الناسخ والمنسوخ - المقدمة

الناسخ والمنسوخ - المقدمة

المؤلف:


الموضوع : القرآن وعلومه
الطبعة: ٢
الصفحات: ٤١٢

١
٢

٣
٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المقدّمة

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.

من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.

وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ) (١).

( يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَبَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَنِساءً ، وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) (٢).

( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ، وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً ) (٣).

أما بعد .. (٤).

لما أنهيت الدراسة التمهيدية ـ بقسم التفسير وعلوم القرآن ـ من كلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية.

__________________

(١) سورة آل عمران آية ١٠٢.

(٢) سورة النساء آية ١.

(٣) سورة الأحزاب آية ٧٠ ، ٧١.

(٤) انظر : خطبة الحاجة ص ١٠ ، ١١ محمد ناصر الدين الألباني.

٥

اخترت أن أجعل موضوع الرسالة تحقيق مصنف قيم من ذلك العطاء الضخم الذى خلّفه لنا علماء الإسلام الأجلاء.

وبعد بحث ومتابعة لعدد من فهارس المخطوطات وسؤال واستفسار توجهت به إلى بعض العلماء والمشايخ ، أرشدني الشيخ عبد الله بن غديان ـ جزاه الله خيرا ـ إلى مخطوط نفيس عظيم الفائدة جليل القدر هو : الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز لأبي عبيد القاسم بن سلاّم الهروي.

وما أن وقع نظري عليه وأمعنت في قراءته حتى وجدت مطلبي فاستشرت أستاذنا الفاضل الدكتور / أحمد حسن فرحات في تسجيل هذا الكتاب موضوعا لرسالة الماجستير فحثني على ذلك ورغبنى فيه.

ثم رسمت خطة العمل وتقدمت بها إلى مجلس القسم فجاءت الموافقة على أن أقوم بدراسة وتحقيق للكتاب وأن يتولى الإشراف شيخنا الفاضل / محمد بن عبد الرحمن الراوي.

وكان مسار عملي في كل من الدراسة والتحقيق على النحو التالي :

أولا : الدراسة : عبارة عن ثلاثة فصول :

الفصل الأول : ترجمة شاملة لأبي عبيد القاسم بن سلاّم الهروي تضمنت :

١ ـ نسبه وشهرته.

٢ ـ مولده.

٣ ـ العصر الذى عاش فيه ـ الحالة السياسية ـ الحالة العلمية.

٤ ـ مكانته وثناء العلماء عليه.

٥ ـ ذكر من أخذ عنهم العلم : شيوخه في القراءات ، شيوخه في الحديث ، شيوخه في اللغة والأدب ، شيوخه في الفقه.

٦ ـ ذكر الذين أخذوا عنه العلم.

٧ ـ عقيدته : مذهبه في الإيمان ، مذهبه في الصفات.

٦

٨ ـ أقوال أثرت عنه.

٩ ـ مصنفاته.

١٠ ـ وفاته.

الفصل الثاني : دراسة لكتاب أبي عبيد الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز تضمنت :

١ ـ اسم الكتاب.

٢ ـ نسبته إلى المؤلف.

٣ ـ منهج المؤلف في تصنيفه للكتاب.

٤ ـ المميزات التي انفرد بها الكتاب.

٥ ـ المآخذ التي لاحظتها عليه.

٦ ـ مفهوم أبي عبيد لمصطلح الناسخ والمنسوخ.

الفصل الثالث : دراسة للمصنفات في الناسخ والمنسوخ.

تضمنت :

١ ـ ذكر لمن ألف في الناسخ والمنسوخ.

٢ ـ ذكر لمن أنكر النسخ.

ثانيا : التحقيق :

مهّدت للكتاب بمدخل ضمنته أمرين :

الأول : وصف المخطوطة.

الثاني : المنهج الذي اعتمدته في تحقيق الكتاب وأجهدت نفسي في السير عليه.

هذا وقد كان عملي في تحقيق الكتاب :

أولا : التحري في إخراج النص على أجود صورة جاء بها الكتاب.

ثانيا : عزو الآيات القرآنية إلى مواضعها بعد إتمامها في الهامش.

٧

ثالثا : عزو الأحاديث والآثار إلى أماكنها في المصادر المعتمدة المعنية بالإسناد.

رابعا : التعريف بالأعلام الذين يرد ذكرهم في الكتاب ما لم يكن الأثر أو الحديث في الصحيحين أو أحدهما فإني حينئذ أهمل التعريف برجاله.

خامسا : أنقل أقوال بعض العلماء كالطبري وابن كثير والنحاس وابن الجوزي حول بعض الآيات وذلك إتماما للفائدة.

سادسا : أعلق في بعض المواطن إن لزم الأمر ، مرجحا ، جامعا بين متعارضين ، موضحا ومبينا كلاما ظاهره الغموض.

سابعا : أوضحت الغريب وشرحت بعض المصطلحات الهامة.

ثامنا : عرّفت ببعض القبائل والأماكن والبلدان.

وفيما يتعلق بالفهارس فلقد ابتدأتها بدليل يسترشد به القارئ إلى مكان كل فهرس ثم أعقبته بفهارس منوعة جاءت على النحو التالي :

الآيات : صنعت فهرسا عاما للآيات القرآنية وآخر للآيات الناسخة والمنسوخة والمراد بالنسخ في كل منها عند المؤلف.

الأحاديث والآثار : جعلت للأحاديث فهرسا مستقلا مرتبا حسب حروف المعجم تسهيلا للرجوع عند الطلب.

كما صنعت فهرسا خاصا بالآثار ذاكرا أمام كل منها صاحب الأثر ليتيسر للقارئ حصر أقوال الرجل الواحد وجمعها.

الأعلام : ما من علم مر ذكره بالكتاب إلا وأوردته في الفهرس محدّدا مكان وجوده جاعلا علامة « م » فوق رقم الأثر الذي ترجمت فيه لذلك العلم.

القبائل والأمكنة والبلدان : صنعت فهرسا لكل بلد أو مكان أو قبيلة ورد ذكرها في الكتاب فما كان منها معرفا ميزته بالحرف « ع » فوق رقم الأثر الذي عنده حصل التعريف.

٨

أبيات الشعر : أفردت لأبيات الشعر ـ وهي قليلة في الكتاب ـ فهرسا مستقلا.

المصادر والمراجع : صنعت فهرسا للمصادر والمراجع التي اعتمدت عليها في الدراسة والتحقيق مرتبا لها حسب حروف المعجم مستوفيا المعلومات التي تتعلق بكل منها ـ قدر الإمكان ـ كالمحقق ، والطبعة وتاريخها والناشر إذا كان الكتاب مطبوعا ، فإن كان مخطوطا ذكرت مكان وجوده والرقم الذي يحمله.

الموضوعات : قسّمت فهرس الموضوعات إلى قسمين : جعلت الأول لموضوعات الدراسة مرقما بالصفحات. وجعلت الثاني للتحقيق مرقما بالآثار مسلسلا بالأبواب.

هذا وختاما فإني أتوجه بالثناء والشكر والامتنان إلى الله سبحانه وتعالى على ما يسره لي من جهد ووقت.

ثم أقدم تقديري واحترامي لشيخي الفاضل محمد بن عبد الرحمن الراوي على توجيهاته ومتابعته لسير عملى في فترات متعاقبة ، كان خلالها مرشدا وموجها بذل من وقته ـ رغم كثرة المشاغل والأعمال ـ قدرا كان به قضاء الحاجة وإرواء الغليل.

وأقدم أيضا تقديري وشكري للدكتور / أحمد معبد على ما خصني به من توجيهات وإرشادات وتصويبات إذ كنت أسأله مرات عديدة عمّا أشكل عليّ في مجال التخريج وترجمة الأعلام فألقى منه صدرا رحبا وتوجيها نافعا.

وأشكر أيضا كل من أعانني على تخطي عقبة أو حل إشكال أو استدراك خطأ من أساتذة أو إخوة لنا كرام ـ كان لهم السبق في هذا الميدان ـ.

اللهم اجعل عملنا هذا خالصا لوجهك راجحا في ميزان أعمالنا يوم نلقاك.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.

٩
١٠

القسم الأول من الكتاب

الدراسة

وتشمل ثلاثة فصول ومدخل :

الفصل الأول : ترجمة شاملة لأبي عبيد القاسم بن سلاّم الهروي.

الفصل الثاني : دراسة لكتاب الناسخ والمنسوخ في القرآن العزيز.

الفصل الثالث : ذكر لمن صنف في الناسخ والمنسوخ ، ذكر لمن أنكر ثبوت النسخ.

المدخل : وصف المخطوط وذكر المنهج الذي سرت عليه في التحقيق والمصطلحات التي ألزمت بها نفسي أثناء ذلك.

١١

الفصل الأول

ترجمة المؤلف

وتشمل :

١ ـ نسبه وشهرته.

٢ ـ مولده.

٣ ـ العصر الذي عاش فيه : الحالة السياسية ـ الحالة العلمية.

٤ ـ مكانته وثناء العلماء عليه.

٥ ـ ذكر من أخذ عنهم العلم : شيوخه في القراءات ـ شيوخه في الحديث ـ شيوخه في اللغة والأدب ـ شيوخه في الفقه.

٦ ـ ذكر الذين أخذوا عنه العلم.

٧ ـ عقيدته : مذهبه في الإيمان ـ مذهبه في الصفات.

٨ ـ أقوال أثرت عنه.

٩ ـ مصنفاته.

١٠ ـ وفاته.

١٢

ترجمة المؤلف

١ ـ نسبه وشهرته

القاسم بن سلام ( بتشديد اللام ) (١) أبو عبيد ( آخره دال مهملة ) التركي (٢) الخراساني (٣) الهروي (٤) المولد والمنشأ ، الأزدي (٥) الأنصاري (٦) الخزاعي (٧) بالولاء ، الجمحي (٨) البغدادي (٩) اللّغوي (١٠) الشافعي (١١) القاضي (١٢).

كان أبوه مملوكا روميا لرجل من أهل هراة (١٣).

__________________

(١) انظر : طبقات المفسرين للداودي ٢ / ٣٥ ، وفيات الأعيان ٤ / ٦٠ ، طبقات الشافعية الكبرى للسبكي ١ / ٢٧٠ ، الرسالة المستطرفة ٣٥ هدية العارفين ١ / ٨٢٥ ، الكامل لابن الأثير ٥ / ٢٥٩.

(٢) انظر : طبقات المفسرين للداودي المرجع السابق.

(٣) انظر : غاية النهاية في طبقات القراء ٢ / ١٧ ، المعارف لابن قتيبة ٥٤٩.

(٤) انظر : معجم المطبوعات العربية المعرّبة ١٢١.

(٥) انظر : المعارف المرجع السابق ، هدية العارفين المرجع السابق.

(٦) انظر : معرفة القراء الكبار ١ / ١٤١ ، غاية النهاية في طبقات القراء المرجع السابق.

(٧) انظر : تاريخ العلماء النحويين ١٩٧.

(٨) انظر : كشف الظنون ٢ / ١٢٧٧.

(٩) انظر : الجرح والتعديل لابن أبي حاتم ٧ / ١١١ ، معرفة القراء الكبار ١ / ١٤١ ، الخلاصة للخزرجي ٢ / ٣٤٣ ، غاية النهاية في طبقات القراء المرجع السابق ، الرسالة المستطرفة المرجع السابق ، العبر في خبر من غير ١ / ٣٩٢ ، التاريخ الكبير للبخاري ٤ / ١٧٢.

(١٠) انظر : تذكرة الحفاظ ٢ / ٤١٧ ، الرسالة المستطرفة المرجع السابق ، الكامل لابن الأثير المرجع السابق.

(١١) انظر : الرسالة المستطرفة المرجع السابق.

(١٢) انظر : طبقات الحفاظ للسيوطي ١٧٩.

(١٣) انظر : طبقات المفسرين للداودي المرجع السابق ، نزهة الألبّاء ١٣٦ معجم الأدباء ٨ / ٢٥٤ ، تاريخ بغداد ١٢ / ٤٠٣ ، شذرات الذهب ٢ / ٥٥. هراة : بالفتح مدينة عظيمة مشهورة من أمهات مدن خراسان. ( معجم البلدان ٥ / ٣٩٦ )

١٣

٢ ـ مولده

ولد أبو عبيد بهراة (١) سنة أربع وخمسين ومائة (٢) وقيل سنة خمسين ومائة (٣). وقيل سبع وخمسين ومائة (٤).

* * *

٣ ـ العصر الذي عاش فيه

كان الزمن الذي أظل أبا عبيد من أزهى عصور الإسلام إذ بين سنة الستين والمائة وسنة الأربع والعشرين والمائتين وهي الفترة التي عاش خلالها القاسم ابن سلاّم ، تعاقب على خلافة المسلمين فيها ستة من خلفاء بني العباس : المهدي (٥) ، الهادي (٦) الرشيد (٧) ، الأمين (٨) ، المأمون (٩) ،

__________________

(١) انظر : إنباه الرواة ٣ / ١٣ ، معجم المؤلفين ٨ / ١٠١ ، تذكرة الحفاظ ٢ / ٤١٧.

(٢) انظر : هدية العارفين ٨٢٥ ، وفيات الأعيان ٤ / ٦٠.

(٣) انظر : وفيات الأعيان المرجع السابق.

(٤) انظر : سير أعلام النبلاء ١٠ / ٤٩١.

(٥) انظر : المهدي : هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ، بويع له بالخلافة حين وصل الخبر بوفاة المنصور وذلك سنة ثمان وخمسين ومائة ، ومات آخر سنة تسع وستين ومائة. انظر : ( الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني ٦٩ ، الثقات لابن حبان ٢ / ٣٢٤ وما بعدها ).

(٦) الهادي : هو موسى بن محمد المهدي بن عبد الله المنصور ، بويع له بالخلافة بجرجان لثمان من المحرم سنة تسع وستين ومائة ولم يلبث في الخلافة إلا سنة ثم توفي سنة سبعين ومائة.

انظر : الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني ٧٣ ، الثقات لابن حبان ٢ / ٣٢٤ وما بعدها ).

(٧) هارون الرشيد : هو أبو جعفر هارون بن المهدي محمد بن المنصور عبد الله بن محمد بن علي ابن عبد الله بن العباس. مولده بالري سنة ثمان وأربعين ومائة ، ولي الخلافة في ربيع الآخر سنة سبعين ومائة ، وانتهت خلافته بموته في جمادى الآخرة سنة ثلاث وتسعين ومائة.

انظر : ( الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني ٧٥ ).

(٨) الأمين : هو أبو عبد الله محمد بن هارون الرشيد ، ابتدأت خلافته بموت أبيه الرشيد وانتهت بمقتله على يد أخيه المأمون بعد صراع نشب بينهما على إثر ما هم به الأمين من نزع ولاية العهد من أخيه وجعلها في ابنه ، سنة سبع وتسعين ومائة لسبع بقين من المحرم.

انظر : ( الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني ٨٩ ، الثقات ٢ / ٣٢٤ وما بعدها ).

(٩) المأمون : هو أبو العباس عبد الله بن هارون الرشيد ، تقلد الخلافة بعد مقتل أخيه وسنه سبع وعشرون سنة ، وكان مولده ببغداد في الليلة التي استخلف فيها الرشيد سنة سبعين ومائة ، وجمع له الرشيد الفقهاء والمحدثين من الآفاق فبرع وفاق في سائر العلوم على سائر أبناء جنسه. وقد اتخذ خراسان

١٤

المعتصم (١).

وكانت الخلافة لبني العباس قد استقرت في حياة المؤسس الحقيقي أبي جعفر المنصور فاستلمها الذين ورثوا الأمر من بعده ثابتة القواعد موطأة الأكناف (٢) يكدر صفوها ثورات في المشرق والمغرب لا تلبث أن تخمد في مهدها.

وكان لاهتمام الخلفاء كالرشيد والمأمون بالعلم وإعلائهم منزلة العلماء أبلغ الأثر في ظهور نهضة علمية في أرجاء ولايات دولة الخلافة في بغداد وخراسان ومصر والحرمين. وأبو عبيد القاسم بن سلاّم الذي ولد ونشأ وترعرع في هراة ومرو (٣) من أعمال خراسان ثم انتقل بعد ذلك إلى كل من بغداد ، طرسوس ، مصر ، مكة ، قد تأثر وأثر بالحالة السياسية والعلمية القائمة آنذاك.

الحالة السياسية :

١ ـ خراسان : كانت خراسان موطنا للثورات والفتن طيلة عهد خلفاء بني العباس. فعلى سبيل المثال في سنة إحدى وستين ومائة خرج رجل يقال له المقنع في قرية من قرى مرو فجهز إليه المهدي عدة من أمرائه وأنفذ إليه جيوشا كثيرة (٤).

__________________

مقرا للخلافة إلى سنة أربع ومائتين إذ قدم بغداد واستقر بها ، فلما كان في سنة ثماني عشرة ومائتين غزا الروم وقهرها وفي عودته أقام أياما بطرسوس فمات بها في تلك السنة وكان عمره ثمان وأربعين سنة وأربعة أشهر.

انظر : ( الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني ٩٦ ـ ١٠٣ ).

(١) المعتصم : هو أبو اسحاق محمد بن هارون الرشيد ، ولد في شعبان سنة ثمان وسبعين ومائة ، وبويع له بالخلافة يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة ومائتين وتوفي المعتصم ب ـ سر من رأى ـ لثمان بقين من ربيع الأول من سنة سبع وعشرين ومائتين.

انظر : ( الإنباء في تاريخ الخلفاء لابن العمراني ١٠٤ ـ ١١٠ ).

(٢) انظر : العالم الإسلامي في العصر العباسي / حسن أحمد محمود ، أحمد إبراهيم الشريف ص ١٣٢.

(٣) مرو : هي مرو العظمى أشهر مدن خراسان. ( معجم البلدان ٥ / ١١٢ ).

(٤) البداية والنهاية ١٠ / ١٣٣.

١٥

وفي سنة اثنتين وستين ومائة خرجت طائفة بجرجان (١) فلبسوا الحمرة شعارا لهم فغزاهم عمرو بن العلاء من طبرستان وقهرهم فأبادهم جميعا (٢). وفي سنة تسع ومائتين جرت حروب مع بابك الخرّمي فأسر بعض أمراء الإسلام وأحد مقدّمي العساكر فاشتد ذلك على المسلمين (٣). وفي سنة تسع عشرة ومائتين ظهر محمد بن القاسم بن عمر بن علي بن الحسين بالطالقان من خراسان يدعو إلى الرضى من آل محمد واجتمع عليه خلق كثير ، وقاتله قواد عبد الله بن طاهر (٤) مرات متعددة ثم ظهروا عليه وهرب (٥). وهكذا تبين من خلال هذا العرض التاريخى لمسرح الأحداث في خراسان في فترات من الزمن الذي عاصره أبو عبيد مدى ضراوة الوضع السياسي والأمني لتلك البلاد ولم يكن القاسم بن سلاّم أيام إقامته بخراسان بمعزل عن الأحداث بل كان قريبا من وهجها فلقد كان مؤدبا لآل هرثمة (٦) ، وهرثمة هذا هو ابن أعين (٧) الذي دخل خراسان نائبا عليها

__________________

(١) جرجان : بالضم وآخره نون مدينة عظيمة مشهورة بين طبرستان وخراسان وليس بالمشرق بعد أن تجاوز العراق مدينة أجمع ولا أظهر حسنا منها. ( معجم البلدان ٢ / ١١٩ ).

(٢) البداية والنهاية ١٠ / ١٣٥.

(٣) المرجع السابق ١٠ / ٢٦٣.

(٤) عبد الله بن طاهر بن الحسين أبو العباس الخزاعي ، كان المأمون ولاه الشام حربا وخراجا فخرج من بغداد إليها واحتوى عليها وبلغ إلى مصر ثم عاد ، فولاه المأمون إمارة خراسان فخرج إليها وأقام بها حتى مات ، وكان أحد الأجواد الممدّحين والسمحاء المذكورين ، توفي بنيسابور سنة ثلاثين ومائتين وعمره ثمان وأربعون سنة.

( تاريخ بغداد ٩ / ٤٨٣ ـ ٤٨٩ ).

(٥) البداية والنهاية ١٠ / ٢٨٢.

(٦) انظر : إنباه الرواة على أنباء النحاة للقفطي ٣ / ١٣.

(٧) هرثمة بن أعين : مولى بني ضبة ، أحد القواد الكبار في دولة بني العباس ولي في عهد المهدي والرشيد والمأمون فعرف بالنصح لبني العباس والقدرة على سياسته من تحت يده ، ولاّه الرشيد بلاد إفريقيا فسار بهم سيرة حسنة ثم الموصل ثم خراسان ، ثم أصبح قائدا للمأمون فاستعان به على إخماد الثورات والفتن ، وفي سنة مائتين وشي به عند المأمون فأمر بسجنه ثم دس له السم فمات بعد أيام من سجنه.

انظر : ( الكامل في التاريخ ٥ / ٧٠ ، ٩٦ ، ١٠٧ ، ١٢٦ ، ١٧٩ ).

١٦

سنة اثنتين وتسعين ومائة من قبل المأمون (١). وكان طاهر بن الحسين (٢) لما نزل مرو من خراسان طلب رجلا يحدثه ليلة فقيل ما هاهنا إلا رجل مؤدب فأدخل عليه أبو عبيد القاسم بن سلاّم فوجده أعلم الناس بأيام الناس والنحو واللغة والفقه فقال له : من المظالم تركك أنت بهذا البلد فدفع إليه ألف دينار وقال له أنا متوجه إلى خراسان إلى حرب وليس أحب استصحابك شفقا عليك فأنفق هذا إلى أن أعود إليك فألف أبو عبيد غريب المصنف إلى أن عاد طاهر من خراسان ، فحمله معه إلى سر من رأى (٣) وطاهر هذا هو قائد من كبار قواد المأمون قد ولاه خراسان سنة خمس ومائتين (٤) أضف إلى ذلك أن أبا عبيد قد لازم عبد الله بن طاهر أيام مقامه واليا على خراسان من قبل المأمون إذ تولى عليها بعد وفاة والده سنة ست ومائتين (٥). قال ابن خلكان : وانقطع أبو عبيد إلى عبد الله بن طاهر مدة ولما وضع كتابه الغريب عرضه على عبد الله بن طاهر فاستحسنه وقال : إن عقلا بعث صاحبه على عمل هذا الكتاب حقيق ألا يحوج إلى طلب المعاش وأجرى عليه عشرة آلاف درهم في كل شهر (٦) وهكذا يظهر بجلاء ووضوح مدى ما كان يتمتع به أبو عبيد من مكانة عالية لدى ولاة خراسان وأهلها.

٢ ـ بغداد :

لقد عاش أبو عبيد في بغداد دار السلام عاصمة الخلافة مدة من الزمن. قال الخطيب في تاريخه : كان قد أقام ببغداد مدة ثم ولي القضاء بطرسوس وخرج

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ / ٢٠٦.

(٢) طاهر بن الحسين : بن مصعب بن رزين بن أسعد بن زاذان أبو طلحة الخزاعي ، والي خراسان ، كان من رجالات الناس ، جوادا ممدّحا ، توفي بمرو سنة سبع ومائتين.

( انظر : تاريخ بغداد ٩ / ٣٥٣ ، ٣٥٥ ).

(٣) انظر : تاريخ بغداد ١٢ / ٤٠٥ ، ٤٠٦. سر من رأى : مدينة كانت بين بغداد وتكريت على شرقي دجلة استحدث المعتصم بناءها. فسماها بذلك وكانت قبل تعرف بسامراء. ( معجم البلدان ٣ / ١٧٣ ، ٢١٥ ).

(٤) انظر : البداية والنهاية ١٠ / ٢٥٥.

(٥) البداية والنهاية ١٠ / ٢٥٩.

(٦) انظر : وفيات الأعيان ٤ / ٦.

١٧

بعد ذلك إلى مكة فسكنها حتى مات بها (١) وقال أبو يعلى في طبقات الحنابلة : قد أقام ببغداد ثم ولي القضاء بطرسوس ثماني عشرة سنة وخرج بعد ذلك إلى مكة فسكنها حتى مات بها (٢).

وقد كان أبو جعفر المنصور الخليفة العباسي الثاني قد أنهى بناء بغداد وسكنها سنة ست وأربعين ومائة (٣) فظلت مركزا للخلافة في عهد المهدي والهادي والرشيد والأمين فغدا أمرا بدهيا أن تظل في حكمهم موطدة الأركان مزدهرة العمران ، عزيزة السلطان يكدر صفوها تلك الثورات والهجمات المتوالية بين الحين والآخر.

وكمثال على ذلك نكبة هارون الرشيد سنة سبع وثمانين ومائة للبرامكة ومحوه آثارهم من مدينة دار السلام ، وفي ذلك يقول ابن كثير : قتل جعفر بن يحيى البرمكي ، ودمر ديارهم ، واندرست آثارهم ، وذهب صغارهم وكبارهم اه (٤). وهو حدث كبير الخطورة إذ كان للبرامكة من العزة والسلطان عند الرشيد وعامة الناس القدر الذي يضاهي منزلة الخليفة ويكاد يعلو عليه.

على أن أعظم رزية حلت ببغداد محاصرة طاهر بن الحسين وهرثمة بن أعين للخليفة الأمين بدار السلام بأمر من المأمون ، وذلك بعد أن نشب النزاع بين الأخوين على إثر نزع الأمين ولاية العهد من أخيه المأمون وجعلها في ابنه موسى. ولقد أسفر هذا الحصار عن قتل الأمين بعد أن عم الخراب بغداد وأصابها الذعر والجوع ، قال ابن كثير يصف تلك الحالة : واشتد الحال على أهل البلد وأخاف الدّعار والشطار أهل الصلاح ، وخربت الديار وصارت الفتنة بين الناس حتى قاتل الأخ أخاه للأهواء المختلفة ، والابن أباه ، وجرت شرور عظيمة واختلفت الأهواء وكثر الفساد والقتل داخل البلد (٥).

__________________

(١) انظر : تاريخ بغداد ١٢ / ٤٠٣.

(٢) انظر : طبقات الحنابلة ١ / ٢٦٠.

(٣) البداية والنهاية ١٠ / ٩٦.

(٤) البداية والنهاية ١٠ / ١٨٩.

(٥) البداية والنهاية ١٠ / ٢٣٧ ، ٢٤٣.

١٨

وفي سنة اثنتين ومائتين بويع لإبراهيم بن المهدي بالخلافة في بغداد وخلع خلافة المأمون ولقب بالمبارك فأرسل له المأمون جيشا ألحق به أبلغ الهزيمة فاختفى بعد سنة من ظهوره (١) وفي تلك السنة شخص المأمون من مرو إلى بغداد فقدمها سنة أربع ومائتين وانقطعت مادة الفتن بمقدمه (٢).

هذه بعض نماذج من وقائع جرت في مدينة السلام كان لها دون أدنى شك أبلغ الأثر في عرقلة التقدم العلمي والرقي العمراني.

٣ ـ طرسوس (٣) :

كانت ثغرا من ثغور المسلمين في مواجهة الروم وكانت حياة الثغور يعوزها الاستقرار إذ تتسم بالمرابطة والترقب الدائم تحسبا لأي غارة قد يشنها أعداء الأمة المسلمة من أمم الكفر المجاورة وقد كانت هذه المدينة ـ مثلها مثل غيرها من الثغور المتاخمة للأعداء ـ يؤمها الصالحون والأخيار (٤) رجاء الحصول على الأجر والفوز من الله جل ثناؤه ، فعن سهل بن سعد الساعدي رضي‌الله‌عنه أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم قال : « رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها وموضع سوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها » رواه البخاري (٥).

أقام أبو عبيد في طرسوس ثماني عشرة سنة تولى خلالها منصب القضاء لواليها ثابت بن نصر بن مالك الخزاعي وقد كان من قبل ذلك مؤدبا لأولاده (٦).

__________________

(١) البداية والنهاية ١٠ / ٢٥٠.

(٢) تاريخ الأمم والملوك الطبري ٨ / ٥٧٤ ـ ت محمد أبو الفضل إبراهيم.

(٣) طرسوس : بفتح أوله وثانيه ، مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم.

( معجم البلدان ٤ / ٢٨ ).

(٤) انظر معجم البلدان المرجع السابق.

(٥) انظر : صحيح البخاري ٣ / ٢٢٤.

(٦) انظر : طبقات النحويين ٢١٧ ، مرآة الجنان لليافعي ٢ / ٨٤ ، والمعارف لابن قتيبة ٥٤٩.

١٩

وبعد طرسوس نزل أبو عبيد مصر بصحبة يحيى بن معين سنة ثلاث عشرة ومائتين وكتب وصنف بها (١).

وفي سنة تسع عشرة ومائتين وقيل سنة أربع عشرة ومائتين خرج أبو عبيد من العراق إلى مكة للحج (٢). فلما عزم العودة إلى العراق واستأجر مركبا بعد الفراغ من حجه رأى رؤيا كانت سببا في مجاورته للبلد الأمين حتى مات.

قال أبو عبيد : فرأيت النبي صلى‌الله‌عليه‌وسلم في النوم وهو جالس على فراشه وقوم يحجبونه والناس يدخلون إليه ويسلمون عليه ويصافحونه. قال : فلما دنوت لأدخل مع الناس منعت فقلت لهم : لم لا تخلّون بينى وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم؟ فقالوا : إي والله ، لا تدخل إليه ولا تسلم عليه وأنت خارج غدا إلى العراق فقلت لهم : فإني لا أخرج إذا ، فأخذوا عهدي ثم خلوا بيني وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وسلم فدخلت وسلمت وصافحت ، فلما أصبح قرر الإقامة في مكة فلم يغادرها حتى مات (٣).

الحالة العلمية في عصره :

لقد عاش أبو عبيد القاسم بن سلاّم في أرقى عصور الإسلام من الجانب العلمي والفكري. إذ في العصر العباسي الأول أيام خلافة هارون الرشيد ، المهدي ، الهادي ، المأمون مثلا ، ظهر في حاضرة بلاد الإسلام علماء أجلاء قعّدوا العلوم وأصّلوها وأفردوها بالتصنيف والإضافة والتكميل فكان بحق العصر الذهبي لعلوم هذا الدين.

وقد حفل معظم خلفاء بني العباس بالعلم وأولوه عنايتهم وقربوا العلماء وأعلوا منازلهم كالخليفة المهدي فإنه أول من أمر بتصنيف كتب الجدل في الرد على الزنادقة والملحدين (٤). وهارون الرشيد الذي أحال بغداد قبلة لطلاب العلم

__________________

(١) انظر : التهذيب ٨ / ٣١٥ ، ٣١٦.

(٢) انظر : نزهة الألباء ص ١٤١ ، وتهذيب الأسماء واللغات الجزء الثاني من القسم الأول / ٢٥٨. ومعجم الأدباء ٨ / ٢٥٤.

(٣) انظر : معجم الأدباء ٨ / ٢٥٦ ، ٢٥٧ ، إنباه الرواة ٢١ ، مرآة الجنان ٢ / ٨٥ ، ٨٦ ، طبقات النحويين واللغويين ٢١٩٠.

(٤) تاريخ الخلفاء للسيوطى ص ٢٧١.

٢٠