اسطورة التحريف

محمود الشريفي

اسطورة التحريف

المؤلف:

محمود الشريفي


الموضوع : العقائد والكلام
الطبعة: ١
الصفحات: ١٦٠

شاهدين على بعض ما سمع من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فلا يبقى وثوق بعدم النقيصة. (١)

فهذه الشبهة مبتنية على ما زعمه النوري بأنّ جمع القرآن كان بأمر من أبي بكر ، ولكن هذا الزعم باطل قطعاً ، لاهتمام النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله بالقرآن ، وتعليمه إيّاه للناس ، وحثّه لهم على قراءته وحفظه وختمه أوّلاً.

وثانياً : عرض الصحابة القرآن على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وقراءتهم له.

وأخيراً اهتمام الصحابة بختم القرآن في زمنه صلى‌الله‌عليه‌وآله وأمره وحثّه على ختمه باستمرار.

فكون القرآن كلّه موجوداً مكتوباً على القسب واللخلاف والرقاع وقطع الأديم وعظام الأكتاف والأضلاع وبعض الحرير والقراطيس ممّا لا شكّ فيه.

فإذا كان هذا الزعم باطلاً كما صرّح به غير واحد من المحقّقين الّذين بذلوا جهدهم في هذا الموضوع شكّر الله سعيهم يتبيّن أنّ هذا الدليل أيضاً في غير محلّه.

كيفيّة جمع القرآن

نعم هنا بحث في أنّ القرآن المكتوب في القراطيس وغيره في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله جمع في مصحف واحد كالموجود بين الدفّتين في زمنه أو كان متفرّقاً فيها في زمن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله نظراً لترقّب نزول القرآن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله ، فمادام لم ينقطع الوحي لم يصحّ تأليف السّور مصحفاً ، إلّا بعد الإكمال

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، ص ٢٣٩.

١٠١

وإنقطاع الوحي.

قد ذهب عدة من المحقّقين إلى أنّ القرآن بنظمه القائم وترتيبه الحاضر كان قد حصل في حياة الرسول وكان القرآن على عهده صلى‌الله‌عليه‌وآله مجموعاً مؤلّفا على ما هو عليه الآن كالقاضي وابن الأنباري والكرماني والطيّبي (١). كما ذهب السّيد الخوئي أيضاً إلى هذا الرأي(٢).

وذهب أستاذنا العلاّمة الشيخ محمد هادي المعرفة إلى أنّ جمع السور وترتيبها بصورة مصحف مؤلّف كالموجود بين الدفّتين حصل بعد وفاة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله ، وأوّل من قام بجمع القرآن بعد وفاته مباشرة وبوصيّه منه صلى‌الله‌عليه‌وآله هو اللإمام علي بن أبي طالب ـ صلوات الله عليه ـ ثمّ قام بجمعه زيد بن ثابت بأمر من أبي بكر ، كما قام بجمعه كلّ من ابن مسعود وأبيّ بن كعب وأبي موسى الأشعري وغيرهم ، حتىّ انتهى الأمر إلى دور عثمان فقام بتوحيد المصاحف وإرسال نسخ موحّدة إلى أطراف البلاد ، وحمل الناس على قراءتها وترك ما سواها. (٣)

ثمّ قال : ما قدّمناه هو المعروف عن رواة الآثار وعند الباحثين عن شؤون القرآن(٤).

وأضاف بقوله : ولكن يجب أن يعلم : أنّ قضيّة جمع القرآن حدث

__________________

(١) الإتقان ، ج ١ ، ص ٦٢.

(٢) التمهيد ، ج ١ ، ص ٢٢١.

(٣) المصدر نفسه ، ص ٢١٨ و ٢١٩.

(٤) المصدر نفسه ، ص ٢٢٠.

١٠٢

من أحداث التاريخ ، وليست مسألة عقلانية قابلة للبحث والجدال فيها.

وعليه فيجب مراجعة النصوص التاريخيّة المستندة من غير أن يكون مجال لتجوال الفكر فيها على أيّة حال!

والصحيح عندي أيضاً ما قاله الأستاذ. ولمزيد الاطمينان إلى أصحّ القولين فليراجع الموسوعة القيّمة التمهيد ، ج ١ ، ص ٢٢٠.

الدليل الثالث :

إنّ أكثر العامّة وجماعة من الخاصّة ذكروا في أقسام الآيات المنسوخة : ما نسخت تلاوتها دون حكمها ، وما نسخت تلاوتها وحكمها معاً. وذكروا للقسمين أمثله ورووا أخباراً كثيرة ظاهرة بل صريحة في وجود بعض الآيات والكلمات الّتي ليس لها في القرآن المتداول أثر ولا عين وأنّه كان منه في عصر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله يتلونه الأصحاب وحملوها على أحد القسمين من غير أن تكون فيها دلالة وإشارة على ذلك وحيث إنّ نسخ التلاوة غير واقع عندنا فهذه الآيات والكلمات لابدّ وأن تكون ممّا سقطت وسقوطها من الكتاب جهلاً أعمداً لا بإذن من الله ورسوله وهو المطلوب. (١)

ويرد عليه : أنّ نسخ التلاوة عندنا باطل أيضاً ، ولانعتقد به ؛ لقوله تعالى : (وَما نَنْسَخْ مِنْ آيةٍ أوْ نُنسِها نَأتِ بِخَيرٍ مِنها أَوْ مِثلِها) (٢) ، إذ لا نسخ

__________________

(١) فصل الخطاب ، ص ١٠٥.

(٢) البقرة : ١٠٦

١٠٣

فيما لا يكون هناك ناسخ ، وما جاء بخير منه أو مثلها في نسخ التلاوة.

مضافاً إلى أنّ الروايات الّتي أشار إليها الطبرسي روايات آحاد ، والقرآن الكريم لا يثبت ولا ينسخ بروايات الآحاد مهما كانت مكانة قائلها ، ولابدّ فيه من التواتر ، كما أجمع عليه العلماء قديماً وحديثاً.

وأخيراً لو صحّ ما قالوه لاشتهر بين الصحابة جميعاً ، ولحفظه كثير منهم أو كتبوه في مصاحفهم ، ولكن ما اشتهر ، بل نقول : إنّ نسخ التلاوة غير معقول ولن يصدر من الحكيم أبداً.

فإذا ثبت أنّ نسخ التلاوة غير واقع بل غير معقول لا يصدر من الحكيم فيثبت بطلان هذا الدليل أيضاً.

الدليل الرابع :

إنّه كان لأميرالمؤمنين عليه‌السلام قرآناً مخصوصاً جمعه بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله وعرضه علة القوم فأعرضوا عنه ، فحجبه عن أعينهم ، وكان عند أولاده عليهم‌السلام يتوارثه إمام عن إمام كسائر خصائص الإمامة وخزائن النبوّة ، وهو عند الحجّة عجّل الله فرجه يظهره للنّاس بعد ظهوره ويأمرهم بقراءته ، وهو مخالف لهذا القرآن الموجود من حيث التأليف وترتيب السور والآيات بل الكلمات أيضاً ومن وجهة الزيادة والنقيصة ، وحيث إنّ الحقّ مع عليّ عليه‌السلام وعلى مع الحقّ ففي القرآن الموجود تغيير من جهتين ، وهو المطلوب. (١)

__________________

(١) فصل الخطاب ، ص ١٢٠.

١٠٤

والجواب عنه :

إنّ وجود القرآن لعليّ من المسلمات التاريخية ، ولكن لم يكن مصحفة مخالفاً لهذا القرآن الموجود بين الدفّتين من جهة الزيادة والنقيصة ، بل كان مخالفاً لهذا القرآن في النظم والاحتواء على شروح وتفاسير على الهامش ومحلّ النزول وشأن النزول.

قال السيّد الخوئي « رحمة الله » : (فالذي يستفاد من الروايات في هذا المقام هو أنّ مصحف عليّ عليه‌السلام كان مشتملاً على زيادات تنزيلاً أو تأويلاً. ولا دلالة في شيء من هذه الروايات على أنّ تلك الزيادات من القرآن). (١)

وما أدّعى أيضاً أحد ولا يستفاد من الروايات أيضاً أنّ مصحفه كان ناقصاً من القرآن الموجود بين الدفّتين.

فما ذكره النوري إن صحّ استدلاله يدلّ على التحريف بمعنى زيادة شيء في القرآن وبطلانه إجماعيّ ، ولكن الاستدلال سخيف وباطل كما عرفت.

وقال المرحوم العلاّمة الطباطبائي قدس‌سره : والجواب عنه الوجه الثالث إنّ جمعه عليه‌السلام القرآن وحمله إليهم وعرضه عليهم لا يدلّ على مخالفة ما جمعه في شيء من الحقائق الدينيّة الأصليّة أو الفرعية إلا أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور الّتي نزلت نجوماً بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينيّة.

ولو كان كذلك لعارضهم بالحتجاج ودافع فيه ، ولم يقنع بمجرّد

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، ص ٢٢٥.

١٠٥

إعراضهم عما جمعه واستغنائهم عنه كما روي عنه عليه‌السلام في موارد شتيّ ، ولم ينقل عنه عليه‌السلام فيما روى من احتجاجاته أنّه قرأ في أمر ولايته ولا غيرها آية أو سورة تدلّ على ذلك ، وجبههم على إسقاطها أو تحريفها. (١)

الدليل الخامس :

إنّ وجود مصحف مخصوص معتبر لعبد الله بن مسعود مخالف للمصحف الموجود مستلزم لعدم مطابقة لتمام ما نزل على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله إعجازاً وإن كان في مصحفه أيضاً مخالفة لمصحف أميرالمؤمنين عليه‌السلام من جهة الترتيب كما مرّ ، وعدم اشتماله على تمام ما فيه بل بعض ما في الموجود أيضاً إلاّ أنّ المطلوب ثبوت تمام ما جمعه فيه ، وعدم شمول الموجود لبعضه وبه يتمّ الاستدلال ، ولا تضرّه المخالفة المذكورة ، كما لا يخفى. (٢)

والجواب عن ذلك :

قال الأستاذ العلامة محمد هادي المعرفة في جوابه :

كان اختلافه مع سائر المصاحف في قراءته بالزيادة التفسيريّة أحياناً ، وبتبديل كلمات غير مألوفة لغرض الإيضاح.

وقد أسقط المعوّذين بزعم أنّهما عوذتان. ولم يثبت الفاتحة في

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ، ج ١٢ ، ص ١١٩.

(٢) فصل الخطاب ، ص ١٣٥.

١٠٦

مصحفه ، نظراً لأنّها عدل القرآن وليس منه

هكذا كان يزعم ولكن كلّ ذلك لا يتمّ عن قصد إلى تحريف الكتاب. (١)

مضافاً إلى ذلك أنّ عدم شمول القرآن الموجود لبعض ما كان في مصحف ابن مسعود لا يفيد إثبات التحريف ؛ لأنّه لم يثبت بالتواتر وغيره قرآناً نازلاً. ومشهور أنّ عبدالله بن مسعود وافق مع الّذين كانوا يجمعون ويكتبون المصحف العثماني ، وأظهر رضايته بفعلهم. (٢)

الدليل السادس :

إنّ هذا المصحف الموجود غير شامل لتمام ما في مصحف أبيّ بن كعب ، فيكون غير شامل لتمام ما نزل إعجازاً لصحّة ما في مصحف أبيّ واعتباره. (٣)

والجواب عنه :

إنّ كون ما في مصحف أبيّ معتبراً محلّ إشكال بل منع ؛ لعدم ثبوته ، مضافاً بما جاء في ردّ الأستاذ حيث قال : نعم كان مشتملاً على دعائي القنوت ، وقد حسبهما سورتين : سورة الخلع وسورة الحفد. وقد زاد في مفتتح سورة الزمر (حم) ليكون عدد الحواميم عنده ثمانية ، على

__________________

(١) صيانه القرآن من التحريف ، ص ٢١١.

(٢) المصاحف ، ص ١٨ ودائرة المعارف تشيّع ، ج ١ ، ص ١٤٨.

(٣) فصل الخطاب ، ص ١٤٤.

١٠٧

خلاف المشهور ، وكانت له زيادات تفسيرية على غرار زيادات ابن مسعود. (١)

الدليل السابع :

إنّ ابن عفّان لمّا استولى على الأمّة جمع المصاحف المتفرّقة ، واستخرج منها نسخة بإعانة زيد بن ثابت وكتابته وقراءته وقراءة نفسه ، وسماّها بالإمام ، وأحرق ومزّق سائر المصاحف ، وما فعل ذلك إلاّ لإعدام ما بقي فيها ممّا كان بأيدي الناس وغفل عنه أخواه ممّا كان يلزمهم حذفه صوناً لسلطنتهم عمّا يوهم الوهن فيها ، وصادفه بعض الدواعي الأخر ممّا لزم منها سقوط بعض الكلمات بل الآيات أيضاً كما يستفاد من أخبار الباب. (٢)

والجواب عن ذلك :

إنّ ما زعم المحّدث النوري ادّعاء محض ؛ لعدم ثبوت سقوط بعض الكلمات أو الآيات ، بل ثبت عدم سقوط شيء من الكلمات أو الآيات ؛ لأنّ فعل عثمان كان بمرأى ومنظر القارئين والكتّاب وجميع المسلمين ، وما اعترض عليه أحد المسلمين أنّه أسقط بعض الكلمات أو الآيات ، بل أيّدوه في أصل جمع القرآن وتوحيده ، ونقل أنّ عليّاً عليه‌السلام أيضاً أيّده وقرّره. (٣)

__________________

(١) صيانة القرآن من التحريف ، ص ٢١٢.

(٢) فصل الخطاب ، ص ١٤٩.

(٣) حقائق هامّة حول القرآن الكريم ، ص ٣٩٦.

١٠٨

أخرج ابن داوود عن سويد بن غفلة قال : سمعته من عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام :

فوالله ما فعل (عثمان) الّذي فعل في المصاحف إلاّ عن ملأ منّا جميعاً.

وقال : فقد بلغني أنّ بعضهم يقول : قراءتي خير من قراءتك ، وهذا يكاد يكون كفراً ، قلنا : فماذا رأيت؟ قال عليه‌السلام : أرى أن يجمع الناس على مصحف واحد ، فلا تكون فرقة ولا اختلاف. فنعم ما رأيت. (١)

وفي رواية أخرى قال (عليّ عليه‌السلام) : ولو ولّيت في المصاحف ما ولي عثمان لفعلت كما فعل. (٢)

فهذا العمل من عثمان يكون دليلاً على صيانة القرآن من التحريف لا العكس ؛ لأنّ عمله كان لكثرة ما ظهر في الناس من اللحن في القراءة ، والقراءة باللهجات المختلفة وغير ذلك ، نعم عمله في إحراق سائر المصاحف كان قبيحاً جدّاً ، واعترض عليه المسلمون حتىّ سمّوه بحرّاق المصاحف.

قال السيّد الخوئي رضوان الله تعالى عليه : أمّا هذا العمل من عثمان فلم ينتقده عليه أحد من المسلمين ، وذلك لأنّ الاختلاف في القراءة كان يؤدّي إلى الاختلاف بين المسلمين وتمزيق صفوفهم وتفريق وحدتهم ، بل كان يؤدّي إلى تكفير بعضهم بعضاً. وقد مرّ فيما ـ تقدّم ـ بعض الروايات الدالّة على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله منع عن الاختلاف في القرآن.

__________________

(١) المصاحف ، ص ٢٢.

(٢) النشر في القراءات العشر ، ج ١ ، ص ٨.

١٠٩

ولكن الأمر الّذي انتقد عليه هو إحراقه لبقيّة المصاحف ، وأمر أهالي الأمصار بإحراق ما عندهم من المصاحف ، وقد اعترض على عثمان في ذلك جماعة من المسلمين ، حتىّ سموّه بحرّاق المصاحف. (١)

الدليل الثامن :

الأخبار الكثيرة الّتي رواها المخالفون (زيادة على ما مرّ في المواضع السابقة) الدالّة صريحاً على وقوع التغيير والنقصان في المصحف الموجود ، ولكثرتها ووثاقة بعض ناقليها ووجود الدواعي على ترك روايتها لرجوعها بالأخرة إلى الطعن على الخلفاء تطمئنّ النفس بصدق مضمونها ، مضافاً إلى عدم وجود الدواعي القريبة لهم لوضعها ، وعدم وجود معارض لها في أخبارنا ، بل فيها من المؤيّدات ما يجعلها قريباً من المتواترات. (٢)

والجواب عن ذلك :

أوّلاً : إنّ أكثر هذه الأحاديث ضعيفة من حيث الأسناد.

ثانياً : قد عالجها أئمّة نقد الحديث بأنّها كانت من زيادات تفسيريّة وشروح وما إلى ذلك ، لا من لفظ النّص. (٣)

ثالثاً : وجب طرح هذه الروايات ؛ لأنّها مخالفة للكتاب والسنّة.

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، ص ٢٥٨.

(٢) فصل الخطاب ، ص ١٧١.

(٣) صيانة القرآن من التحريف ، ص ٢٦١.

١١٠

رابعاً : إعراض أهل السنّة وأصحابنا عن هذه الروايات ، فتسقط من الحجيّة.

قال السيّد الخوئي قدس‌سره في ردّه : والجواب عن الإستدلال بهذه الطائفة : أنّه لابّد من حملها على ما تقدّم في معني الزيادات في مصحف أميرالمؤمنين عليه‌السلام (إنّ تلك الزيادات كانت تفسيراً بعنوان التأويل وما يؤول إليه الكلام أوبعنوان التنزيل من الله شرحاً للمراد(١)) وإن لم يمكن ذلك الحمل في جملة منها فلابدّ من طرحها ؛ لأنّها مخالفة للكتاب والسنّة ... على أنّ أكثر هذه الروايات بل كثيرها ضعيفة السند ، وبعضها لا يحتمل صدقه في نفسه ، وقد صرّح جماعة من الأعلام بلزوم تأويل هذه الروايات أولزوم طرحها. (٢)

وقال الأستاذ العلاّمة الطباطبائي : في ردّ الطائفة من الروايات :

أمّا أوّلاً : فبأنّ التمسك بالأخبار بما أنّها حجّة شرعيّة يشتمل الدور :

بيان ذلك :

إنّ حجيّة الأخبار متوقّفة على صحّة النبوّة وذلك ظاهر ، وصحّة النبوّة اليوم متوقّفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية وفصل القول وخاصّة الإعجاز ، فإنّه لا دليل حيّاً خالداً على خصوص نبوّة النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة ، ومع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أيّ تغيير

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، ص ٢٢٣.

(٢) المصدر نفسه ، ص ٢٣٣.

١١١

آخر لا وثوق بشيء من آياته ومحتوياته أنّه كلام الله محضاً ، وبذلك تسقط الحجّة ، وتفسد الآية ، ومع سقوط كتاب الله عن الحجّية تسقط الأخبار عن الحجّية.

فلا يبقى للمستدلّ بها إلّا أن يتمسّك بها بما أنّها أسناد ومصادر تاريخيّة ، وليس فيها حديث متواتر ولا محفوف بقرائن قطعيّة تضطرّ العقل إلى قبوله ، بل هي آحاد متفرّقة متشتّة مختلفة منها صحاح ومنها ضعاف في أسنادها ومنها قاصرة في دلالتها فما أشذّ منها ما هو صحيح في سنده تامّ في دلالته.

وهذا النوع على شذوذه وندرته غير مأمون فيه الوضع والدسّ ؛ فإنّ انسراب الإسرائيليات وما يلحق بها من الموضوعات والمدسوسات بين روايتنا لا سبيل إلى إنكاره ، ولا حجّية في خبر لا يؤمن فيه الدسّ والوضع.

ومع الغضّ عن ذلك فهي تذكر من الآيات والسور ما لا يشبهه النظم القرآني بوجه ، ومع الغضّ عن جميع ذلك فإنّها مخالفة للكتاب ومردودة.

وأمّا ما ذكرنا أن أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها ، فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أوضعيفتها ، والسالم منها من هذه العلل أقلّ قليل.

وأمّا ما ذكرنا أنّ منها ما هو قاصر في دلالتها ؛ فإنّ كثيراً ممّا وقع فيها من الآيات المحكميّة من قبيل التفسير وذكر معنى الآيات ، لا من حكاية متن الآية المحرّفة. (١)

__________________

(١) الميزان في تفسير القرآن ، ج ١٢ ، ص ١١٤.

١١٢

الدليل التاسع :

إنّ الله تبارك وتعالى قد ذكر أسامي أوصياء خاتم النبيّين وابنته الصدّيقة الطاهرة عليهم‌السلام وبعض شمائلهم وصفاتهم في تمام الكتب المباركة الّتي أنزلها على رسله وصرّح فيها بوصايتهم وخلافتهم وأنّ ختمها بهم ؛ وذلك إمّا للعناية التامّة بتلك الأمم ليتبرّكوا بتلك الأسامي الّتي وجودها في صحف نبيّهم بهذه الصفات الشريفة ويجعلونها وسيلة لإنجاح سؤلهم وإنجاز مأمولهم وكشف ضرّهم ودفع بأسهم على ما يظهر من جملة من الأخبار ، أولارتفاع قدرهم وإعلاء شأنهم بذكرهم قبل ظهورهم بهذه الأوصاف الكاشفة عن بلوغهم أشرف محلّ الكرّمين وأعلى منازل المقرّبين ، أو بما يقتضي كون معرفتهم بها كمعرفة الله جلّ جلاله واجبة على جميعهم وأنّهم إنّما بعثوا إلى العباد لذلك وأرسلوا لتعليمهم تلك المسالك. وهذا ظاهر كثير من الأخبار خصوصاً فيما ورد في علّة عذابهم بما ترجع إلى آبائهم من قبول ولايتهم عليهم‌السلام ، وعلى تلك الوجوه الراجعة حقيقةً إلى أمر واحد كيف يحتمل المنصف أن يهمل الله تعالى ذكر أساميهم في كتابة المهيمن على جميع الكتب الباقي على مرّ الدهور الواجب التمسّك به إلى قيامة الساعة ولا يعرّفهم لأمّة نبيّه الذين هم أشرف من جميع الأمم السالفة والعناية بتكميلهم أشدّ واستحكام أمرهم عليهم‌السلام ورفع قدرهم وإعلاء ذكرهم بدرجهم فيه أظهر ووجوب طاعتهم ومودّتهم على هذه الأمّة أشدّ من غيرهم ، وهو أهمّ من غيره من الواجبات الّتي تكرّر ذكرها في

١١٣

الكتاب الكريم. (١)

والجواب عن ذلك :

أوّلاً لم يثبت ذكر أسمائهم عليهم‌السلام في تمام الكتب الّتي نزلت على الرّسل.

ثانياً على فرض الثبوت لا ملازمة بين ذكر أسامي أوصياء خاتم النبيّين وابنته الصدّيقة الطاهرة عليهم‌السلام وبعض شمائلهم وصفاتهم في الكتب المباركة الماضية وبين ذكرها في القرآن كما لايخفى ، فعدم ذكرها لا يدلّ على التحريف ، بل نحتمل قويّاً أن عدم ذكرها خصوصاً اسم عليّ في القرآن إنّما هو لئلّا يتعرّض القرآن للتحريف.

قال المحقّق المتتبّع السيّد حعفر مرتضى العاملي : ويرى الشيعة أيضاً : أنّه لا حاجة للتصريح بأسماء الأئمة وأهل البيت في القرآن. وقد نصّ الأئمّة أنفسهم : على أنّه لم يذكر اسم عليّ عليه‌السلام في القرآن ، وذكروا السبب في ذلك(٢) ، عن ألي بصير عن أبي عبدالله عليه‌السلام فقلت له : إنّ النّاس يقولون : فماله لم يسمّ عليّاً وأهل البيت في كتاب الله؟ فقال : فقولوا لهم : إنّ رسول الله نزلت عليه الصلاة ، ولم يسمّ الله لهم ثلاثاً ولا أربعاً حتى كان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله هو الّذي فسّر لهم ذلك. (٣)

وقال المرحوم آية الله العظمى الخوئي ـ بعد نقل هذه الرواية ـ :

__________________

(١) فصل الخطاب ، ص ١٨٣.

(٢) حقائق هامّة حول القرآن الكريم ، ص ٢٤.

(٣) أصول الكافي ، كتاب الحجّة ، باب ما نصّ الله ورسوله على الأئمّة عليهم‌السلام ج ٢ ، ص ٤٠ ، ح ٧٥٠.

١١٤

فتكون هذه الصحيحة حاكمة على جميع تلك الروايات ، وموضحة للمراد منها وأنّ ذكر اسم أميرالمؤمنين في تلك الروايات قد كان بعنوان التفسير ، أو بعنوان التنزيل ، مع عدم الأمر بالتبليغ ، ويضاف إلى ذلك أنّ المتخلّفين عن بيعة أبي بكر لم يحتجّوا بذكر اسم علي في القرآن ، ولو كان له ذكر في كتاب لكان ذلك أبلغ في الحجّة ، ولا سيّماً إنّ جمع القرآن ـ بزعم المستدلّ ـ كان بعد تماميّة أمر الخلافة بزمان غير يسير ، فهذا من الأدلّة الواضحة على عدم ذكره في الآيات. (١)

وإذا ثبت عدم ذكر اسم عليّ في القرآن يتّضح عدم ذكر أسامي سائر الأئمّة فيه أيضاً.

الدليل العاشر :

انّه لا إشكال ولا خلاف بين أهل الإسلام في تطرّق اختلافات كثيرة وتغييرات غير محصورة في كلمات القرآن وحروفه وهيأته من زيادة كلمة ونقصانها وزيادة حرف ونقصانه وتبديل كلمة وإثبات أخرى وتأنيث لفظ وتذكيره وإفراده مرّةً وجمعه أخرى وأمثال ذلك من وجوه التغيير الّذي مرّ ذكرها إلى أن بلغ من الكثرة بمكان خرج عن اندراجه تحت الضبط ...

وظاهر أنّ المصحف الموجود الدائر غير خالص من بعضه أو أكثره ، فهو حينئذٍ غير مطابق لما أنزل عليه صلى‌الله‌عليه‌وآله إعجازاً ، وهو المقصود. وهذا

__________________

(١) البيان في تفسير القرآن ، ص ٢٣٢.

١١٥

الدليل وإن كان غير وافٍ لإثبات نقصان السورة والآية والكلمات ؛ لعدم شمول تلك الاختلافات لها إلّا أنّه يمكن تتميمه بعدم القول بالفصل أو بأن يقال إذا لم يكن اعتناؤهم في حفظ القرآن وصيانته عن تطرّق الاختلافات بمقام لم يحفظوا سورة الفاتحة كما هي وقد كانوا يتلونها في كلّ يوم مرّات عديدة في أزيد من عشرين سنة وكانوا يسمعونها عنه صلى‌الله‌عليه‌وآله كذلك ... فعدم حفظهم غيرها ممّا لم تكن لهم ضرورة إلى تلاوتها في كلّ سنة مرّة مثلاً بحيث يلزم منه ما ذكرنا من التحريف والنقصان أولى ، بل هو حينئذٍ في غاية الوضوح. (١)

والجواب عن ذلك :

إنّ ما ذكره النوري يدّل على اهتمام المسلمين بالقرآن وحفظه ، فلذلك بحثوا عن كيفية قراءته من حيث الإعراب والهيئة وغير ذلك ، إضافة إلى أنّ هذه البحوث والخلافات الجتهاديّة ، ولم يعتقدوا أنّ في القرآن اختلافاً ، بل كلّ الباحثين يعتقدون أنّ القرآن نزل بشك واحد من عند واحد وإنّ هذه الاختلافات في القراءة جاءت من جهة الباحثين والقرّاء ، وهو بحث علمي واجتهادي صرف لا ربط له بأصل القرآن وأنّ القرآن هو النصّ المتواتر عن رسول الله النازل عليه وحياً إعجازياً. وقد حافظ عليه جمهور المسلمين وكبار أئمّة الدين ، لا تغيير فيه ولا اختلاف عبر الدهور ، فكلّ باحث له إذعان بأنّ القرآن شيء

__________________

(١) فصل الخطاب ، ص ٢٠٩.

١١٦

والقراءات شيء آخر ، فلهذا ترى أنّ مع وجود قراءات مختلفة في الأبحاث الاجتهاديّة والعلميّة أنّ كلّ المسلمين يقرءون سورة الحمد مثلاً في صلواتهم من دون أن يكون في قراءتها أيّة مشكلة.

مضافاً إلى أنّ دليله لا يكفي لإثبات مدّعاه ذهب إلى إثبات ما ادّعاه بعدم القول بالفصل ، وهو أيضاً غير وافٍ لثبوت وجود قراءات المختلفة واطّلاع الباحثين عليها مع اعتقادهم بأنّه لم ينقص من القرآن كلمة أو آية أو سورة.

هذا أيضاً مضافاً لما قاله الأستاذ في كتابه القيّم في ردّه : وأمّا مسألة التتميم بعدم القول بالفصل ، فلا موضوع لها أوّلاً.

وثانياً : هي مسألة أصولية تخصّ الأمور النظريّة العقليّة ، دون العلوم النقليّة المبتنية على أساس النقد والتمحيص. (١)

الدليل الحادي عشر :

الأخبار الكثيرة المعتبرة الصريحة في وقوع السقط ودخول النقصان في الموجود من القرآن زيادة على ما مرّ متفرقاً في ضمن الأدلّة السابقة وأنّه أقلّ من تمام ما نزل إعجازاً على قلب سيّد الإنس والجان من غير اختصاصها بآية أو سورة وهي متفرّقة في الكتب المعتبرة الّتي عليها المعوّل وإليها المرجع عند الأصحاب ، جمعت ما عثرت عليها في هذا الباب بعون الله الملك الوهّاب :

__________________

(١) صيانة القرآن من التحريف ، ص ٢٢٠.

١١٧

الف : ثقة الإسلام (الكليني) في آخر كتاب فضل القرآن من الكافي عن محمّد بن يحيى ، عن أحمد بن محمد ، عن عليّ بن الحكم ، عن هشام بن سالم ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام قال : إنّ القرآن الّذي جاء به جبرئيل عليه‌السلام إلى محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله سبعة عشر ألف آية.

ب : المولى محمد صالح في شرح الكافي ، عن كتاب سليم بن قيس الهلالي أنّ أميرالمؤمنين عليه‌السلام بعد وفاة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله لزم بيته وأقبل على القرآن يجمعه ويؤلّفه ، فلم يخرج من بيته حتّى جمعه كلّه ، وكتب على تنزيله الناسخ والمنسوخ منه والمحكم والمتشابه والوعد والوعيد ، وكان ثمانية عشر ألف آية. (١) إلى غير ذلك من الروايات الّتي ذكرها المحدّث النوري في كتابه(٢) ، ونحن لا نأتي بها اجتناباً للإطالة.

الدليل الثاني عشر

الأخبار الواردة في الموارد المخصوصة من القرآن الدالّة على تغيير بعض الكلمات والآيات والسور بإحدى الصور المتقدّمة ، وهي كثيرة جدّاً ... (٣) ثمّ ذكر الأخبار الواردة ، نذكر هنا روايتين :

الف : عليّ بن إبراهيم القمي في تفسيره ، عن أبيه ، عن حماد ، عن حريز ، عن أبي عبدالله عليه‌السلام إنّه قال : إهدنا الصراط المستقيم طراط من

__________________

(١) فصل الخطاب ، ص ٢٣٤.

(٢) من صفحة ٢٣٤ إلى٢٤٧.

(٣) فصل الخطاب ، ص ٢٥٠.

١١٨

أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم وغير الضالّين ... الخبر.

ب : الطبرسي في مجمع البيان قرأ صراط من أنعمت عليهم عمر بن الخطاب وعبدالله بن زبير وروي ذلك عن أهل البيت عليهم‌السلام.

والجواب عن الدليلين الأخيرين :

أوّلاً : إنّ أكثر هذه الروايات أيضاً ضعيفة الأسناد نقلت من الكتب غير المعتبرة.

ثانياً : إنّ عدّة من هذه الروايات روايات تفسيريّة للآية

وعدّة منها روايات تبيّن شأن نزول الآيات وتأويلها أو تعيين مصداق من مصاديق الآية ،

وبعض منها روايات تبيّن اختلاف القراءات ، وأنّها لا تدلّ على اختلاف في نصّ الوحي وأصل القرآن ؛ لأنّ القرآن ثبت بالتواتر ، وهذه القراءات لم تثبت بالتواتر ،

وعدة من هذه الروايات ذكر فيه لفظ التحريف ، وزعم النوري أنّ المراد منه هو التحريف بالمعنى المتنازع فيه ، والحال إنّ المراد من التحريف فيها هو التحريف المعنوي ،

وبعض منها روايات استند إليها المعصوم في بيان الآيات ، فتخيّل النوري أنّ كلمات المعصوم جزء من آية حذف من القرآن ، ولكن من الواضح أنّ هذه الكلمات من المعصوم لا من القرآن.

وعدّة من هذه الروايات روايات وردت في تعليم قراءة القرآن في

__________________

(١) فصل الخطاب ، ص ٢٥٢.

١١٩

زمن ظهور الحجّة عليه‌السلام وأنّ القراءة في زمانه تكون وفق ما جمعه عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام ، فأراد المحدّث النوري أن يجعل هذه الروايات دليلاً على مخالفة ما جمعه عليه‌السلام مع القرآن الموجود بين الدفّتين ؛ لأنّه جاء فيها أنّه يعلّم الناس القرآن على ما أنزل الله ، فأصعب ما يكون على من حفظه اليوم. وجاء في بعضها : وأخرج المصحف الّذي كتب عليّ عليه‌السلام.

ولكن الظاهر أنّ هذه الروايات أيضاً لا تدلّ على مقصوده ؛ لأنّها لا تدلّ على أنّ المخالفة بينهما هو الاختلاف في نص القرآن ، بل المراد أنّ الاختلاف إنّما هو في النظم والتأليف كما أشرنا إليه سابقاً وصرّح به بعض هذه الروايات أيضاً.

وبعضها نقلت غير صحيحة كالرواية الأولى الّتي جاءت في الدليل الحادي عشر ؛ فإنّ لفظة عشر ظاهراً من زيادة النساخ أو الرواة والأصل سبعة آلاف آية.

قال الأستاذ الشيخ محمد هادي المعرفة : والحديث بهذه الصورة نادر غريب ، وقد أوقع الشرّاح في مشكل العلاج ، بعد أن كانت آي القرآن ـ حسب واقعيته الراهنة ، الموافق للمأثور عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله وعن ابن عباس وغيره من التّابعين ، والتي أجمعت عليها عامّة أهل التفسير كالطّبرسي وغيره ـ لا تعدو بضعاً ومائتين وستّة آلاف آية! فهي لا تبلغ سبعة آلاف ، فكيف بسبعة عشر ألفاً؟!

وقد جزم المولى أبوالحسن الشعراني ـ في تعليقته على شرح الكافي للمولى صالح المازندراني ـ بأنّ لفظة « عشر » من زيادة النسّاخ أو

١٢٠