مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

وكيف كان فما يحتمل أن يكون مرادا من العهود الموثقة التي هي معنى العقود في الآية ، إمّا أحد الأقوال الأربعة المذكورة في المجمع ، أو خصوص عقود المعاملات ، وعليه إمّا مطلق ما يعم الشرعية والعرفية وصدق عليه المعاملات عرفا ، أو خصوص جنس المعاملات الموظفة أو أفرادها المشتملة على جميع شرائط الصحّة ، أو المراد غير ذلك من معاني العهد المناسب لصدق العقد عليه كالوصية أو الأمر أو الضمان أو اليمين.

وما يفيد المدّعى من الاستدلال به من تلك الاحتمالات ، إمّا الحمل على العموم أو على خصوص عقود المعاملات مطلقا أو أجناسها الموظفة من باب العهد ، كما استظهره بعض الأجلّة في توجيه الاستدلال بالآية.

والأوّل وإن كان مقتضى الحقيقة إلّا أنّ فيه ما تقدّم من لزوم تخصيص الأكثر ، والآخر غير معلوم بحجّة ، مع قيام احتمال غيره من المحتملات المذكورة ، بل بمقتضى لزوم الاقتصار على المتيقن حينئذ يتعيّن احتمال الأفراد الصحيحة ، إلّا أنّ هنا دقيقة غفلوا عنها ، مقتضاها الحمل على المعنى الثاني الذي قوّاه الطبرسي أو ما يقرب منه.

وبها يتمّ الاستدلال بالآية. وهو مطلق العهود الموثقة الشرعية ، سواء كانت بيننا وبين الله كالنذور ونحوها ، أو من الله إلينا كالإيمان به المعقود في عالم الذرّ وبعده في أداء أمانة التكليف التي حملها الإنسان كما قال الله تعالى ( أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ ) (١) و ( الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ ) (٢) الآية ، أو بين أنفسنا بعضنا مع بعض كالبيع والنكاح والصلح وغيرها من عقود المعاملات ، ومعنى الأمر وجوب الوفاء بكلّ عهد من تلك العهود الموثقة الشرعية.

__________________

(١) البقرة (٢) : ٤٠.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧.

٢١

ولبيان ذلك نذكر مقدّمة هي أنّ تخصيص الحكم المتعلّق في الجمع المحلّى ببعض الأفراد لدليل مخرج لغيره يمكن على وجوه ثلاثة :

الأولى : حمل اللام على الاستغراق وإخراج البعض من باب التخصيص.

الثانية : حملها على العهد والإشارة بها إلى الباقي إذا كانت هناك قرينة على العهد.

الثالثة : كون اللام للاستغراق من غير تخصيص ولكن خروج البعض من باب تقييد المدخول بالثاني لا بتخصيص العموم.

وفرق الأخير مع الثاني ظاهر ، لكون اللام هنا للاستغراق وفيه للعهد.

وأمّا مع الأوّل فهو أنّ التجوّز عليه في الهيئة المركبة الموضوعة للعموم وعلى الأخير في المدخول خاصّة باستعماله في بعض أفراد الماهيّة ، ودخول اللام عليه بمعناها الاستغراقي فهي لاستغراق جميع ما استعمل فيه المدخول من غير تخصيص ، فلا تجوّز في اللام ولا في الهيئة التركيبية ، فإنّ حقيقة اللام المحلّى بها الجمع استغراق جميع أفراد المعنى المستعمل فيه المدخول ، سواء كان حقيقيا أو مجازيا ، حتى أنه لو كان من غير جنس معناه الحقيقي ، فهي لاستغراق أفراد هذا المعنى المجازي ، نحو : « الله وليّ الأيادي » أي النعماء ، فلا تجوّز في العموم ولا تخصيص بل التجوّز في المدخول ، بل لو أريد بالمدخول ما يعمّ معناه الحقيقي ، فاللام الداخلة عليه يفيد التعدّي عن أفراد الحقيقة.

وبهذا القياس ما إذا أريد به بعض أفراد الحقيقة ، كقوله تعالى ( فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوّابِينَ غَفُوراً ) (١) ، فإنّه لاستغراق التوّابين الذين هم بعض أفراد المعنى الحقيقي ، ومن هذا قولهم جمع الأمير الصاغة ، أي صاغة بلده أو مملكته ، فلا تجوّز في الاستغراق بل التقييد في الصاغة بقرينة العادة.

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٢٥.

٢٢

فالوجه الأخير يشارك الأوّل في استغراق أفراد ما استعمل فيه المدخول واستدعاء إخراج المشكوك فيه عن الاستغراق الدليل ، على خلاف الثانى ، فإنّ إدخاله يطالب الدليل اقتصارا على القدر المعلوم من العهد. وإذا كان المعهود نوعا يقتصر فيه على النوع المعلوم ، إلّا أنّه يفيد العموم بالنسبة إلى النوع المعلوم ، ولكنّه أيضا عموم إطلاقيّ لا وضعيّ.

ويشارك الثانى في جواز خروج أكثر أفراد معنى المدخول ، نظرا إلى كونه من باب التقييد الغير الممتنع منه ذلك لا التخصيص ، على خلاف الأوّل.

ثمّ إنّ تشخيص كون إرادة البعض من لفظ الجمع المحلّى من أيّ تلك الوجوه يمكن بملاحظة الدليل المخرج على حسب فهم العرف.

فإنّه على العهد لا بدّ أن يكون ذلك عهدا بين المتكلم والسامع ، بحيث يصلح لانصراف اللفظ إليه مع متفاهم أهل العرف والإشارة باللام إليه ، سواء كان هو حضور المعهود نحو ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ ) (١) ، أو ذكره صريحا كقوله تعالى : ( الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ ) (٢) ، أو مكنيّا عنه كقوله تعالى ( لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى ) (٣) ، والعهد الذكري يعمّ المتصل وغيره.

ومنه ما إذا قال المولى لعبده : اكنس كلّ يوم البيت الفلاني والفلاني إلى خمسة مثلا وفي داره عشرون بيتا ، ثم قال له يوما : اكنس البيوت فاذهب إلى السوق ، فإنّه ظاهر في الخمسة المعهودة ، والمناط فهم العرف ، فلو لم يفهم منه العهد وإن سبق ذكره لا ينصرف إليه ، كقوله تعالى ( جاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ

__________________

(١) المائدة (٥) : ٣.

(٢) النور (٢٤) : ٣٥.

(٣) آل عمران (٣) : ٣٦.

٢٣

زَهُوقاً ) (١) ، باعتبار ظهوره في العلة المناسبة للعموم.

وعلى التقييد يلزم أن يكون علّة خروج البعض عدم انصراف لفظ المدخول إليه عرفا عند الإطلاق ، إمّا مطلقا ، كما إذا غلب استعماله في البعض الآخر ، ولو مع وقوعه في صيغ العموم باعتبار شذوذ غيره ، أو في خصوص المورد ، كما في جمع الأمير الصاغة ، فإنّ المفهوم منه عرفا صاغة بلده أو مملكته لا جميع أهل الدنيا ، ولعلّه لهذا يسمّيه أهل البيان بالاستغراق العرفي.

وفي غير الصورتين يكون خروج البعض من باب التخصيص.

ولو شكّ في مورد أنّ خروج البعض من باب العهد أو تقييد المدخول فمقتضى الأصل كونه من الثاني ، لاشتراكهما في تجوّز لفظ المدخول ولزوم التجوّز في اللام على العهد أيضا دون التقييد.

وإذ علمت ذلك نقول : فقد عرفت أنّه لا يصحّ البناء على العموم والتخصيص في الآية ، لاستلزامه تخصيص الأكثر ، فلا بدّ إمّا حمل اللام على العهد أو على الاستغراق وارتكابه التقييد في المدخول ، والظاهر كما ذكره والدي العلّامة ، أنّ تقدّم طلب بعض أفراد الجمع المحلّى على إظهار الطلب ثانيا باللفظ الدال على الجميع ممّا يظنّ معه إرادة الأفراد المتقدّمة ، ولا أقلّ من صلاحيّة كونه قرينة لإرادتها ، كما في الأمر بكنس البيوت في المثال المتقدّم ، والآية من هذا الباب ، لأنّها في سورة المائدة وهي على ما ذكره المفسّرون آخر السور المنزلة ، أو المنزلة في أواخر عهد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقد علم من الشارع قبل نزولها في جملة عهود الله سبحانه عقود مقرّرة منه تعالى بين الناس بعضهم مع بعض من معاملاتهم المتداولة ، فتقدم طلب الوفاء بتلك العقود يورث الظن بإرادتها خاصة من بين مطلق العقود ، ولا أقلّ من كونه قرينة

__________________

(١) الإسراء (١٧) : ٨١.

٢٤

لتعيين المعنى المجازي بعد صرف اللفظ عن العموم المحذور فيه ، سيما مع تعاضدها بقرينة تعقبها بقوله تعالى ( أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ ) (١) ، الآية ، فإنّه يشعر كون المراد بالعقود أمثال تلك الأحكام المفصّلة الموظفة قبل الخطاب ، كما في الكشاف.

ويؤيّده أيضا عدم ذكر عقد آخر في الروايات المرويّة عن الحجج الطاهرة من بعد النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير ما هو المتداول عند الفقهاء الموظف بخصوصه ، فبملاحظة أمثال ذلك يتعيّن حمل العقود بعد تعذّر الحقيقة على ما تقدّم توظيفه قبل الآية.

فأمّا أنّه هل هو من باب التقييد واللام على الاستغراق ، أو من باب العهد ، فيه احتمالان ، والقرينة العرفية المذكورة صالحة للأمرين ، حسب ما مرّ ، لإمكان جعل اللام إشارة إلى هذا البعض بقرينة سبق العهد ، أو كونها على حقيقتها أي الاستغراق وتقييد المدخول بقرينة انصراف اللفظ إليه ، إلّا أنّ أصل الحقيقة في اللام يرجّح التقييد ، ويكون معنى الآية وجوب الوفاء بجميع أفراد العهود الموثقة المقررة قبل الخطاب ، فصحّ الاستدلال بها على نفي ما شك في اشتراطه أو مانعيته في العقود الموظفة ، دون غير معلوم التوظيف.

فإن قلت : الموظفة هي الجامعة للشرائط فلا يتمّ تقريب الاستدلال.

قلت : توظيف الشرائط لا يمنع عن توظيف الماهيّة أعني جنس الموظفة ، فيرجع الشك إلى أنّ المراد جنس الموظّفة أو هي منضمّة إلى الشرائط المقرّرة ، فليقتصر على القدر المتيقّن من القيد ، وهو الأوّل على البناء على التقييد الذي عرفت أنه مقتضى الأصل ، والقرينة العرفية لا يقتضي أزيد منه ، فمقتضى الأمر الوفاء بجميع أفراده ، إلّا ما ثبت خروجه بدليل.

فإن قلت : لا شكّ في حصول العلم بكثير من الأفراد الصحيحة قبل نزول الآية ،

__________________

(١) المائدة (٥) : ١.

٢٥

ولازمه حمل الأمر بالنسبة إليها على التأكيد ، من قبيل الأمر بالمعروف ، وإلى غيرها من سائر الأفراد على التأسيس ، فيلزم استعمال الأمر في المعنيين ، وهو غير معلوم الرخصة ، بل صرّح بعضهم بعدم جوازه من قبيل استعمال المشترك في معنييه.

قلت : تجدّد الأمر ولو من باب التأكيد لا يوجب خروج الأمر عن حقيقته ، ولا ينافيه تعلق الطلب به سابقا ، فلا يتعدّد المعنى بتعلّق الأمر به وبغيره ثانيا ، وهل تجد محذورا في قول الآمر : أكرم زيدا وعمروا ، بعد ما قال قبله : أكرم زيدا.

واختلاف جهة التعلق بهما من التأسيس والتأكيد لا يوجب تعدّد المستعمل فيه واختلافه ، ولا يثبت منعه ، ومقتضى الأصل صحّة الاستعمال على مقتضى الوضع ، مع أنّه يمكن الحمل على التأسيسي بالنسبة إلى المعلوم ، فيكون كلّه من باب التأسيس.

هذا ويمكن تصحيح الاستدلال على نفي الاشتراط في محلّ الخلاف على حمل اللام على العهد أيضا ، بأن يقال : مجرّد التوظيف قبل الخطاب غير كاف لكونه قرينة العهد ، بل يشترط علم جميع المخاطبين بالآية بالمعهود ، ليصلح للقرينة ، وهو غير معلوم إلّا بالنسبة إلى أجناس تلك العقود الموظفة في الجملة ، لا بجميع كيفياتها المخصوصة وشرائطها الواقعية ، بل الظاهر بحكم الحدس والاعتبار مضافا إلى الأصل عدم علم الجميع بها ، كيف وهي بعد معركة الآراء ومختلف العلماء ، ولو كانت شائعة عند جميع الناس من العوام والخواص لكانت معروفة في الأنظار المتلاحقة ومتداولة في الأيدي المتواصلة من الأصحاب فالتابعين فالعلماء إلى الآن ، واشتهرت في الأخبار الواردة عن الأطهار ، مع توفّر الدواعي على النقل والانتشار ، ولم يكن موردا للخلاف بين الأسلاف والأخلاف.

فالقدر المعهود من العقود الذي صحّت الإشارة إليه باللام هو أجناسها الموظفة ، دون الكيفيات والخصوصيات ، وتعلّق الأمر بها لا يوجب حملها على الصحيحة ،

٢٦

كجواز تعلق الأمر بالأعمّ وبيان الشرط في خطاب آخر. كما هو الجواب عن اعتراض الصحيحي على القائل بالأعم في أسامى العبادات والمعاملات المتعلّقة للأوامر الشرعية ، فإنّ صدق العام لا ينافي ثبوت الخاصّ ، فيستدلّ بالأمر بها على صحّة جميع أفراد الماهيّة.

فإن قلت : يصحّ ذلك في الماهيّة العامة لا المجملة المبهمة ، فلا يمكن الاستدلال بها على الفرد المشكوك فيه.

قلت : نعم ، ولكنّ الماهيّة المبهمة داخلة في مطلق الماهيّة لصدقه عليها ، كما يصدق على المطلقة والمشروطة ، فلا ينافي صدق الماهيّة على المبهمة مع عدم ملاحظة الشرط ، وإن كانت مشروطة في الواقع ، كما يصدق قولنا : جاء الرجل ، أي ماهيّته إذا جاء زيد ، وحيث إنّ المفروض تعلّق الأمر في الآية بالمعهود ، وهو مجرّد الجنس دون الخصوصيات والشرائط ، وإن احتمل ثبوت الشرط وبيانه في خطاب آخر ، فمقتضاه بضميمة أصل عدم الاشتراط ، تأسيس صحّة جميع ما صدق عليه الجنس المعهود ، وصحّ الاستدلال به على مورد الشك ، فليتأمّل.

وكيف كان فحاصل الكلام مما تلوناه صحّة الاستدلال بالآية على صحّة العقود الموظفة إذا شك في شرطية شي‌ء أو مانعيته ، إلّا إذا رجع الشك إلى المعنى الأعمّ وصدق نفس الماهيّة ، فلم يصحّ الاستدلال حينئذ.

تتميم : ما ذكرنا هو الكلام في كيفية الاستدلال بالآية على صحّة العقود ، وأمّا على لزومها باعتبار الأمر بالإيفاء ، فيظهر منه الاختلاف فيه أيضا من كلام جماعة ، فعن بعضهم تفسير الأمر بالإيفاء على لزوم نفس العقد ووجوب الالتزام به إلّا ما ثبت خروجه بدليل ، فيكون منافيا لجواز العقد ، وعن آخر بالعمل على مقتضى العقد ما دام باقيا ، فلا ينافي جواز بعض العقود ، كالشركة والمضاربة وغيرهما ، وعن

٢٧

ثالث بوجوب اعتقاد لزوم اللازم وجواز الجائز ، وعن رابع حمله على الرخصة ونفي الحظر.

أقول : قد علمت أن المراد بالعقود أجناس العقود الموظفة بخصوصها ، فمعنى الوفاء بها الذي تعلّق به الأمر ترتّب الأثر على العقد على حسب توظيفه ، فقد يكون الأثر مقيّدا بمدّة معينة كالإجارة والنكاح المنقطع ، وقد يكون مستداما بحيث لا ينقطع بسبب متجدّد ، كالتحرير والوقف على الجهة ، وقد يكون مستداما إلى أن يتجدّد السبب ، فقدره (١) على أن يزول به ، وهذا السبب إمّا مما هو ليس لقصد المتعاقدين مدخل في زوال الأثر به ، كالارتداد للزوجية في النكاح الدائم ، أو له مدخل ، إمّا من أحدهما كالطلاق والفسخ من ذي الخيار ، أو بشرط توافقهما كالإقالة ، فمعنى الوفاء بالعقد ترتّب الأثر على حسب ما قدر في الشرع من أحد هذه الوجوه ، فلا ينافي وجوب الوفاء بمقتضى العقد لشرعية السبب الرافع وزوال الأثر به ، وينقدح من هذا أن الآية لا تدلّ على لزوم العقد ، بل على مجرّد تأسيس الصحّة ، وإن أفاده الاستصحاب عند الشك في السبب المزيل ، وأنّ الصواب هو التفسير الثاني مع ما في الأخيرين من تجوّز بعيد يدفعه الأصل.

المطلب الثالث : في بيان ما يقتضيه الأصل من لزوم الصيغة أو عدمه في المعاملات ، ثم ما يقتضيه على تقدير اللزوم في شرائطها من الخصوصيات والكيفيات الخاصّة ، فهنا بحثان :

البحث الأوّل : في أنّه هل يلزم الصيغة أو يكفي المعاطاة.

فنقول : قد تبيّن في المطلب الأوّل أصالة فساد العقود والمعاملات أوّلا ، وفي الثاني انقلاب هذا الأصل في العقود الموظفة المعلومة بأجناسها إلى أصل الصحّة ، وعلى هذا فالشكّ إن رجع

__________________

(١) كذا.

٢٨

إلى نفس الماهيّة وصدقها على محلّ الشكّ يحكم بالفساد ، لعدم ما يخرج به عن الأصل الأوّلي ، وإن رجع إلى الخصوصيات والكيفيات الزائدة يحكم بالصحة.

فالمعاملة الشرعية ، إمّا يكون ممّا علم مدخلية الصيغة المخصوصة في انعقاده كالنكاح والطلاق ونحوهما ، أو يعلم عدمها كالعارية ونحوها ، فلا كلام. وإن شكّ فيها أو في مطلق اللفظ ، فإمّا يعلم أن ماهيّته الموظفة غير معناه اللغوي كاللعان والظهار ونحوهما ، سواء علم لها حقيقة شرعية أم لا ، أو لا يعلم ذلك. وعلى الثاني ، فإمّا ليس هنا إطلاق لفظي من الكتاب أو الأخبار دلّ على شرعيته ، أو فيه إطلاق كذلك.

مقتضى الأصل في جميع الصور الفساد عدا الأخيرة ، إذا الشكّ في غيرها يرجع إلى نفس الماهيّة وصدق الموظفة على المجرّد عن الصيغة ، سيما على قول من يجعل المعاملة نفس الإيجاب والقبول ، وفي إطلاق العقد على المعاملة في عرف المتشرعة إشعار بالمدخلية ، فإنّ الصيغة بمنزلة عقدة الحبل يشدّ به عهد المتعاملين ، ولذا شاع استعمال العقد في الصيغة.

ويؤيده ما ذكره بعض المحققين في حكمه بتوقّف انعقاد المعاملات عليها ، من قصور الأفعال عن المقاصد الباطنية ، كالتمليك والتملّك والإنشاء والرضا ، وغايتها إفادة مطلق الظنّ ، ولا يغني (١) بعموم المنع (٢) والاتّفاق على توقف الأسباب الشرعية على العلم أو الظنّ المعتبر شرعا ، ومن أنّ المعاملات شرعت لنظام أمر المعاش ، وهي مثار الاختلاف ومنشأ التنازع والتراجع ، فيجب ضبطها بالأمر الظاهر الكاشف عما في الضمير ، وإن كان نقضا للغرض الداعي إلى وضعها في الشريعة ، والقيّم بذلك هو البيان المعبّر عمّا في الضمير بسهولة دون غيره ، ولذا قرن سبحانه هذه النعمة بنعمة الإيجاد في محكم الكتاب وقد جرت عادة الشارع في جميع المواضع

__________________

(١) مطلق الظنّ ( خ ).

(٢) أي بسبب عموم المنع.

٢٩

بإناطة الأحكام بأسبابها الظاهرة ، والكشف عنها في مقام الالتباس بالطرق المعهودة الميسّرة لعامة الناس ، وجعل المدار في المعاملات على العقود ، انتهى.

وأمّا في الأخيرة فمقتضى أصل الحقيقة الحمل على المعنى اللغوي على كون بيان الشرع بتقرير ما تداول بين الناس قبل الشرع ، كما تقدّم بيانه ، فيقتضي الإطلاق عدم اشتراط الصيغة إلّا أن يدلّ دليل على الاشتراط في الصحّة أو اللزوم ، كما لعله الإجماع في اللزوم ، كما سنشير إليه ، وذلك كالبيع الذي دلّ على شرعيته إطلاق قوله سبحانه ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) ونحوه ، المحتمل لكونه باقيا على معناه اللغوي والعرفي ، الذي يعمّ مجرّد التقابض لقصد البيع الخالي عن الصيغة ، للتبادر وعدم صحّة السلب المثبت للغة ، بضميمة أصل عدم النقل.

ومن هذا نشأ الخلاف المشهور في صحّة المعاطاة في البيع وعدمها ، بل مال بعض المحققين إلى لزومها ، وحيث طال فيها التشاجر والتنازع ، رأيت أن أبيّن جليّة الحال فيها ، فنقول : اختلفوا في التقابض والمعاطاة على وجه المعاوضة من دون صيغة على أقوال :

الأوّل : أنّه بيع لازم نسب إلى المفيد فيما قال : « وينعقد البيع على تراض بين الاثنين فيما يملكان التبايع له إذا عرفاه جميعا ورضيا بالبيع وتقابضا وافترقا بالأبدان » (١).

وفي المسالك (٢) إلى بعض معاصريه إلّا أنّه اشترط كون الدال على الرضا لفظا.

واختاره من متأخري المتأخرين المحقق الأردبيلي (٣) ووالدي العلّامة (٤) ، وفاقا

__________________

(١) المقنعة : ٥٩١.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ١٤٧.

(٣) مجمع الفائدة والبرهان ٨ : ١٣٩.

(٤) مستند الشيعة ٢ : ٣٦١.

٣٠

من أهل الخلاف لأحمد بن حنبل ومالك مطلقا ، ولبعض الحنفية والشافعية وابن شريح في الحقير (١).

وأنكر بعضهم كونه قول المفيد ناقلا هو وغيره الإجماع بل ظاهر المذهب على خلافه ، بل وربما نسب إليه اعتبار اللفظ المخصوص في البيع وعدم كونه بيعا عنده.

وفي المختلف (٢) : « للمفيد قول يوهم الجواز » ، ثم حكى كلامه المتقدّم ، وقال : « ليس في هذا تصريح بصحّته إلّا أنّه يوهم ». والإنصاف أنّه غير خال عن الظهور في الصحّة وإن لم يكن صريحا.

الثاني : أنّه بيع غير لازم ، ذهب إليه المحقق الكركي (٣) وجماعة (٤) ، بل ظاهر الأوّل الإجماع عليه ، حيث قال : « المعروف بين الأصحاب أنّها أي المعاطاة بيع ، وإن لم يكن كالعقد في اللزوم ، خلافا لظاهر عبارة المفيد ، ولا يقول أحد من الأصحاب أنّه بيع فاسد سوى المصنف في النهاية (٥) وقد رجع عنه في كتبه المتأخرة عنها ، وقول الله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٦) يتناولها ، لأنّها بيع ، للاتفاق حتى من القائلين بفسادها ، وعليه يتنزّل القول بإفادتها الإباحة لوجوه ذكرها في جامع المقاصد (٧).

__________________

(١) الفقه على المذاهب الأربعة ٢ : ١٥٦ ؛ الروضة للنووي ٣ : ٣٣٦ ؛ فتح القدير ٦ : ٢٥٢ ؛ المغني لابن قدامة ٣ : ٥٦٢ ؛ حلية العلماء في معرفة مذاهب الفقهاء ٤ : ١٣.

(٢) مختلف الشيعة ٥ : ٥١.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٤) تحرير الأحكام ١ : ١٦٤.

(٥) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٩.

(٦) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٧) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

٣١

الثالث : أنّه ليس بيعا وإنما يفيد إباحة محضة ، اختاره في المبسوط (١) والخلاف (٢) والسرائر (٣) والتنقيح (٤) والغنية (٥) والمسالك (٦) والدروس (٧) والروضة (٨) وفي الخامس : الإجماع عليه ، وفي المستند (٩) : المشهور عدم كونه بيعا ، وفي الأوّلين : كاد أن يكون إجماعا ، وإن لم يتحقّق منهم منع إفادته الملك.

الرابع : أنّه بيع فاسد ، نسب إلى الفاضل في النهاية (١٠).

الخامس : أنّه معاملة مستقلّة مفيدة للملك المتزلزل ، مال إليه بعضهم وهو محتمل به.

هذا ما تحقق لي من الأقوال ، وقال بعض مشايخ من عاصرناه : « إنّ محلّ النزاع غير محرّر ، وكلماتهم فيه مشتبهة أو مختلطة ، بل ربما ترى منهم نقل الإجماع على طرفي الضدّ حتى من فقيه واحد ، فإنّ النزاع إن كان في المعاطاة مع قصد البيع ، فهي على القول باشتراط الصيغة معاملة فاسدة ، كما نسب القول بها إلى النهاية (١١) ، لأنّها

__________________

(١) المبسوط ٢ : ٧٦.

(٢) الخلاف ٣ : ٧.

(٣) السرائر ٢ : ٢٤٤.

(٤) التنقيح الرائع ٢ : ٢٢.

(٥) غنية النزوع ١ : ٢١٤.

(٦) مسالك الأفهام ١ : ١٣٣.

(٧) الدروس الشرعية ٣ : ١٩٢.

(٨) الروضة البهية ٣ : ٢٢٢.

(٩) مستند الشيعة ٣ : ٣٦١.

(١٠) نهاية الإحكام ٢ : ٤٤٩.

(١١) نفس المصدر.

٣٢

تابعة بما اتفقاه ، فلا يفيد الإباحة ، كما أشار إليه الكركي (١) في نفي الاشتراط ، قائلا : « بأنّ المقصود من المتعاطيين إنّما هو الملك ، فإذا لم يحصل كانت فاسدة ، ولم يجز التصرف في العين ، وكافة الأصحاب على خلافه ». انتهى.

وعلى القول بعدم اشتراط الصيغة كانت بيعا صحيحا ، فلم يبق للقول بالإباحة المشهور بينهم محلّ في المسألة.

وإن كان الخلاف فيها مجرّدا عن قصد البيع فهي ليست بيعا قطعا ، ويفيد الإباحة قولا واحدا ، إذ الظاهر عدم الخلاف في مشروعيته حينئذ ولو على جهة المبادلة ، وأيضا لم يتحقّق منهم أنّ الخلاف في المعاطاة هو فيما يتحقّق فيه سائر شرائط البيع عدا الصيغة ، كما هو صريح المسالك (٢). ولازم كونه بيعا ، أو يعمّ غيره ، كما هو لازم تعليقهم الإباحة بحصول التراضي ، مضافا إلى ما نقل عنهم من عدم اشتراط قبض المجلس في معاملة النقدين في المعاطاة.

وعن الشهيد في القواعد (٣) تجويز جهالة العوضين فيها ، وأيضا قولهم بأنّ المعاطاة بيع صحيح أو فاسد أو إباحة مطلق في المقام ، مع أنّ جماعة ذكروا فيه وغيرهم في غيره : أنها تأتي في غير البيع أيضا من العقود المعوضة العينية كالصلح والهبة المعوّضة ، ونحوهما. انتهى كلامه. أقول : هذه الإشكالات لا محلّ لها ، فإنّ النزاع في إمكان إيقاع البيع على وجه المعاطاة وعدمه ، فمن قال بالأوّل ، وهو من لم يشترط الصيغة ، يقول باشتراط قصد البيع وسائر الشروط عدا الصيغة عند إرادة البيع بها ، ومن قال بالثاني لا يجوز قصده منها ، ويقول : لا يصلح لغير الإباحة ، وإن لم يستجمع شرائط البيع فلا يقصد منها البيع ، وهكذا في سائر العقود.

__________________

(١) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٢) مسالك الأفهام ٣ : ١٤٧.

(٣) لم نقف عليه ، ولكن بحث عن الغرر في القواعد والفوائد ٢ : ٦١.

٣٣

نعم ، هنا كلام آخر ، هو أنّه على كفاية التقابض في البيع ، فهل يلزم قصد البيع منه ، أو ينصرف إليه مجرّدا عن القصد؟ وسنشير إليه في آخر البحث. وكيف كان ، فالأقوى عدم اشتراط الصيغة في الصحّة ، وإفادة مطلق الملك ، واشتراطها في اللزوم.

أمّا الأوّل ، فلوجوه :

أحدها : إطلاق البيع في العرف والعادة على التقابض بقصد التمليك بغير الألفاظ المخصوصة المقصودة بها إنشاء البيع إطلاقا شائعا لا يصحّ سلبه عنه ، فيثبت به الحقيقة عرفا ، وبضميمة الأصل ، لغة ، فيحمل عليه ما في الكتاب والسنّة ، لعدم ثبوت الحقيقة الشرعية ، بل الظاهر كما عليه الإجماع في المصابيح عدمها ، فيتناوله عموم قوله تعالى ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (١) ونحوه ، مثل ما في صحيح جميل وغيره : « من ابتاع شيئا فهو له » (٢).

وثانيها : جريان السيرة القطعية المستمرّة على معاملة المأخوذ حسب المعاطاة معاملة الأملاك عينا وثمنا في جميع التصرّفات التي منها ما لا يصحّ وقوعه إلّا من المالك ، كالنقل والعتق ووطء الجارية ونحوها ، وغير التصرّفات ، كالإرث والفقر والغنى واستطاعة الحج والزكاة والخمس وغيرها ، معتضدا بنقل الإجماع المتقدّم عن الكركي (٣) والظاهر من غيره على كونه بيعا.

وثالثها : الإجماع القطعي على إباحة التصرف بها ، ولم ينقل الخلاف فيها إلّا عن الفاضل في النهاية (٤) ، وقد رجع عنه في كتبه المتأخرة (٥).

__________________

(١) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٢) لم نقف عليه بهذه العبارة.

(٣) جامع المقاصد ٤ : ٥٨.

(٤) نهاية الإحكام ٣ : ٤٤٩.

(٥) مختلف الشيعة ٥ : ٣٤٨.

٣٤

والإباحة هنا دليل الملك ، إذ المالك إنما أباحه بقصد الملك ، فلو لم يحصل الملك لم يبق الجواز.

واحتمال كونها معاملة مستقلّة يدفعه الأصل ، كما ستعلم ، مضافا إلى عدم قصده المتعاطي ، بل المعلوم من أحوال الناس في المعاملات المتداولة بينهم على سبيل المعاطاة في الأسواق وغيرها قصدهم التمليك على جهة المبايعة.

ومن هذا يظهر وجه آخر ، وهو أنّ الصيغة لو كانت شرط الصحّة شرعا كانت تلك المعاملات المعاطاتية بيوعا فاسدة غير مجوّزة للتصرف ، لعدم كون الصيغة دخيلا في تحقّق المسمى اللغوي ، كما تبين ، ولا له حقيقة شرعية ، وكونها كذلك غير منقول من أحد من العلماء كما مرّ.

ورابعها : أنّه لو لم تفد المعاطاة الملك مع ما فيها من الشيوع واشتهار العمل على الملك بما لا مزيد له في جميع الأعصار والأمصار قديما وحديثا لوجب صدور المنع عنه من الأئمة ، بل تكرّره وتوافره ، ولو صدر لوصل إلينا ، لتوفر الدواعي ، فعدمه دليل العدم ، بل الثابت منهم بتقريرهم المعلوم لنا قطعا خلافه.

وخامسها : أنّه لو كانت المعاطاة للإباحة المحضة دون الملك لما اشترط فيها تعيين المبتاع ، كما في الإباحة المجّانية ، مثل نثار العرس ، والظاهر أنّهم لا يقولون به ، ويؤيّد المطلوب بل لا يبعد جعله دليلا اتفاقهم على اللزوم بعد التصرف المتلف ، لاستبعاد كون تلف المال مملّكا للعوض المسمّى ، خصوصا مع حصرهم النواقل المملّكة فيما ليس هو منه.

وأمّا الثاني ، أي اشتراط الصيغة في اللزوم ، فلوجهين :

أحدهما : ظهور الإجماع المعتضد بسيرة الأصحاب في المحافظة على ذكر الصيغ الخاصّة وضبط ألفاظها والمداقة فيها واهتمامهم في ذكر الخلاف في

٣٥

خصوصيات الصيغة ، من غير إشارة إلى الخلاف في أصلها ، ولا ذكر دليل عليه ، المشعر بكونه منزلا عندهم منزلة المسلّمات القطعية ، بل قيل أنّه من الضروريات التي استغنت بذلك عن ذكرها في النصوص وغيرها ، كما يؤمي إليه خلوّه عن ذكره فيما لا إشكال في اعتبارها فيه ، كالنكاح والطلاق ونحوهما.

ولم ينقل الخلاف فيمن تأخّر إلّا عمّن ذكر (١) ، والإجماع منعقد من قبله ، وعن بعض معاصري الشهيد الثاني ، وهو مع شرطه مطلق اللفظ محافظة على حصر التمليك والتحريم بالكلام ، للخبر الآتي القاصر عن إفادته ، لا شريك له ظاهرا ، ومتروك بالشذوذ فيمن تقدّم عن غير المفيد ، وكلامه كما ترى غير صريح فيه لظهوره في بيان شرائط صحّة البيع ولزومه ما لا ينعقد به (٢) ، وترك تعرّضه للتعويل على معلومية اعتبارها ، كما لم يتعرّض لها في مثل النكاح والطلاق أيضا ، ويقوّي ذلك نقل بعضهم (٣) عنه اعتبار اللفظ في البيع.

وثانيهما : استصحاب عدم اللزوم ، فإنّ اللزوم قيد وجوديّ زائد على مطلق الملك ينفيه الأصل ، ولا هكذا تزلزل الملك ، فإنّه لازم الماهيّة أعني مطلق الملك ، من قبيل الماهيّة في مسألة المرة والتكرار في الأمر الموافقة للمرّة.

لا يقال : إنّ الملك بنفسه مقتض لبقائه ، لا يرتفع إلّا برافع ، فارتفاعه به ـ وهو معنى التزلزل ـ أمر جديد يحتاج إلى جعل شرعيّ ينفيه الأصل.

لأنّا نقول : زوال الملك وانفساخه برجوع المالك ، قد يكون من جهة تزلزل الملك وعدم تماميته وعدم ارتفاع سلطنة المالك بالمرة في مقابل المستقر ، فكان

__________________

(١) المقنعة : ٥٩١.

(٢) لا ما ينعقد به ( صح ظ ).

(٣) مسالك الأفهام ٣ : ١٤٧.

٣٦

بحيث له الرجوع متى شاء ، كما في محل البحث ، ويؤمي إليه إطلاق التزلزل عليه دون الخيار ، وإلى ما ذكرنا ينظر ما قيل من أنّ الملك مقول بالتشكيك قابل للشدة والضعف ، وقد يكون لدليل خارج عن مقتضى المعاملة من شرط أو جبر ضرر أو تعبد ، كما في الخيارات.

والمقتضي لجواز الرجوع في الأوّل هو نقصان الملك ، فليس بأمر زائد عن مطلق الملك ، وإن كان زواله من أثر الرجوع ، بخلاف الثاني.

فإن قلت : لا شبهة في أنّ زوال مطلق الملك أمر متجدّد مسبّب عن الرجوع ومقتضى الاستصحاب بقاؤه وعدم زواله به عند الشك.

قلت : حيث ثبت بالاستصحاب المتقدّم اقتضاء الملك المستفاد من المعاطاة جواز الرجوع وزواله به ، ينتقض به استصحاب البقاء ، ويكون تعارض الاستصحابين من باب تعارض المزيل والمزال ، إذ الأوّل سبب لزوال مقتضى الثاني دون العكس ، بل هو على تقدير ثبوته كاشف عن خلاف السبب مقدّم على الكاشف كما حقّقناه في مقامه ، فهو من قبيل ما إذا وجدت رطوبة في الثوب محتملة للقلّة التي يتجفّف في ساعة ، والكثرة التي لا يتجفّف فيها ، فشكّ بعد الساعة في حصول الجفاف ، فإنّه يبنى فيها على استصحاب عدم الكثرة المقتضي للجفاف ، لا استصحاب الرطوبة الكاشفة عن الكثرة.

واحتجّ من اشترط الصيغة لمطلق الملك بوجوه :

منها : ما في عدة أخبار باختلاف يسير ، إنّما يحلّل الكلام ويحرّم الكلام (١).

والجواب : أنّ المقصود بالاستدلال ، إن كان مطلق الحلّ ، فهو يحصل بالإباحة

__________________

(١) وسائل الشيعة ١٨ : ٤٨ ، الباب ٨ من أبواب أحكام العقود ، الرواية ٢٣١١٤ ؛ الكافي ٥ : ٢٠١ ؛ التهذيب ٧ : ٥٠.

٣٧

التي يكتفي فيها بالأفعال وإذن شاهد الحال إجماعا ، وإن كان الحلّ على وجه الملك فلا يساعده اللفظ ، وموارد التعليل به في الأخبار غير دالّة عليه ، بل هي في إرادة دوران اللزوم بالكلام دون الصحة ، كما فهمه صاحب الوافي (١) أوفق وأظهر ، مضافا إلى أنّ مطلق الكلام أعمّ من الصيغة الشرعية ، وتخصيصه بها ليس أولى من التقييد بما إذا انحصر طريق فهم المراد والقصد باللفظ ، ويمكن أن يكون ذكر الكلام من باب التغليب ، والمقصود ما يفهم منه القصد والرضا.

ومنها : ظهور الاتفاق على جريان حكم البيع الفاسد على البيع بالصيغ الباطلة ، ولو أنّ المعاطاة كانت بيعا لزم كونه صحيحا بالصيغة الباطلة ، لخروج الصيغة عن حقيقته.

والجواب : أوّلا أنّ إفادة المعاطاة الملك على القول بها إنّما هي إذا قصد بالتقابض البيع ، فإذا اقترن بالصيغة لم يقصد به إنشاء البيع فلا يحصل الملك بالتقابض حينئذ قولا واحدا ، سيما إذا تأخّر التقابض عن الصيغة ، فإنّه يكون حينئذ من باب تسليم مال الغير إليه ، بل يقصد البيع حينئذ بنفس الصيغة ، فإذا فسدت لم يؤثر هي في الملك أيضا ، فلا يحصل الانتقال أصلا.

والحاصل : أنّ البيع عند القائل بالمعاطاة قسمان :

قسم فيه إنشاء النقل بالصيغة وآخر بالتقابض ، فإذا قصد الإنشاء بالأوّل لزم كون الصيغة صحيحة.

وثانيا أنّه لو سلّم ذلك فهو يرد على القول بالملك اللازم ، إذ على القول بالمتزلزل كان اللزوم أثر الصيغة ، فإذا فسدت لم يلزم ، وحيث إنّ المقصود بالمعاملة إذا اقترنت بها ، الملك اللازم وعليه التراضي ، فإذا بطلت بطل أصل المعاملة.

__________________

(١) الوافي ١٨ : ٧٠٠ ، الرواية ١٨١٤٤.

٣٨

ومنها : إطلاق كلامهم في تحقّق البيع بإشارة الأخرس ونحوه على وجه يكون كالبيع بالصيغة من غير إشارة إلى تبعيتها للعقد كالمعاطاة.

والجواب أنّ إشارة الأخرس تابعة لقصده ، فإن قصد بها العقد يتبعه حكمه ، ويكون البيع لازما ، وإلّا يتبع المعاطاة ، وغرضهم من الإطلاق بعد ذكر العقد هو الأوّل.

ومنها : فحوى ما دلّ على عدم جواز المعاطاة في النكاح والطلاق.

والجواب أنّه قياس باطل ، كما أنّه يجوز شرط الخيار فيه دونهما ، مع أنّه يعارضه القياس بالعقود الجائزة.

ومنها : ما في الدعائم (١) : « ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) في البيع والشراء والنكاح والخلع والصدقة ».

والجواب قصوره عن المدّعى سندا ودلالة من وجوه لا تخفى.

ومنها : معلومية اشتراط الصيغة من سيرة الأصحاب على ما أشرنا إليه.

والجواب أنّ المعلوم منها اشتراطها في البيع اللازم دون الصحيح المتزلزل.

حجّة من ذهب إلى إفادة المعاطاة اللزوم ، ولم يشترط الصيغة صدق البيع والتجارة عن تراض على المعاطاة في قوله عزوجل ( أَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ ) (٢) و ( إِلّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ ) (٣).

وإطلاق الأخبار النافية للخيار ، منطوقا ومفهوما عما يصدق عليه البيع ، كقوله عليه‌السلام : « البيّعان بالخيار ما لم يفترقا » وقوله : « وإذا افترقا فلا خيار بعد الرضا منهما » ، أو « فقد وجب البيع » (٤) ونحوها من أخبار خيار الشرط والعيب.

__________________

(١) دعائم الإسلام ٣ : ٥٣ ، الفصل ٥ من كتاب البيوع والأحكام فيها.

(٢) البقرة (٢) : ٢٧٥.

(٣) النساء (٤) : ٢٩.

(٤) وسائل الشيعة ١٨ : ٦ ، الباب ١ من أبواب الخيار ، الرواية ٢٣٠١٣.

٣٩

والجواب عن الآيتين عدم الدلالة على اللزوم ، بل على مجرد الصحّة ، وعن إطلاق الأخبار بظهوره في إرادة الخيار من حيث المجلس أو الشرط أو العيب ، وبالجملة هو في بيان سببية تلك الأسباب للخيار ، وهو لا ينافي ثبوته في بعض أفراد البيع لجهة أخرى ، فهو من قبيل إن قبضت في المجلس صحّ الصرف ، مع أنّه يمكن فساده من جهة أخرى ، فإنّ غرض المتكلّم من مثل هذا الكلام على ما هو المتبادر والمنساق إلى الأذهان من السياق بيان مجرد شرطية الأوّل للثاني ، مع الفراغ عن وجود سائر أجزاء العلّة.

تتميمات :

الأوّل : المعاطاة يمكن تصويرها على وجوه :

أحدها : أن يقصد بها الإباحة بعوض والتسليط على التصرف كيف شاء ، ولو بالإتلاف من غير تضمين ، دون الملك ولا شبهة في مشروعيتها حينئذ على وجه المبادلة ، لعموم « الناس مسلطون » (١) وحلّية مال المرء بطيب نفسه ، ولا خلاف فيه ظاهرا ، ولا في عدم إفادتها الملك ، ولا في عدم ضمان العوض مع التلف ، كما في الإباحة المجانية في نثار العرس ، ومقتضاها عدم صحة التصرفات المتوقفة على الملك ، كالعتق والوطء والبيع لنفسه ونحوها ، فإنّ مجرّد تسليط المالك ولو على أمثال تلك التصرفات لا يوجب صحّتها شرعا ، بل يتوقف على التوقيف الشرعيّ ، واتفاقهم على صحّته في المعاطاة لا يوجبها في محلّ الفرض ، فإنّ من المجمعين من يقول بإفادتها الملك لكونه بيعا أو معاملة مستقلّة ، وهو مناط صحّة هذه التصرفات الملكية عنده ، فلا يقول بصحّتها في مثل تلك المعاطاة التي لا تفيده اتفاقا.

__________________

(١) بحار الأنوار ٢ : ٢٧٢ ؛ عوالي اللآلي ١ : ٤٥٧ ، الحديث ١٩٨.

٤٠