مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

وتوجيه الجمع بين صحّة هذه التصرفات في المعاطاة على القول بعدم إفادتها الملك ، وبين ما دلّ على أن لا بيع ولا عتق إلّا في ملك ، بتقدير الملك ضمنا ، كما يقدّر في : اعتق عبدك عنّي ، وانعتاق العمودين على المشتري لا شاهد له أصلا ، بل مقتضى الأصول وانحصار النواقل الشرعية في كتب الجماعة فيما ليس منه إرادة التصرف الناقل في مثل محل البحث يدلّان على خلافه ، مع عدم انصراف الملك في قوله : « لا بيع إلّا في ملك » إلى مثل هذا الملك الضمني الذي تقديره بمجرد التقدم الذاتي ، بل المتبادر منه الملك المتعارف في العرف والعادة.

وثانيها : أن يقصد البيع بالمعاطاة أي إرادة النقل البيعي تفصيلا ، كما إذا وقعت المساومة عليه ، أو إجمالا على ما هو المعهود المركوز في المقصود غالبا في معاملات الناس المتداولة في الأسواق على سبيل المعاطاة ، والمتّجه حينئذ كونها بيعا صحيحا غير لازم ، على ما اخترناه بالأدلّة المتقدمة ، فيعتبر فيها جميع ما يعتبر في البيع ، لعموم ما دلّ عليه الشامل لمحل الفرض ، وبيعا فاسدا على المحكيّ عن الفاضل في النهاية (١) ، بل هو لازم قول جميع القائلين بمدخلية الصيغة في صحّة البيع ، فإطلاق كلام هؤلاء في إفادتها الإباحة الشامل للفرض ، خصوصا على تسليم بعضهم صدق البيع عليها لغة وعرفا ، غفلة واضحة ، بل عليهم حجّة صريحة ، كما مرّت إليه الإشارة. فإنّ حرمة التصرف في المأخوذ بالمعاملة الفاسدة وضمان ما يقبض بها من المسائل الإجماعية ، والتعاطي مع تقييده بقصد البيع لا يفيد الإذن المطلق المجوّزة للتصرف ، مع فرض عدم حصول المقصود ، سيما مع الجهل بالفساد.

ومن هذا يظهر فساد ما قيل ، بل نسب إلى المتأخرين من أنّ محل النزاع ومجرى الأقوال من الإباحة والبيع المتزلزل والبيع الفاسد ما قصد به البيع ، مع وجود جميع شرائطه عدا الصيغة.

__________________

(١) نهاية الإحكام ٣ : ٤٤٩.

٤١

وثالثها : ما قصد به المعاوضة على وجه مطلق ، من غير قصد البيع أو الإباحة المحضة ، بمعنى عدم الالتفات إليهما لا تفصيلا ولا إجمالا ، والظاهر أنّ حكمه حكم الأوّل ، فيحصل به الإباحة دون الملك ، أمّا على عدم اشتراط الصيغة في الصحّة ، فلحصول الإباحة على الوجهين ، وتوقّف الملك على قصد البيع ، وأمّا على اشتراطها ، فلحصول الإذن المجوّز للتصرف والمنافي له عند المشترط قصد البيع ولم يقع ، وإن لم يقصد عدمه أيضا ، ومن هذا يظهر عدم اشتراط وجود سائر شرائط البيع حينئذ في حصول الإباحة مطلقا.

ورابعها : أن يقصد بها الملك المطلق ، وهو كما قيل لا ريب في فسادها عند من يشترط الصيغة الخاصّة في تلك المعاوضة لإفادة الملك ، لانتفاء الشرط ، فينتفي به المشروط ، فلا يحصل به الإباحة أيضا حسب ما مرّ ، وأمّا عند من لم يشترطها ، ففي صحّته وتنزيله على البيع بناء على أنّه الأصل في نقل الأعيان ، ولا يخرج عنه إلّا بقصد غيره ، كما أنّ الإجارة أصل في نقل المنافع مقدمة على الصلح والجعالة ، كما عن بعضهم ، أو تنزيله على الهبة المعوضة ، كما عن آخر ، أو هو معاوضة ناقلة مستقلة ليست تحت شي‌ء من المعاوضات المعروفة ، كما يظهر عن ثالث. أو إفادته الإباحة دون الملك ، أو فساده مطلقا ، احتمالات ، أظهرها الأخير ، لإمكان المناقشة ؛ في الأوّل : بمنع الأصل وخلوه عن الدليل ، فلا ينزل العام على الخاص إلّا بقصده ، ولذا لا يكتفي في صيغة البيع بمثل ملكتك.

نعم ، لمّا كانت المعاملات العينية المعاطاتية بين الناس يقصد بها البيع غالبا في عاداتهم ، كما أشير إليه إذا قصد بالنقل ما تداولت عليه تلك المعاملات جريا على عادتهم ، وإن لم يلتفت إلى خصوص البيع تفصيلا ، أمكن التنزيل عليه ، وما ذكرناه من الفساد في تلك الصورة إنما هو إذا لم يمكن تطبيق القصد ، ولو جريا على العادة المتداولة في المعاطاة على البيع ، فكان القاصد كالمتردّد بين خصوصيات المعاوضات.

٤٢

ومن هذا يظهر فساد الثاني أيضا.

وفي الثالث : باستدعائه التوظيف الشرعي والدليل عليه ، بل قيل : حصر الأصحاب النواقل في ما ذكروه من الأمور المخصوصة يقتضي خلافه ، والاستناد إلى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) يندفع بما عرفت من كونه محمولا على العهد ، ومع ذلك صدق العقد على المعاطاة محلّ إشكال ، ودعوى السيرة المستمرّة على استقلال المعاطاة في التمليك واهية ، لما عرفت من صدق البيع عليها مع القصد لغة وعرفا ، فالسيرة لو كانت ، فمن تلك الجهة ، وإلّا فلا سيرة على الملك.

وفي الرابع : بكونها مقيّدة بقصد الملك فينتفي بانتفائه.

الثاني : هل يختصّ المعاطاة بالبيع ، أو يعمّ سائر العقود اللازمة ، عدا مثل النكاح والطلاق وأشباههما المتفق على بطلانها فيها؟

صرّح بالعموم المحقق القمي (١) لدخولها في عموم ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٢) ، و « الناس مسلطون على أموالهم » (٣).

وقد يلحق به بعض ما هو إيقاع كالشفعة والإبراء وفسخ الخيار ونحوها مما يصدق على المعاطاة فيها اسم تلك المعاملة ، لإلحاق المعاطاة بها حينئذ بصدق الاسم ، فيلحقها حكمها عدا ما كان من لوازم الصيغة كاللزوم.

وحكي عن تعليق الإرشاد (٤) : أنّ من المعاطاة الإجارة ونحوها ، بخلاف النكاح والطلاق ونحوهما ، فلا يقع أصلا ، وبه صرّح في الإجارة بعض أجلّة من عاصرناه.

__________________

(١) جامع الشتات ١ : ١٧٣.

(٢) النساء (٤) : ٢٩.

(٣) عوالي اللآلي ١ : ٢٢٢ ، الحديث ٩٩.

(٤) حاشية الإرشاد للمحقق الثاني ( مخطوط ) : ٢١٦.

٤٣

وعن جامع المقاصد (١) : أنّ في كلام بعضهم ما يقتضي اعتبار المعاطاة في الإجارة ، وكذا في الهبة ، وذلك إذا أمره بعمل على عوض معين عمله واستحقّ الأجرة ، ولو كانت هذه إجارة فاسدة لم يجز له العمل ولم يستحق أجرة ، مع علمه بالفساد.

وظاهرهم الجواز بذلك وكذا لو وهب بغير عقد فإنّ ظاهرهم جواز الإتلاف ولو كانت هبة فاسدة لم يجز ، بل يمنع عن مطلق التصرف.

وفي المسالك (٢) ، بعد نقل ذلك : لا بأس به ، إلّا أنّ في مثال الهبة نظرا من حيث إنّ الهبة لا يختصّ بلفظ.

أقول : دعوى جواز المعاطاة في جميع العقود عدا ما استثنى مشكلة ، فإنّ صدق التجارة والسيرة المعتبرة ـ وهما العمدة من أدلّة المعاطاة في أكثرها ـ ممنوع ، وعدم القول بالفصل غير معلوم ، بل في المحكيّ عن الجامع (٣) ـ كما رأيت ـ تخصيصها بالإجارة والهبة ، وعموم : « الناس مسلطون » ، لا يفيد أزيد من الإباحة دون الملك واللزوم بالتلف ، فعدم العموم أقرب ، اقتصارا فيما خالف الأصل على مورد الدليل ، وهو ما صدق عليه اسم التجارة ، أو علمت فيه السيرة ، أو استحقت المعاطاة اسم المعاملة في العرف واللغة ، مع وجود ما يقتضي صحّة مطلق تلك المعاملة ، كما في معاطاة الهبة ، فإن صحّتها مقتضى الدليلين الأخيرين (٤) ، فيجوز فيها العمل بمقتضى الملك ، كوطء الجارية ، كما في هدايا السلاطين لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ومنها المارية القبطية ، ونحوها القرض والإجارة على احتمال قويّ ، فيستحق بها الأجرة المسمّاة ،

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٥٩.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ١٥٢.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٥٩.

(٤) وهما ما علمت فيه السيرة أو استحقّت المعاطاة اسم المعاملة في العرف واللغة.

٤٤

كما عليه السيرة في الأجراء والأكرة (١) ، ولو كانت إجارة فاسدة لم يستحقّ الأجرة مع علمه بالفساد ، ولا المسمّاة مطلقا ، وكذا معاطاة الصلح والهبة المعوضة والرهن ونحوها ، مما يصدق عليه اسم التجارة أو المعاملة عرفا ، على إشكال في الأخير ، بل لا ينبغي ترك الاحتياط في الجميع ، وفي مثل الوقف ونحوه يتّجه العدم ، وتفصيل الحال في كيفية الاستدلال في كلّ معاملة موكول إلى بابها في الفقه.

وكيف كان ، فالظاهر عدم اللزوم في جميع ما صحّت المعاطاة فيه ، للأصل المتقدّم.

الثالث : لا خلاف ظاهرا ، تحقيقا ونقلا في لزوم المعاطاة بتلف العين من الجانبين ، وأمّا من جانب فهو صريح جماعة ، منهم المحقق الكركي (٢) ، بل قيل : لا أجد فيه مخالفا.

وجعله في المسالك (٣) أقوى ، مشعرا بوقوع الخلاف فيه ، ومنعه والدي العلّامة (٤) وفصّل الفاضل القمي (٥) بلزومها على القول بإفادتها الملك المتزلزل دون الإباحة.

وفي المسالك (٦) والروضة (٧) كغيرهما فيما حكي عنه : أنّ في معنى التلف نقلهما عن الملك بوجه لازم ، بل مطلقا كما للوالد الماجد والفاضل المتقدم (٨) وغيرهما ممن عاصرناه.

__________________

(١) جمع الأكّار ، بمعنى الحرّاث.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ١٥١.

(٤) مستند الشيعة ٢ : ٣٦١.

(٥) جامع الشتات ١ : ١٧٥.

(٦) مسالك الأفهام ٣ : ١٥١.

(٧) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.

(٨) جامع الشتات ١ : ١٧٥.

٤٥

وفي إلحاق تلف بعض العين بالكلّ كما عن جامع المقاصد (١) وتعليق الإرشاد احتمالات في المسالك (٢) ، ثالثها اللزوم من العين الآخر في مقابل التالف ، وبقاء الباقي على أصل الإباحة ، وفي الروضة (٣) مال إلى الأوّل.

أقول : الذي يقتضيه النظر لزوم المعاملات المعاطاتية المتداولة بتلف العوضين ، أو الكلّ من البعض ، أو البعض من الكلّ ، ولكن فيما يقتضيه من الملك أو الإباحة على اختلاف القولين.

بيان ذلك : أنّ شرعية تلك المعاطاة على ما وقعت عليه المراضاة معقد إجماع الفريقين ، ومعنى شرعيتها ترتّب الأثر من الإباحة أو الملك شرعا عليها ، على حسب ما تعاهد المتعاطيان عليه وحيث إنّ مقصودهما الواقع عليه المراضاة ، تسليط كلّ منهما الآخر على التصرف فيما صار إليه كيف شاء ، وإتلافه على ضمان العوض المسمّى ، وكلّ من العوضين مأخوذ بهذا العنوان ، فيقتضي شرعيتها كونه المتعيّن في مقابل الآخر دون عوضه ، مثلا كان أو قيمة ، مع أن التسلط على المطالبة بالعوض ، مع كون التلف بتسليطه ، ينفيه الأصل ، وعلى هذا يصير الملك أو الإباحة على الخلاف لازما بالتلف.

نعم ، إن ثبت الإجماع على حصول الملك بالتلف على القول بالإباحة أيضا ، كما عساه يظهر من القائلين بها ، فيصير ملكا لازما أيضا ، وإلّا فلزم الإباحة.

ومن هنا ينقدح أنّ التصرف المغيّر للعين ، كالمزج والطحن وقصر الثوب وأمثالها يوجب اللزوم أيضا من الجانبين ، إن تغيرت العينان ، ومن جانب من تغيّرت عنده إن

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ١٥١.

(٣) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.

٤٦

كانت من جانب ، سواء كان التغيّر موجبا للنقص أو لا ، لقضية الشرط بينهما المقتضي للزوم ، وأصالة بقاء الملك للمالك الأوّل على الإباحة ، وبقاء تزلزله على الملك لا تستلزم بقاء سلطنة الرجوع المنافي لغرضهما.

وما عسى ما يتوهّم من الإشكال في المجال ، أمّا على الإباحة فهو أنّها مجرّد الإذن في التصرف والإتلاف على المبادلة ، وهو لا يقتضي رفع التسلط على مطالبة ملكه ، غاية الأمر رجوع صاحب التالف إلى عوضه دفعا للضرر ، وشرعيته لا يقتضي أزيد من جواز التصرف والإتلاف.

ويندفع بأنّ الإباحة الحاصلة من المعاملة المعاطاتية المتداولة عند القائل بها ليست على حدّ مطلق الإذن في التصرفات الثابت جوازه بمثل : « الناس مسلطون » ، بل هي بمعنى صحّة ما وقع بينهما التراضي عليه في المعاملة من آثار الملك وملك النماء وغيرهما ، غير ملك العين ولذا يشترط في صحّتها تعيّن العوضين ونحوه ، وهو غير لازم في مطلق الإذن ، والدليل على شرعيتها بهذا الوجه هو الإجماع القطعي والسيرة المعلومة في جميع الأعصار والأمصار في تلك المعاملات المعاطاتية المتداولة بين الناس ، فإنّهم يعاملون فيها معاملة الأملاك من غير نكير ، غاية الأمر الخلاف في حصول ملك العين أو الإباحة المخصوصة على هذا الوجه ، ومنه اتفاقهم على حصول الملك بالتلف ، والتجأ بعضهم في توجيهه على القول بالإباحة بحصول الملك الضمنى ، من قبيل ملك من ينعتق عليه ، فلا مجال لإنكار شرعيتها وترتّب الآثار عليها ، حسب ما اشترطاه إلّا على القول بكونها بيوعا فاسدة ، وعرفت شذوذه ولا هكذا مطلق الإذن ، فإنّه لا يفيد غير الحلّ في التصرف ، دون ملك الآثار ، وصحّة ما وقع عليه المراضاة.

ومن هذا يظهر أنّ الإباحة التي ذكرناها في الصورة الأولى من صور المعاطاة ،

٤٧

أي ما إذا قصد بالتعاطي مجرد الإباحة على المبادلة بغير ملك هي من مطلق الإذن ، والمتجه فيها عدم اللزوم مع بقاء أحد العينين أو بعضهما ، وإن علم من قصد المتعاطيين فيها التسليط على التصرّف في ماله على ضمان العوض المسمّى ، لعدم ثبوت شرعيتها بهذا الوجه ، ولا صحّتها على حسب جميع ما وقع الإذن عليه ، إذ ليست معدودة من وجه المعاملات الشرعية ، ولا إجماع ولا سيرة فيها ، فإنّها من الفروض النادرة.

وأمّا على الملك فالإشكال من وجهين :

الأوّل : أنّه كيف يلزم الملك بالتصرف الناقل ويسقط تسلّط المالك على الرجوع مع فرض بقاء العينين ، فيرجع إلى المشتري الثاني بعين ملكه.

وهو مندفع بأنّ المراضاة في المعاطاة وقعت على تسليط كل منهما الآخر على جميع التصرفات حتى التصرف الناقل اللازم ، كما هو المعلوم من الرجوع إلى أنفسنا ، والمفروض صحّتها وشرعيتها كما مرّ ، كيف وإلّا لم يحصل أصل النقل بوقوع الرضا به على هذا الوجه ، مع أنّه خلاف الإجماع والسيرة ، ولازم ذلك على القول بالملك لزوم النقل الثاني.

الثاني : أنّه كيف يلزم الملك المتزلزل بالتلف أو نحوه مع أنّ غاية الأمر أنّ المعاطاة حينئذ كالبيع بالخيار من الجانبين ، ومن المعلوم عدم اللزوم فيه بذلك ولذا ربما يجعل هذه الأحكام المسلمة في المعاطاة من أقوى الشواهد على أنّها للإباحة دون البيع.

وهو مدفوع (١) بأنّ شرعية المعاطاة كما أشرنا إليه إنّما هي على ما وقع عليه التراضي والتعاطي ، وهو المراضاة بعين على عين ، فعلى إفادته الملك المتزلزل إذا

__________________

(١) عبارة النسختين هنا مختلفة وما أثبتناه في المتن موافق لنسخة « س ».

٤٨

تلف أحدهما ، فتجويز الرجوع ، إمّا مع ضمان عوض التالف ، أو بدونه ، وأيّهما كان فهو خلاف المراضاة والمواضعة من كون العين في مقابل العين لا العوض أو بدونه فالخيار في المعاطاة تابع للعوضين ، ويبقى ما بقيا ، نظير الرجوع في الهبة المنتفي بتلف الموهوب بخلاف سائر الخيارات ، فإنّها تابعة للعقد ، ولازمه رجوع كل من المتعاقدين إلى ماله ، أو ضمان العوض عند وقوع الفسخ المزيل لأثر العقد من حين وقوعه ، وبعبارة أو وجه آخر أثر المعاطاة هو الملك المتزلزل ، بمعنى عدم زوال تمام حقّ المالك من العين ، ولذا قلنا مقتضى الأصل فيها عدم اللزوم وعدم حصول الملكية التامّة المنافية لبقاء حقّ المالك ، غير أنّ العين في مقابل العين ، ومقتضى ذلك عدم جواز رجوع صاحب التالف ، لفوات محلّه ، ولا صاحب الباقي لفوات ما يقابله الموضوع عليه ، بخلاف خيارات العقود ، فإنّ أثر العقد الملك التامّ وإنّما الخيار في فكّ العقد بدليل خارج عن مقتضى العقد ، من شرط أو تعبّد أو جبر ضرر ونحوها ، ولازمه سقوط الأثر من حين الفسخ ورجوع كلّ إلى ماله عند بقائه وضمان من عنده عند تلفه ، فإنّ دليل هذا الخيار لا يختصّ بصورة وجود العين بل يتّبع العقد.

الرابع : المحكيّ عن الشهيد (١) والكركي (٢) وصريح غيرهما كفاية قبض أحد العوضين بالفعل في حصول المعاطاة ، وهي كذلك ، لصدق البيع والتجارة ، فيجري حكم البيع على قبض أحدهما ، بل قيل بجوازها بالألفاظ المقصود بها إنشاء البيع ، غير الصيغة المخصوصة وإن لم يقع قبض من أحدهما ، فيجري فيها حينئذ حكم البيع الغير المقبوض.

__________________

(١) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

٤٩

وفيه إشكال ، لعدم ظهوره من الدليل المذكور ، وفي المسالك (١) والروضة (٢) التأمل فيها عند عدم التقابض ، لعدم صدق المعاطاة ، لأنّها معاملة يتوقّف على الإعطاء من الجانبين ، وردّ بعدم وجود هذا اللفظ في النصوص ، فلا يتبعه الحكم ، مع أنّه يكفي في صدق المفاعلة المشاركة في الجملة ، وإن لم يتحقّق المبدأ في كل منهما مستقلا ، كما في المتابعة والمرابحة ، فإنّ الفعل يحصل باجتماعهما ، بل لا يبعد القول بحصول التعاطي بمقابلة ما في ذمّة أحدهما الملتزم به للمدفوع.

البحث الثاني : في بيان ضابطة صيغ العقود اللازمة على ما يقتضيه الأصول وعموم الأدلّة.

وليعلم أوّلا أنّ العقد صيغة شرعية لا بدّ لها من متخاطبين ولو حكما يترتّب عليها نقل ملك أو سقوط حقّ أو حلّ فرج أو تسلّط على تصرف ، وهو على ثلاثة أصناف :

لازم من الطرفين باعتبار أصله ، وهو الذي لا يتسلّط على فسخه إلّا لسبب أجنبيّ من شرط أو جبر ضرر أو تعبد على وجه مخصوص ، وذلك البيع والإجارة والصلح والضمان والكفالة والحوالة والسبق والرمي والمزارعة والمساقاة والصدقة والعمرى والحبس والوقف والنكاح والهبة على بعض الوجوه والمكاتبة على الأشهر.

ولازم من أحدهما خاصّة بالأصالة ، وهو الذي لا يتسلّط على فسخه من طرف اللزوم إلّا بسبب أجنبيّ ، وذلك الرهن ، فإنّه لازم من طرف الراهن جائز من طرف المرتهن ، ويوافقه الخلع والمباراة ، حيث إنّ للزوجة الرجوع في البذل ، ومعه كان للزوج الرجوع في النكاح ، فهو في قوّة الفسخ لازم من طرفه جائز من طرفها.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٣ : ١٥١.

(٢) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.

٥٠

وغير لازم من أحد منهما ، وهو الجائز في أصله ، وحكمه تسلّط كل منهما على الفسخ ، ولا يعرضه اللزوم إلّا بنذر أو شرط وهو القرض والوديعة والعارية والوكالة والجعالة والشركة والمضاربة والوصية والهبة على وجه.

والإيقاع صيغة شرعية يكفي فيها الواحد ، يترتّب عليها قطع أو صلة أو نقل ملك أو استحقاق حقّ أو عقوبة أو سقوط حقّ وهي الطلاق والرجعة والظهار والإيلاء واللعان والعتق والتدبير والأيمان والنذور والعهود والحجر والشفعة والحكم.

وفي مقابل العقد المعاطاة فيما صحّت فيه من المعاملات ، فينعقد بمجرّد التقابض والقبض من طرف على ضمان العوض من الآخر ، فمن لم يقل بإفادتها أثر المعاملة ، كالقول بالإباحة المحضة في البيع ، فعنده ليست من تلك المعاملة ؛ ومن يقول بإفادتها مفاد العقد لزوما أو جوازا فحكمها عنده حكمه ، ومن يقول بإفادتها الملك المتزلزل ، كما هو المختار ، فهو من أقسام المعاملة في مقابل العقد ، وفرقها حينئذ مع العقد اللازم ظاهر وأمّا مع الجائز ، فهو أنّ أثر الجائز هو الملك المستقر ، وللمالك الفسخ ، لدليل خارج ، وأثر المعاطاة الملك المتزلزل ولا يستقرّ إلّا بتلف العين كما تبيّن.

ثم الظاهر الإجماع على أنّ العقد الجائز لا يتعين له لفظ ، بل كل لفظ دال على معناه كاف فيه ، وإن لم يكن عربيا وماضيا ولا من الألفاظ الصريحة في بابه ، ويكفي فيه القبول الفعلي ولا يشترط فيه الاتصال والفورية ونحوها ، ولعلّه يتأتّى فيه الخلاف المتقدم من كفاية المعاطاة وعدمها ، وإن اكتفي بها في الحلّ على اشتراط الصيغة أيضا فيما يفيد التسليط على التصرف أو الانتفاع مطلقا أو مع بقاء العين ، كالوكالة والعارية والهبة الجائزة والقرض ونحوها ، لحصول مطلق الإذن ، وإن لم يترتّب عليه سائر ثمرات العقد ولم يشترط بشروطه ، كما في الوكالة ، فإنّها حيث كانت عقدا يشترط فيها التنجيز والقدرة على الموكّل فيه عند التوكيل وغيرهما ، ولا

٥١

يشترط في الإذن المطلق ، وفي الفرض فلا يفيد المعاطاة فيه الملك ، كما لعلّه المشهور ، وإن أفادت الإباحة.

وإذا علمت ذلك نقول : النظر في صيغ العقود اللازمة ، تارة في موادّ الألفاظ ، وأخرى في الهيئات والتراكيب المعتبرة فيها.

أمّا الأوّل : فكلماتهم فيه في جليل النظر لا يخلو عن إجمال ، بل تدافع حتى من فقيه واحد ، كما ستطلع عليه.

قال العلّامة رحمه‌الله في التذكرة (١) : « من شروط الصيغة الصراحة ، فلا يقع بالكناية بيع البتة ، مثل قوله : أدخلته في ملكك ، أو جعلته لك ، أو خذه منّي ، أو سلّطتك عليه بكذا ، عملا بأصالة بقاء الملك ، ولأنّ المخاطب لا تدري بم خوطب » ، انتهى.

ونحوه عن غيره.

قيل مستظهرا من آخرين : إنّ المراد بالصريح ما كان موضوعا لعنوان ذلك العقد لغة أو شرعا ، ومن الكناية ما أفاد لازم ذلك العقد بحسب الوضع ، فيفيد إرادة نفسه بالقرائن ، وقد يبدّل الصريح والكناية بالحقيقة والمجاز ، بل ينسب ذلك إلى العلماء أو أكثرهم ، فيقال : لا ينعقد بالمجازات ، وعن بعضهم عدم الفرق في الجميع بين المجاز القريب والبعيد ، ومقتضى ذلك اشتراط الدلالة الوضعية في انعقاد الصيغة ، وربما يعلّل ذلك بأنّ تشريع العقود لكشف القصود ، بحيث لا يبقى معها مجال التخالف والتجاذب في المعنى المراد ، ولا يتأتّى هذا الفرض إلّا بإيراد الألفاظ الصريحة دون المجاز والكناية ، كالدفع والإعطاء والتسليم والتسليط وأمثالها في البيع ، وإن قصد بها البيع ، ووقعت عليه المساومة ودلّت عليه القرينة ، وأنت خبير بأنّ المجاز مع القرينة الصريحة سيما اللفظية قد يبلغ في الصراحة حدّ الحقيقة.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٦١.

٥٢

نعم ، إن توقّف في مورد تمايز المعاملات المتشابهة بألفاظ مهياتها الموضوعة لها وأسماءها المتداولة فيها ، كما إذا فرض اشتراكها لغيرها في جميع الآثار المترتبة عليها ، كما أشرنا إليه فيما تقدّم ، كان المتعين حينئذ المعاملة بمقصوده ، إلّا أنه ليس كلّيا ، فيمكن الإشارة في غيره إلى المقصود بآثاره المختصّة.

وربما يظهر من بعضهم بل كثيرهم الاكتفاء في كثير من العقود ـ بل عن قائل في جميعها ـ بالألفاظ الغير الموضوعة لذلك العقد ، وانعقادها بالمجازات والكنايات مع القرائن الدالّة.

وقال في التحرير (١) : « الإيجاب اللفظ الدال على النقل ، مثل بعتك أو ملّكتك أو ما يقوم مقامهما » ، ونحوه المحكيّ عن التبصرة (٢) والإرشاد (٣) وشرحه لفخر الإسلام (٤) ، وظاهره كما قيل حصول النقل بكلّ لفظ دال عليه ، مثل نقلته إلى ملكك وجعلته ملكا لك بكذا ، فيشمل الكنايات ، وقد سبق منعه عنها في التذكرة.

وفي المحكيّ عن المحقق أنّ عقد البيع لا يلزم فيه لفظ مخصوص (٥) ، وعن الشهيد في بعض تعليقاته أنّه جوّز البيع بكلّ لفظ دلّ عليه ، مثل أسلمت إليك وعاوضتك (٦) ، بل قد يدّعى أنّه ظاهر كلّ من أطلق اعتبار الإيجاب والقبول اللفظيّ من دون لفظ خاص ، كالشيخ وأتباعه.

__________________

(١) تحرير الأحكام : ١٦٤.

(٢) تبصرة المتعلمين : ٣١٦.

(٣) إرشاد الأذهان : ٣٥٩.

(٤) الظاهر أنّ المراد من شرح الإرشاد ما هو لبعض تلاميذ فخر المحققين ينقل فيه عن شيخه فخر المحققين. راجع الذريعة ١٣ : ٧٥ ، وهذا الشرح مخطوط حتّى الآن.

(٥) حكاه عنه في كشف الرموز ١ : ٤٤٦.

(٦) حكاه عنه في مفتاح الكرامة ٤ : ١٥٠.

٥٣

وعن ظاهر جماعة في الفرض الذي هو عقد لازم عدم اختصاصه بلفظ خاص ، فجوّزوه بقوله : « تصرّف فيه وانتفع به وعليك ردّ عوضه » ، أو « خذه بمثله ».

وعن جماعة في الرهن أنّ إيجابه يؤدّى بكلّ لفظ يدلّ عليه ، مثل قوله هذه وثيقة عندك أو أمسكه بمالك ، وفي الضمان بلفظ تعهّدت المال وتقلّدته وشبه ذلك ، والمزارعة بكلّ لفظ تدلّ على تسليم الأرض للمزارعة.

وعن مجمع البرهان (١) : « لا خلاف في جوازها بكلّ لفظ يدلّ عليه مع كونه ماضيا » ، وعن المشهور جوازها بلفظ الأمر ، نحو : ازرع ، والوقف بلفظ حرمت وتصدّقت ، مع القرينة الدالّة على إرادة الوقف ، مثل أن لا يباع ولا يورث ، مع أنها من الكنايات ، وغير ذلك مما هو ظاهر في الاكتفاء بغير الحقائق في العقود.

وجعل بعض أفاضل من عاصرناه ، الضابط في جميع العقود اللازمة الحقيقة ، ولكن ما تعمّ (٢) لفظ المعاملة ولفظ قرينة المجاز ، وجعله وجه الجمع بين اعتبارهم الحقائق وعدمه ، فيكون المعتبر الدلالة اللفظية الوضعية ، سواء كان اللفظ الدال على إنشاء العقد موضوعا له بنفسه أو مستعملا فيه مجازا بقرينة لفظ موضوع آخر ليرجع الإفادة بالآخر إلى الوضع ؛ إذ لا يعقل الفرق في الموضوع الذي هو مناط الصراحة بين إفادة لفظ للمطلب بحكم الوضع أو إفادته له بضميمة لفظ آخر يدلّ بالوضع على إرادة المطلب من ذلك ، وهذا بخلاف الذي يكون دلالته على المطلب لمقارنة حال أو سبق مقال خارج عن العقد ، فإن الاعتماد عليه في متفاهم المتعاقدين ـ وإن كان من المجازات القريبة جدّا ـ رجوع عما بني عليه من عدم العبرة بغير الأقوال في إنشاء المقاصد ، ولذا لم يجوّزوا العقد بالمعاطاة ولو مع سبق مقال أو اقتران حال يدلّ على إرادة البيع جزما ، انتهى.

__________________

(١) مجمع الفائدة والبرهان ١٠ : ٩٦.

(٢) كذا.

٥٤

واستشكل به الاقتصار على المشترك اللفظي ، اتّكالا على القرينة الحالية المعيّنة وكذا المشترك المعنويّ ، لأنّ الانكشاف بغير الأقوال لا يؤثر في النقل والانتقال فلم يحصل هنا عقد لفظيّ يقع التفاهم به.

أقول : لا يخفى ما فيه.

أمّا أوّلا : فلأنّ أكثر ما ذكروه من أمثلة الكنايات الممنوعة يأبى عن هذا الجمع والإناطة بما ذكر ، كيف وقد سمعت من التذكرة التفريع على عدم الانعقاد بالكناية عدم وقوع البيع بقوله أدخلته في ملكك أو جعلته لك.

ومن التحرير وغيره وقوعه بملكتك أو ما يقوم مقامه ، وفي غير البيع انعقاده بما هو أدون من ذلك دلالة عليه ، مع أنّ عبارات المشترطين ظاهرة في كون العبرة بالصراحة والحقيقية باللفظ المستعمل في نفس المعاملة المقصودة الذي يلزم ويقع الإنشاء به ، وكونه دالا عليه بنفسه لا بمعونة قرينة ولو كانت لفظية.

وأمّا ثانيا : فلأنّ الفرق بالانعقاد وعدمه في المجازات بكون القرينة لفظية أو حالية مما لا يساعده دليل ، فإنّ المناط في الانعقاد ، إن كان إنشاء المعاملة باللفظ الموضوع لها ، فهو غير ما قيل في شي‌ء منهما ، لتجوّز اللفظ المستعمل فيهما ، وإن كان فهمه في الأوّل بمعونة القرينة اللفظية وفي الثاني بالحالية ، وإن كان حصول إنشاء المعنى المقصود باللفظ دون مجرّد النيّة ، فهو ما قيل فيهما ، لحصوله بما استعمل فيه اللفظ واقعا ، لا بما هو طريق فهم المخاطب إياه ، فلا ينتقض بالمعاطاة ، إذ الإنشاء فيها بالفعل دون القول.

ثم أقول : تحقيق الحال على ما يختلج بالبال أنّه لا شك ولا خلاف في أنّ صيغ العقود من الأسباب الشرعية لانعقاد المعاملات وترتّب الآثار والأحكام عقيبها ، وكذا لا خلاف في اعتبار ظهور اللفظ فيها في المعنى المقصود ، وإن اختلفوا في

٥٥

الاكتفاء بكلّ لفظ دلّ عليه ، كالمحكيّ عن جماعة ، أو لزوم لفظ أو ألفاظ مخصوصة ، كما في المشهور ، بل لعلّه الظاهر من مطاوي كلمات الأصحاب في أبواب العقود ، وإن اختلفوا في بعض الشروط ، بل بعض العقود معقد الإجماع في ذلك ، وكيف كان فمقتضى الأصول فيها كما تقدّم في أوائل البحث الاقتصار على موارد الدليل ، استصحابا لعدم السبب وعدم ترتّب الأثر ، وليس في النصوص ما يعمّ السببية لمطلق الألفاظ المفهمة ولو بالقرينة ، عدا ظاهر عموم قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) ، وقد علمت أنّه محمول على استغراق أجناس العقود الموظفة المعهودة ، من باب اختصاص مدخول اللام بالمعهود ، أو إشارة اللام إلى العهد بها ، مثل : جمع الأمير الصاغة ، المستغرق في صاغة ملكه أو بلده ، وما يصلح قرينة للعهد لعموم المخاطبين في زمان الخطاب هو شيوع الاستعمال ، وهو مختصّ بالألفاظ الخاصّة الموضوعة لتلك المعاملات لغة أو شرعا ، أو المتداولة فيها بحسب الاستعمال في ألسنة العرف ولو مجازا ، فيقتصر في الاستدلال بالآية على تلك الألفاظ.

ولعلّه يشير إلى ذلك ما حكي عن المحقق الثاني (١) في باب السلم والنكاح في الجمع بين كلمات المانعين عن المجازات والمجوّزين لها ، بحمل المجازات الممنوعة على المجازات البعيدة.

وأظهر منه ما عن المسالك من أنّه يجب الاقتصار في العقود اللازمة على الألفاظ المنقولة شرعا ، المعهودة لغة ، والظاهر أنّ مراده بالمنقولة شرعا هي المأثورة في كلام الشارع.

وعن المحقق الأردبيلي في باب النكاح أنه حكم شرعي حادث ، فلا بدّ له من دليل يدلّ على حصوله ، وهو العقد اللفظي المتلقّى من النص ، ثم ذكر لإيجاب

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٢٠٧.

٥٦

النكاح ألفاظا ثلاثة ، وعللها بورودها في القرآن.

وعلى هذا فالضابط وجوب إيقاع العقد بإنشاء الألفاظ الدائرة في عرف المتشرّعة في زمان الشارع ، تبعا للسان الشرع ، وهي بعينها عنوانات تلك المعاملات ، فلا ينعقد عقد بلفظ آخر ليس مما يختص به ، والظاهر أنّه المقصود من الصريح الذي اشترطوه ، وتتضح منه أنه لا ينعقد مثلا بيع المنفعة أو الإعارة ، ولا البيع بالهبة المعوّضة ، ولا الوقف بالصدقة وأشباه ذلك ، ولا ينعقد معاملة بما دلّ على لوازمها المختصّة ، ولا بالألفاظ المشتركة ، ولو مع القرينة اللفظية المعينة ، إلا مع تداوله وشيوع استعماله فيه.

ولا يبعد جواز الضمان بالتعهد وما يشبهه ، وبهذا الضابط يتميّز الصريح المعهود ، والذي يتوقّف عليه الانعقاد في كلّ عقد من غيره.

ويمكن الاستدلال على ما قلناه ، أيضا بما ذكرناه فيما تقدّم ، من أنّ تمايز مهيات المعاملات التي جعل الشارع كلّا منها بالأصالة موردا لأحكام كثيرة ، ـ وإن اتّفق اشتراكه في مورد لمعاملة أخرى منها ، على حسب شرط المتعاملين وتعاهدهما ـ يعرف بتمايز ألفاظها المختصّة وعنواناتها المعروفة ، فانعقادها بحقائقها يطلب بإنشاء تلك الأسماء والعنوانات المختصّة بها.

وأمّا الثاني : أعني الكلام في هيئات الصيغ وتراكيبها ، كالعربية والماضوية وتقدم الإيجاب وأمثالها ، فمجمل القول فيها ، أنّ ما شكّ منها في مدخليته في الماهيّة الأعمّ لجنس ما تداول عليه في زمان الخطاب ، لزم الحكم باشتراطه ، اقتصارا بالمتيقّن وعملا بالأصل ، وما علم عدم مدخليته في نفس الماهيّة ، بل كان من الخصوصيات والمقارنات الزائدة المحتملة لكونه شرطا للصحّة ، وكان اسم الماهية صادقا على فاقده منفيّ اشتراطه ؛ لعموم ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) وهذا يختلف باختلاف العقود

٥٧

والشروط ، ولا عناية لنا هنا لخصوص أفراد العقود ، بل هو موكول إلى أبوابها.

والظاهر أنّ ماضوية اللفظ من القسم الأوّل ، فيكون شرطا ، إلّا فيما ثبت خلافه بإجماع ونحوه ؛ لجريان العادة باستعمال الماضي في الإنشاء في العقود ، وصراحته فيه ؛ فإنّ قصد الإنشاء بالمستقبل خلاف المتعارف.

وعن بعضهم الإجماع على عدم الوقوع بالمضارع والاستفهام ، وفي التذكرة (١) الإجماع على عدم وقوع البيع بلفظ أبيعك أو اشتر منّي. وكذا يشترط النطق ، فلا ينعقد بالكتابة والإشارة ، وقيل يصحّ مع العجز ، ولا دليل عليه.

ولا يبعد اشتراط العربية في أكثر العقود أيضا ، لما ذكر ، وعدم اللحن في الإعراب ، بل عربية جميع أجزاء العقد الداخلة في أجزائه في الإيجاب والقبول ، لأنّ غير العربية كالمعدوم ، فكأنّه لم يذكر ، فكان العقد غير تامّ ، ومن يكتفي بظهور اللفظ في المعنى المقصود يلزمه القول بعدم اشتراطه.

وهل يعتبر علم المتكلّم تفصيلا بمعنى الكلام ولو بتلقين غيره وعدم كونه من أهل اللسان ، فيكون فارقا بين معنى أبيع وبعت وأوجدت البيع وغيرها ؛ أو يكفي مجرّد علمه بأنّ هذا اللفظ لإنشاء المعاملة المقصودة ، فيقصد إنشاءها به؟ الظاهر الأوّل ، لأنّ التلفّظ بالعقد ليس من باب التعبّد من قبيل تلاوة القرآن ، كالتلفّظ بمعجمات أوائل السور مثلا ، لأنّ المقصود من تشريع العقد استعمال المتكلّم هذا اللفظ المخصوص في معناه المقصود ، وإرادته منه ، ولا يتمّ ذلك إلّا بفهم المعنى وانطباقه للفظ ، فلا يقال للجاهل بالمعنى المستعمل فيه أنه استعمل اللفظ فيه وأراده منه.

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٦٢.

٥٨

[ المشرق الثاني ]

[ في بيان حكم العقد الفضولي ]

مشرق : في بيان حكم العقد إذا صدر عن غير المالك ومن في حكمه أعني الفضولي وبعض ما يتعلّق بالمقام ، واختلفوا في صحّته ولزومه بالإجازة على قولين : المشهور جوازه في النكاح ، بل عن المرتضى (١) وغيره الإجماع عليه والأخبار فيه مستفيضة ، وهو الأشهر في البيع بين من تأخر ، بل عن جماعة مطلقا ، بل قيل كاد أن يكون إجماعا.

وفي التذكرة (٢) : عندنا ، مشعرا بالإجماع ، وقيل به في سائر العقود أيضا ، بل يظهر من الشهيد في الروضة (٣) عدم القائل بالفرق حيث قال : ولا قائل باختصاص الحكم بهما أي بالبيع والشراء والنكاح فإذا ثبت فيهما ثبت في سائر العقود. نعم ، قيل باختصاصه بالنكاح وله وجه لو نوقش في حديث عروة. انتهى. وقيل باختصاصه بالنكاح وحيث إنّ غرضنا بيان ما تقتضيه القاعدة في عموم العقود ، فلا

__________________

(١) الانتصار : ١٢٢.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٤٨٦.

(٣) الروضة البهية ٥ : ١٤١.

٥٩

بحث لنا هنا عن خصوص عقد إلّا فيما صحّ التعدي عنه بعدم القول بالفصل ، فنقول : الأظهر صحّته في العقود مطلقا ، لوجوه :

أحدها : أنّه لا شكّ في عدم توقف صدق اسم المعاملة على مباشرة المالك بنفسه للعقد ، بل يكفي النيابة كما في الوليّ والوكيل. غاية الأمر اشتراط إذنه في الصحة أو في الصدق وهو حاصل بالإجازة ولا فرق في صدق الماهية على فعل النائب في تقدم الإذن وتأخره ، وحيث ثبت صدق الماهية عليه ولو بعد الإجازة كان مقتضى الأصل المتأصّل فيما سبق صحّته إلى أن يخرج عنه بدليل دلّ على الاشتراط.

وثانيها : أنه يصدق عليه تجارة عن تراض فيندرج تحت عموم الآية (١) ، ويتمّ المطلوب في غير عقود التجارة بالإجماع المركب ، لظهور عدم قائل بالفصل وإن قلنا به في خصوص البيع ، بل عرفت من كلام الشهيد عدمه مطلقا. والإيراد عليه بأنّ مدلول الآية كون التجارة ناشئة عن التراضي فيلزم سبقه عليها ، بل ربما يجعل الآية باعتبار الحصر المستفاد من الاستثناء دليلا على البطلان مردود ، بمنع ذلك وصدق التجارة عن تراض على العقد بعد لحوق الإجازة عرفا ؛ إذ نقول التجارة هي مجموع العقد والإجازة ، لكونها من أجزاء علّة الانتقال وإن كانت مؤثرة له بعد حصولها من حينه لا من حينها ، كما تقف عليه عند بيان معنى الكشف ، ولا شك أنّ المجموع المركّب مسبوق بالتراضي ومنه يظهر فساد الاستدلال بالحصر على الفساد مع أنّ الاستثناء منقطع فلا يفيد الحصر.

وثالثها : خبر عروة البارقي (٢) المنجبر ضعف سنده بالشهرة رواية وفتوى تحصيلا ونقلا ، وهو أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطاه دينارا ليشتري به شاة ، فاشترى شاتين ، ثم باع

__________________

(١) النساء (٤) : ٢٩.

(٢) سنن الترمذي ٣ : ٥٥٩ ، الحديث ١٢٥٨ ؛ سنن أبي داود ٣ : ٢٥٦ ، الحديث ٣٣٨٤ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب عقد البيع ، الرواية ١٥٢٦٠.

٦٠