك مع خوف القتل لما بيناه من حصول الاتفاق على تأثيره في التكليفين ، وكون ذلك دلالة على تغير المصلحة والمفسدة ، وحالنا فيما دونه بخلاف ذلك فافترق الأمران.

وهذا يسقط اعتراض من يقول : أليس الجهاد عندكم من قبيل الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ، وقد يحسن فعله ويجب مع حصول الظن بل العلم بوقوع قبيح لولا الجهاد لم يحصل ، لان الجهاد في الحقيقة من جملة العبادات الشرعية كالصلاة واقامة الحدود التي قرر الشرع وجوبهما وان وقع عندهما قبيح

__________________

(١) على.

٢٧٤

ولا يكون ذلك مقتضيا لقبحه كما لم يكن ما يقع عند فعل الصلاة واجتناب الزنا من القبيح مصلحة مقتضية لقبحهما لما سلف إيضاحه.

وبعد فالجهاد وان كان من عبادات المجاهد فالمقصود منه عقاب المجاهد على ماضى كفره كالحدود ، فكما لا يقتضي قبح استيفائها (١) إيثار من يستحق عليه القبيح عندها باتفاق وكذلك حكم الجهاد ولهذا يجب القصد به الى إضرار الكافر على جهة الاستحقاق والنكال كالحدود ، وليست هذه حال الأمر والنهى المقصود بهما وقوع الواجب وارتفاع القبيح دون إضرار المأمور المنهي.

وببعض ما ذكرناه تسقط شبهة من يقدح في النبوات بجهاد الكفار ، من حيث كان ذلك يقتضي إلجاء هم الى الايمان ، الذي لا يصح التكليف معه ، لان كونه عقابا على ماضى الكفر يسقط الشبهة المبنية على كون الجهاد مقصودا به ايمان الكفار ، فاذا لم يكن كذلك زال الترتيب (٢) في سقوطها.

على أنه لو كان مختصا بالحمل على الإيمان كالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر لكان الوجه فيه ما تقدم بيانه من مصلحة المجاهِد والمجاهَد وغيرهما على الوجه الذي يصح ذلك (٣).

__________________

(١) استينافها ، كذا في بعض النسخ.

(٢) كذا في النسخ ، ولعل الصحيح : الريب.

(٣) هنا بياض في أكثر النسخ ، وفي بعضها : تم الكتاب بعون الله.

٢٧٥

بسم الله الرحمن الرحيم (١)

باب تعيين المحرمات

إذا كان ما عدا واجبات العقول ومندوباتها وقبائحها على الإباحة ، لأنه القسم الرابع في أوائل العقول كالحسن والقبيح ، ولكونه نفعا خالصا لا ضرر فيه ، وحصول العلم الأول بإباحة ما له هذا الحكم ـ وقد استوفينا الكلام في ذلك في غير موضع ـ وقف العلم بنقل العلم (٢) بنقلها عن هذا الأصل إلى وجوب أو ندب أو تحريم على السمع وقد بينا فيما سلف ما ورد به السمع من العبادات فرضا ونفلا ، ونورد هاهنا ما ثبت تحريمه من المآكل والمشارب والمدركات وضروب التصرف والمناكح وتفصيل ذلك ، ليعلمه المكلف فيجتنبه ويستبح ما عداه.

فصل في بيان ما يحرم اكله

ما يحرم أكله على ضربين : أحدهما يتعلق التحريم بعينه ، الثاني بوقوعه

__________________

(١) كذا في بعض نسخنا.

(٢) كذا في بعض النسخ ، وفي بعضها الأخر : وبنقلها ولعل الصحيح : وقف العلم بنقله عن هذا.

٢٧٦

على وجه.

الضرب الأول : البغل والخنزير والكلب والسنور والقرد والدب والفيل والثعلب والأرنب والضب واليربوع والفأر والسلحف (١) والقنفذ والدبى من الجراد وكل ذي ناب ومخلب من الوحش وكل ذي مخلب من الطير وما لا حوصلة له ولا قانصة وما لا فلس له من السمك ودواب البحر وحشار الأرض والدم المسفوح والطحال والقضيب والأنثيان والغدد والمشيمة والمثانة والطين وبيض ما لا يؤكل لحمه ولبنه وما اتفق طرفاه من مجهول البيض والسموم القاتلة.

الضرب الثاني : ميتة ذوات الأنفس السائلة ابتداء ، أو منخنقة بماء أو حبل أو غيرهما ، أو غير متحركة بعد الذبح ، أو لم يسل منها دم ، أو موقوذة بحجر أو عصا (٢) أو بندق ، أو متردية من علو ، أو فائتة بالنطح ، أو أكيله سبع ، أو مقتولة طعنا أو ضربا مع إمكان الذكاة ، أو مقتولة بما عدا كلب المسلم المعلم ، أو إرساله من الجوارح ، أو يذبح لغير الله تعالى ، أو من دون التسمية تدينا ، أو بفعل كافر كاليهود والنصراني (٣) ، أو جاحد النص ، أو بذكاة في غير محلها ، وقتيل مصيد الطير بغير النشاب ، وما قطع من الحيوان قبل الذكاة وبعدها قبل أن تجب جنوبها وتبرد بالموت. وكل هذه المذكورات ميتة وان اختلف جهات موتها ـ وصيد الحرم على المحل والمحرم ، وصيد الحل على المحرم ، وما نبت لحمه بلبن الخنزير من الانعام ، وما أدمن شرب النجاسات حتى يمنع منها عشرا ، أو جلالة الغائط حتى تحبس الإبل والبقر أربعين يوما والشاة سبعة أيام والبط والدجاج خمسة أيام ، وروى في الدجاج

__________________

(١) السلحفاء.

(٢) في بعض النسخ : أو حصا.

(٣) والنصارى.

٢٧٧

خاصة بثلاثة أيام ، وجلالة ما عدا العذرة من النجاسات حتى تحبس الانعام سبعا والطير يوما وليلة ، ومنكوح الإنسان من الانعام ، وكل طعام شيب بشي‌ء من المحرمات أو النجاسات ، وطعام الكفار ، وما باشروه ببعض أعضائهم ، وما شرب عليه الخمر من الطعام ، والطعام في آنية الذهب والفضة ، والطعام في جلود الميتة والأنجاس من الحيوان وان دبغت ، وجلود السباع بعد الذكاة وقبل الدباغ [ قبل الذكاة وبعد الدباغ. كذا في نسخة ].

٢٧٨

فصل في ما يحرم شربه

قليل المسكر وكثيره خمر محرم وان اختلفت أجناسه من عنب أو زبيب أو تمر أو عسل أو غير ذلك ، نيا كان أو مطبوخا أو مشمسا ، والفقاع ، وأعيان النجاسات المائعات ، وما نجس من الطاهرات ، والشرب فيما لا يجوز الأكل فيه من الأواني ، والمعاقرة بالماء وغيره من أنواع الأشربة الحلال من دونها.

فصل فيما يكره اكله وشربه

يكره أكل الكليتين ، والنخاع ، والعروق ، واذنى القلب ، والمرارة ، وحبة الحدقة ، وخرزة الدماغ ، وجرجير البقل ، ولحوم الجواميس ، والبخت وحمر الوحش والأهلية ، ولحم الغريض ، والأكل باليد اليسرى ، وبملعقة (١) ، ومتكئا ، ومما يلي غيره ومن وسط الصحفة والطعام الحار ، وطعام من لم يدع اليه ، وطعام من دعا له الأغنياء دون الفقراء ، وطعام ولائم القبائح والإفراط في الشبع وعرق العظم.

ويكره شرب الماء بالليل قائماً ، والعب ، والنهل في نفس واحد ، ومن ثلمة الكوز ، ومما يلي الاذن ، وشرب الماء المالح والكبريتي والمتغير اللون أو الطعم أو الرائحة بغير النجاسات.

__________________

(١) كان في الأصل : وبمعلقه ، والظاهر ما أثبتناه.

٢٧٩

فصل فيما يحرم إدراكه

يحرم سماع العود والطنبور وكل ذي وتر مطرب والطبول والمزامير وسائر الأغاني وآلاتها كالقضيب [ كالقصب ظ ] وشبهه ـ والنوح (١) بالباطل ، ومدح من يستحق الذم ، وذم من يستحقه (٢) والكذب ، ـ ومنه الأسمار وقصص القصاص بالمغازى المخترعة أو المزيد فيها ـ والنميمة ، وغيبة أهل الايمان ، وجميع الأقوال القبيحة كالأمر بالقبيح والنهى عن الحسن ، ورؤية من حرم الله تعالى من النساء ، ومباشرتهن ، والإصغاء إلى حديثهن ، والتلذذ برؤية المرد (٣) للريبة (٤) ومباشرتهم ، ومشاهدة المنكرات لغير الإنكار.

فصل فيما يكره من ذلك

يكره سماع الشعر الحسن في زمان الصوم وليلة الجمعة ويومها وفي المساجد ، والغزل منه على كل حال ، والأقوال الخالية من غرض دينى ودنيوى.

__________________

(١) في بعض النسخ : والنوح والفرح بالباطل.

(٢) في بعض النسخ : يستحق المدح.

(٣) في بعض النسخ : المرء ، والظاهر ما أثبتناه.

(٤) في بعض النسخ : المريبة.

٢٨٠