مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

كما ينبغي. نعم ، لا فرق في التصرف الفاسخ بين ما يحرم فعله لغير المالك ، وبين ما لا ينفذ عن غيره ، كالبيع والعتق والإجارة والنكاح ، فإنّ تلك العقود تكشف ظاهرا عن إرادة الانفساخ بها ، دون وقوعها فضولا أو لغوا ، بل الظاهر وقوعه بمجرد العرض على البيع والإذن فيه والتوكيل والرهن الغير المقبوض والهبة الغير المعوضة. فالأقرب : أنّها من البائع فسخ ومن المشتري إجازة ، لدلالتها على طلب المبيع واستيفائه. انتهى. ونحوه عن جامع المقاصد (١).

المسألة الثانية : إذا باع ذو الخيار أو أعتق أو أوجد غير ذلك من الأسباب الناقلة أو وطأ الجارية أو قبّلها بشهوة أو أكل المنتقل إليه ونحوها من التصرفات المحرّمة في ملك الغير ، فلا شكّ ولا خلاف في حصول الفسخ الفعليّ بها كما مرّ.

وهل يحصل النقل بتلك النواقل ، ويجوز تلك الأفعال المتوقفة على الملك أم لا.

ظاهرهم وجود الخلاف فيه ، ويرجع إلى الاختلاف في كون نفس التصرف فسخا وسببا للانفساخ ، فلا يحصل النقل ولا الحلّ قبله ، كما هو ظاهر كلام الفاضل (٢) في التحرير في وطء الأمة بقوله : يحصل الفسخ بأوّل جزء منه. ولازمه عدم وقوعه قبله ، بل هو ـ كما قيل ـ لازم قول كل من قال بعدم صحّة عقد الواهب الذي يتحقّق به الرجوع ، كما عن الشرائع (٣) والمبسوط (٤) والجامع (٥) ، أو كون التصرف كاشفا عن الفسخ وحصوله قبله ، كما هو ظاهر التذكرة (٦) وغيره ، من تعليل حصول

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٣٠٩ ـ ٣١٢.

(٢) تحرير الأحكام : ١٦٨.

(٣) شرائع ( الينابيع الفقهية ) ١٤ : ٤٠٢.

(٤) المبسوط ( ينابيع الفقهية ) ٣٥ : ١٥٧.

(٥) جامع الشرائع ( الينابيع الفقهية ) ١٤ : ٤٨٤.

(٦) تذكرة الفقهاء : ٥٣٤.

٣٦١

الفسخ بصيانة فعل المسلم عن القبيح المستلزمة لوقوعه قبله ، بل عن المحقق (١) والشهيد الثانيين : الجزم بالحلّ ، نظرا إلى حصول الفسخ قبله ، وهو بالقصد المقارن له.

وفي المسالك (٢) والكفاية (٣) : صحة هبة ذي الخيار.

واستدلّ على الأوّل : بظهور كلماتهم في كون نفس التصرف فسخا أو إجازة وأنّه فسخ فعليّ في مقابل القوليّ ، وظهور اتفاقهم. على أنّ الفسخ ـ بل مطلق الإنشاء ، لا يحصل بالنية ، بل لا بدّ من حصوله بالقول أو الفعل ، واتفاقهم على توقف الفسخ على الفعل ، فالفعل إذا كان بيعا لم يحصل به النقل ، لتوقفه على الملك الموقوف على الفسخ المتأخر عن البيع.

ونحوه الفعل المحرم المتوقّف حلّه على الفسخ المتأخر عنه.

وعلى الثاني : بأنّ الفسخ إنما يتحقّق بالكراهة وعدم الرضا ببقاء العقد ، ويكشف عنه التصرف بحكم مقابلتها للرضا الموجب لسقوط الخيار ، كما صرّح به في المبسوط وغيره ، ودلّ عليه الأخبار المعلّلة بسقوط الخيار بالتصرف بكونه دالّا على الرضا ، فالعبرة بالرضا في بقاء العقد وسقوط الخيار وعدمه في وقوع الفسخ.

أقول : ويضعّف الأوّل ؛ بأنّ غاية ما يستفاد من الاتفاق ، لزوم وجود الفعل في وقوع الفسخ ، ولا يدلّ ذلك على كونه نفس الفسخ وسببا للملك المتجدّد ، لما ستعرف من إمكان تحقّق هذا المعنى بدون سببيته. وحكم المقابلة لا يفيد أزيد من وجوب كون الفعل دالّا على الفسخ ، كما يجب هذا في الإجازة ، دون موافقتهما في كيفية الدلالة.

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٣١٨.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ٢١٣.

(٣) كفاية الأحكام : ٩٢.

٣٦٢

ودعوى عدم حصول الإنشاء بالنية مسلّمة إذا كانت محضة غير مقارنة بفعل كاشف عنها ، وإلّا فهي ممنوعة.

والثاني : بمنع كون مجرد الكراهة الباطنية فسخا بحيث لا مدخل للفعل في تحققه واقعا ، بل هو كما ستعرف شرط لوقوع الفسخ واقعا على وجه الكشف لا السببية والنقل ، بخلاف الرضا المسقط للخيار ، فإنّه يكفي فيه مجرد الرضا بالملك ، وإن لم يدلّ على الالتزام بلزومه دائما ، كما تقدم بيانه في توجيه التعليل للزوم في بعض الأخبار بالرضا بمجرد التصرفات الغير الدالّة على الالتزام باللزوم.

ثمّ إنّ بعض أفاضل من عاصرناه وافق الأوّل في سببية التصرف للفسخ وتأخر الملك الحادث في التصرف الناقل عنه ، ومع ذلك قوّى صحّة النقل ، قائلا بأنّ الفسخ يتحقّق بأوّل جزء منه ، والناقل هو تمام الفعل ، ولا يشترط ملكية البائع للمبيع في تمام العقد ، بل الممنوع وقوع تمام السبب في ملك الغير ، فلا مانع من تأثير هذا العقد لانتقال ما انتقل إلى البائع بأوّل جزء منه.

ولا يخفى ما فيه من التحكّم بأنّ السبب المؤثر هو مجموع الهيئة المركّبة ، وهو أمر واحد ينثلم بخروج جزء منه ، ولا تفاوت بين أجزائه في المدخلية في التأثير واعتبار الشرائط فيها ، سواء قلنا بأنّ البيع نفس العقد أو النقل المسبّب عنه ، فما يشترط به البيع يكون شرطا للمجموع الذي لا يصدق البيع إلّا عليه ، وأيّ دليل يقتضي اختصاص الاشتراط لبعض الأجزاء؟

مضافا إلى كونه خلاف الأصل ، وظاهر كلماتهم في عدّ شرائط البيع ، وما يستفاد من ظواهر الأخبار ، كقوله عليه‌السلام : « لا بيع إلّا في ملك ، ولا عتق إلّا في ملك » (١).

__________________

(١) ورد عن طريق الإمامية ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، بهذه العبارة : « لا بيع إلّا في ما تملك » ؛ راجع عوالي اللآلي ٢ : ٢٤٧ ، الحديث ١٦ ؛ ومستدرك الوسائل ١٣ : ٢٣٠ ، الرواية ١٥٢٠٩ ؛ وعن الصادق عليه‌السلام ، عن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أنّه قال : « لا عتق إلّا بعد ملك » ؛ وسائل الشيعة ٢٣ : ١٥ ، الباب ٥ من أبواب العتق ، الرواية ٢٨٩٩٨.

٣٦٣

ومع ذلك كله لا يستقيم هذا التوجيه في مثل الوطء والأكل من التصرفات المحرمة على غير المالك ، مع عدم ظهور قائل بالفرق من الحلّية والصحّة.

والذي يقوّى في نظري في تحقيق المقام : أنّ الفسخ يحصل بالإرادة الفعلية العرفية المتصلة بالفعل الكاشف عن تلك الإرادة ، بشرط مقارنتها للفعل.

بيان ذلك : أنّ معنى خيار الفسخ على ما هو مفهومه عرفا ، بل مدلوله لغة ، هو التسلط على ترك مقتضى العقد واختيار ملكه السابق والجري عليه ، وليس للفسخ حقيقة شرعية وتوقيف شرعيّ يتعبد به ، بل يشعر به التعبير عنه في الأخبار بلفظ الخيار مجردا عن المضاف إليه ، كقوله عليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » (١) ولا شكّ أنّ هذا المعنى يتحقّق عرفا بالعزم القلبيّ والإرادة الباطنية المقدمة على الفعل والاعتبار باللفظ أو الفعل ، من جهة الدلالة عليها والكشف عنها.

نعم ، لما جرت عادة الشارع في ترتيب الآثار على القصود في المعاملات إلى اعتبار ما دلّ عليها ، إمّا على كونه أسبابا مجعولة ، كما في أكثر العقود والإيقاعات التي ثبت سببيتها لآثارها بالأدلّة الخارجة ، كالنكاح والطلاق ونحوهما ، أو على كونها لمجرد الكشف عن الإرادة ، قولا كان أو فعلا ، فإنّه يكتفي إجماعا في الفسخ بمثل عقد ناقل أو فعل محرّم على غير المالك ، مع أنّ مدلولهما ليس فسخ العقد ، فالعبرة بهما من باب كونهما قرينة للإرادة التي هي المؤثّر ، لا من باب السببية الشرعية ، من قبيل الرجوع في طلاق ذات العدّة الرجعية بكشف القناع والتقبيل في حصول الزوجية ، وسقوط الخيار في ركوب الدابة.

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٦ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠١٣.

٣٦٤

وإلى هذا أشار شيخنا الشهيد في المسالك (١) في الاستدلال على صحة بيع من له الرجوع في الهبة بقوله : العقد يدلّ على إرادة الفسخ ، والغرض من الألفاظ المعتبرة في العقود : الدلالة على الرضا الباطني ، لأنه هو المعتبر ، ولكن لما لم يمكن الاطلاع عليه ، نصب الشارع الألفاظ الصريحة الدالّة عليه واعتبرها في صحة العقد ـ وحينئذ ـ فالعقد المذكور يدلّ على تحقق إرادة الفسخ قبل العقد ، فيكشف العقد عن حصول الفسخ بالقصد إليه قبل البيع. انتهى.

إلّا أنّ تعميمه ذلك بالنسبة إلى ألفاظ العقود التوقيفية غير جيّد ، لكونها من باب الأسباب قطعا ، كما عرفت. وكيف كان ، فالسبب المؤثر في الانفساخ هو الإرادة المقدّمة على الفعل ، فيكون الفعل الناقل صادرا عنه في ملكه.

ومن هذا يظهر سقوط القول الأوّل.

وأما توجيه حصول الفسخ بالإرادة مع عدم الخلاف ـ ظاهرا ـ في توقفه على وجود الفعل ، بحيث لو اتفق حصول المانع عن الشروع في الفعل اضطرارا بعد تحقق الإرادة لم يتحقق الانفساخ ، فهو أنّ التوقف على التصرف ليس من باب السببية المستلزمة لتأخر الملك عنه ، بل هو من قبيل الاشتراط بالشرط المتأخر ، بمعنى أنّ تأثير الإرادة في الانفساخ وسببيتها مشروط باقترانها بالفعل ، وهو نظير الإجازة في العقد الفضولي على القول بكونها كاشفة كما هو المشهور المنصور.

وفرعوا عليه ملك النماء المتخلل بين العقد والإجازة للمشتري.

فرع : لو اشترى عبدا بجارية فقال : أعتقتهما فعن [ بعض ] : انعتاق الجارية دون العبد ، لتقدم الفسخ على الإجازة.

وردّ بالمنع فيما وقع الفسخ والإجازة من طرف واحد ، ولو لعدم الدليل.

__________________

(١) مسالك الأفهام ٦ : ٤٩.

٣٦٥

وعن آخر : يعتق العبد دون الجارية ، لأنّ الإجازة إبقاء للعقد والأصل بقاؤه ، ويعارضه اصل عدم العتق.

والحقّ : بقاء الخيار وعدم حصول عتق أحد منهما ، كما عن الفاضل (١) والمحقّق الثاني (٢) ، لأنّ المعتق لا يكون مالكا لهما بالفعل ، لأن ملك أحدهما يستلزم خروج الآخر عن ملكه ، فلا ينفذ عتقهما ، لتدافعهما ، مضافا إلى استصحاب بقاء الخيار وعدم حصول العتق.

المسألة الثالثة : لا ينافي تلف العين بقاء الخيار ، بلا خلاف أجده ، وإن تأمّل فيه بعض الأساطين ، وبه صرّح الفاضل (٣) في القواعد ، إلّا فيما أوجب التلف انفساخ العقد ، فلا خيار ، إذ لا عقد حينئذ ، كما في خيار التأخير والخيار قبل القبض.

ووجه ما ذكر : كون العقد قابلا للفسخ بعد تلف العين ، ولذا قالوا بشرعية الإقالة ـ حينئذ ـ وحكي عليه الإجماع ، فإنّ معنى الفسخ ليس ردّ كلّ عوض إلى مالكه الأوّل الذي يحصل بعقد جديد أيضا ، بل هو حلّ العقد السابق الناقل للعوضين ، ومقتضى حلّه عود العوضين مع بقائهما إلى مالكيه واستحقاقهما البدل عند تلفهما.

ولما كانت العين لتزلزلها بالخيار مضمونة على المنتقل إليه ، فإذا تلف عنده يرجع الآخر إليه ببدله ، وإن قلنا بعدم جواز إتلافها لغير ذي الخيار ، نظرا إلى تعلق حق ذي الخيار بالعين أصالة.

والتمسك في سقوط الخيار بأصل البراءة عن العوض : مدفوع بزوال الأصل باستصحاب الخيار المقتضي لضمانه المزيل للبراءة عنه.

__________________

(١) تحرير الأحكام ١ : ١٦٨.

(٢) جامع المقاصد ٤ : ٣١٣.

(٣) قواعد الأحكام ( الينابيع الفقهية ) ١٤ : ٥٣٦.

٣٦٦

نعم ، إذا كان موجب الخيار مقيدا بردّ العين ، كما عند اشتراطه كذلك ، أمكن القول بسقوطه. ولعله لذا تردّد العلّامة في المرابحة ، فيما لو ظهر كذب البائع في إخباره برأس المال بعد تلف المتاع (١).

بل عن المبسوط (٢) وبعض آخر الجزم بالعدم ، نظرا إلى أنّ الردّ إنّما يتحقق مع بقاء العين. وعن المسالك (٣) وجامع المقاصد (٤) : ثبوت الخيار ، لعدم المانع مع وجود المقتضي. وقد عرفت فيما تقدم خلافهم في بقاء خيار المغبون بتلف المغبون فيه.

المسألة الرابعة : اختلفوا في جواز التصرف الناقل لغير ذي الخيار ، كنقل المشتري المبيع في بيع الخيار ، على أقوال ثلاثة :

الأوّل : عدم جوازه ، وهو المحكيّ عن الشيخ (٥) وابن سعيد وظاهر الفاضل في القواعد (٦) والمحقّق والشهيد الثانيين ، بل نسب إلى الأكثر ، وعن جامع المقاصد (٧) والدروس (٨) : نفي الخلاف عنه. وربما يظهر من بعض كلمات العلّامة والشهيد خلافه.

وفي التحرير (٩) والتذكرة (١٠) : تجويز عتق المشتري العبد في زمان خيار البائع ،

__________________

(١) لم نقف عليه ولكن بحث قدس‌سره عن أحكام المرابحة في تحرير الأحكام ١ : ١٨٦ ؛ وفي مختلف الشيعة ٥ : ١٨٥.

(٢) المبسوط ٢ : ٨٦.

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ٢١٧.

(٤) جامع المقاصد ٣ : ٣٠٩.

(٥) جواهر الكلام ٢٣ : ٧٠ و ٧١.

(٦) قواعد الأحكام ١ : ١٤٤.

(٧) جامع المقاصد : ٣١١ / ٤.

(٨) الدروس الشرعية ٣ : ٢٧١.

(٩) تحرير الأحكام ١ : ١٦٨.

(١٠) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٣٨.

٣٦٧

وجعله كالتلف ، فيرجع البائع بعد الفسخ إلى المثل أو القيمة ، وظاهره تخصيص الجواز بالعتق.

الثاني : صحّة التصرف الناقل لكن على التزلزل ، فإنّ فسخ ذو الخيار رجع العين إليه من المنتقل إليه الثاني ، وإن سقط خياره بأحد مسقطاته ، لزم. وربما يخصّص ذلك بما يقبل التزلزل كالبيع والهبة ، وأمّا ما لا يقبل كالعتق والوقف ، فيبطل التصرف.

الثالث : صحّته على وجه اللزوم وعدم تسلط ذي الخيار على استرجاع العين ، بل ربما أفرط في ذلك بعدم الفرق بين النواقل اللازمة والجائزة.

ثمّ إنّه لم يظهر من القائلين بالجواز بقاء الخيار بالرجوع إلى البدل من المثل أو القيمة ، إلّا في مسألة العتق أو الاستيلاد.

وكيف كان ، فالحقّ هو الأوّل ، لأنّ الخيار متعلّق بسبب العقد إلى العوضين بإرجاع عينهما بحلّ العقد إلى ملكهما السابق ، فلا يجوز أن يتصرّف في العين بما يبطل ذلك الحقّ بنقلها إلى غيره ، وهذا يعمّ الخيارات الأصلية والمجعولة بالشرط ، وإن كان في الثاني أوضح ، لظهور إرادة إبقاء الملك من اشتراطه ليستردّه عند الفسخ ، وكونه حكمة في أصل الخيار.

وما أورده بعض أفاضل من عاصرناه عليه ، من أنّ الثابت من خيار الفسخ بعد ملاحظة جواز التفاسخ في حال تلف العينين هي سلطنة ذي الخيار على فسخ العقد الممكن في حالتي وجود العين وبعدها ، فلا دلالة في مجرد ثبوت الخيار على حكم التلف جوازا ومنعا ، فالمرجع فيه أدلّة سلطنة الناس على أموالهم مخدوش بأنّ مقتضى حقّ الخيار أمران : السلطنة على حلّ العقد ، وأخذ العين بالفسخ ، ولذا لا يجوز بذل البدل مع بقاء العين.

٣٦٨

نعم ، عند عدم إمكان الثاني للتلف لا يسقط الأوّل ، فيرجع إلى القيمة من قبيل الرجوع في المغصوب التالف على عوضه ، وأمّا مع بقاء العين ، فلا تسقط حقه عنها ، فليس للآخر إتلاف هذا الحق عنه.

وتسلّطه على ماله بحديث السلطنة محجوج بسبق حقّ غيره فيه المنافي للإتلاف اختيارا ، فلا يعارض أدلّة الخيار على ما بيناه في قاعدة نفي الضرر ، مضافا إلى استلزامه جواز إتلاف العين رأسا ، ولعلّه لا يقول أحد بهذا الضرر ، وإلى ظهور إرادة ذي الخيار بقاءها في الخيار المجعول بالشرط ، والشارع في حكمة تشريعه في الخيار الأصليّ. ومن هذا ينقدح حجة القول الثالث بضعفها.

وأمّا حجّة القول الثاني :

أمّا على جوازه متزلزلا ، فقاعدة التسليط وعمومات حلّية البيع. وأمّا على تسلط ذي الخيار على الرجوع إلى العين بعد الفسخ ممن انتقل إليه ، فاستصحاب خيار البائع اقتضائه جواز الرجوع إلى العين ما دامت باقية ، مع أن البيع ونحوه ليس إلّا نقل الملك الثابت للناقل ، وليس للمشتري في زمن الخيار إلّا الملك المتزلزل ، فلا يترتّب على بيعه إلّا حصول الملكية المتزلزلة الثابتة للمشتري ، ولا ينافيه لزوم البيع ، فإنّ مقتضاه لزومه على حسب حاله ، وهو ما يرتفع بفسخ ذي الخيار ، فهو لازم على المشتري الأوّل والثاني دون البائع الأوّل.

والجواب : أنّ الفسخ عبارة عن حل العقد الأوّل ، ومقتضاه إرجاع المبيع عن ملكية المشتري الأوّل ، فإنّه المشروط عليه الملتزم به ، وبهذا فرع بقاء الملكية له ، وفي المفروض ارجاع عن ملكية المشتري الثاني بالعقد الثاني ، ولم يكن له خيار بالنسبة إلى هذا العقد ، إذ لا شرط بينهما ، فلا بدّ إمّا من القول بعدم جواز إخراج المشتري الأوّل العين عن ملكه إبقاء لحق خيار البائع كما هو الصواب ، أو القول

٣٦٩

بسقوط خيار البائع عن العين ونقله إلى الغير.

المسألة الخامسة : منفعة العين في زمان الخيار قبل الفسخ في بيع الخيار وغيره مال المشتري ، كالأصل ، فله صرفه كيف يشاء ، وأخذ العوض عليها ومطالبة أجرة المثل ولو من ذي الخيار إذا تصرّفه ، فلو آجره في زمان الخيار صحّت الإجارة ، لكن ما دام تملكه للعين ، وتنفسخ بفسخ العين ، كما أفتى به المحقق القمّي ووالدي العلّامة (١).

والقول بأنّ صحّة الإجارة تبطل تسلّط الفاسخ على أخذ العين ، لاستحقاق المستأجر لتسلّمه لأجل استيفاء منفعة في مدة الإجارة : يضعف بأنّ الفسخ من قواطع الإجارة ، نظير قطع إجارة البطن الأوّل في الوقف بموتهم ، وانتقال العين الموقوفة إلى البطن الثاني.

واستظهر بعض أفاضل من عاصرناه بقاء الإجارة للمشتري وعدم بطلانها بفسخ العين ، استنادا إلى أنّ المشتري ملك العين ملكية مطلقة مستعدة للدوام ، ومن نماء هذا الملك المنفعة الدائمة ، فإذا استوفاها المشتري بالإجارة فلا وجه لرجوعها إلى الفاسخ ، بل يرجع إليه الملك مسلوب المنفعة في مدّة الإجارة بعد الفسخ ، كما إذا باعه بعد الإجارة.

ويفترق هذا عن إجارة البطن الأوّل في الوقف المنقطعة بانقضائهم ، بأنّ البطن الثاني لا يتلقّى الملك عن البطن الأوّل حتى يتلقّاه مسلوب المنفعة ، بل عن الواقف ، فالملك ينتهي بانتهاء استعداده.

ويضعّف هذا أيضا.

أوّلا : بأنّ حق ذي الخيار كما تعلق بالعين قبل الفسخ بتسلطه على إرجاعها إلى

__________________

(١) مستند الشيعة ٢ : ٣٩١.

٣٧٠

نفسه بالفسخ ، تعلّق بالمنفعة أيضا تبعا للعين بإرجاعها إليه كذلك ، فيبطل ما ينافيه.

وكون الملك مستعدا للدوام لو لا الرافع لا يكفي في ملك المنفعة الدائمة فعلا قبل حلول الرافع ، بل هو معلّق على عدم حلوله ، كملك العين.

وبالجملة : تسلّطه على هذا التصرف والتمليك المستمرّ ينافي حقّ الخيار الآخر المتعلّق بالعين والمنفعة.

والتفريق بينه وبين اجارة الموقوف ، بأنّ البطن الثاني تتلقّى الملك من الواقف لا من البطن الأوّل مستجمع المنفعة ينتهي استعداد ملك البطن الثاني بانقراضه : مخدوش بأن المستأجر فيما نحن فيه ، وإن تلقّى الملك عن المشتري ، لكن على حسب ما تلقّاه من البائع ، وهو المتزلزل المنتهى استعداده بالفسخ على حسب الشرط.

وثانيا : بأنّه على تقدير بقاء الإجارة بعد الفسخ : إن كانت الأجرة المسماة إلى انقضاء مدّة الإجارة للفاسخ ، فلا يكاد يصلح ، بل هو خلاف قصد الموجر ، ولعله لم يرض به الفاضل المعاصر ولم يفت ، وإن كانت للمشتري ، فهو ضرر بيّن على البائع ، سيما إذا كانت مدّة الإجارة زائدة عن زمان الخيار بمدّة طويلة كعشرين سنة أو خمسين ، إذ يدور أمر البائع ـ حينئذ ـ بين الالتزام ببقاء المبيع وبين الفسخ وردّ الثمن وتملك العين مسلوب المنفعة في يد المستأجر إلى انقضاء مدّة الإجارة ، وأيّهما كان ، فهو ضرر فاحش وخلاف ما انعقد عليه قصد المتعاقدين في الخيارات المجعولة ، والحكمة في الخيارات الأصلية. وهل هو إلّا تضييق على ذي الخيار لا إرفاق وتسهيل له؟

المسألة السادسة : إذا أذن ذو الخيار في التصرف الناقل ، فلا شك ولا خلاف في نفوذ إذنه وصحّة التصرف وعدم انفساخه بفسخ العقد الأوّل ، وإن قلنا بعدم منافاة الإذن في التصرف لإرادة الفسخ وأخذ القيمة ، لتوافق حقّيهما عليه.

٣٧١

وكذا لا إشكال ـ ظاهرا ـ في أنّ هذا الإذن ليس فسخا موجبا لعود الملك إلى الفاسخ ، لاستلزامه وقوع الفعل المأذون فيه لذي الخيار ، مع أنّه يقع وكالة عنه ، ولا تعلّق قصدهما به على الفرض.

وكذا الظاهر ، عدم بقاء الخيار بعد هذا الإذن بحيث يرجع ذو الخيار به إلى البدل ، لأنّ حقّ الخيار متعيّن بالعين ، ولا ينتقل إلى البدل إلّا إذا تلفت على كونها محلا لحقّه ، وإذنه لغير ذي الخيار في التصرف الناقل لنفسه عند بقاءها على ملكه ، إسقاط لحقّ خياره عن العين ، فلا يرجع إلى البدل ، بل هو التزام بالعقد.

ومن هذا يظهر [ أنّ ] سقوطه بمجرّد الإذن ، وإن لم يتصرّف المأذون ، كما عن القواعد (١) والتذكرة (٢) ، بل عن المشهور ، منع دلالة الإذن المجرّد عن التصرف المحكيّ عن جامع المقاصد (٣) والمسالك (٤) خلاف الظاهر ، وتوجيهه بظهور الإذن ـ حينئذ ـ في الفسخ بحكم العرف لا في الإسقاط ، والحكم بالسقوط في التصرف عن إذنه ليس لأجل تحقّق الإسقاط من ذي الخيار بالإذن ، بل لأجل تحقق المسقط ، نظرا إلى وقوع التصرف صحيحا وعدم التسلط على البدل كما تقرّر ، خال عن التحصيل ، لأنّ الإذن لو كان فسخا لم يتفاوت به الحال بتعقب التصرف المأذون فيه من غير ذي الخيار وعدمه.

هذا ، ويظهر مما بيّناه حكم الإذن في الإتلاف وأنّه إسقاط للخيار ، فليس له الفسخ وأخذ البدل ، ولا هكذا لو تلف في يده أو أتلف بدون إذنه ، لما تقدم من انتقال الحق ـ حينئذ ـ من العين المضمونة عليه إلى البدل.

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٤٤.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٥١٧.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٣١١.

(٤) مسالك الأفهام ٣ : ٢١٣.

٣٧٢

فرع : لو أذن في الإجارة إلى آخر زمان الخيار أو أكثر ، فلا شكّ في صحّتها كما مرّ ، وليس فسخا كما عرفت ، وكذا ليس هنا إسقاطا للخيار أيضا ، لأنّ متعلّقه العين والمنفعة تابعة ، فتقع الإجارة المأذون ما لم يفسخ الإذن ، ويبطل بفسخ العين ، لما مرّ.

فإن قلت : الإذن في الإجارة إذن في تملك المنافع المتجدّدة لغير ذي الخيار ، فلا يرجع إليه بعد فسخ العين.

قلت : الإذن إذا لم يكن فسخا لا يكون لازما ، بحيث لا يمكن تعقبه البطلان القهريّ بفسخ العين ، بل الإذن ـ حينئذ ـ لا ثمرة فيه ولا يفيد شيئا لاستحقاقه الإجارة ما دام ملك العين من غير توقف على إذن ذي الخيار.

نعم ، إذا اقترن المقام بقرينة حالية دالة على قصده من الإذن إسقاط خياره كان له حكمه.

المسألة السابعة : الخيار موروث بأنواعه بلا خلاف ، كما صرّح به جماعة.

وعن الغنية (١) : الإجماع عليه في خيار المجلس والشرط ، وفي التذكرة (٢) : إنّ الخيار عندنا موروث ، لأنّه من الحقوق ، كالشفعة والقصاص في أنواعه ، وبه قال الشافعي : إلّا في خيار المجلس ، فهو الدليل عليه ، مضافا إلى عموم النبوي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (٣) المنجبر بما ذكر ، « وما ترك الميّت من حقّ فلوارثه ».

وأورد عليه أوّلا : بمنع كونه حقا بل حكما شرعيا ، كالإجازة لعقد الفضوليّ وجواز الرجوع في الهبة ، فإنّ الحكم لا يورث.

__________________

(١) غنية النزوع ١ : ٢٢١.

(٢) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٢٦.

(٣) سنن ابن ماجة ٢ : ٩١٤ ، الرقم ٢٧٣٨ ؛ مسند أحمد ٢ : ٤٥٣ بتفاوت.

٣٧٣

وثانيا : بمنع كونه ما ترك الميّت ، لأنّه فرع ثبوت كونه حقّا قابلا للانتقال ، فلا يكون وجود الشخص وحياته مقوما له.

ويمكن الجواب عن الأوّل : بكونه حقا للإجماع بسقوطه بالإسقاط ، وكونه في أحد العوضين في خيار الشرط ، ونحوهما من خصائص الحقوق المنافية لمجرّد الحكم ، مضافا إلى خصوص الإجماع على كونه من الحقوق.

وعن الثاني : بأنّ المتبادر من الخبر كونه في مقام بيان حكم الانتقال لمطلق الحقوق ، وكون ما يسمّى حقّا داخلا في المتروكات المنتقلة ، لا في بيان من ينتقل إليه ، لظهور كونه لوارثه لا لغيره. كيف ولو كان الإطلاق منساقا لبيان الثاني لكان اللازم بيان أعيان الورثة وأشخاصهم.

وكيف كان ، فالإجماع يغنى عن تطويل الكلام في ذلك ، بل المهمّ بيان كيفية إرث الخيار إذا تعدّد الورثة.

وتفصيله : أنّهم إذا اتّفقوا على الفسخ أو الإجازة فلا إشكال ، وإن اختلفوا فيهما ففيه أقوال ثلاثة ، منشأها الخلاف في كيفية استحقاق الورثة للخيار :

أحدها : تقدم الفسخ ، فيفسخ الجميع بفسخ البعض وإن أجاز الباقون ، فكل من الورثة يستحق خيارا مستقلا كمورّثه ، نظير حدّ القذف الذي لا يسقط بعفو بعض المستحقين وحق الشفعة على المحكيّ عن المشهور ، نسب هذا القول في الرياض (١) إلى بعض ونظر فيه.

وعن الحدائق (٢) تصريح الأصحاب بتقديم الفاسخ من الورثة دون المجيز.

ودعواه اتفاق الأصحاب مع ظهور خلافه عن أعيانهم غريبة.

__________________

(١) رياض المسائل ١ : ٥٢٧.

(٢) الحدائق الناضرة ١٩ : ٧١.

٣٧٤

نعم ، في التذكرة (١) ذلك في خيار المجلس ، قال : إن فسخ بعضهم وأجاز الآخر ، فالأقوى أنّه ينفسخ في الكلّ كالمورث لو فسخ في حياته في البعض وأجاز في البعض ، واستدلّ على هذا القول بالنبويّ المتقدّم الظاهر في ثبوت الحقّ لكلّ وارث خرج منه المال القابل للتجزئة ، وينزّل فيه على الاشتراك إجماعا ، بخلاف محلّ البحث الذي لا يتجزّى. ولا يخفى أنّ الخبر بظاهره في مقام بيان انتقال المتروك إلى ماهيّة الوارث من غير نظر إلى كونه واحدا أو متعددا ، اشتراكا أو استقلالا ، بل لو فرض كونه عاما كالورثة ، كان اللازم حمله على العموم الجنسيّ ، ليشمل صورة وحدة الوارث وتبعّض المتروكات المتبعّضة على الورثة ، مع أنّه لو أريد منه العموم الإفرادي أو الإطلاقي ، لزم استعمال الكلام في معنيين ، من الاشتراك في المال والتعدّد في مثل هذا الحق. وتخصيص الحقّ بغير المال ليس بأولى من تنزيله على الاشتراك باعتبار محلّه ، أعني المنتقل إليه ، فكان لكلّ خياره في نصيبه.

وربما أورد عليه : بأنّ القرينة العقلية قامت على عدم إرادة ثبوته لكلّ واحد مستقلا ، وهي استحالة تعدد الواحد الشخصي الذي كان للمورّث.

وفيه : منع استحالة سلطنة كلّ واحد على هذا الواحد وراثة ، نظير الوكلاء المستقلّين في الموكّل فيه والأوصياء في الموصى به. وقيام هذا الواحد لشخص واحد هو المورث لا يجب كونه كذلك في الإرث حيث لا يتجزّى ، بل المنتقل إليه مجرد السلطنة على الفسخ ، ولازمه سقوط الحق بإسقاط كلّ واحد ، وهل يستحيل العقل تصريح الشارع به.

وكيف كان ، فلا دليل يعتمد عليه على انتقاله إلى كلّ واحد مستقلا في الكلّ ، مضافا إلى استلزامه ـ كثيرا ما ـ وقوع الضرر على سائر الورثة ، كما سنشير إليه ،

__________________

(١) تذكرة الفقهاء ١ : ٥٢٦.

٣٧٥

ويتعدّى إلى نفيه في غير مورد الضرر بعدم القول بالفصل.

القول الثاني : أنّه يستحق جميع الورثة مجموع الخيار ، فلا ينفسخ إلّا باجتماع الكلّ على الفسخ.

اختاره جماعة منهم العلّامة في القواعد (١) ، مع احتماله القول الآتي ، ونجله في الإيضاح (٢) ، والشهيدان في الدروس (٣) والمسالك (٤) ، ووالدي العلّامة في المستند (٥) ، وبعض من عاصرناه ، استنادا إلى أنّ مقتضى أدلّة الإرث كون مجموع المتروك لمجموع الورثة ، إلّا أنّ التقسيم في الأموال لما كان ممكنا ، كان لكلّ واحد حصّة مشاعة ، كسائر الأموال المشتركة ، بخلاف الحقوق التي لا تتجزّى ، فهي باقية على الاشتراك للجميع ، فليس أحدهم مستقلّا في فسخ ، لا في الكل ولا في البعض ، وإلى أنّ القدر المتيقن من الأدلّة ثبوت الخيار الواحد الشخصي للمجموع ، فإن اتفقوا على الفسخ انفسخ ، وإلّا فلا دليل على الانفساخ في شي‌ء منه.

وفيه ، أنّ أدلّة الإرث لا يقتضي كون مجموع التركة للكلّ المجموعيّ ، بحيث كانت للهيئة الاجتماعية مدخلية في استحقاقهم ، وإلّا لما صحّ التقسيم في الأموال ، فإنّها من باب واحد ، بل ظاهرها كونها مشتركة بينهم بحيث كان لكلّ واحد حقّ فيها ، ولازمه تجزّي هذا الشي‌ء المتروك ، مالا كان أو حقّا ، ولذا لو مات بعض هؤلاء الورثة انتقل حقه إلى وارثه ، مع أنّ حقّه ليس كلّ الخيار.

واشتراط موافقته بالاستحقاق لسائرهم في حصول الفسخ الشرعيّ بالخيار

__________________

(١) قواعد الأحكام ١ : ١٤٣.

(٢) إيضاح الفوائد ١ : ٤٨٧.

(٣) الدروس الشرعية ٣ : ٢٦٦.

(٤) مسالك الأفهام ٣ : ٢١٤.

(٥) مستند الشيعة ٢ : ٣٨٩.

٣٧٦

الوحداني المتروك ، ليس من أجزاء الخيار ، ولا هو من الحقوق المتروكة ، بل هو حقيقة تجزئة في الوارث لا الموروث.

وبالجملة ، مقتضى الاشتراك الثابت من الأدلّة أن يكون لكلّ منهم نصيب في المتروك ، فإن كان المتروك من الأعيان يتجزّى العين ، وإن كان من الأوصاف والأعراض ، فالتجزّي يعتبر في محلّها ، لأنّ الانفساخ المسبّب عن الخيار يقع على كلّ جزء ، وإن كان السبب واحدا ، كما أنّ الملك المسبّب عن البيع إذا ظهر بعض المبيع مستحقا ، وستعرف مزيد بيان فيه مع ما في هذا القول ما أشرنا إليه من استلزامه الضرر غالبا على الورثة ، كما إذا كان بقاء العقد ولزومه ضررا عليهم ، كالبيوع الخيارية بأقلّ الثمن الواقعة ابتداء باستظهار شرط الخيار ، فيحصل الضرر عليهم بمواطاة أحدهم لغير ذي الخيار في عدم موافقته للباقين في الفسخ.

القول الثالث : استحقاق كلّ من الورثة خيارا مستقلا في قدر نصيبه ، اختاره بعضهم ، واحتمله جماعة ، ولا يخلو من قوة.

وينجبر التبعّض على من عليه الخيار عند اختلافهم في الفسخ والإمضاء بالخيار ، إذ الاشتراك مقتضى ظاهر أدلّة الإرث كسائر الأموال ، وحيث إنّه بنفسه غير قابل للتجزئة فيعتبر التجزّي في متعلّقه كما بيّناه.

وعدم ثبوت خيار البعض للمورث أصالة ، وإن تعلّق بالأبعاض في ضمن الكلّ ، لا يمنع من حصوله مستقلا في البعض لكلّ وارث ، باعتبار عروض التجزّي في متعلّقه كما أشرنا إليه آنفا.

وتوضيحه تفصيلا : أنّ الحقّ المملوك ، إمّا أن يتبعّض في نفسه ، فحكمه عند الاشتراك ظاهر أو لا يتبعّض ، لا في نفسه ولا في متعلقه ، كالقصاص ، فمقتضى الاشتراك فيه اجتماع المحقّين على استيفائه ، ومع الاختلاف بالرجوع إلى ما جعله

٣٧٧

الشارع وهو بذل المستوفى حصّة الباقين من الدية التي هي بدل حقّهم شرعا ، أو يتجزّى بحسب المتعلق دون نفسه ، كما في محل الفرض ، فإذا انتقل بالإرث إلى كثيرين ، فلا بدّ من توجيهه : إمّا بكونه للهيئة الاجتماعية ، أو لكلّ واحد مستقلا في المجموع أو في نصيبه خاصّة.

ولا يصحّ الأوّل ، لأنّ المركّب من الكلّ ليس وارثا ، بل هو كلّ واحد منهم ، فلا مدخل للاجتماع في الوراثة والاستحقاق ، وكذا الثاني ، لما فيه ـ مضافا إلى ما عرفت من كونه خلاف مقتضى أدلّة الإرث ـ من أنّه غير ما استحقّه المورث ، لأنّ ما للمورث هو حقّ الخيار على رجوع المال إلى نفسه لا إلى غيره ، وبعبارة أخرى : له التسلّط على إرجاع المفسوخ إلى نفسه بالفسخ ، وفي الفرض يملكه غيره بفسخ من له الخيار.

فإن قلت : للمورث السلطنة على حل العقد وجعل المال كما كان قبله ، وتلك السلطنة تنتقل بالإرث إلى كلّ وارث ، فهو في ذلك في حكم النائب والوكيل في الفسخ ، فإذا انفسخ صار المال في حكم مال المورث كما كان قبل العقد ، فيرث كلّ وارث قدر سهمه منه.

قلت : الفسخ ناقل العقد من حينه ، فليس ملك المفسوخ عين ما كان للمورث ، بل هو لمن ملك الخيار ، كما كان للمورث ، فلا يصار إليه أيضا ، مضافا إلى استلزامه الضرر كما عرفت ، وحيث لا يصحّ المصير إلى هذين الاحتمالين ، تعين الأخير ، أعني اعتبار التبعّض في السهام.

فرع : إذا كان الخيار لأجنبيّ فمات ، ففي انتقاله إلى وارثه أو إلى المتعاقدين ، أو سقوطه وجوه ، بل أقوال : أقواها الأخير لعدم دليل من إجماع أو نصّ ظاهر على حصول الانتقال حينئذ. واحتمال مدخلية نفس الأجنبي فيه ، والله العالم.

٣٧٨

[ المشرق الحادي وعشرون ]

[ في الشبهة الموضوعية التحريمية ]

مشرق : في الشبهة الموضوعية التحريمية المردّدة بين أمرين أو أكثر.

ومحل الترديد إمّا محصور ، ويسمّى الشبهة المحصورة ، أو غير محصور ، فهنا مقامان :

المقام الأوّل : في الشبهة المحصورة ، وقبل البحث نقدّم أمرين :

الأوّل : كما يشترط في صحّة التكليف قدرة المكلّف على الامتثال والإتيان بالمكلّف به ، كذا يشترط فيها قدرته على تحصيل العلم بامتثاله ولو بالاحتياط ، فلا يجوز البناء في الامتثال على إصابة الواقع أحيانا والمطابقة الاتفاقية ، لعدم كونه معقولا ، بل كونه ممنوعا عقلا ، لاستواء الاحتمالين عند عدم العلم في نظر المكلّف فمع عدم القدرة على كليهما معا بالاحتياط ، لو عوقب على مخالفة أحدهما المطابق للواقع دون الآخر ، لزم التكليف بما لا يطاق.

ومنه يظهر أيضا أنّ مع قدرة المكلّف على تحصيل العلم وصحّة تعلّق التكليف لا يجديه الامتثال الاحتماليّ ، بل يتوقف الامتثال على حصول العلم به ، إذ مع عدمه يستوي المأتي به عنده للمحتمل الآخر.

٣٧٩

ولو ترتّب ثواب الطاعة وعقاب المعصية عليه لا على الآخر لزم إناطة التكليف بالإصابة الاتفاقية للواقع ، وقد علمت بطلانه ، بل استحالته.

وكذا يظهر أنّ تكليف الجاهل بما في نفس الأمر ، سواء كان الجهل بنفس الحكم ، كما عليه الأخباريون في الشكّ الحكميّ في الحرمة ، أو بالمكلّف به ، كما عليه المشهور ، لا ينفكّ عن التكليف بالاحتياط الموجب للعلم بامتثال الواقع ، فالأوّل تكليف بدويّ له ، والآخر تكليف ثانويّ واقع في الطريق من باب المقدّمة العلمية.

الثاني : أنّ الأحكام الشرعية ، كما تقرر في محله ، منوطة بالحكم والمصالح الكامنة في ذوات الأشياء وخصوصيات الأفعال ، على ما اتّفق عليه أهل المعقول والمنقول من العدلية ، ولازمه ثبوت تلك الأحكام لها قبل تعلق علم المكلّف بها ، وإلّا لزم الدور.

والخطابات الشرعية المتوجهة إلى المكلفين منساقة لبيان تلك الأحكام الواقعية ومستعملة فيها ، إلّا أنّها بالإضافة إلى أحوال المكلّفين ليست على إطلاقها ، لمنافاته في كثير من صور الجهل ، لما تقرّر في الشرع من القواعد الشرعية والأصول العدمية (١) من التوسّع والترخيص في مخالفة الأحكام الواقعية ، بل إبقاؤها مطلقا على الإطلاق يؤدّى إلى التكليف بما لا يطاق ، فهو مقيّد بغيرها على معنى عدم العقوبة على المخالفة الواقعية لعذر الجهل ، وكونه مانعا لها ، لا على تساويها للمطابقة في الآثار المسببة عن الحكمة الذاتية الباعثة لتشريع الحكم.

فمحطّ البحث هو الأوّل ، وهو المسمّى بالحكم الظاهري ، فلا يصحّ النقض باحتمال حصول مفسدة الحرمة في إباحة ما يحتمل الحرمة.

__________________

(١) العملية ( خ ).

٣٨٠