الفوائد الطوسيّة

محمد بن الحسن الحرّ العاملي [ العلامة الشيخ حرّ العاملي ]

الفوائد الطوسيّة

المؤلف:

محمد بن الحسن الحرّ العاملي [ العلامة الشيخ حرّ العاملي ]


الموضوع : الحديث وعلومه
الناشر: مكتبة المحلاتي
المطبعة: العلميّة
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٦٢

فائدة (٢٦)

في الحديث القدسي ما تقرب الى عبدي ( عبد من عبادي ـ خ ) بشي‌ء أحب الى مما افترضت عليه وانه ليتقرب الى بالنوافل حتى أحبه فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به وبصره الذي يبصر به ولسانه الذي ينطق به ويده التي يبطش بها ان دعاني أجبته وان سألني أعطيته. (١)

أقول : هذا له عدة معان صحيحة يمكن حمله على كل منها.

الأول : ان يراد ان العبد إذا فعل ذلك أدركه الله تعالى بلطفه الزائد وعنايته الشاملة بحيث لا ينظر الى غير ما يرضى الله ولا يستمع الى غير ما فيه رضاه ولا ينطق ولا يبطش على نحو ذلك ذكر هذا بعض مشايخنا.

الثاني : أن يكون المعنى من أحببته كنت ناصره ومؤيده ومعينة ومسدده والدافع عنه كسمعه وبصره ولسانه ويده.

الثالث : ان يكون المعنى فإذا أحببته أحبني وأطاعني فكنت عنده بمنزلة سمعه وبصره ولسانه ويده في المحبة والاحترام والعزة والإكرام وهذا شائع فكثيرا ما يقال في الشي‌ء المحبوب هو أحب الى وأعز عندي من سمعي وبصري. قال السيد الرضى وان لم يكن عندي كسمعي وناظري فلا نظرت عيني ولا سمعت أذنى ومثله كثير جدا

__________________

(١) الوسائل ج ١ ص ٢٢١.

٨١

الرابع : أن يكون المعنى إذا فعل ذلك أحببته ووفقته فصار لا يستعين الابى ولا يعول في المأمول والمحذور الا على كما ان من دهمه أمر مشكل استعان بسمعه وبصره وغيرهما وفي تمام الكلام اشعار بذلك وهذا قريب من الثاني وبينهما فرق لا يخفى.

الخامس : أن يكون المعنى كنت بمنزلة سمعه وبصره ولسانه ويده في الحضور عنده والقرب منه وعدم التأخر عن مراده والبعد عنه من غير إرادة الحقيقة من الحضور في القرب بل بمعنى العلم والاطلاع والقدرة والإحسان ونحو ذلك مثله في الكتاب والسنة كثير من الألفاظ التي يتعذر حملها على حقائقها في هذا المقام وأما ما فهمه الصوفية من مثله وحملوه على الحلول والاتحاد فقد صرح العلامة وسائر علمائنا بأنه كفر والأحاديث المتواترة عن أئمتنا عليهم‌السلام دالة على ما قالوه والله أعلم.

٨٢

فائدة (٢٧)

في الكافي في آخر باب ترتيل القرآن بالصوت الحسن عن على بن أبي حمزة عن ابى بصير عن ابى جعفر ( عليه‌السلام ) قال قلت له إذا قرأت القرآن فرفعت صوتي جاءني الشيطان فقال إنما ترائي بهذا أهلك والناس فقال يا أبا محمد اقرأ قراءة بين القرائتين تسمع أهلك ورجّع بالقرآن صوتك فان الله يحب الصوت الحسن يرجع به ترجيعا (١).

أقول : الاستدلال بهذا على جواز قسم من الغنا باطل لا وجه له وذلك من وجوه اثنى عشر.

الأول : انه ضعيف لمعارضته للقران في عدة آيات وردت الأحاديث الصحيحة عن الأئمة عليهم‌السلام بأنها نزلت في الغناء وانه هو المراد منها نحو قوله تعالى : ( وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ ) ويظهر منها أنه من الكبائر ووقع التصريح به في الحديث والجزم به من جماعة من علمائنا وكذا قوله تعالى : ( وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ ) وقوله ( وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ) فقد روى عدة أحاديث في ان المراد بلهو الحديث وقول الزور هو الغنا.

فان قيل : الآيات مطلقة يجوز تخصيصها بغير القرآن بدلالة هذا الحديث.

__________________

(١) الكافي ج ٢ ص ٦١٦

٨٣

قلت : انه لا يصلح لتقييد القرآن والخروج عن الأدلة الآتية وغيرها وإثبات الأحكام الشرعية لأنه غير صحيح السند ولا صريح الدلالة ولا سالم من المعارضة بما هو أقوى منه عموما وخصوصا فلا يتم الاحتجاج به على مذهب الأصوليين ولا الأخباريين.

الثاني : انه ضعيف أيضا لمعارضته للسنة المطهرة المنقولة عن النبي والأئمة عليهم‌السلام في أحاديث كثيرة متواترة معنى صريحة في تحريم الغناء وقد اعتبرتها في جميع كتب الحديث التي عندي فوجدتها تقارب ثلاثمائة حديث وردت بلفظ الغناء وبألفاظ أخر يوافق معناه ولا ريب في تجاوزها حد التواتر فلا يجوز العدول عن الأحاديث الصحيحة المتواترة إلى الأحاديث الشاذة النادرة فكيف الى حديث واحد عرفت بعض ما فيه من الضعف ويأتي جملة أخرى من ذلك ان شاء الله تعالى الثالث : انه ضعيف أيضا لضعف سنده فلا يعارض الأحاديث الصحيحة السند وهذا مستقيم على مذهب الأصوليين مطلقا وعلى مذهب الأخباريين عند التعارض كما هنا إذ من جملة المرجحات عدالة الراوي كما أمر به الأئمة عليهم‌السلام ولو كان القسمان محفوفين بالقرائن وكيف يعدل عن أحاديث الثقات الإثبات إلى حديث يرويه مثل على بن أبي حمزة البطائني الذي ضعفه علماء الرجال وذكروا أنه أحد عمد الواقفة وانه كذاب متهم ملعون وانه لا يجوز ان تروى أحاديث وانه أصل الوقف وأشد الخلق عداوة للولي بعد أبي إبراهيم عليه‌السلام.

وروى الكشي عن الثقات أحاديث كثيرة في مذمته وكذا رواه الشيخ في كتاب الغيبة وابن بابويه في كتاب كمال الدين وغيرهما ولا ريب عند أحد من أهل الممارسة لكتب الرجال والحديث أن على بن أبي حمزة الراوي هنا هو البطائى وهو قائد أبي بصير يحيى بن القاسم أو ابن ابى القاسم وأبو بصير هذا هو الراوي في هذا السند وهو ان وثقه النجاشي وحده الا انه واقفي فقد ورد في الواقفة على العموم ما يطول ذكره.

٨٤

الرابع : انه ضعيف أيضا لمخالفته لإجماع الشيعة على تحريم الغنا بل ولإجماع الأئمة عليهم‌السلام فان دخول المعصوم هنا معلوم بالنصوص الكثيرة المشار إليها عنهم عليهم‌السلام وقد صرحوا بعموم التحريم لما كان في الأذان والقرآن والشعر وغير ذلك ولا يظهر منهم مخالف أصلا بل صرح به الجميع.

وممن صرح بنقل الإجماع على التحريم ، هنا الشيخ في الخلاف والعلامة وابن إدريس وغيرهم من المتقدمين ونقلوا القول بالتحريم أيضا عن أكثر الصحابة.

الخامس : انه ضعيف أيضا لمخالفته لعمل الطائفة المحقة كما أشرنا اليه وموافقته لمذهب العامة فيجب حمله على التقية والعمل بما يعارضه كما أمر به الأئمة عليهم‌السلام في أحاديث كثيرة في أماكنها مذكورة بل هذا أقوى وجوه الترجيح لان سبب اختلاف الأحاديث هو ضرورة التقية في أكثر مواضعه ان لم يكن كلها وقد نقلوا القول بإباحة الغنا عن معاوية والمغيرة بن شعبة وابن الزبير وعبد الله بن جعفر ويزيد بن معاوية وأمثالهم وكان ذلك بعد من مطاعن معاوية ومن وافقه.

قال ابن الحديد في شرح نهج البلاغة ما ينسب الى معاوية من شرب الخمر سرا لم يثبت الا انه لا خلاف في انه كان يسمع الغناء.

وفي بعض كتب التواريخ ان عمرو بن عاص وأمثاله كانوا يعيرون عبد الله بن جعفر بإباحة الغنا.

ونقل الشيخ في الخلاف عن أبي حنيفة ومالك والشافعي كراهة الغنا وعدم تحريمه.

وحكى بعضهم عن مالك إباحته بغير كراهة.

وحكى أبو حامد الأسفرائني عن فقهاء الشافعية إجماعهم عن إباحته ونقل الإباحة عن جماعة آخر منهم والأحاديث عن أئمتنا عليهم‌السلام متواترة لوجوب مخالفة العامة عند اختلاف الاخبار بل كثير من تلك الروايات صريح في كل مسئلة لم يعرف الإنسان فيها نصا.

٨٥

السادس : انه ضعيف أيضا لاحتماله التأويل وعدم احتمال معارضه له لكثرة النصوص وكونها صريحة مشتملة على عبارات شتى وأنواع من التأكيد مما لا سبيل إلى تأويله ولا ريب في وجوب العمل بالنص الصحيح الصريح وتأويل ما يعارضه فكيف إذا تأيد بالوجوه السابقة والاتية ويأتي له تأويلات متعددة إن شاء الله تعالى وقد تقرر انه إذا قام الاحتمال بطل الاستدلال والاحتمال هنا راجح مع ان المساوي كاف في هذا المقام.

السابع : انه ضعيف أيضا لمخالفته للاحتياط وموافقة معارضه له.

الثامن : انه ضعيف أيضا لمخالفته للأصل فإنه يقتضي عدم التخصيص والتقييد وإبقاء العموم على حاله ولا ريب في وجوب العمل بالعام والمطلق حتى يتحقق التخصيص والتقييد ولم يتحقق هنا لكثرة الاحتمالات والتأويلات الاتية لهذا الحديث.

فان قلت : هذا موافق للأصل الدال على الإباحة ولم يتحقق ما يعارضه لإمكان حمل العام على الخاص بل وجوبه.

قلت : هذا موافق للأصل الدال على الإباحة ولم يتحقق ما يعارضه لإمكان حمل العام على الخاص بل وجوبه.

قلت : هذا ساقط وذلك ان الأصل على تقدير تسليمه والاعتراف بحجيته قد تحقق النقل عنه وارتفاعه هنا قطعا بالأدلة الصحيحة العامة والخاصة من الكتاب والسنة لمعارضة هذا الخبر وقد عرفت جملة من ذلك.

وبعد هذا نقول قد ثبت الدليل العام فيجب العمل به الى أن يتحقق المخصص وهذا الحديث لم يثبت في نفسه بحيث يصلح لإثبات حكم شرعي ولا يقاوم معارضة الخاص والعام ولا تصريح فيه كما يأتي ان شاء الله تعالى.

التاسع : انه ضعيف لمخالفته للقاعدة المعلومة من وجوب الحمل على الحقيقة وهذا يستلزم الصرف عنها واستعمال العام في الخصوص فيلزم ارادة المجاز من جميع أحاديث الغنا وأدلته بناء على ما هو الأصح من ان لفظ العام حقيقة في العموم مجاز في الخصوص وهذا المجاز لا قرينة له.

العاشر : انه ضعيف أيضا لمخالفته لضرورة المذهب فان تحريم الغنا من

٨٦

ضروريات مذهب الإمامية كما عرفت وعرف كل موافق للإمامية أو مخالف لهم

الحادي عشر : انه ضعيف أيضا لمخالفته للدليل الخاص الصريح في معارضته كما رواه الكليني ره في هذا الباب قبل هذا الحديث بإسناده عن عبد الله بن سنان عن ابى عبد الله (ع) قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله أقروا القرآن بألحان العرب وأصواتها وإياكم ولحون أهل الفسق والكبائر فإنه سيأتي من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغنا لا يجوز تراقيهم قلوبهم مقلوبة وقلوب من يعجبهم شأنه. (١)

ورواه الطبرسي أيضا في مجمع البيان والشيخ بهاء الدين في الكشكول وغيرهم وفي معناه أحاديث أخر ذكرنا بعضها في كتاب وسائل الشيعة فهذا صريح كما ترى في تحقق الغنا في القرآن كما صرح به الأصحاب ويدل على تحريمه في القرآن وغيره دلالة واضحة مشتملة على ضروب من التأكيد وعلى تفسيره بالترجيع المطرب أو مطلقا على جعل اضافة ترجيع الغنا بيانية وبذلك فسره علماؤنا فإنهم أجمعوا ان ما اشتمل على الترجيع المطرب غناء محرم واختلفوا في مجرد الترجيع كما يأتي ان شاء الله.

الثاني عشر : انه ضعيف أيضا لمخالفته لمجموع ما تقدم من الأدلة والوجوه السابقة وبعضها كاف لمن يغلب عليه الهوى وتقليد السادات والكبراء وحب الشهوات والدنيا فكيف إذا اجتمع الجميع فظهر ان أكثر أدلة أحكام الشرعية بل كلها دالة على تحريم الغنا وعلى تضعيف هذا الحديث ان حمل على ظاهره.

واعلم أن إيراد الكليني له لا قصور فيه بوجه وان ذكر في أول كتابه ان أحاديثه صحيحة فإن مراده ثبوت مضمونها بالقرائن وثبوت نقل المضمون عن المعصوم لا يوجب العمل بظاهره مع وجود معارضه على انه قد أورد في هذا الباب ما هو صريح في معارضته وأورد في باب الغنا ما يزيل عن سامعه كل شك وشبهة وهذا الحديث أورده في آخر الباب كما هي عادتهم في تأخير الأحاديث المنافية لما هو

__________________

(١) مستدرك الوسائل ج ١ ص ٢٩٥.

٨٧

مقرر معلوم ولهذا نظائر كثيرة في الكافي وغيره حتى في مثل أحاديث الجبر والتشبيه وأحاديث التقية على كثرتها مع ان الأصوليين لا يحكمون بصحة أحاديث الكافي (١) ولا يقلدونه في شهادته وبطريقة الأخباريين أيضا لا يمكن الاحتجاج بهذا لان ما عارضة أقوى منه فهو ضعيف عندهم وان يثبت بالقرائن والله اعلم.

ومن أعجب العجب ان الفاضل الأردبيلي في شرح الإرشاد (٢) اعتمد في تحريم الغنا على الإجماع وذكر انه لولاه لما جزم بتحريمه وادعى ضعف الاخبار ونقل يسيرا من الاخبار واكتفى بما وجد في كتب الاستدلال وببعض أحاديث التهذيب وذكر انه لم يجد حديثا صحيحا يستدل به وغفل عن تواترها بل تجاوزها حد التواتر فقد ذكروا ان التواتر ليس له عدد خاض وأنكروا على من اشترط فيه نقل خمسة فصاعدا وذكروا انه قد يتحقق بما دونها وغفل عن أحاديث الكافي وسائر كتب الحديث الموجودة الإن وهي تزيد على مائة كتاب ولعل عذره تشتت الاخبار وتباعد أماكنها وعدم استحضاره لها وعدم إمكان ضبطها ويظهر لي ان عذره في عدم الرجوع الى أحاديث الكافي مع صحة أسانيد جملة منها باصطلاح المتأخرين ان المسئلة مذكورة في كتب الفقه وفي التهذيب في كتاب التجارة وباب الغنا في الكافي في آخر كتاب الأطعمة والأشربة فلذلك غفل عنه.

إذا عرفت هذا وظهر لك تحريم الغنا في جميع صوره عدا ما استنى بدليل خاص بل عرفت تحريمه في خصوص هذه الصورة بما مر من الأدلة وغيرها وجب تأويل الحديث المسئول عنه وتعين حرفه عن ظاهره لعدم إمكان العمل به من غير تأويل وذلك ممكن من وجوه اثنى عشر.

الأول : الحمل على التقية لأنه موافق لمذهب أكثر العامة وقد تقدم ذلك وعرفت انه أقوى أسباب الترجيح في الأحاديث المختلفة.

الثاني : أن يكون المراد بالترجيع مجرد رفع الصوت من غير أن يصل الى

__________________

(١) يعنى يضعفون بعض أحاديثه على مصطلحهم.

(٢) ج ٢ ص ٥٦٥

٨٨

حد الغنا لان السؤال في صدر الحديث انما هو رفع الصوت وان الشيطان يوسوس للسائل إذا رفع صوته بالقرآن بأنه يريد الرياء فأمره الإمام (ع) ان لا يلتفت الى هذا الوسواس وان يقرء قراءة متوسطة ويرفع صوته بالقرآن فأجاز له التوسط ورفع الصوت فاما ان يكون الواو في ورجّع بمعنى أو كما ذكروه في مواضع وذكروا له شواهد ويكون معنى الواو الجمع بين الأمرين في الحكم بالجواز هنا أي في خصوص الصورة المذكورة في السؤال أو أمر له بالأمرين في وقتين بان يقرء قراءة متوسطة مرة ويرفع صوته أخرى أو يكون رفع الصوت هنا بما لا يخرج عن حد التوسط بان لا يبلغ العلو المفرط بل يكون من المراتب المتوسطة فيستقيم معنى الجمع وقد ورد استعمال الترجيع في رفع الصوت وفهم منه بعض علماء العرب هذا المعنى كما يأتي ان شاء الله تعالى.

الثالث : ان يكون المراد بالترجيع في الحديث مجرد مد الصوت كما مر تقريره والفرق بينه وبين ما قبله ظاهر إذ لا ملازمة بينهما وقد استعمل الترجيع في مد الصوت ورفعه كما ذكره بعض العلماء في تفسير مثل هذا اللفظ.

قال صاحب كتاب قصص الأنبياء بعد ذكر أحاديث من طرق العامة في قصة الأذان ما هذا لفظه قال أبو محمد سمعت الخليل من أحمد قاضي سجستان يقول معنى الترجيع في هذا الخبر هو الذي في الخبر الثاني قال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ارجع فامدد من صوتك وهو انه كان لا يرفع صوته فيه ويحتمل أن يكون إنما أمره بالرجوع ليكرره فيحفظه كما يعلم المتلقى للقرآن الآية فيكررها عليه ليحفظها « انتهى » وناقل هذا الوجه والمنقول عنه من أمل اللسان والفصاحة والمعرفة باللغة العربية وان كانا من علماء العامة على ان هذا وأمثاله من قسم المجاز وبابه واسع وهو غير موقوف على نقل وان حصل به تأييد وتأكيد.

الرابع : ان يكون قوله ورجع بالقرآن صوتك استعارة تبعية ويكون المراد مجرد تحسين الصوت كما ان الترجيع يحصل منه التحسين كأنه قال وحسّن بالقرآن

٨٩

صوتك تحسينا يشبه الترجيع وقوله : يرجع به ترجيعا اى يحسن به أى بالقرآن تحسينا كالترجيع على اعتبار مغايرة المشبه للمشبه به فيهما ولا ينافيه وصف الصوت بالحسن قبل ذكر الترجيع ثانيا لان الحسن يحتمل التحسين فيزيد معروضه حسنا والضمير في به راجع الى القرآن كما قلناه على هذا الوجه وما قبله لا الى الصوت وان أمكن على وجه وحمل هذا اللفظ على الاستعارة المذكورة متجه وقرينتها امتناع حمله على ظاهره شرعا كما هو معلوم من مذهبهم فنزل الامتناع الشرعي منزلة الامتناع العقلي في قولهم نطقت الحال بكذا.

الخامس : أن يكون المراد بالترجيع تكرار الآيات وترديد الكلمات فان ذلك يلزم منه ترجيع الصوت والرجوع إليه مرة بعد مرة وقد ورد الأمر بذلك في آيات الرحمة والعذاب وغيرهما وكونه خلاف الظاهر لا يضرنا لضرورة الحمل على مثله عند تعذر الحمل على الظاهر وقد ذكر الفقهاء انه يكره الترجيع في الأذان وفسروا الترجيع بتكرار التكبير والشهادتين وهو يقرب هذا الوجه وكذا قول أهل اللغة ترجع الكلام تكراره ومراجعة الخطاب معاودته وكذلك ما تقدم نقله من كتاب قصص الأنبياء عليهم‌السلام.

السادس : ان يكون حثا على كثرة قراءة القرآن والاشتغال به في جميع الأوقات كما ورد الأمر به في أحاديث كثيرة إذ يلزم منه ترجيع الصوت كما مر فاستعمل اللفظ وأريد به ملزوم معناه وله نظائر وهذا قريب من الذي قبله وهما من وجوه المجاز لهذا اللفظ وربما يقرب هذا ما تضمنه السؤال من ان الشيطان يوسوس له بإرادة الريا ليمنعه من قراءة القرآن فاقتضت الحكمة مجاهدة الشيطان وتحصيل ضد مقصوده لئلا يطمع في المكلف.

السابع : أن يكون المراد بترجيع الصوت قراءته على وجه الحزن كما ورد الأمر به صريحا في قولهم عليهم‌السلام ان القرآن نزل بالحزن فاقرأوه بالحزن ووجهه ان ترجيع الصوت في النوح وغيره لما كان يقتضي زيادة الحزن جاز ان يستعمل في

٩٠

مطلق الصوت الحزين ويكون استعارة تبعية كما مر ويخص بما لا يرجع الترجيع الذي يحصل به الغنا لما عرفت من تحريمه.

الثامن : أن يكون الترجيع استعارة أيضا لكن بمعنى التبيين من حيث ان الترجيع يستلزمه غالبا أو دائما فأطلق على التبيين الحاصل بدونه.

وقد روى عن ابى عبد الله عليه‌السلام في قول الله عزوجل ( وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ) قال قال أمير المؤمنين عليه‌السلام بيّنه تبيينا ولا تهذه هذا الشعر ولا تنثره نثر الرمل ولكن اقرعوا به قلوب القاسية (١) ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة فهذا الحديث شاهد لهذا التأويل مع صحته بحسب القواعد العربية والبيان.

التاسع : ان يكون الترجيع أيضا استعارة لكن بمعنى جعل الصوت بحيث يؤثر في القلب من حيث ان الترجيع يستلزم ذلك غالبا كما مر تقريره والحديث السابق شاهد له أيضا ولا ريب انه يجب حمل الترجيع على بعض المعاني المأمور بها ولا يجوز حمله على المعنى المنهي عنه.

العاشر : أن يكون مخصوصا بالترجيع الذي لا يصل الى حد الغنا اعنى ما ليس بمطرب ولا تصدق عليه الغنا ولا ينافي ما ورد في تحريمه وهذا وان كان قريبا لكن جماعة من الفقهاء عرفوا الغناء بأنه الصوت المشتمل على الترجيع وان لم يطرب وذكر بعضهم ان التلازم حاصل بين الترجيع والطرب ولو بنسبة بعض الأشخاص وهو غير بعيد وذكر بعضهم انه راجع الى العرف اى عرف العرب وهو لا يخرج عما تقدم ويمكن الجمع بحمل المطرب في التعريف الأول على انه وصف للتوضيح لا للتخصيص.

وفي القاموس : الغنا ككسا من الصوت ما طرب به وهو يدل على اعتبار الوصف فان لم يكن ملازما فهو كالتعريف الأول والحاصل انه مع اجتماع الترجيع والاطراب يتحقق الغنا بإجماع الفقهاء واللغويين والعرب.

__________________

(١) تفسير البرهان ج ٤ ص ٣٩٧

٩١

الحادي عشر : ان يكون المراد بالترجيع في الصوت ترديده من مخرج حرف الى مخرج حرف آخر أي إخراج الحروف من مخارجها كما ينبغي من غير ان يكون النطق بواحد منها مشابها للنطق بآخر فيكون حاصل الترجيع بيان الحروف في النطق بيانا تاما فإنه يستلزم اللطف في رجوع الصوت من كيفيته إلى أخرى ومن مخرج حرف الى آخر وهذا قريب من الثامن وبينهما فرق ما.

الثاني عشر : ان يكون المراد بترجيع الصوت رده باشتغاله بالقرآن عن الشعر والغنا ونحوهما فيكون امرا بالاشتغال به عن غيره والرجوع عن غيره إليه لأن صاحب الصوت الحسن يستعمله غالبا في الغنا فأمره بالرجوع عنه الى قراءة القرآن لا على وجه الغنا فيرجع الى معنى الرجوع مع معنى التكثير (١) وكذا قوله يرجع به ترجيعا ويكون الضمير للقرآن اى ان الله يحب الصوت الحسن الذي يرده صاحبه عن المحرمات فيرجع الى الاشتغال بالعبادات كالقراءة على وجه مباح شرعي. وان نوزع في بعض هذه الوجوه بأنه بعيد فأكثرها قريب سديد ومن نظر في كلام الفصحاء علم ان أكثره مجازات واستعارات وكنايات وقد اجمع البلغاء على ان المجاز أبلغ من الحقيقة بل لا مبالغة في استعمال اللفظ في حقيقته والمبالغة في مثل هذه المقامات مطلوبة خصوصا مع شدة ظهور الحال لو لا تمويهات أهل الضلال.

ولا بأس بذكر نبذة من عبارات الفقهاء وعلماء اللغة في تفسير الغناء ومعلوم ان تفسيرهم حجة فإنها لفظة موضوعة لمعنى ونقلهم لمعناها رواية لا اجتهاد ولا تناقض في نقلهم لتقارب مدلوله وشمول الغنا لما ذكروه.

قال المحقق في الشرائع مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب يفسق فاعله وترد شهادته سواء كان في شعر أو قرآن ولا بأس بالحداء (٢).

__________________

(١) مع معنى حمله التكثير خ ل

(٢) راجع كتاب الشهادات صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣٣ في صفات الشهود

٩٢

وقال العلامة في التحرير الغنا حرام وهو مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب يفسق فاعله وترد شهادته سواء كان في القرآن أو شعر وكذا مستعملة سواء اعتقد إباحته أو تحريمه ولا بأس بالحداء وهو الإنشاد الذي تساق به الإبل يجوز فعله واستماعه وكذا نشيد الاعراب وسائر أنواع الإنشاد وما لم يخرج الى حد الغناء (١).

وقال الشهيد في الدروس ويفسق القاذف الى أن قال : والمغني بمد الصوت المطرب المرجع وسامعه وان كان في القرآن (٢).

وقال العلامة في الإرشاد : وترد شهادة اللاعب بآلات القمار الى ان قال وسامع الغناء وهو مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب وان كان في القرآن وفاعله.

وقال الشيخ على في شرح القواعد ليس مطلق مدّ الصوت محرّما وان مالت النفوس اليه ما لم ينته الى حدّ يكون مطربا بسبب اشتماله على الترجيع المقتضى لذلك (٣).

وقال الجوهري في الصحاح : الطرب خفة تصيب الإنسان لشدة حزن أو سرور.

وقال صاحب القاموس : تخصيص الطرب بالفرح وهم وقال الزمخشري في الأساس : هو خفة من سرور أو همّ.

وقال صاحب الصحاح أيضا التطريب في الصوت مده وتحسينه وقال أيضا الترجيع في الأذان وترجيع الصوت وترديده في الحلق كقراءة الأصحاب الالحان.

وقال صاحب القاموس الترجيع في الأذان تكرير الشهادتين جهرا بعد إخفائها

__________________

(١) التحرير ج ٢ صلى‌الله‌عليه‌وآله ٢٠٩ في صفات الشاهد

(٢) الدروس صلى‌الله‌عليه‌وآله ١٩٠ كتاب الشهادة

(٣) إيضاح الفوائد في شرح القواعد ج ٤ صلى‌الله‌عليه‌وآله ٤٢٤ في الشهادات

٩٣

وفي الصوت ترديده في الحلق كقراءة أصحاب الالحان.

وقال صاحب كتاب شمس العلوم : ودو الكلام العرب من الكلوم على ما نقل عنه الترجيع ترديد الصوت في الحلق مثل ترجيع أصل الالحان في القراءة والغنا.

وقال أيضا طرب في صوته إذا مده وطرب في القراءة والأذان كذلك.

وقال ابن إدريس في السرائر فأما المحظور على كل حال فهو كل محرم الى أن قال وترجيع ما يطرب من الأصوات والأغاني (١).

وقال العلامة في القواعد : الغنا حرام يفسق فاعله وهو ترجيع الصوت ومده وكذا يفسق سامعه قصدا سواء كان في قرآن أو شعر.

وذكر الشهيد الثاني ان الغنا راجع الى العرف وذكر بعض التفسيرات السابقة أيضا والظاهر أنه أراد إدخال ما لم يدخل في التعريف السابق إذا سمى في العرف غناء (٢).

قال في شرح اللمعة : الغنا مدّ الصوت (٣) المشتمل على الترجيع المطرب أو ما يسمى في العرف غناء وان لم يطرب سواء كان في شعر أم قرآن أو غيرهما وكلام سائر الفقهاء واللغويين يقارب ما نقلناه والتعريفات متقاربة كما عرفت ولا مانع من الجمع بينهما لعدم تناقضها وهو ظاهر ويفهم من كتب اللغة ان التغني والتطريب والترجيع واللحن والتغريد والترنم ألفاظ متقاربة المعنى لأنهم يذكرون بعضها في تفسير بعض ومن أراد الوقوف على عباراتهم فليرجع إليها وتلك العبارات تزيد الغنا وضوحا وربما تدخل فيه إفراد يسيرة لم تدخل فيما نقلناه وعلى تقدير الشك في دخول بعض الإفراد يتعين اجتنابه عند من يخاف الله واما الإفراد الظاهرة الفردية فلا عذر لأحد فيها.

__________________

(١) السرائر كتاب الشهادات صلى‌الله‌عليه‌وآله ١٨٣

(٢) المسالك ج ٢ كتاب الشهادات فيمن ترد شهادته.

(٣) شرح اللمعة ج ٣ صلى‌الله‌عليه‌وآله ٢١٢

٩٤

فائدة (٢٨)

روى تغنوا بالقرآن فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا (١).

أقول : هذا لا حجة فيه بل هو ضعيف لاجتماع جميع وجوه الضعف السابقة فيه ولأن أصله من أحاديث العامة وكل من نقله منهم أو من الخاصة أو له فلم يحمل أحد منهم على ظاهره فذلك إجماع منهم على صرفه عن ظاهره لمخالفته للمعهود المقرر من عدم جواز الغنا في القرآن ولا في غيره ولأنه يدل بظاهره على وجوب الغنا في القرآن مع زيادة التأكيد والتهديد ولان قوله فليس منا لا يجامع الاستحباب فضلا عن الجواز ولا قائل بالوجوب ولا بالاستحباب بل هو مخالف للإجماع في ذلك من الخاصة والعامة وقد أولوه تارة بتزيين الصوت وتحسينه بحيث لا يصدق عليه الغنا كما ذكرناه سابقا وتارة بحمل تغنوا على معنى استغنوا كما ورد في حديث آخر من قرء القرآن فهو غنى لا غنى بعده (٢) وغير ذلك.

وقال السيد المرتضى في الدرر والغرر قال أبو عبيد القسم بن سلام فيما يروى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس منا من لم يتغن بالقرآن (٣) قال أراد يستغنى به واحتج بقولهم

__________________

(١) أخرجه العلامة النوري ره في المستدرك عن جامع الاخبار ومعاني الأخبار للصدوق والغرر والدرر للسيد المرتضى ره راجع ج ١ صلى‌الله‌عليه‌وآله ٢٩٥

(٢) في الكافي : فهو غنى لا فقر بعده. وفي الوسائل : القرآن غنى لا غنى دونه ولا فقر بعده راجع ج ١ صلى‌الله‌عليه‌وآله ٣٦٧

(٣) مستدرك ج ١ صلى‌الله‌عليه‌وآله ٢٩٥

٩٥

تغنيت تغنيا وتغانيت تغانيا وانشد كلانا غنى عن أخيه حبالة ونحن إذا متنا أشد تغانيا واحتج بقول ابن مسعود من قرأ سورة آل عمران فهو غنى اى مستغن [ متغن ] واحتج بحديث روى عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله وهو انه لا ينبغي لحامل القرآن ان يظن ان أحدا أعطي أفضل مما اعطى ، وبخبر روى عن عبد الله بن نهيك انه دخل على سعد وإذا مثال رث ومتاع رث فقال قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله ليس منا من لم يتغن بالقرآن ، فذكر المثال الرث والمتاع الرث يدل على ان التغني بالقران الاستغناء به عن الكثير من المال والمثال الفراش قال أبو عبيد ولو كان معناه الترجيع لعظمت المحنة علينا إذ كان من لم يرجع القرآن ليس منه عليه‌السلام.

وذكر عن ابى عبيد جواب آخر : انه أراد من لم يحسن صوته بالقرآن ويرجع فيه. وقد ذكر أبو بكر بن الأنباري وجها ثالثا وهو انه قال أراد عليه‌السلام من لم يتلذذ بالقرآن ويستحله استحلاء أصحاب الطرب والغنا والتذاذه به وفي الخبر وجه رابع خطر لنا هو أن يكون من غنى الرجل بالمكان إذا مقامه به.

ومنه قيل المغني والمغانى قال الله تعالى ( كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ ) وقال تعالى ( كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ) اى لم يقيموا بها فيكون معناه من لم يقم على القرآن وتجاوزه الى غيره ولم يتخذه مغني وينزل فليس منا اى لا يكون على خلاقنا أو على ديننا لشهر بالخضاء من كلام السيد المرتضى وما نقله عن المذكورين في الدرر والغرر والله أعلم.

٩٦

فائدة (٢٩)

روى ان الله قسم الشهوة عشرة أجزاء تسعة في النساء وواحد في الرجال ولو لا ما جعل الله فيهن من الحياء لكان لكل رجل تسع نسوة متعلقات به (١).

أقول : ذكر بعض المحققين ان للولاء دلالتين دلالة بحسب المنطوق ودلالة بحسب المفهوم.

فالأولى هي أن تدل على استلزام انتفاء شرطها لتحقق جوابها.

والثانية : هي أن تدل على استلزام شرطها لانتفاء جوابها وما موصولة مبتدا وخبره محذوف وجوبا لأنه كون عام كما هو القاعدة بعد لو لا ومن الحيا بيان لما اى لو لا الحياء الذي أودعه الله فيهن لكان إلخ ووجهه مبني على مساواة الرجال للنساء وان كل واحد من الاجزاء التسعة للشهوة تفتقر الى رجل وتفصيل المقام انه لو كان الرجال ألفا والنساء كذلك مثلا لكان كل امرأة باعتبار كل جزء من الاجزاء المذكورة تتعلق برجل غير من تعلقت به قبله فيلزم أن يكون لكل رجل تسع نسوة متعلقات به ويلزم من هذا أن يكون لكل امرأة تسعة رجال لكن لما كان المقصود التنبيه على توفر شهوتهن وفرط رغبتهن في النكاح وكان المانع من إظهار ذلك الحياء الذي أودعه الله فيهن صرح عليه‌السلام بالشق الأول الذي هو الملزوم للشق الثاني فإن تعدد الرجال انما حصل من تعدد أجزاء الشهوة التي في كل امرأة فعلى دلالة المنطوق يصير المعنى استلزام انتفاء الحياء لتحقق تعلق تسع نسوة بكل رجل (٢) وعلى دلالة المفهوم يصير المعنى استلزام وجود الحياء لانتفاء تعلق تسع نسوة بكل رجل والله اعلم.

__________________

(١) راجع الوافي ج ٢ باب ١٤ من أبواب النكاح صلى‌الله‌عليه‌وآله ١٧

(٢) وفي مخطوطة أخرى العبارة هكذا : فعلى دلالة المنطوق يصير المعنى استلزام وجود التحقق تعلق تسع نسوة بكل رجل إلخ

٩٧

فائدة (٣٠)

روى ان الله تطول على عباده بثلاث : القى عليهم الريح بعد الروح ولو لا ذلك ما دفن حميم حميما ، والقى عليهم السلوة بعد المصيبة ولو لا ذلك لا نقطع النسل ، وسلط على الحبّة هذه الدابّة (١) ولو لا ذلك لكنزها ملوكهم كما يكنزون الذهب والفضة (٢).

أقول : هذا مذكور في الفقيه والخصال وغيرهما وفي بعض تلك المواضع القى عليهم الروح بعد الروح والمعنى واحد لان الرّوح الأول بفتح الراء بمعنى نسيم الروح (٣) كما في القاموس وغيره ، والثاني على التقديرين بضم الراء ما به حياة الأنفس وقوله : بعد الروح اى بعد خروجها ومفارقتها للبدن وفي معنى هذا الكلام ثلاثة احتمالات.

الأول : أن يكون المراد بالريح النفس الذي يجذبه الإنسان إلى الباطن بأنفه وفمه ليخفف عنه الحرارة الباطنية والمعنى لو لا هذه الريح التي تروح القلب وتخفف عنه الغم والحزن بعد خروج الروح من الميت القرابة لما سمحت نفس أحد بدفن قرابته لشدّة حزنه وعظيم مصيبته في أول أمره ولا ينافي ذلك وجود هذه

__________________

(١) في الفقيه : والقى على هذه الحبة الدابة ـ أقول : والمراد بالحبة : الحنطة والشعير وأمثالهما

(٢) الفقيه ج ١ صلى‌الله‌عليه‌وآله ١٨٧

(٣) نسيم الريح ـ خ ل

٩٨

الريح قبل وبعد وعدم اختصاصها كما قيل لان هذه التخفيف من جملة فوائدها بل من أعظمها والتخصيص غير لازم ولا مفهوم من الكلام.

الثاني : ان يكون المراد الريح الموجودة بين السماء والأرض التي تأخذ الروائح الطيبة والخبيثة وتتحرك بها فتنتقل عن محلها وتتفرق وتذهب ، والمعنى ح لو لا هذه الريح وذهابها برائحة الميت الردية وتخفيفها أو إزالتها عنه بالكلية لما قدر على الدنو منه قرابته فضلا عن غيره ولا أمكن دفنه لذلك.

الثالث : ان يكون المراد الريح الحاصلة في جوف الميت عند انتفاخه إذا ترك مدّة والمعنى ح لو لا ما قدر الله من انتفاخ الميت وكثرة رائحة الردية وانفجار بطنه إذا ترك بغير دفن لما كان الإنسان يدفن قرابته بل كان يحفظه عنده فهذه الآثار مستندة الى الريح وهي موجبة للدفن وهذا الوجه ربما كان أقرب وآخر الحديث يناسبه وقوله بعد الروح اى خروجها يؤيده ويقربه والله اعلم.

٩٩

فائدة (٣١)

روى عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله قال ثلاثة لا أدرى أيهم أعظم جرما الذي يمشى مع الجنازة بغير رداء ، والذي يقول : ارفقوا به والذي يقول : استغفر والله غفر الله لكم وفي بعض النسخ استغفروا له غفر الله لكم (١).

أقول : قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله لا أدرى أيهم أعظم جرما غير صريح في تحريم هذه الأشياء وانما يدل على نفى العلم بمن هو أعظم جرما وذلك يصدق مع كونهم متساوين في عظم الجرم أو مطلق الجرم ومع كونهم ليس أحد منهم صاحب جرم لاستحالة جهل الرسول عليه‌السلام بالشريعة أو اعترافه به مع خلوة من الفائدة فلو كان أحدهم أعظم جرما لعلمه وعلمه ولان المعهود منه في مثله انتظار الوحي ، وعلى هذا فلا يلزم إثبات الجرم لهم مع هذا الاحتمال المتوجه في الجملة غير ان مثل هذه العبارة يفهم منها الحكم بالمرجوجية والتنفير والتحذير من هذه الأشياء والا فإنه لا يدل على رجحانها قطعا ولا على إباحتها وتساوى الطرفين فيها ولو لم يدل على المرجوحية لخلا من الفائدة.

هذا على تقدير كون جرما بضم الجيم وكونه بمعنى الذنب أو الجناية ولا يبعد حمله على معنى الاكتساب فقد ورد استعماله فيه أيضا وهو أعم من الأجر والإثم فيمكن ارادة اكتساب الخير كما يأتي ان شاء الله ويمكن كونه جرما بكسر الجيم بمعنى

__________________

(١) الخصال ص ١٧٥ ط النجف

١٠٠