مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

نعم ، لا يصحّ الخروج عن الإطلاقات المقتضية للتكليف بالواقع ، إلّا فيما ثبت تقييدها به.

وإذ تمهّد ذلك ، فنقول صرّح جماعة من الأصوليين ، بل عن المشهور : وجوب الاجتناب عن الجميع في الشبهة المحصورة ، ولزوم الموافقة القطعية. وذهب جمع من الأجلّة ، منهم المحقق القمّي ، ووالدي العلّامة (١) إلى حلّية غير ما يساوي الحرام تخييرا ، فلا يجب القطع بالموافقة ، بل يحرم المخالفة القطعية ، وعن بعضهم حلّية الجميع تدريجا وعدم حرمة المخالفة القطعية ، ونسب ذلك إلى العلّامة المجلسي.

والحقّ هو الثاني.

لنا على عدم وجوب الموافقة القطعية وجهان :

أحدهما : انتفاء التكليف بالمعلوم الإجمالي الواقعي بعينه بالنسبة إلى الجاهل ، لأدلّة البراءة عما لا يعلم حرمته ، كقوله عليه‌السلام : « كلّ شي‌ء حلال حتى تعلم أنّه حرام بعينه » (٢). وقوله عليه‌السلام : « كل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه » (٣) ، المخصّصة لعموم دليل تحريم العنوان المشتبه ، كقوله : « اجتنب عن الخمر مثلا » ، المطلق بالنسبة إلى علم المكلف وجهله ، فيقيد بما ذكر.

وخصوصية موضوعه في الخطاب بالنسبة إلى موضوع أدلّة البراءة لا يرفع حكم التقييد بها لعدم مدخلية خصوصية العنوان في ذلك.

قيل : هذه الأخبار وأمثالها لا يصلح للمنع ، لأنها كما تدلّ على حلّية كلّ واحد من المشتبهين ، كذلك تدلّ على حرمة ذلك المعلوم الإجمالي ، لأنّه شي‌ء يعلم حرمته.

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٩١.

(٢) لم نقف عليه.

(٣) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٦ ، الباب ٦٤ من أبواب الأطعمة المحرّمة ، الرواية ٣٠٤٢٥.

٣٨١

قلنا : أوّلا أنّ المعلوم الإجماليّ ليس إلّا الموضوع الخاصّ الواقع المجهولة بشخصه عندنا ، المردّد بين أحد المشتبهين ، فيصدق على كلّ منهما أنّه لا يعلم حرمته بعينه ، ولازمه عدم التكليف باجتناب الموضوع الواقعي ، وتقييد خطاب اجتنب عن الخمر ـ مثلا ـ بصورة العلم بصدقه على الموجود الخارجيّ ، لما عرفت في المقدمة ، أنّ التكليف بشي‌ء لا ينفكّ عن التكليف بما هو طريق العلم بامتثاله.

فإذا حكم الشارع بإباحته يلزم الحكم بعدم حرمة الموضوع الواقعي ـ حينئذ ـ بخصوصه ، وإن علم حرمته بحسب مفهومه الكلّي ، كيف وإلّا لزم الحكم بحرمة الشبهة المجرّدة عن العلم الإجمالي أيضا ، كما إذا وقع شكّ في كونه خلّا أو خمرا.

إذ العلم بحرمة الخمر الواقعي الكلّي الصادق على جميع أفراده لا ينفكّ عن وجوب الاجتناب عما يحتمل كونه الواقع ، كما مرّ. وإلّا لزم جواز التخلف عنه ، وهو خلف.

ومن هذا ظهر أنّ أخبار التوسعة في الموضوع المشتبه تقدّم على دليل حرمة ما في الواقع وتقيّده ، دون العكس ، وإلّا لم يبق مورد لأدلّة البراءة ، مضافا إلى كونها أخصّ منها ، كما علمت.

وبالجملة إن أريد بالمعلوم الإجمالي موضوع الخطاب الشرعي المعين في الواقع ، حيث يعلم حرمته ، فينتقض بالشبهة المجرّدة ، وإن أريد خصوص المعلوم في مورد الشكّ المردّد بين المشتبهين ، فليس هو عنوانا لموضوع الحرام في الخطاب ، حتى يستدلّ بتحريمه بالخطاب.

وثانيا منع كون المعلوم الإجماليّ شيئا يعلم حرمته بعينه حيث كان خارجا عن موضوع الأخبار المذكورة ، لصحّة سلبه عنه عرفا.

والقول بأنّ قوله : « بعينه » في الخبر الأوّل ، أعني كلّ شي‌ء حلال حتى تعلم أنّه

٣٨٢

حرام بعينه ، تأكيد للضمير للاهتمام في اعتبار العلم ، كما يقال : رأيت زيدا بعينه ، لدفع توهّم الاشتباه في الرؤية ، فالمعيّن الواقعي المردّد بينهما يصدق عليه أنّه معلوم الحرمة بعينه ، مدفوع ، بأنّ هذا مبنيّ على إرادة « بنفسه » ، من قوله : « بعينه » وهو خلاف الظاهر في المقام ، سيما مع ملاحظة الخبر الثاني وإطلاق الأمثلة المذكورة في بعض هذه الروايات ، مثل الثوب المحتمل للسرقة ، والمملوك المحتمل للحرّية ، والمرأة المحتملة للرضيعية ، فإنّ إطلاقها يشمل الاشتباه مع العلم الإجماليّ ، بل الظاهر أنّ المراد به ما يرادف بشخصه الخارجي أي يتميز عند العالم عن غيره في مقابل لا بعينه ، فإنّه يصدق على الحرام الواقعي المجهول بشخصه أنّه غير معلوم بعينه ، وأنّ الحرام منهما معلوم لا بعينه.

وإن كنت في ذلك متأمّلا فانظر إلى متفاهم العرف في نظائر ما نحن فيه ، من الخطابات العرفية الصادرة عن الموالي ، فإنّه إذا قال المولى لعبده : لا تشتر اليوم لحم البقر ، واشتر ما لم تعلم أنه لحم البقر ، إذا اشترى أحد المشتبهين خاصة ، مع علمه بكون أحدهما لحم البقر ، لا يعدّ عاصيا ، ولو عاقبه عليه يلام قطعا ، مع رخصته في شراء المجهول.

هذا ، ويدلّ أيضا ، على حلّية البعض خصوص بعض الأخبار في الشبهة المحصورة ، مثل : موثقة سماعة (١) ، قال : سألت أبا عبد الله عليه‌السلام عن رجل أصاب مالا من عمّال بني أمية ، وهو يتصدّق منه ويصل قرابته ويحج ليغفر له ما اكتسب ، ويقول ( إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ) (٢) ، فقال عليه‌السلام : « إنّ الخطيئة لا يكفّر

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٧ : ٨٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ٢٢٠٥١.

(٢) هود (١١) : ١١٤.

٣٨٣

الخطيئة وإنّ الحسنة يحبط الخطيئة » ، ثمّ قال : إن كان خلط الحرام حلالا ، فاختلطا جميعا ، فلم يعرف الحرام من الحلال ، فلا بأس ، فإنّ ظاهره عدم صرف الجميع ، بل بعضه المشتبه بالاختلاط ، فلا يدلّ على جواز صرف الكلّ.

وأورد عليه : بأنّ ظاهره جواز التصرف في الجميع بصرف بعضه في القربات المذكورة وإمساك الباقي ، فقد تصرف في الجميع ، فلا بدّ من صرفه عن ظاهره ، لئلا يلزم المخالفة القطعية. ولا ينحصر المصروف إليه في ترك ما يساوي مقدار الحرام ، بل يحتمل حمل الخبر على غيره. وفيه منع الظهور جدّا ، إذ ليس الباقي محل السؤال ، بل هو مسكوت عنه ، مع أنّ الأخبار الآمرة بإخراج الخمس في المختلط بالحرام قرينة ظاهرة لصرفه عن الظهور المدّعي.

وثانيهما : أنّه لو سلّم التكليف بالمعيّن الواقعي ، فثبوته لا يقتضي الاجتناب عن كلا المشتبهين ، إلّا بقاعدة استدعاء الشغل اليقيني البراءة اليقينية ، كما تقدّم في المقدّمة ، وهي تعمّ التعيّن الشرعي الثابت بالاستصحاب ، لقيامه مقام التعيّن الوجداني في الشرعيات ، ولما كان الامتثال هنا بالترك وهو معلوم الثبوت أوّلا ، فالاستصحاب يقتضي بقائه إلى أن يعلم العصيان ، وهو بفعلهما جميعا.

وبهذا يحصل الفرق بين الواجب والحرام ، فإنّ الاستصحاب في الواجب بين المشتبهين تقتضي عدم الإتيان به إلى أن يحصل اليقين به الحاصل بإتيانهما معا.

فإن قلت : استصحاب عدم الإتيان بالحرام الواقعي المشتغل به يعارض استصحاب عدم الآخر ، كما في المائع المردّد بين الخمر والخلّ ، فلا يحصل بالاستصحاب هنا العلم الشرعي بالامتثال ، فوجب تحصيل العلم الوجداني به.

قلت : مقتضي تعارض الاستصحابين وتساقطهما ، الرجوع في خصوص الآثار واللوازم إلى ما يقتضيه الاستصحاب في أنفسها ، كما بيّناه فيما أسلفنا في محلّه ، كما

٣٨٤

إذا علم حدوث عقد مردّد في كونه إجارة بعشرة أو بيعا بمائة ، فإنّه بعد تعارض استصحابي عدم كلّ منهما ، يرجع إلى استصحاب عدم اشتغال ذمّة المتعاقدين له بالزائد عن العشرة لعدم العلم بموجبه.

ففيما نحن فيه نقول : إذا تناول أحد المشتبهين ، وإن لم نحكم بعدم تناول الخمر ، نظرا إلى معارضته لاستصحاب عدم تناول الخلّ ، إلّا أنّه يستصحب عدم حصول العصيان وعدم حدوث استحقاق العقاب ، وتلازمه للخلّ إنّما هو بحسب الوجود الواقعي لا الظاهري الاستصحابي ، فلا يستلزم الحكم بعدم العصيان الحكم بكونه خلّا.

ومن فروع ذلك في المقام أمور كثيرة هي معاقد الإجماع ـ ظاهرا ـ عند القائلين بالاجتناب عن الجميع ، فلا يحكم بوجوب الحدّ لشرب أحد المشتبهين في المثال المذكور ، ولا باشتغال الذمة بحق الغير إذا اشتبه ماله بمال الغير فأتلف أحدهما.

ومنها ما إذا لاقى أحد المشتبهين بالنجاسة شيئا ثالثا ، فمقتضى التحقيق : عدم تنجس الملاقي ولو على البناء على وجوب الاجتناب عنهما. صرّح به بعض القائلين به ، كما هو ظاهر غيرهم.

وبهذا يظهر الفرق بين الاجتناب عن النجس الاستصحابي المنجّس للملاقي إجماعا ، والاجتناب عن أحد المشتبهين في الشبهة المحصورة ، فإنّ الأوّل من جهة الحكم بالنجاسة شرعا ، فيترتّب عليها آثارها ، والثاني من باب المقدمة ، وسنبيّنه على مزيد بيان في ذلك.

وبالجملة نظر القوم في الشبهة المحصورة تحريما وجوازا ، من جهة نفس المشتبه من حيث كونه مشتبها ، مع قطع النظر عن الآثار الخارجة ، فإنّها موكولة إلى ما يقتضيه الأصل باعتبار نفس الآثار.

٣٨٥

فإن قلت : فعلى هذا لزم القول باستصحاب اشتغال الذمّة بالصلاة في أحد الثوبين المشتبهين ، ولو على المختار في المسألة من عدم وجوب الاجتناب عن الجميع ، مع أنّه لا يقال به.

قلت : وجهه أنّ الثابت من الشرع كون النجاسة مانعة للصلاة ، لا أنّ الطهارة مبيحة لها ، فالحكم بالبطلان يستدعي اليقين بوجود المانع ولو بالاستصحاب.

ولنا على حرمة المخالفة القطعية التي هي بارتكاب الجميع ولو تدريجا وجهان :

أحدهما : أنّ الجملة المشتملة على الحرام اليقيني حرام قطعا ، وإن لم يعلم الحرام منها بشخصه ، فيحرم ارتكاب الجميع.

فإن قلت : على ما ذكرت سابقا من جواز ارتكاب أحد المشتبهين خاصة لعدم العلم بحرمته بخصوصه ، جاز ارتكاب الآخر أيضا ، لاستواء حاله في ذلك مع الأوّل ، وحصول العلم بارتكاب محرّم بعد فعله غير ضائر ، لعدم اتصاف الفعل بالحرمة بعد العمل ، مع فرض كونه محكوما بالجواز عند ارتكابه.

قلت : حكم المجموع غير حكم كلّ واحد كما مرّ وهو يحصل بارتكاب الأخير ، فهو مقدّمة وجودية للحرام حقيقة لا علمية.

فإن قلت : أدلّة البراءة النافية لحرمة كلّ واحد يستلزم عدم حرمة المعلوم الإجمالي الواقعي ، بالتقريب المتقدّم ، فلا يكون المشتمل عليه حراما.

قلت : كلّ واحد له جهتان : جهة خاصة في نفسه ، وهو محكوم بالحلّية ، وجهة اجتماعية تحصل من تداركهما الجميع (١) ، فهو محرّم ، من قبيل ارتكاب أجزاء الحرام ، فإنّ المجموع ـ حينئذ ـ حرام بعينه ، فلا تشمله أدلّة البراءة وتعيّن شخص الحرام من بين الجملة المشتملة عليه غير لازم اتفاقا. وحيث إنّ تلك الجهة ، أعني

__________________

(١) كذا.

٣٨٦

الهيئة المركّبة تحصل بالأخير ، فهو محكوم بالحرمة.

وأمّا الأوّل ، فإن قصد به اقترانه بالأخير أيضا ، فلا يبعد الحكم بحرمته مع هذا القصد أيضا ، بل هو الظاهر ، فإذن المشهور في أحدهما إنما هو بعد الأمر بالاجتناب عن الآخر ، لئلا يلزم ارتكاب الجميع ، فيكون الحلال الظاهريّ هو أحدهما على التخيير ، وهو من قبيل التخيير الاستمراري في تقليد أحد المجتهدين المتخالفين فيما يقلّد فيه.

فإن قلت : عنوان المجموع من حيث هو ليس عنوانا للحرام الواقعي المقصود من الخطاب الشرعي ، بل هو أحدهما بخصوصه ، وحيث إنّه حلال ظاهريّ بسبب الجهل ، فيسقط التكليف عن الحرام الواقعي ، فلا يضرّ العلم بالمخالفة القطعية ، كما وقع نظائرها في الشرعيات فوق الإحصاء ، كما في الرجوع في التقليد في المثال المذكور ، وكما في إقرار ذي اليد لزيد وقيام البيّنة لعمرو ، فتؤخذ المال منه لعمرو وقيمته لزيد ، أو قال هذا لزيد بل لعمرو بل لخالد ، حيث يغرم لكلّ من الأخيرين تمام القيمة ، مع أن حكم الحاكم في الجميع مخالف للواقع ، وأمثال ذلك من صور الأقارير والتحالف وغير ذلك.

قلت : نعم ، ليس المجموع عنوان الحرام الواقعي ، بل هو أحدهما الخاص ، إلّا أنّه لاشتماله عليه وعدم العلم بالخاصّ بعينه صار عنوانا له في الظاهر ، وحلّية كلّ واحد بالخصوص بدليل البراءة لا يقتضي حلّيته مقترنا بالآخر ، ولا يساعده دليل البراءة كما عرفت. والنقض بالمخالفة القطعية في أمثال ما ذكر غير متّجه.

أمّا التقليد الذي يتبدّل بتقليد مجتهد آخر ، فلأنّ التقليد لكونه طريق الواقع في حقّ المقلّد ، ولو تعبّدا ، فهو من باب تغيّر الواقع في حقّه ، نظير تغيّر رأى المجتهد لنفسه.

٣٨٧

وأمّا في غيره ، فلا يلزم جواز المخالفة القطعية في حكم شخص واحد ، من قبيل واجد المني في ثوب مشترك.

وأمّا الحاكم ، فوظيفته أخذ ما يستحقه المحكوم له على المحكوم عليه بالأسباب الظاهرية كالإقرار والحلف والبيّنة وغيرهما ، فهو قائم مقام المستحقّ في أخذ حقّه ، ولا عبرة بعلمه الإجمالي بالنسبة إلى غيره.

وثانيهما : بناء العرف على ما ذكرناه ، كما يشاهد في نظائر ما نحن فيه من الأحكام الصادرة عن الموالي وحكمهم به ، فإنّه إذا قال المولى لعبده : لا تشتر اليوم لحم البقر ويجوز لك شراء ما لم يعلم كونه لحمه ، إذا اشترى المشتبهين ولو بصفقتين ، يعد عاصيا ويعاقب عليه ، كما لا يعاقب إذا اقتصر على أحدهما كما أشرنا إليه ، وما هو إلّا لكونه لازم الخطابين معا ، وهو حجّة في الشرع ، بل يحكم بذلك القوة العاقلة.

احتجّ القائلون بحرمة الجميع بوجهين :

الأوّل : إنّ أدلّة تحريم المحرمات شاملة للمعلوم الإجمالي ، فلزم بحكم العقل التحرز عن ارتكاب ذلك المحرّم بالاجتناب عن كلا المشتبهين ، وإلّا لزم تجويز ارتكاب ما هو الحرام الواقعي إذا اتفق كونه المرتكب به وعدم العقاب ، إذ المفروض ثبوت التكليف هنا بما هو في الواقع ، لمكان العلم به.

والجواب عنه : أوّلا : إنّ المراد بالمعلوم الإجمالي ، إن كان ما هو موضوع الخطاب الشرعي ، أعني الماهيّة الكلّية ، فلا كلام في كونه مكلّفا به ، لكن بشرط العلم بمصداقه الخارجي ، وأمّا مع عدمه فلا.

ولا فرق في ذلك بينه وبين الشبهة الابتدائية الموضوعية ، فإنّ نسبة الجهل إلى كلّ واحد من المشتبهين ، كنسبته إلى المشتبه الابتدائيّ.

٣٨٨

وإن كان هو الفرد الواقعي المردّد بينهما ، فهو أوّل الكلام ، وشمول الخطاب المحمول على المعنى النفس الأمريّ له وإن كان مسلما ، إلّا أنّ تكليفنا به مقيّد بالعلم بنفس الحكم وموضوعه بملاحظة أدلّة البراءة ، كما تقدم بيانه. ولا فرق في ذلك ـ بالنسبة إلى مصاديق الموضوع الخارجية ـ بين الشبهة المحصورة والابتدائية ، مع صدق العلم فيهما بنفس الحكم الثابت من الخطاب الشرعي.

وإن كان المراد ، المجتمع من المشتبهين المشتمل على المعلوم الإجماليّ ، فحرمته مسلمة ، بل هو حرام تفصيليّ لا يجوز تناولهما جميعا ، فإنّ المركّب من الحرام حرام كما بيّناه ، وأين هو من كلّ واحد وحده.

وثانيا : أنّه لو سلم التكليف التحريمي بالنسبة إلى أحدهما المعين الواقعي ، فغاية الأمر وجوب تحصيل العلم الشرعي بامتثاله الشامل للعلم الاستصحابي.

وقد علمت : أنّ مقتضى الاستصحاب عدم حصول العصيان واستحقاق العقاب بفعل أحدهما ، وإن تعارض الاستصحابان فيهما بملاحظة نفس الموضوعين.

ومن هذا يظهر أنّ الاستناد بحال العبد إذا قال له المولى : اجتنب عن الخمر المردّد بين هذين الإنائين ، حيث لا يرتاب في وجوب الاحتياط حينئذ ، ليس كما ينبغي ، فإنّه لو سلم كون المبحوث عنه من هذا القبيل ، مع أنّه غير مسلّم كما عرفت ، فهو إذا لم يقترن به قول المولى : إذا شككت في وقوعك في العصيان ، فلا حرج عليك.

الثاني : الأخبار الدالّة على اجتناب الجميع.

ومنها المرسل (١) : « اتركوا ما لا بأس به حذرا عمّا به البأس ». ومنها الخبر

__________________

(١) في مستدرك الوسائل ١١ : ٢٦٧ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أنّه قال : « إنّما سمّي المتّقون المتّقين ، لتركهم عما لا بأس به حذرا ممّا به البأس ».

٣٨٩

المنجبر بالشهرة (١) : « ما اجتمع الحرام والحلال إلّا غلب الحرام على الحلال ».

ومنها رواية ضريس (٢) ، عن السمن والجبن في أرض المشركين : قال : أمّا ما علمت أنه قد خلطه الحرام فلا يحلّ ، وما لم تعلم فكل ، والخلط يصدق مع الاشتباه.

ومنها رواية ابن سنان (٣) : « كلّ شي‌ء حلال حتى يجيئك شاهدان أنّ فيه الميتة » ، فإنّه يصدق على المجموع لحمان فيه الميتة.

والجواب عن الأوّل : إنّ اجتماع الحلال والحرام ، إن كان محمولا على معنى الاشتباه ، فينقض بالشبهة الابتدائية وغير المحصورة ، ومع ذلك مجاز لا يصار إليه إلّا بدليل ، وإن كان على الحقيقة ، فالمراد بالغلبة ، إن كان بالنسبة إلى كلّ جزء فينتقض بمعلوم الحلّية في المجتمع منهما ، ومع ذلك فخلاف الظاهر أيضا ، وإن كان بالنسبة إلى الكلّ فهو كذلك ، ولا يحصل إلّا بتناول الأخير ، فلا يتمّ المدّعى.

وعن الثاني : إنّ المراد منه ، إن كان صورة الشكّ ، فهو كسائر أدلّة الاحتياط محمول على الاستحباب ، لمعارضتها لأدلّة البراءة الراجحة عليها ، على ما تقرّر في محلّه ، وإن كان المراد منه صورة العلم بالبأس ، فلا يصدق إلّا على المجموع كما ذكرنا.

__________________

(١) عوالي اللآلي ٢ : ١٣٢ ، الحديث ٣٥٨ ؛ مستدرك الوسائل ١٣ : ٦٨ ، الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الرواية ١٤٧٦٨.

(٢) وسائل الشيعة ٢٤ : ٢٣٥ الباب ٦٤ من أبواب الأطعمة المحرمة ، الرواية ٣٠٤٢٤ ؛ مع اختلاف يسير.

(٣) وسائل الشيعة ٢٥ : ١١٨ ، الباب ٦١ من أبواب الأطعمة المباحة ، الرواية ٣١٣٧٧ ؛ الرواية عن عبد الله بن سليمان ، عن الصادق عليه‌السلام في الجبنة قال : « كل شي‌ء لك حلال حتى يجيئك شاهدان يشهدان أنّ فيه الميتة ».

٣٩٠

وإرادة المعلوم الإجمالي المردّد بين المشتبهين ليست بأظهر من حمله على المباح المعد لارتكاب الحرام ، ككثير من الشهوات النفسانية ، واستلزام حمل الأمر على الاستحباب من باب الإرشاد والوعظ الوارد أمثاله في الأخبار بما لا يحصي ، ليس بأدون من التجوّز الحاصل على الحمل على المبحوث عنه ، فيما إذا ارتكب أحد المشتبهين خاصة.

وعن الثالث : أنّ الخلط حقيقة في الامتزاج دون الاشتباه ، فهو على خلاف المقصود أدلّ. ومن هذا وما تقدم يظهر ما في الرابع أيضا.

حجّة القول بحلّية الجميع تدريجا يظهر مما قدمنا مع جوابه ، ومع ذلك يمنعه بعض ما تقدّم من الأخبار ، مضافا إلى كونه خلاف ظاهر الأصحاب ، ولم يجترأ على القول به صريحا من مال إليه ، بل يترتّب عليه من المفاسد ما لا ينبغي الشبهة فيه.

وحجّة القول بالقرعة : أنّ الحرام المشتبه يتخلّص بها ، لما ورد أنها لكلّ أمر مشكل ، وخصوص الخبر الحاكم بالقرعة في قطع غنم نزى (١) الراعي على واحدة منها ثم أرسلها في الغنم فاشتبه بغيرها.

والجواب عن الأوّل : أنّه لا إشكال بعد ما عرفت من الأدلّة.

وعن الثاني : أنّه لا يدلّ على الوجوب ، بل غايته الاستحباب ، كما احتمله بعض الأصحاب ، سيما مع عدم صراحته فيه وندرة القول بها بل شذوذه ، فلا ينهض حجّة. واحتمل بعضهم اختصاص العمل به في مورد الخبر مع عدم ما يفيد العموم فيه.

تنبيهات :

الأوّل : ما ذكرنا من حلّيته ما عدا مقدار الحرام تخييرا إنّما هو فيما لا يقتضي

__________________

(١) نزا ، ينزو : وثب ، والذكر على الأنثى : سفدها.

٣٩١

الاستصحاب حرمتها أو حرمة أحدهما بخصوصه ، وإلّا فيبنى على ما يقتضيه الاستصحاب.

أمّا الأوّل : فلرجوعه إلى تعارض الاستصحابين في موضوعين لا نسبة بينهما بالسببية ، فإنه يجب الاجتناب ـ حينئذ ـ عنهما على القول بالعمل بهما ، كما هو غير بعيد على ما تقرر في محلّه ، كما إذا اشتبه المغسول من المتنجّسين.

فإن قلت : فكيف لا يعمل باستصحابي الطهارة إذا علم تنجّس أحدهما لا بعينه.

قلت : الممنوع ـ حينئذ ـ الجمع بينهما وارتكاب الجميع ، لحصول العلم به ـ حينئذ ـ بارتكاب الحرام ، بخلاف استصحابي الطهارة ، إذ غاية ما في الباب ـ حينئذ ـ العلم بترك الحلال المردّد بينهما ، ولا محذور فيه.

ومن ذلك ما إذا اشتبهت زوجته بالأجنبية في امرأتين ، فيحرم وطؤها ، مضافا إلى ظهور الإجماع فيه ، فإذا طلقت إحدى زوجتيه ثم اشتبهتا ، فمقتضى ما اخترناه وإن كان حلّية أحدهما ، إلّا أنّه لا يبعد الإجماع على حرمتهما في خصوص المورد ، كما في الإنائين المشتبهين.

وأمّا الثاني : فلتعين الحرام من بينهما بالاستصحاب الذي هو دليل شرعي ، كما إذا دار الأمر بين تنجّس هذا وزوال نجاسة ذلك ، فيبنى على استصحابي النجاسة والطهارة فيهما.

الثاني : قال بعض القائلين باجتناب الجميع : لو كان المشتبهان مما يوجد تدريجا ، كما إذا كانت زوجة الرجل مضطربة في حيضها بأن نسيت وقتها وإن حفظت عددها ، فتعلم أنها حائض في الشهر ثلاثة أيام مثلا ، فهل يجب على الزوج الاجتناب عنها في تمام الشهر ، ويجب على الزوجة أيضا الإمساك عن دخول المسجد وقراءة العزيمة تمام الشهر أو لا.

٣٩٢

التحقيق أن يقال : أنه لا فرق بين الموجودات فعلا والموجودات تدريجا في وجوب الاجتناب عن الحرام المردّد بينهما إذا كان الابتلاء دفعة وعدمه ، لاتّحاد المناط في وجوب الاجتناب.

نعم ، قد يمنع الابتلاء دفعة في التدريجيات كما في مثل الحيض ، فإن تنجّز تكليف الزوج بترك وطء الحائض قبل زمان حيضها ممنوع ، فإنّ قول الشارع : ( فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتّى يَطْهُرْنَ ) (١) ظاهر في وجوب الكفّ عند الابتلاء بالحائض ، إذ الترك قبل الابتلاء حاصل بنفس عدم الابتلاء ، فلا يطلق بهذا الخطاب.

ويشكل الفرق بين هذا وبين ما إذا نذر أو حلف ترك الوطء في ليلة خاصة ، ثم اشتبهت بين ليلتين أو أزيد ، ولكنّ الأظهر هنا وجوب الاحتياط.

إلى أن قال : فحيث لا يجب الاحتياط في الشبهة التدريجية ، فالظاهر جواز المخالفة القطعية ، لأنّ المفروض عدم تنجز التكليف الواقعي بالنسبة إليه ، فالواجب : الرجوع في كل مشتبه إلى الأصل الجاري في خصوص ذلك المشتبه إباحة وتحريما ، فيرجع في مثال المضطربة إلى استصحاب الطهر إلى أن يبقى مقدار الحيض ، فيرجع فيه إلى أصالة الإباحة ، لعدم جريان استصحاب الطهر ، انتهى.

أقول : وللنظر فيه مجال ، لأنّ الابتلاء بالمعلوم الإجمالي لا يتفاوت فيه الحال بين الدفعي والتدريجي مع العلم بحصوله ، بل تناول الدفعيات أيضا تدريجي حقيقة ، فإنّ قطيع غنم في الشبهة المحصورة لا يمكن أكل كلّه دفعة.

وبالجملة أيّ فرق فيما إذا علم وجود شخص كافر في جملة عدد محصور يأتيك متعاقبا ، وحيض ناسية الوقت في الشهر ، فكيف يمنع تنجّز التكليف بترك

__________________

(١) البقره : ٢٢٢.

٣٩٣

وطء الحائض قبل زمان حيضها ، وتجوز المخالفة القطعية فيه استنادا إلى استصحاب الطهر في غير مقدار زمان الحيض ، وفيه إلى أصالة الإباحة ، ولا يمنع تنجّزه بترك ملاقاة الكافر قبل وصوله وحضوره ، وقد يقتضي الاستصحاب في التدريجي ترك الجميع وتحصل الموافقة القطعية ، كما إذا شكّ في صيرورة أحد الخمرين خلّا ، ثم شك في صيرورة الآخر كذلك ، مع العلم الإجمالي بصيرورة أحدهما خلّا ، فلا ينبغي الحكم ـ مطلقا ـ بجواز المخالفة القطعية في التدريجيات ، وكيف تبنى الزوجة على الطهر في تمام الشهر مع العلم باشتغال ذمّتها بقضاء صوم الثلاثة. اللهمّ إلّا أن يستثنى ذلك عن حكمة (١) المخالفة. بل التحقيق ، أنّ مقتضى تأخر الحادث ، الحكم بتجدد موضوع الحرمة في آخر الأزمنة المشتبهة ، كما في مثال حيض الناسية ، وهكذا (٢) في غير صورة تجدّد موضوع الحرام ، أيضا ، نظرا إلى تجدّد الحكم التكليفي فيه ، فيعمل أيضا ، بأصل التأخر بناء على القول بهذا مطلقا.

الثالث : لا فرق في حكم الشبهة المحصورة في اتحاد حقيقة المشتبهات واختلافها موضوعا أو فعلا متعلّقا به.

وما قد يستظهر من صاحب الحدائق في جواب صاحب المدارك في قوله : إنّ المستفاد من قواعد الأصحاب أنّه لو تعلق الشك بوقوع النجاسة في الإناء وخارجه لم يمنع من استعماله ، من التفصيل بين الصورتين وتخصيص الاجتناب عن المشتبهين بالأولى دون الثانية ، لا عبرة به ، لعموم المناط ، فلا يختلف حكم المشتبه في تردّد النجس بين الماء ومائع آخر ، أو بين ماء وثوب ، أو بين السجدة في خارج الإناء وشرب الماء في مثال المدارك ، والتلبّس بالثوب والشرب عند التردّد في

__________________

(١) حلّية ( خ ).

(٢) في الأصل : وكذا هذا.

٣٩٤

نجاسة أحدهما ، بل ولو كان المحرم على كلّ تقدير عنوانا غيره على التقدير الآخر ، كما لو دار الأمر بين كون أحد الثوبين نجسا وكون الآخر مال الغير ، لاندراج ذلك كلّه في وجوب الاجتناب عن الحرام ، والنواهي الشرعية كلها مشتركة فيه ، فلا يتفاوت الحال في ذلك باختلاف العنوانات.

الرابع : آثار الحرام الواقعي وأحكامه الشرعية لا يترتّب عليه إلّا باستيعاب الجميع دون البعض على ما اخترناه.

وأمّا على القول باجتناب الجميع ، فصريح بعض من عاصرناه عدم ترتّبها أيضا ، بل ظاهر إطلاقه على الاستيعاب أيضا ، لأنّ وجوب الاجتناب على مختارهم من باب المقدمة للمعلوم الإجمالي الواقعي ، ولا ينهض ذلك في الآثار ، فيرجع فيها إلى الأصول الجارية في كلّ واحد بخصوصه ، وأنت خبير بأنّ الآثار تابعة للحرام الواقعي ، وحيث التزم القائل به بثبوت التكليف به وإيجاب الجميع من باب الاحتياط وتحصيل العلم بامتثاله ، فيجري هذا الكلام بعينه في الآثار التكليفية له أيضا ، مثلا : إذا علم نجاسة أحد المائين ، وحكم بوجوب الاجتناب عنهما تحصيلا للعلم بدرك الواقع ، فكذا يلزمه بذلك الحكم ببطلان الصلاة بإصابة أحدهما إلى الثوب ، وحصول الحنث بلبس الملاقي له إذا كان منذورا وبطلان بيعه ، وهكذا.

وتخصيص التكليف بمجرد الاجتناب عن العين تحكم محض ، بل نقول : الأثر الواقعي ، أيضا ، معلوم إجمالي ، وبقاء التكليف به يقتضي الاحتياط في أمثاله ، والتحقيق : أنّ التكليف المعلوم أمر وجدانيّ حقيقة ، هو البناء على نجاسة المعلوم الإجمالي أو حرمته ، والجري عليه وجعله بمنزلة المعلوم التفصيلي ، كما عساه يظهر من كثير من القائلين باجتناب الجميع.

فإن قلت : التكليف باجتناب العين منجّز غير مشروط بشي‌ء ، وأمّا بالآثار ،

٣٩٥

فمعلق بوجود المعلوم الإجمالي الذي يتفرّع عليه ، ولا علم بها بوجود أحدهما.

قلت : نعم ، هذا اعتراض وارد على أصل هذا القول وإلّا فعلى البناء على كون المعلّق عليه كنجاسة المشتبه محكوما بوجوده ، لزمه الحكم بوجود ما علّق عليه.

فإن قلت : لا يحكم بنجاسة كلّ منهما في حقه ، بل بوجوب الاجتناب عنه من باب المقدّمة للاجتناب عن النجس الواقعي.

قلت : وجوب الاجتناب ، أيضا من أحكام النجس والحرام وآثارهما الشرعية ، كما أنّ بطلان الصلاة فيه ووجوب تطهيره عند الضرورة وبطلان البيع وحرمة التصرف وأمثالها من آثارهما ، فلا وجه لتخصيص التكليف عند العلم الإجمالي بالاجتناب خاصة.

وبالجملة ، ما استظهروا به للتكليف بالواقع المعلوم إجمالا ، يقتضي التكليف بنفس المتبوع المستتبع لآثاره وأحكامه الشرعية ، أى وجوب البناء والجري عليه ، لا خصوص بعض مقتضياته ، فالعلم بامتثال المتبوع الواجب بحكم المقدمة لا يحصل إلّا بالبناء عليه في كلّ منها.

نعم ، من الآثار الوضعية ما يشترط في ثبوته مصادفة المأتي به للواقع ، فلا يحكم في خصوص مثله باعتبار وجوب المقدمة العلمية الذي هو حكم ثانوي ، كاشتغال الذمّة بحق الغير إذا اشتبه ماله بمال نفسه ، فإثباته متوقف على العلم بحصول السبب ، وهو عند ارتكابهما جميعا.

ومن ذلك استحقاق خصوص العقاب المقرّر للحرام الواقعي ، فلا يستحقه إلّا بمصادفة المأتيّ به للواقع أو بارتكابهما جميعا ، وإلّا فمع عدم المصادفة كان عليه عقاب المخالفة (١) للحكم الثانوي التوصّلي.

__________________

(١) في الأصل : عصيان المخالفة.

٣٩٦

الخامس : إذا لاقى أحد المشتبهين شي‌ء ثالث ، لم يحكم بنجاسته على المختار معينا ، سواء كان قبل استعمال أحدهما أو بعده ، لعدم حصول العلم بها ولو بعد استعمال الجميع ، وإنما يحكم بالآثار المشتركة.

نعم ، لو كان الحكم بنجاسة أحدهما من باب التخيير الناشئ عن عدم المرجّح ، فلا يبعد القول بنجاسة ما لاقاه إذا اختاره المكلّف من بينهما ، وكذا على القول بالقرعة.

ويظهر ممّا ذكرناه ، عدم جواز الجمع بين ملاقي أحدهما مع عين الآخر ، وكذا بين ملاقيهما ، ووجهه ظاهر.

وأما على القول بالاجتناب عن الجميع ، فقال بعض من عاصرناه ، فيه وجهان ، بل قولان ، واختار عدم التنجّس الملاقي ، استنادا إلى أنّ الاجتناب عن النجس لا يراد به إلّا الاجتناب عن العين ، وتنجّس الملاقي للنجس حكم وضعي سببي يترتّب للعنوان الواقعي من النجاسات ، فإنّه إذا شكّ في ثبوته للملاقي جرى فيه أصل الطهارة.

وبعد الإحاطة بما تقدّم بيانه ، يظهر لك ضعفه جدّا ، فإن ما يترتّب للعنوان الواقعي هو التنجّس الواقعي للملاقي ، ولا نعني به ، كما لا نحكم به لغير الملاقي ـ بالفتح ـ أيضا. وأما التنجّس الظاهري ، فيترتّب على تنجّس العين ظاهرا ، كتنجّس الملاقي للنجس الاستصحابي ، والمفروض كون الملاقي ـ بالفتح ـ محكوما بالنجاسة ، وإن كان من باب المقدمة ، ويلزمها نجاسة ما لاقاه كما تبيّن.

ثم اعترض على نفسه ، بأنّ وجوب الاجتناب عن ملاقي المشتبه ، وإن لم يكن من حيث ملاقاته ، إلّا أنّه يصير كملاقاته في العلم الإجمالي بنجاسته أو نجاسة المشتبه الآخر ، فلا فرق بين المتلاقيين في كون كل منهما أحد طرفي الشبهة.

٣٩٧

وأجاب عنه بما حاصله : أنّ الاستصحاب بين المتعارضين إذا كانا في مرتبة واحدة من غير سببية أحد المستصحبين لخلاف (١) الآخر ، يتساقطان ويرجع في الأحكام والمسببات في كلّ منهما بما يقتضيه الأصل والاستصحاب في أنفسهما ، ففي المورد يتعارض أصلا الطهارة في الملاقي ـ بالفتح ـ والمشتبه الآخر ويسقطان ، ويبقى أصالة الطهارة في الملاقي ـ بالكسر ـ التي هي من المسبّبات سليما عن معارضة أصالة طهارة المشتبه الآخر.

وفيه ، أنّ القاعدة المذكورة مسلّمة مقبولة ، كما حقّقناه في مقامه وأشرنا إليه ، إلّا أنها لا يتمّ المدعى على القول المذكور ، لأنّه (٢) يرد عليه ـ مضافا إلى منع تساقط الاستصحابين المتعارضين في موضوعين مختلفين مع انتفاء السببية ـ أن تنجّس الملاقي إنّما نشأ من تنجّس الملاقي ـ بالفتح ـ شرعا ، سواء كان لاستصحابه أو لجهة كونه مقدّمة ، وتخصيص حكم المقدّمة بمجرّد اجتناب العين دون البناء على نجاسته فقد عرفت ضعفه ، بل لعلّه خلاف ظاهر أكثر القائلين بحرمة الجميع في الشبهة المحصورة.

السادس : إذا فقد بعض المحتملات ، لم يحرم ارتكاب الباقي على القولين : أمّا على قولنا فظاهر.

وأمّا على القول الآخر ، فلعدم العلم بالتكليف الواقعي ، إذ لعلّ المفقود هو المعلوم الإجمالي ، فالتكليف به معلّق على وجوديهما وتحقق شرائط التكليف به ، ولذا لو اضطرّ إلى ارتكاب بعض المحتملات ، فالظاهر على المختار ، عدم حرمة المختار فيه ، لعدم دليل على حرمة ضمّه إلى المضطرّ فيه ، وعلى القول الآخر ففيه تفصيلات وفروع يستبعدها الأنظار السليمة.

__________________

(١) كذا.

(٢) في الأصل : « إلّا أنّه كما » مكان « لأنّه ».

٣٩٨

المقام الثاني : في الشبهة الغير المحصورة.

والعبارات في تفسيرها مختلفة غير منتظمة ، كجعل المناط فيها لزوم المشقة في الاجتناب عنها أو عدم إمكان ارتكاب الجميع عادة ، أو تعسّر عدّه مطلقا أو في زمان قصير أو ما يعد غير محصورة عرفا ، أو استهلاك العلم الإجمالي بالحرام فيها لكثرة المحتملات ، وأمثال ذلك فإنّ كلّ ذلك يختلف باختلاف الوقائع ومقدار المعلوم الإجمالي والفعل المتعلّق بها دفعة أو تدريجا ، وكذا باختلاف الأشخاص ، كصحراء وسيعة يتنجّس بعضها بالنسبة إلى من يزاولها برطوبة واحتاج إلى مزاولتها ، ومن لا يزاولها ولا يحتاج إليها وأقواها اعتبارا ، ما ذكره الشهيد والمحقّق الثانيان وغيرهما ، من كونها ما يعسر عدّه ، إلّا أنّه لا ينبغي التقييد بذلك بالنسبة إلى الفعل المتعلّق بها.

وكيف كان ، فالخطب سهل ، بناء على عدم الفرق في الحكم بين الشبهتين كما هو الحقّ ، فيحلّ ما عدا مقدار الحرام ، ويحرم ما يساويه ، لما تقدّم من الأدلّة ، مضافا إلى ظهور الإجماع هنا على حلّ ما عدا مقدار الحرام المصرّح به في كلام غير واحد ، بل عن بعضهم دعوى الضرورة عليه في الجملة.

وظاهر أكثرهم إطلاق القول بعدم وجوب الاجتناب إلى آخر الأفراد.

واستدلّوا عليه بوجوه قاصرة ، منها : الإجماع ، وهو في غير مقدار الحرام مسلم ، وأمّا فيه فغير ثابت ، كما اعترف به بعض القائلين به ، بل الظاهر عدمه ، وإن كان في إطلاق قولهم بعدم وجوب الاجتناب فيها ظهور شموله له ، إلّا أنّه يحتمل ـ قويّا ـ أن يكون مراد المصرّحين به ، عدم وجوب الاجتناب فيها ، في مقابل القول بوجوبه.

ومنها : لزوم المشقّة المنفية في الشريعة في الاجتناب عن المشتبهات الغير

٣٩٩

المحصورة ، لظهور عدم اطّرادها في موارد تلك الشبهة.

تكلّف في توجيهه بعضهم باحتمال كون المراد لزومها في أغلب أفراد هذه الشبهة لأغلب أفراد المكلّفين ، فيشمله عموم قوله تعالى ( يُرِيدُ اللهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ ) (١) بضميمة ما ورد من إناطة الأحكام الشرعية وجودا وعدما بالعسر واليسر الغالبيين.

وفيه أوّلا : أنّه لا مشقّة في ترك مقدار الحرام كما هو المفروض ، فلا يتم المدّعى.

وثانيا : أنّ الشبهة الغير المحصورة ليست عنوانا للحكم في الأخبار حتى يلحق النادر منها بالغالب في حكم العسر ، بل هو عنوان مخترع في كتب الفقهاء لموضوعات متعدّدة في أحكام مختلفة يتفاوت أغلبها في استلزامه المشقة لأغلب أفرادها بالنسبة إلى أغلب المكلّفين وعدمه ، وليست هي واقعة واحدة ، فلو سلّم ملاحظة الأغلب في لزوم العسر ، فالمناط ملاحظته في كلّ موضوع بعنوانه المختصّ به ، بالنظر إلى اجتناب الحرام المردّد بين أفراده ، لكونه المقتضي للاجتناب عنها على القول به ، لا كثرة الأفراد وقلّتها ، وهذا يختلف باختلاف مواضع الشبهة وأحوال المكلّفين فيها والأفعال المحرمة المتعلّقة بها ، كما أشرنا إليه ، بل قد يكون الاجتناب عن الشبهة المحصورة موجبا للمشقة ، فعلى ذلك لزمه جعل العنوان الكلّي للزوم المشقة الغالبة مطلق الشبهة.

وثالثا : أنّ المبحوث عنه في الشبهة هو الحكم الثانويّ الظاهريّ في الحلّية والطهارة والملكية ، فحلّيتها أو حرمتها مبنيّة على أصل البراءة أو وجوب الاحتياط من باب المقدّمة ، فهو رفع لحكم ثابت لا تأسيس حكم واقعي.

__________________

(١) البقرة : ١٨٥.

٤٠٠