مشارق الأحكام

المولى عبد الصاحب محمد النراقي

مشارق الأحكام

المؤلف:

المولى عبد الصاحب محمد النراقي


المحقق: السيد حسين الوحدتي الشبيري
الموضوع : الفقه
الناشر: مؤتمر المولى مهدي النراقي
المطبعة: سلمان الفارسي
الطبعة: ٢
الصفحات: ٥٢٨

ـ أوّلا ـ ثبوت تلك القابلية من خارج أدلّة الصلح ، ثم الاستدلال بها على صحّة وقوعهما بالصلح. ومن ذلك ينقدح عدم جواز الصلح عن حق الرجوع في الطلاق الرجعي ، لعدم ثبوت اختيار الزوج شرعا في إسقاطه ، بل يقتضي أدلّة الرجوع من الكتاب والسنة عدمه ، لأنّها تدلّ على سببية رجوع الزوج في الطلاق الرجعي بأسبابه من الأفعال الدالّة عليه ، كالنظر إلى الزوجة ولمسها وتقبيلها ووطيها وإنكار الطلاق ونحوها ، لعود الزوجية على نحو تحقّقها بعقد النكاح ، وليس حقّ الرجوع غير هذا الحكم الوضعيّ الشرعيّ ، فلا يقع مورد الصلح حسب ما عرفت. ومجرّد إطلاق لفظ الحقّ لا يصحّح صلحه ، ولا يؤثر في الحكم الشرعيّ.

وهل تسلط الزوج على الرجوع إلّا كالتسلط على إحياء أرض الموات؟ فكما لا يصحّ صلح حقّ الإحياء قبل فعله ، ونحوه غيره من الأفعال التي جعلها الشارع أسبابا لآثار عائدة إلى الفاعل ، كذا لا يصحّ صلح حقّ الرجوع.

وإلحاقه بحقّ الخيار وحقّ الشفعة ونحوهما ، مما يصحّ الصلح عنه إجماعا ، قياس مع الفارق ، لما سمعت من كونهما من الحقوق المالية دونه ، مضافا إلى الإجماع الفارق بينهما.

٢٤١
٢٤٢

[ المشرق الحادي عشر ]

[ في بيان تعارض الاستصحابين وأقسامه ]

مشرق : في بيان تعارض الاستصحابين وأقسامه ، وحيث إنّ المقام من مزلات أقدام ، واختلاف سهام نقض وإبرام من أقوام ، ومنشأ ذلك ـ غالبا ـ عدم تنقيح مناط التعارض ، فينبغي أن نفصّل الكلام فيما يضبط به محلّ التعارض وما يرجح به أو يعمل بهما ، أو يتساقطان.

ولنبيّن أوّلا : ضابطة في بيان ما يتبع استصحاب المستصحب من الأحكام والآثار وما لا يتبعه.

فنقول : ما يستلزم الحكم المستصحب الواقعي ـ وجوديا كان أو عدميا ـ على وجوه ثلاثة ، لأنّه إمّا يكون من توابعه ولوازمه في الوجود عقلا أو شرعا أو عادة ، فكان المستصحب مقدّما عليه ذاتا وملزوما له ، كأن يكون علّة له أو جزء علة أو تتميما لعلّته ، أو يكون عكس ذلك. فكان المستصحب لازما ومسبوقا له ، أو هما متلازمان في الصدق ، لجهة خارجة عن ذاتهما ، أو لكونهما لازمين لملزوم واحد.

فإن كان الأوّل ، فإذا أثبت الملزوم بالاستصحاب ، فالظاهر ـ بل لا ينبغي الريب فيه ـ وجوب الحكم به بتبعية اللوازم للملزوم ، والمستصحب يستتبعه ، سواء كان

٢٤٣

الاستصحاب جاريا في نفس اللازم أيضا ، أم لا.

ففي استصحاب الملكية يحكم بتوابعها ، كصحّة البيع والإجارة والإعادة والانتقال إلى الوارث ، وغير ذلك مما يترتّب على الملك. وباستصحاب طهارة الماء ، بجواز شربه وصحّة الوضوء منه وتطهر ما يغسل به ، وغيرها من آثار الطهارة وتوابعها الشرعية.

والظاهر وقوع الإجماع عليه ، كما يستفاد من سيرة العلماء في الفقه والأصول ، وإن غفل عنه بعضهم في بعض صور تعارض الاستصحابين ، كما سننبّه عليه.

ومن تتبع كتب الأصحاب وروال طريقتهم في استنباط الأحكام ، لم يبق له تأمّل في اتفاقهم عليه. ووجهه ـ مضافا إلى الإجماع ـ أنه إذا علم سببية شي‌ء لأمر واستتباعه له وترتّبه عليه ، فعند الحكم بثبوته شرعا ـ ولو بدليل تعبديّ ـ يحكم بالسبب ـ ولو تعبّدا ـ أيضا ، تحقيقا لمعنى السببية والمتبوعية ، بل معنى استصحابه تعبّدا ليس إلّا ترتيب آثاره ولوازمه عليه ، بناء على بقائه.

ألا ترى أنه إذا قال الشارع : الماء الطاهر يرفع الحدث ، وإذا شككت في طهارة الماء ونجاسته فابن على طهارته ، يفهم منه كل أحد ثبوت الرافعية المذكورة له عند البناء على بقاءها.

ويدلّ عليه ـ أيضا ـ جملة من أخبار الاستصحاب ، كالمتضمّن لصحة الصلاة مع الثوب الذي شكّ في نجاسته بعد العلم بطهارته ، مع أن مقتضى الاستصحاب بقاء اشتغال الذمة بالصلاة ، وسيجي‌ء مزيد بيان فيه إن شاء الله.

وإن كان الثاني ، فالذي يقتضيه النظر عدم ثبوته باستصحاب اللازم ، فلا يحكم بالملزوم بمجرّده ، إلّا إذا أمكن الاستصحاب في نفس الملزوم ـ أيضا ـ فإذا نذر أن لا يجلس فاسقا ، صحّ استصحاب جواز المجالسة مع مجهول الفسق ، ولكن لا

٢٤٤

يحكم به بكونه عدلا مقبول الشهادة ، وجائز الاقتداء في الإمامة ، وإن دار الاحتمال في حقّه في كونه عادلا أو فاسقا في الواقع. والظاهر كونه إجماعيا أيضا. وسرّه : أنّ وجود التابع اللازم ليس سببا لوجود المتبوع ، حتى يترتّب عليه ، بل دلالة اللازم على الملزوم ، إنّما هي باعتبار تابعيّته له في الوجود ، وكون وجوده مسببا عن وجوده وفرعا له ، تحقيقا لمعنى الملازمة والتابعية المقتضية للدلالة ، فيكشف وجوده عن سبق وجوده كشف الأثر عن سبق وجود المؤثّر.

وهذا يستقيم في الوجود النفس الأمريّ ، لا في وجوده الظاهريّ الاستصحابيّ المسبب عن دليل تعبديّ ، فإنّه بهذا الاعتبار ليس وجوده باعتبار لزومه وتبعيته للملزوم وترتّبه على وجوده ، بل هو محكوم في الظاهر بثبوته استقلالا ، تعبّدا شرعا ، بملاحظة نفسه من حيث هي مع قطع النظر عن لوازمه.

فجهة اللزوم النفس الأمريّ مرتفعة بينهما باعتبار هذا الوجود التعبديّ ، ولا دليل على ملازمة أخرى بينهما في هذا الوجود ، فلا يكشف وجوده التعبّديّ الاستقلاليّ عن وجوده ، ففي المثال المذكور ، جواز مجالسة الناذر لمجهول الفسق ، ليس باعتبار عدالته النفس الأمرية ، ولا لعدالته التعبّدية ، حتّى يكشف عنها ، بل لكونه غير معلوم الفسق. والجواز بتلك الجهة ليس لازما للعدالة ، فلا يكشف عنها.

ونحو الحكم الاستصحابيّ ما ثبت بأصل البراءة ، فلا يثبت به ملزومه الواقعيّ ، فلا يحكم بأصالة طهارة ما يشكّ في كونه ماء أو خمرا ، بصحّة الوضوء منه والتطهير به ، فإنّ تلك الطهارة ليست لازمة لمائيته ، بل يعمّ الماء والمشتبه بالخمر ، فلا يكشف عنه ، لعدم دلالة العام على الخاص ، بخلاف الطهارة الواقعية.

فإن قلت : الموضوع لا يخلو ، عن كونه ماء أو خمرا ، فحيث يحكم بكونه طاهرا يلزمه الحكم بعدم كونه خمرا ، لمنافاته الطهارة ، فيكون ماء لعدم احتمال ثالث.

٢٤٥

قلت : لا يلزمه الحكم بعدم كونه خمرا ، بل يلزم عدم الحكم بكونه خمرا ، وهو يجتمع مع عدم الحكم بكونه ماء أيضا ، وما هو كذلك محكوم بالطهارة شرعا بحكم الأصل ، لا من جهة كونه ماء.

وإن كان الثالث ، أي كانا متلازمين في الوجود من غير ترتب وسببيّة بينهما ، فإن تلازما بحسب المفهوم ، بحيث لم يتعقّل انفكاك أحدهما عن الآخر مطلقا ، حتى في الوجود التعبديّ الظاهريّ ، كعدم المنع من الترك المدلول عليه بالأصل للاستحباب ، فيما دار الأمر بينه وبين الوجوب الذي يعلم فيه مطلق الرجحان ، أو ثبت التلازم في الوجود بينهما بدليل خارجي واقعا وظاهرا ، كما في القصر والإفطار ، يحكم بثبوت أحدهما باستصحاب ثبوت الآخر ، لفرض الدليل على التلازم بينهما بحسب الوجود الظاهريّ أيضا.

وإن لم يثبت ذلك ، فلا يحكم به ، كما في الثوبين المشتبهين بالنجاسة ، فلا يحكم باستصحاب طهارة أحدهما بنجاسة الآخر. وكما في جواز مجالسة مجهول الفسق في المثال المذكور ، فلا يحكم به بقبول شهادته ، لعدم دليل على الملازمة في الوجود الاستصحابيّ التعبديّ أيضا.

وإذا تحقّق ذلك نقول : التعارض بين الاستصحابين يقع حيث كان مقتضى أحدهما مستلزما لخلاف الآخر ، إمّا لذاتها شرعا أو عقلا أو عرفا ، أو بسبب خارجيّ ، كما إذا علم إجمالا زوال أحد المستصحبين المشتبهين وبقاء أحدهما ، كنجاسة الثوبين.

ثم الاستلزام : إمّا بالسببية من جانب ، كاليد القذرة إذا شك في زوال نجاستها ولاقت ثوبا طاهرا يحصل الشك به في نجاسة الثوب ، فيعارض ـ حينئذ ـ استصحاب طهارة الثوب استصحاب نجاسة اليد ، أو بالسببية من الجانبين ، كما إذا

٢٤٦

وقع الكرّ تدريجا على الماء القليل المتنجّس ، فشكّ في حصول الطهارة للثاني أو النجاسة للأوّل ، نظرا إلى الخلاف في اشتراط الدفعة العرفية ، فإنّ طهارة الكرّ التي هي مقتضى استصحابها ، يزيل بعد اتصال المائين نجاسة القليل التي هي مقتضى الاستصحاب المعارض ، وبالعكس ، أو بالتلازم من غير سببية من الجانبين. فوجوه التعارض ثلاثة :

أمّا على الأوّل ، فالاستصحابان إمّا حكميان ، أي : متعلقهما أمر شرعيّ كالمثال المتقدّم ، أو أحدهما حكميّ والآخر موضوعيّ ، كما في الذبابة القذرة الرطبة التي طارت على الثوب الطاهر ، إذا شكّ في جفافها حين الملاقاة ، فيعارض ـ حينئذ ـ استصحاب الرطوبة مع استصحاب الطهارة ، والصيد المجروح إذا وقع في الماء القليل ، وعلم موته ، ولم يعلم أنّه قبل الوقوع ، فكان مستندا إلى الجرح ، أو بعده فمستند إلى الماء. ومنه استصحاب عدم التذكية ، واستصحاب الطهارة في الجلد المطروح ، لو قلنا بجريان استصحاب الطهارة.

نسب إلى بعض الفضلاء القول بالعمل بالاستصحابين في الصورتين. ويظهر من الفاضل القمّي ، ذلك في الصورة الثانية ساكتا عن الأوّل ، وعن بعضهم التوقف فيها.

وعن آخر دعوى الإجماع على العمل بالموضوعيّ.

واختار والدي العلّامة تقديم استصحاب الملزوم مطلقا ، وعبّر عنه باستصحاب المزيل ، ووافقه جمع من المحقّقين. وهو مقتضى التحقيق ، لوجوه :

الأوّل : ما سمعت من ثبوت اللوازم والمسبّبات باستصحاب الملزوم دون العكس ، فيكون استصحابه دليلا شرعيا على خلاف مقتضى الآخر. ومعه لا يجري فيه الاستصحاب ، لانتقاضه باليقين الشرعي. ولا ينعكس لعدم ثبوت الملزوم باستصحاب اللازم ، فلا ينتقض به.

٢٤٧

فإن قلت : لا نسلم حجّية استصحاب الملزوم حينئذ ، فلا يكون دليلا شرعيا ، لاستلزامه نقض اليقين بالشك في اللازم ، فلا يشمله أخبار الاستصحاب ، إذ يلزم ـ حينئذ ـ من ثبوت مدلولها عدمه ، وهو باطل.

قلت : المنهيّ عنه في قوله عليه‌السلام : « لا تنقض اليقين بالشكّ » نقض اليقين ، استنادا إلى الشكّ ، أو بشي‌ء باعتبار الشكّ في مزيليته ، لا باعتبار دليل شرعي دلّ على مزيليته ولو تعبّدا.

فإن قلت : من الأخبار ما دلّ على المنع عن النقض عند الشك مطلقا ، ولو بغيره ، كقوله عليه‌السلام في رواية ابن عمار : « إذا شككت فابن على اليقين » (١) وهو يشمل النقض بسبب استصحاب المزيل.

قلت : أوّلا سياق الكلام ظاهر ومتبادر في النهي عن هدم اليقين بسبب الشك ، كما في مثل قوله : « إذا سافرت للصيد فلا تفطر أو ابن على الصوم » أي : لا تجعل سفر الصيد ناقضا للصوم ، فلا يدلّ على حرمة الإفطار فيه لمرض ونحوه.

فلا يدلّ الخبر على البناء على اليقين عند الشكّ بسبب تعبديّ آخر ، سيما بملاحظة سائر أخبار الباب ، الناهية عن النقض بسبب الشكّ أو عدم الاعتناء بالشكّ ، كصحيح زرارة (٢) ، ورواية الخصال (٣) ، وغيرهما (٤).

وثانيا : أنه لو سلّم فيه الإطلاق ، فهو يعمّ ما إذا كان هنا مزيل مسبوق بالعلم

__________________

(١) الفقيه ١ : ٣٥١ ، الرواية ١٠٢٥.

(٢) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الرواية ٦٣١.

(٣) الخصال ١ : ١٦٠ و ١٦٥ ( في حديث الأربعمائة ) ؛ ورواها عنه في الوسائل ، نفس الموضع ، الرواية ٦٣٦.

(٤) وسائل الشيعة ٤ : ٢٢٢ ، الباب ٨ من أبواب القبلة ، الرواية ٥٢٤٠.

٢٤٨

بمزيليته أم لا ، فيخصّص بسائر الأخبار ، كالصحيح المزبور الدال على استصحاب المزيل دون المزال ، بالتقريب المذكور في مورد التعارض.

وثالثا : أنّ غاية الأمر عدم شمول هذا الخبر لشي‌ء من الاستصحابين المتعارضين ، لئلا يلزم التناقض والتدافع في مدلوله ، وحمله على غير صورة التعارض ، فيرتفع من البين في الفرض ، ويبقى ما أشرنا إليه من الصحيح وغيره ، الدال على استصحاب المزيل دون المزال ، عن المعارض.

الثاني : الاتفاق الظاهر من طريقة الأصحاب لمن جاس خلال الديار ، على العمل بمقتضى المزيل ، كما تقدمت الإشارة إليه.

وخلاف بعض من تأخّر في مورد أو موارد عديدة ، كمسألة الصيد والجلد المطروح ، لشبهة حصلت له فيه ، غفلة عن القاعدة الاستنباطية الاتفاقية ، غير قادح.

ألا ترى اتفاقهم على حصول الامتثال بالصلاة مع الطهارة الاستصحابية ، والتطهّر من الحدثين بالماء الطاهر الاستصحابي ، والبراءة عن العبادة في الوقت الاستصحابيّ ، وصحّة التصرفات الناقلة التي على خلاف الاستصحاب في الملك الاستصحابيّ إلى غير ذلك مما لا يحصى من موارد مثل هذا التعارض.

فمن تتبّع في أمثال ذلك ، يحصل له القطع بأن تقديم استصحاب الملزوم قاعدة مسلمة بينهم ، وسرّه ما أشرنا إليه في المقدّمة.

الثالث : أنّ كثيرا من الأخبار الدالّة على حجّية الاستصحاب متضمّنة لتقديم المزيل ، كما أشرنا اليه ، كصحيح زرارة (١) الذي هو العمدة في الباب ، المصرّح لصحّة الصلاة باستصحاب الطهارة ، مع أنّ الشكّ في الطهارة يوجب الشكّ في صحّة الصلاة المنافية لاستصحاب الاشتغال. ونحوها صحيحته الأخرى ، وصحيح ابن سنان ،

__________________

(١) وسائل الشيعة ١ : ٢٤٥ ، الباب ١ من أبواب نواقض الوضوء ، الرواية ٦٣١.

٢٤٩

وموثق ابن بكير. والتفريق بين الموارد تحكّم محض.

هذا ، ويظهر مما اخترناه ، وأصّلناه تقدّم استصحاب الموضوع على استصحاب الحكم ، والأصول اللفظية على الأصول الشرعية ، كما هو المعمول به عندهم ، لمكان المزيلية والملزومية.

وأما على الثاني ، فيسقط الاستصحابات عن الحجّية ، إذا لم يكن لأحدهما مرجّح ، ويبنى الحكم على ما يقتضيه أصل البراءة إن أمكن ، وإلّا فعلى ما يقتضيه الاستصحاب في خصوص نفس اللوازم والأحكام ، فلا يلاحظ فيها ترتّبها على استصحاب الملزوم ، بل المناط استصحاب أنفسها مستقلا.

أمّا طرحها ، فلأنّ الترجيح ممتنع ، والجمع غير ممكن ، والتخيير فرع الحجّية التي هي موقوفة على شمول الأدلّة لمورد الفرض ، وهو مع لزوم التدافع غير متصوّر.

وأمّا العمل بمقتضى الاستصحاب في نفس اللوازم ، فلخلوّه عن المعارض ، ولا يثبت باثبات اللازم بالاستصحاب وجود الملزوم الممنوع بالمعارض ، لما عرفت في المقدّمة.

وأما على الثالث ، أي التعارض بالتلازم من غير سببية ، فالظاهر الموافق لجماعة العمل بالاستصحابين فيما يترتّب على أحدهما خاصّة ، أي : البناء على بقاء كل من المستصحبين في جميع الأحكام المختصّة به ، دون ما يترتّب على اجتماعهما ، سواء كان التنافي في موضوع واحد ، كملكية المال المتردّد بين كونه لزيد أو عمرو ، أو موضوعين ، كطهارة أحد الثوبين المشتبهين. وسواء كان الثاني ذاتيا ، كما في الأوّل ، أو بسبب خارجيّ ، كما في الثاني.

أما وجه العمل بهما في الأحكام المختصّة ، فلانتفاء السببية والملزومية بين

٢٥٠

مدلول أحدهما وخلاف الآخر ، فلا يوجب استصحاب أحدهما ثبوت الآخر ، لما مرّ من منع التلازم بينهما في الوجود الاستصحابيّ التعبّديّ.

وأمّا وجه ترك العمل بالأحكام المترتّبة على ثبوتهما مجتمعا ، فللعلم بانتفائها اللازم للعلم بانتفاء أحدهما في الفرض ، ففي المائين المشتبهين يحكم بطهارة ما لاقى أحدهما ، دون ما لاقيهما معا. وفي المشتبهين بالإضافة يحكم بعدم صحّة الوضوء من أحدهما دون الجميع. وفي المال المردّد بين زيد وعمرو يحكم بصحّة بيعهما معا. وهكذا.

ولا يتوهّم النقض بالحكم بالاستحباب فيما دار الأمر بينه وبين الوجوب ، مع أنّ كلّا منهما خلاف مقتضى الاستصحاب ، إذ ليس هو من باب ترجيح أحد الاستصحابين ، بل لثبوت الرجحان المشترك بينهما ، حسب ما مرّ ، ويحكم بخصوص الاستحباب ـ حينئذ ـ من باب أصالة البراءة عن حرمة الترك ، إذ الرجحان الغير الممنوع عن الترك هو معنى الاستحباب.

ومن هذا القبيل ـ المتفرّع على ما ذكرناه ـ الحكم بوجوب الأمرين المشتبهين المردّد بينهما الواجب ، فإنّه بالاستصحاب ينفي الوجوب الأصليّ المخصوص بكلّ منهما ، من حيث خصوصيته في الظاهر ، ولكن لا يمكن نفي وجوبه في الواقع ، لعدم العلم به ، وعدم كون الاستصحاب ناظرا إليه ، بل المعلوم من الواقع وجوب أحدهما معيّنا فيه ، غير معيّن عندنا ، وما هو المعلوم كذلك لم يثبت سقوط التكليف عنه ، بل مقتضى الأدلّة الشرعية المحمولة على مدلولاتها النفس الأمرية بقاء التكليف به ووجوب الأمرين معا (١) من باب المقدّمة ، تحصيلا للبراءة اليقينية عن الشغل المعلوم. ولا ينافي هذا نفي وجوب كلّ منهما أصالة ، إذ الوجوب المحكوم به من

__________________

(١) في الأصل : تبعا.

٢٥١

باب المقدمة ليس الوجوب الأصليّ ، للعلم بأنّ الواجب الأصليّ في نفس الأمر أحدهما خاصّة ، لا الأمران معا.

وتظهر الفائدة في الآثار الخاصة المترتّبة على الوجوب الأصليّ ، فلا يحكم به في شي‌ء منهما. فإذا نذر أحد أن يكرم زيدا العادل ، واشتبه بين رجلين ، يجب إكرامهما معا ، من باب أصالة الاشتغال لرفع البراءة اليقينية ، ولكن لا يقبل شهادة واحد منهما ، إلّا إذا شهدا معا ، فيقبل عدلا واحدا.

تتميمات :

الأوّل : إذا تعارض استصحاب مع استصحابين أو أكثر ، فإن كان الأقل مشتركا ، فهو المتعين ، وهو ظاهر ، وإلّا ـ كما إذا علم وقوع معاملة ولم يعلم أنها البيع أو الصلح أو الإجارة ، أو قدوم المسافر ولم يعلم أنه زيد أو عمرو أو بكر ، فظاهر جماعة ممن عاصرناه تقديم الأكثر ، لأقلّية خلاف الأصل فيه ، ولأنّ الأقلّ يعارض ما يساويه من الأكثر ، ويبقى الزائد بلا معارض ، فيعمل به.

وضعّفه والدي العلّامة ووجهه أنّ الفرار عما يخالف الأصل (١) ليس لقبح ذاتيّ ومفسدة عقلية ، حتى يقدّر بقدر الضرورة ، بل لمجرّد التعبّد الثابت من أخبار الاستصحاب ، ونسبتها إلى الجميع نسبة واحدة ، ولا يمكن شمولها للمتعارضين الذي لا يمكن العمل بها حسب ما مرّ لاستلزامه التناقض في مدلولها ، فإنّ قوله : « لا تنقض اليقين بالشكّ » ، مخصوص ـ قطعا ـ بغير ما يوجب عدم نقض يقين آخر بالشكّ يساويه في النسبة والجهة ، فلا دليل على حجّية كلّ من الأقلّ والأكثر في محلّ الفرض ، إلّا إذا كان الترجيح لأحدهما بالمزيلية ، أو أمكن العمل بالجميع على ما عرفت.

__________________

(١) في « م » : وهو في محلّه ، لأنّ الاجتناب عما يخالف الأصل.

٢٥٢

الثاني : إذا كان حكم مسبوقا بوجوده ووجوده بعدمه ، فلا شكّ في جريان استصحاب حال الموجود المتصل بزمان الشكّ ، فهو استصحاب حال الشرع.

وهل يصحّ استصحاب حال العقل ، أي العدم السابق عليه المنفصل من الحال ، فتعارض الاستصحابان ، أم لا؟

التحقيق : أنّ الفرض على ثلاثة أقسام ، لأنّ العدم السابق : إمّا هو بحيث لا يعود من حيث هو في السابق ، بحيث لو فرض حصوله بعد الوجود اللاحق كان أثرا لمؤثّر متجدّد ، كما في الشكّ في بقاء الطهارة بخروج المذي ، لأنّه لو فرض عدمها ـ حينئذ ـ فليس هو من الحدث السابق ، بل أثر خروج المذي ، أو يكون هو السابق على فرض حصوله ، بأن علم انقطاعه في مقدار زمان ، ثم كان على حالة العدم السابق.

وعلى الثاني ، فالفرض على وجهين أيضا ، لأنّ الحكم الوجوديّ المتيقّن بعد العدم السابق ، إمّا يكون متقوّما ومقيّدا بالزمان الثابت فيه ، كما في الشكّ في بقاء مدّة الإجارة ، فإنّ الثابت في زمان اليقين بعد العدم السابق ، هو ملكية منفعة تلك المدة من العين المستأجرة ، بحيث لو فرض بقاء الإجارة في الحال ، فالثابت في الزمان المتقدّم ، غير ما هو الثابت في الحال ، فإنّ الزمان جزء مفهوم المنفعة المقصودة من التمليك في الإجارة ، ومنفعة كل زمان متقوّمة ومتشخّصة بنفس الزمان الحاصل فيه ، فلا يمكن بقاؤها في الزمان المتأخر عنه ، بل لو كانت ثابتة فيه كانت منفعة أخرى.

أو لا يكون متشخّصا بنفس الزمان ، بل كان ـ على فرض بقائه في الزمان اللاحق ـ هو عين الموجود في السابق ، كالشكّ في الخيار المردّد بين الفور والاستمرار.

٢٥٣

أمّا على الأوّل : فلا ينبغي الشك في عدم جريان استصحاب العدم المتقدم على الوجود ، لانقطاعه رأسا.

وعلى الثاني : فالظاهر تقديم العمل باستصحاب العدم ، لإمكان بقاء العدم السابق على الوجود في زمان الشكّ حسب ما ذكر ، وعدم صلاحية الحكم الوجوديّ الثابت في زمان اليقين للبقاء في الزمان اللاحق ، لتقومه بنفس الزمان السابق ، فلا يجري فيه الاستصحاب. وعلى هذا ، إذا وقع الخلاف بين المالك والمستأجر في مدّة الإجارة في الزيادة والنقصان ، يقدم الناقص ، وعلى مدعي الزيادة الإثبات.

وعلى الثالث : ففيه وجهان :

من جريان الاستصحابين ، لإمكان بقاء كلّ من المستصحبين على حسب ما ثبت في زمان حصوله ، فيتعارضان ، فيتساقطان ، لامتناع العمل بمقتضى الوجود والعدم بالنسبة إلى حكم واحد.

ومن قوة احتمال عدم انصراف الأخبار إلى اليقين المنفصل عن زمان الشكّ بيقين آخر يخالفه ، وظهوره في اليقين المتّصل به ، ففي الخيار المتردّد بين الفور والاستمرار يعمل بمقتضى استصحاب الخيار بعد الفور ، دون استصحاب عدمه السابق على وجوده.

الثالث : قالوا : أصل البراءة لا يعارض الاستصحاب.

والظاهر : أنّ مرادهم منه في غير ما إذا كان الأصل مزيلا للاستصحاب على التقرير الذي ذكرناه ، وإلّا فلا خلاف في البناء على مقتضى الأصل ، وتقدّمه على مقتضى الاستصحاب ، كما إذا حصل للمكلّف مال يوجب استطاعته للحجّ به لو لا الدين عليه ، وشكّ في الدين ، فإنّه يبنى ـ حينئذ ـ على أصل البراءة من الدين ، ولا يعمل باستصحاب عدم الاستطاعة.

ووجهه ما تقدّم بعينه في تعارض الاستصحابين.

٢٥٤

وأما في غير الصورة ، فظاهرهم الاتفاق على تقديم الاستصحاب ، استنادا إلى أن العمل بالأصل إنّما يكون إذا لم يعلم الشغل بدليل شرعيّ.

وفيه : أنّه يعارض بالمثل. اللهمّ إلّا بإرجاع التعارض بينهما بالمزيل والمزال ، نظرا إلى أنّ مقتضى الاستصحاب ـ وهو بقاء شغل الذمّة ـ رافع للبراءة الأصلية السابقة ، ولا عكس ، لعدم كون البراءة الأصلية سببا لزوال الحكم وارتفاع الشغل ، بل يكشف عنه كشف اللازم عن الملزوم.

ولبعض المحققين توجيهه : بأنّ دليل الاستصحاب أخصّ من دليل الأصل ، لأنّه استصحاب كل شي‌ء بخصوصه ، وعدم نقض اليقين بالشك دليل الدليل ، فعموم « لا تنقض بالقياس إلى أفراد الاستصحاب » كعموم : « إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ » ، بالنسبة إلى آحاد الأخبار ، فكما أن ذلك لا ينافي كون الخبر خاصّا إذا اختصّ مورده ، لكون العبرة في العموم والخصوص بنفس الأدلّة ، لا بأدلّة الأدلّة ، فكذا هذا. انتهى. وفيه نظر يظهر بالتأمل.

٢٥٥
٢٥٦

[ المشرق الثاني عشر ]

[ في أنّ الأحكام تابعة للأسماء ]

مشرق : قد اشتهر بينهم : أنّ الأحكام تابعة للأسماء ، بمعنى أنّ الأحكام يتبدّل بتبدّل أسماء موضوعاتها. وإلى هذا ينظر قولهم باشتراط بقاء الموضوع في جريان الاستصحاب. وفرّعوا عليه (١) طهارة الخمر إذا انقلب خلّا ، والعذرة إذا صارت دودا ، والميتة ترابا ، والكلب ملحا ، ونحو ذلك.

واعترض عليه (٢) : بالنقض بما إذا تبدّل اللبن المتنجس بالسمن.

وأجيب عنه : بأنّ المناط تبدّل اسم الموضوع بما هو موضوع ، وفي اللبن المتنجّس ليس موضوع النجاسة اللبن من حيث هو لبن ، بل من حيث كونه جسما لاقى النجاسة ، وهو باق. ولهذا حكموا (٣) بالفرق بين الأعيان النجسة والمتنجّسة ، وقالوا بزوال النجاسة في الأولى بتبدّل اسم الموضوع ، نظرا إلى عدم بقاء موضوع

__________________

(١) منهم : المولى أحمد النراقي في عوائد الأيام : ٢٠٦.

(٢) السيد بحر العلوم في فوائده : ١١٦ ، الفائدة ٣٤.

(٣) منهم الميرزا القمّي في قوانين الأصول ٢ : ٧٤ ؛ وصاحب الفصول الغروية فيها ٣ : ٣٨٧.

٢٥٧

ما جعله الشارع موضوعا للحكم ، دون الثانية ، فيحكم بطهارة العذرة المتبدّلة بالرماد ، دون الخشب المتنجّس المتبدّل به.

أقول : ما ذكره المجيب ، إن صحّ في موارد ، لا نسلم في أخرى ، إذ للمعترض أن لا يسلم بقاء النجاسة في رماد الخشب النجس ، قائلا : بأنّ موضوع تلك النجاسة في خصوص المورد هو حقيقة الخشب ، وإن كان من جهة كونه جسما لاقى النجاسة ، فبتبدّل الحقيقة يرتفع الحكم ، بل هو معلوم البطلان في موارد كثيرة ، كالغذاء المتنجّس إذا صار جزء للحيوان الطاهر كالغنم ، فإنّه يصير طاهرا بالضرورة.

وكذا الماء المتنجّس إذا شربه وصار بولا. ونحوه : البقولات والمطابيخ الحاصلة من المياه المتنجّسة ، فلا يحسم به مادة الإشكال ، ولم ينضبط به القاعدة المشهورة المذكورة.

وقد يجعل المعيار تبدّل الحقيقة العرفية ، وهو ـ مع كونه غير منطبق على تلك القاعدة ، لعدم اطّراد كون الاسم دائرا مدار الحقيقة ، بل قد يتبدّل بتبدّل الوصف ، كالخمر إذا صار خلّا ـ غير سديد جدّا ، لانتقاضه بالخمر المنقلب بالخلّ ، كما ذكر ، فإنّه يطهر ، دون العنب المتنجّس المنقلب به ، فليس تغيّر اسم الحقيقة معيارا كلّيا مطلقا ، نفيا وإثباتا ، إلّا أن يدّعى الكلّية في منطوق القضية دون مفهومها.

والتحقيق في المقام على وجه ينضبط به قاعدة الموضوع الذي يتبدّل به الحكم ويرجع إليها عند حصول الاشتباه في الموضوع : أنّ الشارع إذا أثبت حكما كلّيا ، كقوله : الجسم الملاقي للنجاسة يتنجّس والخمر نجس ، فهذا الحكم يثبت لكل فرد شخصيّ موجود يصدق عليه هذا الموضوع الكلّي. فموضوع هذا الحكم على الوجه الكلّي ـ أعني المفهوم ـ أمر واحد ، وهو العنوان الذي جعله الشارع عنوان الموضوع ، ككونه جسما أو خمرا. وعلى الوجه الجزئي أمور كثيرة ، هي الأفراد

٢٥٨

الشخصية الموجودة ، وموضوعية كلّ منها إنما هي بوجود نفسه من حيث كونه مصداقا لهذا العنوان الكلّي ، فيشترط في بقاء موضوعيته أمران :

أحدهما : وجود نفسه. وثانيهما : بقاء وصف العنوان له.

وحيث إنّ كل شي‌ء موجود ، فتشخّصه وبقاء نفسه إنّما هو بحقيقته النوعية ، دون مجرّد مادّته الهيولائية ، كما دلّت عليه الحكمة العقلية ، ويساعده الصدق العرفيّ ، فارتفاع الموضوع الذي تدور به الحكم في كل فرد ، إمّا بارتفاع عنوان الموضوع الكلّي ، وإن لم يتبدّل به حقيقة الفرد ، كصيرورة الخمر خلّا ، أو تبدّل الحقيقة الفردية ، وإن كان العنوان الكلّي باقيا ، كصيرورة الحطب المتنجّس رمادا ، أو الغذاء المتنجّس لحم الحيوان الطاهر.

وأمّا إذا لم يتبدّل الحقيقة ، ولا العنوان المذكور ، وإن انقلب له وصفا آخر إلى غيره ، كصيرورة اللبن النجس إقطا أو سمنا ، والحنطة النجسة دقيقا ، فالموضوع باق والحكم تابع له.

ومن هذا يظهر وجه الفرق بين الاستحالة والانقلاب المطهّرين ، فإنّ المقصود من الأوّل تبدّل الحقيقة ، ومن الثاني تبدّل الوصف الدخيل في الموضوعية.

وينقدح من هذا ـ أيضا ـ وجه الفرق في الحكم ببقاء النجاسة في تبدّل لبن نجس العين سمنا ، وزوالها بتبدّل عظمه رمادا ، كما عليها الاتفاق ، وليس الفارق إلّا تبدّل الحقيقة ، وإلّا فعنوان خصوص اللبنية أو العظمية غير دخيل في العنوان الكلّي من غير فرق بينهما.

ولعلّ قولهم : الأحكام تابعة للأسماء ، كان ناظرا إلى خصوص تغيّر الموضوع ، بالاعتبار الأوّل ، أعني اسم ما جعل عنوانا للموضوع الكلّي. وكيف كان ، فهو غير مناف لتبعية الحكم للجهة الثابتة أيضا ، والقاعدة الجامعة لهما ، ما اتّفقوا عليه من

٢٥٩

اشتراط عدم تغير الموضوع في الاستصحاب ، وعدم جريانه عند تغيّره ، فإنّه يأتي في القسمين.

٢٦٠