مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

والتمسّك بنفي العسر في مثل ذلك لا يفيد أزيد من جواز الارتكاب ، من قبيل الاضطرار في أكل الميتة وتناول مال الغير في المخمصة ، لا الطهارة والملكية ، وعدم النجاسة وعدم الاشتغال بحق الغير أو صحّة البيع وأمثال ذلك. ومع ذلك يختصّ الرخصة المستفادة منه بموارد تلك المخمصة وتدور مدارها ، لا مطلقا.

وليس من قبيل تمسّك بعضهم لطهارة الحديد بنفي العسر والحرج ، فإنّه تعليل وإبداء حكمة لتأسيس حكم واقعي لا لرفع حكم ثابت ، وبينهما فرق بيّن.

ومنها : أصالة البراءة. والخروج عن مقتضاها في الشبهة المحصورة ، إنّما هو لإمكان ارتكاب الجميع عادة ، فيحصل اليقين باستعمال الحرام إذا تنجّس ، بخلاف غير المحصور ، فلا يتحقّق العلم به عادة.

وفيه : أنّ هذا يجري في غير مقدار الحرام في المحصور أيضا ، فلا يحصل به الفرق بينهما ، وأمّا في مقداره ، فعدم إمكان وقوع موضوعه في غير المحصور لا يوجب الحكم بالحلّية ، لتعليقها على وجوده.

وربما يوجّه : بأنّ وجوب الاجتناب عن الكلّ إنّما هو مع تنجّز التكليف بالحرام الواقعي ، وهو حاصل في المحصور ، للعلم بوقوعه فيما يمكن ارتكابه ، أعني : الجميع ، بخلاف غير المحصور ، فإنّ ما يمكن من المحتملات فيه لا يعلم منه الحرمة ، فلا تكليف به حتّى يستدعي اليقين بالبراءة ، وما علم وقوعه منه غير ممكن الاستعمال ، فلا يتعلّق التكليف بالمعلوم الإجمالي الواقع منه حتّى يستدعي البراءة. وضعفه يظهر مما تقدّم.

٤٠١
٤٠٢

[ المشرق الثاني وعشرون ]

[ في بيان كيفية الاحتياط ]

مشرق : في بيان كيفيّة الاحتياط فيما وجب أو ندب.

فاعلم : أنّ الاحتياط على ما اصطلح عليه هو العمل بما يحصل القطع به بدرك الواقع وإحرازه على ما عليه في نفس الأمر عند الشكّ ، ولو بتكرير العمل ، سواء كان الشكّ في نفس التكليف ، أو في المكلّف به.

وهذا مما لا شكّ في صحّته ، ولا يحتاج إلى تجشّم الدليل عليه على شرعيته ، لمكان القطع بمطابقة العمل لما في الواقع ، والضرورة قاضية بخروج العهدة حينئذ ، إلّا أنّ تحقّق الاحتياط بهذا المعنى لا يتصوّر مع حصول الشكّ في الواقع فيما يفتقر إلى النية ، كالعبادات ، لمنافاة الشك لقصد ما في الواقع على ما هو عليه ، فيما دار الأمر بين متنافيين ، أو على وجهه من الوجوب وعدمه ، فيما كان الشك بين الأقل والأكثر ، كما في جزء العبادة وشرطها.

ومجرّد إخطار القربة أو خصوص الوجوب مع عدم الإذعان به ليس من النية المعتبرة في العبادة ، فمرادهم من الاحتياط

المجمع على رجحانه وجوبا أو استحبابا في العبادات المؤكّد به في الأخبار إنّما هو في غير النية ، بل هو إحراز

٤٠٣

الواقع بالنسبة إلى سائر الأجزاء والشروط ، فإذا شكّ في القصر أو الإتمام على رأس أربعة فراسخ لم يعلم شرعية أحدهما بالخصوص وتعلّق الأمر به بحسب الواقع ، فكيف يتصوّر قصد التقرب به بحسب الأمر الواقعي.

وحيث لا ينطبق العمل الاحتياطي على ما هو عليه في الواقع ، يحتاج الحكم بصحّة الاحتياط وشرعيته إلى إقامة الدليل عليه.

فنقول : لا خلاف ولا كلام في صحّته بهذا المعنى وشرعيته بعد الفحص عن الواقع ، ولعلّه إلى هذا تنظر المحكيّ عن المشهور بين أصحابنا من أنّ عبادة تارك طريقي الاجتهاد والتقليد غير صحيحة ، وإن علم إجمالا مطابقتها للواقع ، للإجماع على صحته بعد الاجتهاد الكاشف عن الواقع بالدليل الظنّي المعتبر ، كالخبر الصحيح ، وإن كان في إطلاق هذا قبل الفحص ، أيضا نظر سترى وجهه ، وكيف كان ، فالتحقيق : أنّ ما يحتاط فيه ، إمّا يفتقر صحّته وخروج العهدة عنه إلى نية القربة ، كالعبادات البدنية ، أو لا ، كالواجبات المالية ، مثل المنذور والمحلوف عليه والزكاة والخمس ، بالنسبة إلى اشتغال الذمّة بحق الغير ، بحيث يحصل البراءة عنه ولو بالإجبار عليها ، وكالواجبات التوصّلية التعبّدية ، كتطهير النجس.

أمّا الأوّل : فالشكّ إمّا بين الأقلّ والأكثر ، كوجوب السورة في الفريضة ، فإحراز الواقع ـ حينئذ ـ بإتيان الأكثر ، أو بين متنافيين ، كالظهر والجمعة ، والقصر والإتمام ، فهو بتكرير العمل.

أمّا على الأوّل ، فالأصحّ صحّة الاحتياط قبل الفحص بإتيان الأكثر ، بناء على عدم اشتراط نية الوجه ، كما هو الأقوى ، لمطابقة العمل للواقع ـ حينئذ ـ على الاحتمالين ، بمجرّد نية القربة ، فيحصل به الاحتياط المجمع على صحّته ورجحانه ، لعدم توقّفه على شرط آخر.

٤٠٤

نعم ، على اعتبار نية الوجه ـ بل على الشكّ في اعتباره ـ فالظاهر عدم تحقق الاحتياط بإتيان الأكثر قبل الفحص عن وجه العمل بالدليل المعتبر ، لمقام الشكّ في حصول الإطاعة الموجبة للخروج عن العهدة ، والشكّ في شرعية هذا الاحتياط.

وأمّا بعد الفحص ، فقد عرفت الدليل عليه من الإجماع ، بل الضرورة. بل منه يظهر أنّ المعتبر في الاحتياط المطلوب المرغوب فيه هو العلم بالخروج عن العهدة في الواقع ، وإن لم يقطع بمطابقة العمل للمأمور به الواقعيّ ، فإذا دار الواجب بين أمرين ، أحدهما غير مقدور ، فالاحتياط ـ حينئذ ـ بإتيان الآخر خاصة وإن لم يعلم كونه الواقعي ، وبالجملة فالدليل على صحّة الاحتياط في العبادات [ يختصّ ] بما بعد الفحص عن الواقع ، وأمّا قبله مع إمكانه ، فلا دليل على شرعية الاحتياط ـ حينئذ ـ على القول باعتبار نية الوجه.

فإن قلت : عدم اعتبار نية الوجه محلّ الاختلاف ، بل عن المشهور ، كما قيل اعتباره فلا يتحقّق الاحتياط قبل الفحص على القول المختار من عدم اعتبارها أيضا.

قلت : هذه المسألة مقطوع بها لنا بملاحظة الإطاعة العرفية الدائرة عليها الإطاعة الشرعية ، ونحن نتكلّم في البحث على زعمنا ، فمن وافقنا في هذا الجزم حصل له الاحتياط قبل الفحص بنية القربة في الترديد بين الأقلّ والأكثر ، ومن خالفنا لم يحصل له.

وأمّا على الثاني ، فالأصحّ عدم حصول الاحتياط ـ مع التمكّن عن العلم التفصيلي أو الظنّ المعتبر بالفحص ـ بالتكرار.

واستظهر من الحدائق (١) دعوى الاتّفاق على عدم مشروعية التكرار ـ حينئذ ـ

__________________

(١) الحدائق الناضرة ١ : ٦٩.

٤٠٥

وتابع فيه الحلّي في السرائر.

ووجهه : استدعاء العبادة نية القربة ، وهو فرع العلم بالأمر به ، والفرض عدم العلم بالنسبة إلى كلّ واحد بخصوصه ليطابق العمل الواقعي ، وعدم دليل آخر على شرعية هذا الاحتياط الناقص الغير المحصّل للقطع بإحراز الواقع ، كما سمعت. ونية القربة بقصد الاحتياط فرع الدليل على صحته والخروج به عن العهدة. ومنه يظهر فساد عبادة الجاهل التارك لطريقي الاجتهاد والتقليد.

وأمّا الثاني : فالظاهر صحّة الاحتياط ولو بتكرار العمل ، بمعنى حصول البراءة عن الواجب ، إذ المفروض تحقق إحراز الواقع ، وعدم توقف البراءة منه على نية الامتثال.

نعم ، ترتّب الثواب يحتاج إلى قصد القربة ، فلا يترتّب بدونها ، كما إذا أجبر الممتنع عن الزكاة على أخذها منه ، إلّا أنّه يلزم تخصيص منع الثواب بما إذا لم يقصد من الفعل تحصيل البراءة عن حقّ المستحقّ ، إذ المفروض حصولها بدون العلم التفصيلي أيضا ، ولو مع التمكن منه ، وقصد إبراء الذمّة من الحق المعلوم إجمالا ممدوح مشكور قطعا ، فيصحّ قصد التقرب بكلّ منهما ، كما إذا لم يعلم أنّ الواجب عليه في الزكاة ، الإبل أو الغنم ، فيبذل كليهما ، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، حصلت من نسيان ونحوه.

ومن هذا يظهر حكم الاحتياط في الشبهة الابتدائية الاستقلالية أيضا ولا شبهة في صحّته ـ مطلقا ـ فيما لا يحتاج حصول البراءة فيه إلى النية ، وصحّته بعد الفحص كذلك مطلقا وعدمها ظاهرا قبله مع احتمال صحّته أيضا في شبهة الموضوع مطلقا قبل الفحص لمظنّة الإجماع كما إذا شكّ في وجوب فائتة معينة عليه لنسيان ونحوه.

٤٠٦

تنبيهات :

الأوّل : هل يصحّ الاحتياط قبل الفحص عما يوجب الظنّ المعتبر الاجتهادي مع اليأس عن التمكن من تحصيل العلم بالواقع ، فيه وجهان :

من أنّ مناط المنع إمكان تحصيل العلم التفصيلي بالواقع كما عرفت ، ومع اليأس عن تأثير الفحص في حصوله لم يكن ممنوعا ، ولذا يصحّ اتفاقا مع حصول الظن الاجتهادي على خلافه ، كما تقدّم.

ومن عدم الدليل على شرعيته مع عدم إحراز الواقع ، خرج صورة ما بعد الاجتهاد في تحصيل الظنّ المعتبر ، وبقي الباقي.

ويوافقه ما حكي عن المشهور ، من بطلان عبادة الجاهل التارك للطريقين ، ضرورة عدم حصول العلم من الاجتهاد والتقليد. والمسألة لا تخلو عن إشكال.

الثاني : مقتضى ما ذكرنا صحّة الاحتياط فيما إذا دار الأمر بين الوجوب والاستحباب مطلقا.

سواء كان قبل الفحص أو بعده ، للعلم بالقربة ، وكفاية نية التقرّب في إحراز الواقع على كلّ تقدير.

الثالث : هل يصحّ الاحتياط قبل الفحص مع إمكانه في مثل كلمات القرآن والأدعية ـ إذا اشتبه كلمة منها أو إعرابها بين شيئين ـ بتكريرهما أم لا؟

لا شكّ في عدم صحّة ذلك في قراءة الصلاة وأدعيتها ، للعلم الإجمالي ببطلان أحدهما ، فالتكلّم به فيها غلط يبطل الصلاة ، وأمّا في غيرها فالظاهر : الصحة ، بإحراز الواقع بالتكرير ، إذا كان يسيرا لم يخرج بزيادة غير الواقع عن القراءة والدعاء عرفا ، سواء كانت واجبة بنذر أو مندوبة ، لعدم اشتراط نية القربة الفعلية التفصيلية في كلّ جزء ، بل يكفي الحكمية الإجمالية في ضمن نية الكلّ ، وهذا القدر من نية القربة يحصل بإحراز الواقع بتكرير كل ما يحتمل كونه جزء له. وأمّا نية

٤٠٧

الجزئية فلو سلّم اشتراطها فهو لا ينافي الترديد بإحراز الجزء الواقعي ، في غير ما يخلّ الزائد بالعبادة.

الرابع : إذا كان الشك في جزئية شي‌ء للعبادة أو شرطيته مع احتمال مانعيته ، فيرجع إلى الشكّ بين المتباينين ، فلا يحصل الاحتياط بتكريرها خالية عنها ومشتملة عليها قبل الفحص مع إمكانه ، لما حرّرنا من عدم حصول نية القربة في كلّ واحد ـ حينئذ ـ سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية ، فإذا شكّ في القبلة في إحدى الجهتين أو أكثر ، مع التمكن من الفحص عنها ، لا يخرج عن عهدة التكليف بإتيانها في كلّ جهة ، أو انحصر لباس الساتر في النجس ، مع إمكان تطهيره ، وشكّ في أنّ تكليفه ـ حينئذ ـ صلاة العريان أو مع ثوب النجس ، وأمّا إذا شكّ في مقدار الساتر ، أنّ الواجب ستر ما بين الركبة والسرة ، أو مجرّد المخرجين والخصيتين ، فإنّه يتحقق الاحتياط بستر الزائد ، لما أشرنا من عدم اشتراط النية التفصيلية في الشرائط.

٤٠٨

[ المشرق الثالث وعشرون ]

[ في حكم الإعراض عن الملك ]

مشرق : إذا أعرض المالك عن ماله ، فهل يوجب الخروج عن ملكه؟ وعلى خروجه هل يتملّكه من أخذه.

قلّ من تعرض لعموم حكمه بهذا العنوان. نعم ، يستفاد منهم حكمه في موارد خاصة :

منها : مسألة البعير التي بقيت في فلاة لأجل كلالة.

فحكي عن الأصحاب مشعرا بالإجماع ـ أنّه يتملّكه الآخذ ، واستدلّوا عليه بصحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : « من أصاب مالا أو بعيرا في فلاة من الأرض ، قد كلّت وقامت ونسيها صاحبها لما لم ينفعه ، فأخذها غيره ، فأقام عليه وأنفق نفقة حتى أحياها من الكلال ومن الموت ، فهي له ، ولا سبيل له عليها ، وإنما هي مثل الشي‌ء المباح » (١) وفي معناها غيرها.

ومنها : مسألة تراب الصياغة ، قال في المسالك (٢) ولو دلّت القرائن على إعراض

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٥٧ ، الباب ١٣ من أبواب اللقطة ، الرواية ٣٢٣٤٨.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ٣٥٢.

٤٠٩

مالكه عنه ، جاز للصائغ تملّكه ، كغيره من الأموال المعرض عنها.

وفي الكفاية (١) : تراب الصياغة : إن علم بالقرائن المفيدة للعلم أنّ صاحبه أعرض عنه ، جاز للصائغ تملكه ، كسائر الأموال المعرض عنها ، خصوصا إذا كانت مما يتسامح فيها عادة ، ولا يبعد الاكتفاء بالظنّ مع عدم قضاء العادة على خلافه ، وإلّا ، فإن كان أربابها معلومين ، استحلّهم أو ردّه إليهم ، ولو كان بعضهم معلوما فلا بدّ من الاستحلال ، وإلّا ، فالظاهر جواز بيعه والصدقة به.

واستدلّ عليه بروايتي عليّ بن ميمون الصائغ ، حملا لإطلاقه على ما لم يعلم إعراض المالك عنه.

ومنها : مسألة السفينة المنكسرة في البحر. فعن المشهور : أن ما يخرج بالغوص فهو لمن أخرجه ، وما أخرجه البحر فهو لصاحبه ، لرواية الشعيري (٢) : سئل أبو عبد الله عليه‌السلام عن سفينة انكسرت في البحر ، فأخرج بعضه بالغوص ، وأخرج بعض ما غرق فيها. فقال : « أما ما أخرجه البحر فهو لأهله ، الله أخرجه ، وأما ما أخرج بالغوص فهو لهم ، وهم أحقّ ، وفي السرائر (٣) بعد نقل هذه الرواية في كتاب القضاء : وجه الفقه في هذا الحديث : أن ما أخرجه البحر فهو لأصحابه ، وما تركه أصحابه آيسين منه فهو لمن أخذه وغاص عليه ، لأنّه صار بمنزلة المباح. ومثله من ترك بعيره من جهد في غير كلاء ولا ماء ، فهو لمن أخذه ، لأنّه خلّاه آيسا منه ، ورفع يده عنه ، فصار مباحا. وليس هذا قياسا ، لأنّ مذهبنا ترك القياس ، وإنما هذا على جهة المثال والمرجع فيه إلى الإجماع وتواتر النصوص ، دون القياس والاجتهاد ، وعلى الخبرين إجماع أصحابنا. انتهى.

__________________

(١) كفاية الأحكام : ٩٩ ، كتاب المتاجر.

(٢) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٥٥ ، الباب ١١ من أبواب اللقطة ، الرواية ٣٢٣٤٣.

(٣) السرائر ٢ : ١٩٥.

٤١٠

والظاهر أنّ مراده من القياس المتوهّم فيه : كونه من باب استنباط علة الإباحة للتملّك من الرواية الصحيحة المتقدّمة ، معتذرا للعلّية (١) بكونه معقد الإجماع والنصوص.

ومنها : مسألة اطلاق الصيد بعد التملّك وقصد الخروج عنه ، حيث اختلفوا فيه ، والأكثر على عدم الخروج كما في المسالك (٢). وذهب بعضهم إلى الخروج. نسبه في الكفاية (٣) إلى الأكثر. ويتفرّع عليه جواز اصطياده للغير بقصد التملك وعدمه.

وكيف كان ، فاستدلّ المحقق القمّي ، في المسألة في أجوبة مسائله لما اختاره من كون الإعراض موجبا للخروج عن ملك المالك وتملك الآخذ ، سيما في الشي‌ء الدون ، بوجوه :

أحدها : الإجماع العملي ، بملاحظة عمل الناس في كل عصر ومصر ، من التقاط السنابل بعد الإعراض ، من الصلحاء والمتدينين وغيرهم ، ولم ينكر عليهم أحد من العلماء في جميع الأعصار والأمصار ، والتقاط جلّات البعير والأغنام في المفاوز والصحاري ، ويجرون فيها أحكام الملك للملتقط ، من البيع والشراء ، ضرورة أن ليس بيع الملتقط بالنيابة عن المالك ، ولا بالإجازة منه ، فإنهم يبيعون لأنفسهم ، فليس الإعراض منزلة الإباحة المحضة ، ومجرّد رضى البائع بأخذه وبيعه لنفسه ليس كافيا في انعقاد العقود ، بل يحتاج إلى الإنشاء ، ولو بالمعاطاة.

وثانيها : الإجماع المحكيّ في كلام ابن إدريس (٤) ، مضافا إلى شواهد الموارد المذكورة في كلمات العلماء.

__________________

(١) كذا.

(٢) مسالك الأفهام ١١ : ٥٢٣.

(٣) كفاية الأحكام : ٢٤٦.

(٤) السرائر ٢ : ٨٢.

٤١١

وثالثها : العلّة المستفادة من صحيحة عبد الله بن سنان المتقدمة (١) ، وملاحظة الأخبار الواردة في خصوص مواردها.

أقول : الظاهر من إطلاق كلامه ـ أعلى الله مقامه ـ أنّ مقصوده من الأدلّة : خروج المعرض عنه عن الملك بمجرّد الإعراض ، ولو قبل أخذ الغير وتملكه ، بحيث لا يسعه الرجوع عن إعراضه ، ومنعه الغير عن أخذه ، وحصول التملّك للغير فيما يعم الأموال العظيمة والعقار والضياع. وفي دلالتها على جملة ذلك نظر جدّا.

أمّا على خروج الملك بمجرّد الإعراض قبل التقاط الغير : فلأنّ غاية ما يستفاد من تلك الأدلّة : الدلالة على حصول الملك للآخذ ، وأنّى هو والخروج عن ملك المالك قبل التقاط المتملك.

وتعليل الصحيحة بكونه مثل الشي‌ء المباح ، إنّما هو لملك من أخذه ، لا للخروج قبله ، إذ المراد من المباح : المباح الأصلي الذي لم يجر عليه ملك أحد ، ولذا قال عليه‌السلام : « مثل الشي‌ء المباح » حيث إنّ ظاهر التشبيه كونه في تملك الآخذ ، لا للخروج عن يد المالك ، اذ لا يستقيم ذلك في المباح المالكي ، إلّا في الإعراض ، وهو عين المشبّه به.

وأمّا على عموم هذا الحكم بالنسبة إلى الأموال الخطيرة : فلعدم إفادة السيرة ـ علما ولا ظنّا ـ إياه ، إذ لم يعهد من الناس في سيرتهم في عصر أو مصر ـ فضلا عن الأمصار والأعصار ـ إجراء حكم الملك لمن تصرّف في الدار المعمورة أو المزرعة الدائرة بمجرد إعراض مالكها عنها ، والإجماع المحكيّ عن الحلّي غير مصرّح ولا

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٨ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الرواية ٣١٣٧٧ ؛ الرواية عن عبد الله بن سليمان ، عن الصادق عليه‌السلام في الجبنة قال : « كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة ».

٤١٢

ظاهر في العموم ، بل لو عمّ فهو بالنسبة إلى المال الآيس عنه صاحبه ، كالواقع في البحر ، لا مطلقا ، ونحوه الصحيحة ، مع أنّ البعير المسؤول عنها لكلالها في فلاة الأرض وعجزها عن السير من الأموال الحقيرة التي لا يعتني بها صاحبها ، ولذا قيد الأصحاب حكمه بما إذا كانت متروكة في غير كلاء ولا ماء ، بحيث كانت في حكم التالفة.

وخصوص الموارد المتقدمة لا يشهد بالعموم ، خصوصا بملاحظة اختصاص الوفاق والخلاف في كلماتهم بها ، فإنّك تريهم لا يتجاوزون عن حكم البعير المتروكة في فلاة عن جهد إلى الشاة وسائر الدوابّ بحكم النصّ. وسمعت من المسالك في إطلاق الصيد مع الإعراض وقصد الخروج عن التملك ، نسبة القول بعدم الخروج إلى الأكثر. وعرفت الحكم بالتفصيل في السفينة المنكسرة ، بين ما أخرجه البحر وما أخرجه بالعوض ، من جهة النصّ.

ثم أقول : الذي يترجّح عندي في تحقيق المسألة : أن رفع المالك يده عن ماله : إمّا اختياري ، بإعراضه عنه وقصده عدم تملكه ، أو اضطراري ، بأن يحصل له اليأس عنه عادة ، كالواقع في البحر ، وفرار الطير عن القفس.

ثم الكلام : إمّا في خروجه عن ملك المالك بمجرّد الإعراض أو اليأس ، أو في ملكه للآخذ بقصد التملك.

أمّا في الأوّل : فمقتضى النظر بقاؤه على ملك المالك ، وإن خرج عن المالية ، للاستصحاب ، فإنّ الملك أمر شرعي وحكم وضعي ، فكما يحتاج في حدوثه وثبوته إلى سبب شرعي ، كذا يحتاج في خروجه إلى ناقل شرعي ، ولم يثبت من الشرع أنّ نية الخروج عن الملك أو اليأس عنه من القواطع الشرعية ، وإن قلنا بصيرورته بها مثل المباحات التي يجوز أخذه بقصد التملك ، لما عرفت من ضعف ما استدلّ به.

٤١٣

ويظهر الثمرة في رجوع المالك عن نية الخروج قبل تملّك الغير ، ولو بشهادة الحال ، كما إذا اتفق اجتماع الحبوب بهبوب الرياح ونحوه ، حتى صارت كثيرة لا يتسامح عنها عادة ، أو ارتفع اليأس عنه وحصل الرجاء قبل أخذه الغير ، كما إذا أخرجه البحر.

وأما في الثاني : ففي الصورة الأولى ، أعني : الإعراض اختيارا ، فالظاهر : التفصيل بين الأشياء الحقيرة التي يتسامح بها الملّاك عادة ، ولو لتوقف ماليتها على مشقّة لا يتحمل في مثلها غالبا ، أو لجريان العادة عليه ، كالحبوب المتشتة الملقاة في الأرض عند الحصاد ، وجلّات البعير والأغنام في المفاوز ، والحشيشات وقشور الفواكه والجوزات في الشوارع ومن ذلك البعير التي كلّت من جهد في فلاة في غير كلاء ولا ماء ، وأمثال هذه ، فيتملكها الآخذ ، وبين الأموال العظيمة ، فلا يتملك بأخذ الغير ، لاستمرار السيرة القطعية في الأمصار والأعصار في الأوّل على كونه ملكا لآخذه ، مضافا إلى ظاهر التعليل في صحيح ابن سنان ، دون الثاني ، فنقتصر في الحكم المخالف للأصل على مورد الدليل.

وهل يلزم العلم بإعراض المالك وإباحته لمن يتملك؟

لا شكّ في عدم اشتراط التلفظ به منه ، بل ولا الالتفات والشعور به ولا بالمعرض عنه ، بل يكفي شاهد الحال المعلوم بالسيرة العادية ، فلا يتوقف إباحته على إنشاء لفظي ولا فعلي ، بل لنا أن نقول : بعدم اشتراط العلم برضى المالك ما لم يعلم عدمه ، اكتفاء بحكم السيرة بالشهادة الحالية النوعية في عموم الحكم ، وإن فقدت الشهادة الشخصية في مورد مشخّص لمانع ، فإنّ اكتفاء الشارع في عموم الحكم في خصوص الأشخاص بما يقتضيه النوع ـ مع قطع النظر عن العوارض الشخصية المانعة عند عدم العلم بها ـ غير عزيز ، بل كثير في الأحكام الشرعية ،

٤١٤

كالخبر الصحيح المنوط حجيته بالظن المخصوص أو المطلق ، فإنه لا يتأمّل أحد في حجيته ، ولو تعارضه القياس الظني ، وزال به الظن الشخصي.

فالمناط في جواز التملك للغير ، بعد قطع المالك يده عنه ، كونه متسامحا فيه وسبيلا على الإطلاق غالبا في العرف والعادة. نعم ، يشترط عدم العلم بكراهة المالك وقصده بقائه لنفسه.

وبهذا يصحّ توجيه مناط جواز الأخذ والتملك في مال الصغار ، ولا يتفحّص في السيرة المستمرّة عن كونه من الصغير أو المجنون أو الكبير الرشيد ، لجريان هذا الحكم في السيرة في مال الصغار أيضا ، ولا يجب على الولي المنع رعاية لمصلحة مال المولّى عليه ، لأنّه حكم شرعي ، وإن كان منعه بيد الولي ، كما يستحب له الزكاة في مال الصغير ، وإن كان خلاف مصلحته ، وله المنع عنها.

ومما ذكرناه يظهر ضعف المحكيّ عن ظاهر الأكثر من اشتراط بقاء العلم بالرضا ، بشاهد الحال ، وهو مبنيّ على كون الإعراض موجبا للإباحة ، دون الخروج عن الملك.

وما اعترض عليه المحقق القمّي ، بأنّه لو فرض أن أحدا جمع السنابل في مزرعة أحد بعد الإعراض عنه على سبيل التدريج ، حتى بلغ ثلاثمائة منّ من الحنطة ، ففي الآن ، لو علم المالك أنّه لم يخرج عن ملكه بالإعراض ، لا يحصل العلم برضاه ، مع أنّه خلاف ما يقتضيه الإجماع المستنبط من سيرة الناس ، فيشهد ذلك بخروجه عن الملك بمجرّد الإعراض ، وأنّ المعتبر هو العلم بالرضا حين الإعراض خاصة ، فتأمل جدّا.

وأما في الصورة الثانية ، أعني : الإعراض اضطرارا من جهة اليأس عن المعرض

٤١٥

عنه عادة ، كالواقع في البحر ، والطائر عن القفس ، فمقتضى رواية الشعيري (١) الدال على خروج ما غرق عن ملك المالك إلى ملك من أخرجه بالغوص ، وعدم سبيل المالك عليه : كونه كالمعرض عنه اختيارا في تملكه للآخذ ، غير أنّ الأوّل يختصّ بالحقير ، كما عرفت ، وهذا يعم الحقير والخطير.

والرواية وإن كانت مختصّة بموردها ، إلّا أن الظاهر كون العلّة صيرورة ما غرق بمنزلة المباح ، كما استشعره منها الحلّي (٢) ، مستدلا له بالأخبار المتواترة والنصوص.

[ و ] يدلّ على إطلاق الحكم عموم العلّة المستفادة من صحيحه ابن سنان.

لا يقال : يلزم من ذلك جواز تملك المغصوب المتعذّر للمالك أخذه عن الغاصب ، إذا أخذه عنه غير المالك ، وجواز تملك المفقود في المفاوز ، مع أنّه يجب ردّهما إلى المالك إجماعا.

لأنا نقول : المراد باليأس الموجب لتملك الواجد : ما هو كذلك في العادة ، بالنسبة إلى جميع الناس ، فكان مأيوسا عنه في نفسه ، لا بالنسبة إلى المالك خاصّة أو أمثاله ، بحيث عدّ المال هالكا وتالفا عرفا على سبيل الإطلاق ، فلا يرد النقض بما ذكر.

فرع : إذ انبتت الحبوب المتشتة في شقوق الأرض حتى صارت زرعا ، فمقتضى ما ذكرناه أنّه لمالك الأرض ، ولا يجوز لأحد حيازته وهو ظاهر الفاضل في القواعد (٣) حيث قال في باب المزارعة : ولو تناثر من الحاصل حبّ فنبت في العام الثاني ، فهو لصاحب البذر ، ولو كان من مال المزارعة فهو لهما. انتهى.

__________________

(١) وسائل الشيعة ٢٥ : ٤٥٥ ، الباب ١١ من أبواب اللقطة ، الرواية ٣٢٣٤٣.

(٢) السرائر ٢ : ١٠١.

(٣) قواعد الأحكام ٣ : ٣١٤.

٤١٦

نعم لو أخذها غيره قبل صيرورتها زرعا ، وربّاها في أرضه ، فهو للمربّي ، وعليه أجرة الأرض.

وربما يقال بكون الزرع لمالك الأرض ، من جهة كونه شيئا مباحا دخل في أرضه وتولد منه زرع ، وليس بشي‌ء ، والله العالم.

٤١٧
٤١٨

[ المشرق الرابع وعشرون ]

[ في بيان قاعدة الضمان ]

مشرق : في بيان قاعدة الضمان ، والضابطة الكلّية لما يوجبه.

قالوا : أسباب الضمان ثلاثة : إثبات اليد الغير المحقّة ، والمباشرة للإتلاف ، والتسبيب. وحيث إنّ كلماتهم في ضبط الأخيرين وتفسيرهما وما يفترق به بين السبب والعلّة والشرط غير محرّرة غالبا ، أردنا ضبط قاعدة كلية مستفادة من أدلّة الضمان ، ينكشف بها موارد الضمان ، وما هو المراد من الموجبات المذكورة والفرق بينها.

ونشير ـ أوّلا ـ إلى قاعدة إثبات اليد ودليلها. فهنا بحثان :

البحث الأوّل : في إثبات اليد الموجب للضمان ، وهو عبارة عن الاستيلاء على مال الغير ، عينا أو منفعة ، بغير إذن من ذي الحقّ ، ولا استحقاق في التصرف فيه ، عمدا وعدوانا كان ، وهو المسمّى بالغصب ، أو جهلا ، فلا يشمل ما فيه إذن المالك ، من الأمانات المالكية لزوما أو جوازا ، بالعقود اللازمة أو الجائزة ، كالإقراض والوكالة والعارية والوديعة ونحوها ، أو إذن الشارع من الأمانات الشرعية ، كالملتقط والمأخوذ من الغاصب لإيصاله إلى المالك ، وما ليس فيه استيلاء ، كوضع اليد على

٤١٩

ثوب لابسه ، والعبور عن ملك الغير بدون إذنه ، وإن كان آثما ، وما فيه استيلاء على مال نفسه وفيه حق الغير ، كالمرهون ، أو في غير المال ، وإن كان فيه حق الانتفاع لآدمي ، كالبضع ، ومكان الجلوس في المسجد.

والأصل في اقتضاء اليد الضمان ، بعد الإجماع عليه : الخبر النبويّ المشهور : « على اليد ما أخذت حتى تؤدّى » (١) واشتهاره في كتب الأصحاب رواية وعملا ، وتلقّيهم بالقبول ، واستدلالهم به في موارده من غير نكير ، الجابر لضعفه بالإرسال ، يكفي عن مئونة البحث عن سنده ، بل لا يقصر عن الصحيح.

ووجه دلالته كونه متبادرا ، سيما بملاحظة فهم العلماء سلفا وخلفا في ضمان عهدة المال ، بإرادة ذي اليد من اليد ، من باب تسمية الكل باسم جزئه ، المناسب للمقام ، نظرا إلى كون الأخذ غالبا باليد كتسمية الجاسوس بالعين ، والترجمان باللسان ، وبإرادة الضمان من كلمة « على » المتضمنة للضرر ، فإنّ استعمال « على » في ضمان العهدة إذا كان متعلّقه مالا ، شائع متعارف في محاورة أهل اللسان ، كقولك : عليّ لفلان عشرة دراهم ، المتّفق على كونه إقرارا ، وحصول الضمان بقوله : دين فلان عليّ.

فاحتمال كونه إنشاء في إيجاب الردّ أو الحفظ ، بتقدير أحدهما ، بملاحظة الغاية ، خروج عن ظاهر اللفظ ، بل هو من قبيل : عليك الصلاة حتى تصلي ، إلّا على كونه إخبارا عن الوجوب ، وهو أيضا ـ مع بعده ـ يحتاج إلى التقدير المخالف للأصل ، بل التقييد بالعلم ، إذ لا تكليف مع الجهل.

فالمعنى المراد من الحديث المنساق المتفاهم للأصحاب وغيرهم : كون العين مضمونة على صاحب اليد ما لم يردّ إلى صاحبه ، ومعنى ضمانها : كونها بحيث لو

__________________

(١) سنن الترمذي ٢ : ٣٦٨ ، الحديث ١٢٨٤ ؛ سنن ابن ماجة ٢ : ٨٠٢ ، الحديث ٢٤٠٠.

٤٢٠